القرآن في التأويل الصوفي١
(١) القرآن في التأويل الصوفي
أيها السيدات والسادة، أهلًا بكم، في هذه المحاضرة الثالثة، في برنامج الباحث المقيم، وأنا أريد أن أستأنف في هذه المحاضرة، بناءً على ما طرحته في المحاضرتين السابقتين، أن أستأنف زاوية أخرى في تعامل النص التراثي مع القرآن. في الزاوية الأولى رصدت تعامل المتكلمين المعتزلة وخصوم المعتزلة. ثم رصدت كيف تأسس البحث اللغوي حول مفاهيم التأويل، وحول مفهوم المجاز. وكان هذا السؤال الذي طرحته على نفسي منذ فترة طويلة، ماذا لو غادرنا مجال العقل وقمنا بسياحة في مجال الروح والتجربة الصوفية؟
سأتجنب في هذه المحاضرة قدر الإمكان شيئًا لاحظت أنه عَسر في المحاضرات السابقة وهو النصوص الكلاسيكية؛ لأن النصوص الكلاسيكية نصوص صعبة في القراءة، وبالتالي سأحاول أن أقدم قرآتي للنصوص دون التعرض للنصوص ذاتها، خاصة نصوص محيي الدين بن عربي الذي يمثل التصوف؛ لأنها نصوص على درجة عالية من التعقيد، وعلى درجة عالية من البناء المركب، بحيث يصعب في الاستماع إلى محاضرة أن يركن الإنسان إلى قراءة نص.
لماذا ابن عربي؟ أعتقد أن القرن السادس، ابن عربي توفي عام (٦٣٨) هجريًّا، القرن السادس يمثل في رأيي اكتمال التجربة الحضارية الإسلامية. يعني الإنجازات الأساسية في بِنية هذه الحضارة كانت قد تمت بالفعل، إنْ في مجال الأدب أو في مجال البحث اللغوي، أو في مجال الدراسات المرتبطة بالقرآن أو الحديث النبوي أو الفقه. في جميع المجالات كانت قد اكتملت سواء في مشرق العالم العربي أو في مغرب العالم العربي. ابن رشد يمثل أيضًا هذا الاكتمال على المستوى الفلسفي؛ ولذلك أنا قلت ما بعد ابن رشد. ابن عربي التقى ابن رشد في صِباه، حين كان صبيًّا لم يكتمل شاربه بعدُ ولم تنبُت لحيته بعدُ، وهو لقاء يمكن أن نتعرض له في سياق المحاضرة؛ لأنه لقاء رمزي على درجة عالية من الأهمية.
يمثل ابن عربي حلقة الوصل. وهذه النقطة الثانية بين التراث الإنساني السابق، وبين التراث الإنساني اللاحق، التراث الإنساني السابق، سواء كنا نتحدث عن اللاهوت بمعناه العام، أو اللاهوت في الفكر اليهودي أو اللاهوت في الفكر المسيحي، أو التراث الفلسفي من أرسطو حتى أفلوطين، الزرادشتية، المانوية. يصعب صعوبة حادة أن نتعقب أصول الأفكار عند ابن عربي، ذلك أنه استوعب كل هذا التراث، وتمثَّل كل هذا التراث، ثم صاغه في نسق فلسفي، جعل من الصعب جدًّا تتبع هذه المؤثرات. وكل المحاولات التي بُذلت كانت محاولات جزئية، أي إنها تأخذ هذه الفكرة. يبلغ ابن عربي درجةً من صهر الأفكار — إذا تذكرتم مسألة الصهر اللغوي — إنه صَهَر هذه الأفكار حتى إنه يوظف مصطلحات تنتمي إلى الفلسفة، تنتمي إلى الإشراق، تنتمي إلى القرآن، كما سنرى. التراث الإنساني السابق استوعبه ابن عربي، التراث الإنساني اللاحق، هناك دراسات قام بها «أسين بلاسيوس» المستشرق الإسباني حول تأثير ابن عربي في «الكوميديا الإلهية» مثلًا. هناك دراسة المستشرق الياباني «توشيكو إيزوتسو» حول العلاقة بين ابن عربي والتاوية، والفكر التاوي. طبعًا «أوزوتسو» لم يتكلم عن تأثير وتأثر، وإنما قام بعلاقة مقارنة مما يشي ويوحي بأن رصيد ابن عربي رصيد يصعب تتبعه، ويجعل من تتبعه محاولةً في معظم الأحيان لا تفسر ابن عربي، يعني هذه عناصر دخلت وصَنعت بنية فكر ابن عربي.
استيعاب الخطاب الصوفي السابق: هذه نقطة هامة جدًّا، استيعاب الخطاب الصوفي السابق تفسيرًا وتأويلًا. كثير من المتصوفة السابقين على ابن عربي لا نفهمهم فهمًا تامًّا إلا إذا قرأنا ابن عربي، وهناك دراسة هامة أيضًا قام بها «أسين بلاسيوس» أراد أن يدرس ابن مسرَّة الجبلي، فلجأ إلى نصوص ابن عربي التي تعكس قراءة ابن عربي لابن مسرة الجبلي. فدرس هذه النصوص وأعاد بناء فكر ابن مسرة الجبلي، ثم تبين تأثر ابن عربي بابن مسرة الجبلي. هذه مسألة معقَّدة أن تأخذ فكرة من مفكر معين، وترى تأثير هذا المفكر على المفكر الذي أخذت المادة منه. هذه دراسة على درجة عالية من المهارة في التتبع والاستنتاج، ثم في محاولة كشف الأثر الذي تركه ابن مسرة الجبلي في ابن عربي. كثير من المتصوفة السابقين على ابن عربي نحتاج إلى ابن عربي لكي نفهمهم، خاصة إذا كانت كتابتهم غابت.
طبعًا تأثير ابن عربي في المتصوفة اللاحقين له، يعني لا أريد أن أذكر جلال الدين الرومي، وشيخ الدكتور يوسف — يعني يوسف زيدان — «الجيلي». ومن هنا أهمية ابن عربي بشكل عام. إنه حلقة الوصل هذه في التراث العربي الإسلامي.
لماذا الآن؟ لأن أي دراسة أو أي محاولة بحثية علمية إنما تنبع من سؤال يقترن باللحظة التي يمارس فيها الباحث بحثه، أنا درست ابن عربي في السبعينيات. تأويل القرآن عند ابن عربي كان موضوع أطروحتي للدكتوراه في السبعينيات، وكتبت كتابًا آخر عن ابن عربي في بداية الألفية. لكن سؤال السبعينيات الذي انطلقت منه لدراسة ابن عربي ليس هو بالضبط سؤال الألفية الثانية الذي انطلقت منه لقراءة ابن عربي مرة أخرى. سؤال السبعينيات كان مرتبطًا كما قلت، بكيف يمكن تغطية التراث العربي الإسلامي من جميع اتجاهاته المتعددة؛ لأنه لا يمكن أن نُقيم أي نسق فكري، إلا إذا نظرنا للتراث العربي الاسلامي في كليته. هذا كان سؤالي في السبعينيات، بعد أن درست المعتزلة ودرست المتكلمين. كان سؤالي: ماذا لو قمنا بسياحة في الفكر الصوفي؟
سؤال الألفية الثانية مختلف: يعني أنا كتبت كتاب هكذا تكلم ابن عربي، قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لكن من يقرأ المقدمة يدرك أن هناك، لا أقول توقعًا إنما هناك، الحادي عشر من سبتمبر اعتبرت نقطة فاصلة في تاريخ العلاقة بين العالم الغربي والعالم الإسلامي، كأنها هي التي صنعت هذا، هي في الواقع نتيجة وليست مقدمة.
حوار الحضارات أم صدام الحضارات: حللت هنا مفهوم نهاية التاريخ من منظور لاهوتي، مفهوم نهاية التاريخ الذي صاغه «فوكوياما»، قبل أن يكتب «هنتجتون» كتاب «صدام الحضارات». هو مفهوم يبدو كما لو كان مفهومًا سياسيًّا، لكن في عمق هذا التحليل السياسي مفهوم ديني؛ لأن نهاية التاريخ هي مفهوم ديني لاهوتي بامتياز. جميع الأديان في بدايتها تُنذر بنهاية التاريخ، باقتراب يوم الدينونة، وحللت هذا المفهوم. ونجد هذا في القرآن كما نجده في الكتب المقدسة، من أول اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إلى آخر السور المكية المبكرة التي تُنذر الإنسان، وهنا سُمِّي الرسول ﷺإِنَّمَا أنت مُنْذِرٌ الإنذار والتبشير بنهاية العالم، واستقرار العالم، نجده موجودًا في جميع الأيديولوجيات. يعني في النظام الماركسي، نهاية التاريخ بأن تحكم البروليتاريا، أن تنتصر البروليتاريا مثلًا، هذا هو الجانب اللاهوتي عند كارل ماركس.
لكن اللاهوت المرتبط بنهاية التاريخ، وصدام الحضارات، هو لاهوت فيه إله، وإلهه هو السوق. وهو إله يجب طاعته، طاعة مطلقة. وأي محاولة في العالم المعاصر لمخالفة قوانين السوق تنتهي بالدمار. وكأن السوق صار هو الإله الجديد، طبعًا خرجت الحضارات والثقافات الأخرى، وحتى البنية داخل الثقافة، لتحارب هذا الإله الجديد، ولكن هذه الحرب تمت بأسلحة لاهوتية، تقليدية أيضًا. العولمة ولاهوت التدمير: يعني رد الفعل على العولمة هو ما يسمى بلاهوت التدمير. يعني عندنا لاهوت العولمة، الإله. اللاهوت المضاد للقضاء على لاهوت العولمة هو لاهوت التدمير، محاربة إله السوق بأسلحة الميثولوجيا.
هذه هي الأسباب العامة التي أعادتني إلى ابن عربي مرة ثانية، الأسباب في العالم الذي نعيش فيه. هناك أسباب خاصة بواقعنا العربي والمصري؛ احتراق الدين، واحتراق التدين، تسيير عربة السياسة؛ وعربة السياسة أنا ألخصها في الاستبداد والاستغلال والفساد. في هذه الرحلة التي بدأ فيها تسيير عربة السياسة — سواء الاستبداد أو الاستغلال أو الفساد، وأنا لا أتكلم عنه كخاص بفئة ولا خاص بنظام، وإنما هو حالة عامة تسربت — استخدام الدين، هذا الاستخدام لتسيير هذه العربة أدى إلى احتراق الدين. تحوَّل الدين إلى وقود، وحين يتحول الدين إلى وقود يحترق. المظاهر الكثيرة للتديُّن في مجتمعاتنا تعكس تدينًا مفتقرًا إلى روح الدين. الفقر الروحي واقتناء أشكال التدين، والمبالغة في أشكال التدين. إذن العودة إلى ابن عربي ليست فقط من أجل رؤية الواقع الإنساني، وإنما أيضًا من أجل الواقع الآني. «الميكرو» و«الماكرو». الماكرو هو العالم، والميكرو هو العالم الإسلامي والعالم العربي، ومن هنا يصبح سؤال المعنى، سؤال المعنى الأعمق سؤالًا هامًّا.
مجال المعنى، أين يوجد المعنى؟
أنا الآن أدخل في ابن عربي. حددت لماذا ابن عربي، ولماذا الآن. أين يكمن المعنى؟ في الفكر الفلسفي والفكر الكلامي، المعنى خارج العقل. المعنى في الوجود وعلى العقل أن يكتشف قوانين الوجود ويستنبط المعنى من الوجود. النظر في الوجود، الوجود كعلامات دالة، ويصبح العقل هنا أنه يبحث وليس له دخل في هذه المعرفة، يعني المعنى خارج العقل، وعلى العقل أن يحاول التوصل إلى هذا المعنى الموضوعي المتحيز خارج العقل. العقل يكتشف المعنى، ولا يساهم في صنع المعنى. ممكن أن نلخِّص هذا الموقف، سواء في علم الكلام أو في الفلسفة بأنه البرهان. هناك منظور آخر، وجود المعنى في الوحي، في اللغة وليس في العقل، وليس في الوجود، وهذا ما أطلق عليه اسم البيان. وأنا هنا أستعير تصنيفات الدكتور محمد عابد الجابري عن البرهان والبيان والعرفان. النقطة الثالثة: وجود المعنى في وعي العارف: يعني أن المعنى ليس مستقلًّا عن وعي العارف. إن المعنى هنا — أشار إلى قلبه — كاملًا، يعني المعنى إما في الخارج وهذا هو البرهان، وإما في الداخل وهذا هو العرفان، ما تسمى بالفلسفة الإشراقية، أفلوطين. وإما في اللغة التي هي وسيط بين الوجود وبين الوعي. عند المتصوفة وعند ابن عربي، هناك إجابة أخرى على هذا السؤال. المعنى هو جدلية الوجود والوعي، المعنى هو التجربة، ليس هناك معنًى مستقل خارج وعي الذات العارفة، ووعي الذات العارفة لا يستقل عن تجربة الذات العارفة. وبالتالي المعنى لا يكمن في الخارج تمامًا، ولا يكمن في الداخل تمامًا، وإنما يكمن في هذه العلاقة، نسميها الجدلية، نسميها التجادلية. تكمن في هذه العلاقة بين الذات والموضوع، وأصل هذه العلاقة هو التجربة، كأن التجربة هي التي تمثل حافزًا للفهم. «كنت كنزًا مخفيًّا، فخلقت الخلق، فبي عرفوني» سواء كان هذا الحديث صحيحًا أم لا، هذه مشكلة، مشكلة استخدام كل الفرق الإسلامية، بما فيهم المتصوفة للحديث. هذه مسألة تحتاج إلى دراسة مستقلة.
التجليات: هنا «فخلقت الخلق» ليس معناها الخلق من عدم، ومشكلة الخلق من عدم مشكلة أيضًا، سنرى كيف يتعامل معها التصوف. إنها التجليات، إنها الظهور من الكمون في فلسفة ابن عربي ليس هناك عدم. هناك مستويات من الوجود، وهناك كمون الوجود، وسنأتي إلى ذلك. كل ذلك يتم عبر التجليات، التجليات الإلهية تُظهر الكوامن مما يُسمى من اللاوجود إلى حالة الوجود. «كنت كنزًا مخفيًّا فخلقت الخلق فبي عرفوني». «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرف» وهناك تحليل هائل: لماذا أرادت الذات الإلهية أن تُعرف؛ لأن الذات الإلهية تعرف نفسها، أرادت أن تُعرف معرفة غيرية. لكن فكرة التجليات فكرة هامة جدًّا، وهي على مستوى الوجود، وعلى مستوى اللغة، وعلى مستوى النص كما سيأتي.
المقولة الثانية هي: «الإنسان هو عين الوجود وغايته هو المجلى الأكمل» إذا كان العالم، الوجود هو تجليات الألوهة، فالإنسان وإن كان آخر هذه التجليات؛ فهو أكمل هذه التجليات؛ لأنه في الإنسان اجتمعت (هنا تأويل) النفخة الإلهية والطين معًا. الإنسان هو عين الوجود وغايته هو «المجلى الأكمل»، يعني هو المؤهل للدخول في التجربة التي تؤسس المعرفة القائمة على هذا الجدل بين الداخل والخارج.
«الإنسان من العالم بدأ وإلى العالم يعود»، المعراج الصوفي: التجربة لها درجات، ولها حالات، ولها مقامات … إلخ. لن ندخل في هذه التفاصيل. لكن خلال هذا المعراج، وهو معراج يتم على نفس نمط ما يسمى بالمعراج النبوي. على مدارج المعراج النبوي، لكنَّ هناك فارقًا بين المعراج النبوي ومعراج الإنسان.
كيف نفهم ابن عربي؟ هنا أطرح مجموعة من النصوص التي تضيء الجوانب المعقدة في فلسفة ابن عربي. ما هي التجليات؟ ما هو الظهور؟ ابن عربي يستخدم الاستعارة، والاستعارة هي استعارة البرق؛ حتى يُلغي عن التجليات أي نوع من التتالي الزمني. «الوجود لمحة برق هي الزمن السرمدي»، ليس هناك تتالٍ زمني في عملية التجليات، ليس هناك تتالٍ زمني في عملية الخلق، «حقِّق يا أخي نظرك في سرعة البرق إذا برق، فإن برق البرق إذا برق، كان سببًا لانصباغ الهواء بها، وانصباغ الهواء به سبب ظهور أعيان المحسوسات» الضوء «وظهور أعيان المحسوسات به سبب في تعلق إدراك الأبصار بها»، البرق يبرق، فيستضيء الهواء، فتنكشف الأشياء فيتعلق بها البصر. «والزمان في ذلك واحد» طبعًا ربما الفيزياء الحديثة تختلف مع ابن عربي في مسألة التزامنية، في هذه الحركة ربما الفيمتوثانية لها رأي آخر، لكن ابن عربي عاش في القرن السابع. «مع تعقلك» أي أنك تعقل الفرق بين البرق وبين انصباغ الهواء، بين هذه المراحل، هي مرحلة معقولة، بين البرق وبين انصباغ الهواء وبين ظهور المحسوسات وبين إدراكك. هي أربع مراحل معقولة، وليست مراحل زمنية. «وتقدم كل سبب عن مسببه، فزمان إضاءة البرق، عين زمان ظهور المحسوسات به، عين إدراك الإبصار ما ظهر منه». هذه هي التجليات التي أظهرت الوجود، أظهرت الوجود، وليست خلقت الوجود. هذا هو الوجود، ناتج عن التجليات، وسنرى درجات التجليات المختلفة.
بحار الكلمات وأشجار الأقلام: العالم واللغة: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٨/الكهف: ١٠٩). نصوص هامة جدًّا، نصوص محورية في الفكر الصوفي.
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ (٣١/لقمان: ٢٧) إذن كلمات الله لا نهاية لها. المصحف محدود الكلمات، هنا يتم التمييز بين العالم الذي ظهر للوجود بالتجليات باعتباره كلمات الله المسطورة في الوجود، فيتحول الوجود إلى حروف وإلى كلمات. القرآن كلمات الله المسطورة في المصحف، ولا ينفصل فهم الوجود بالتجربة عن فهم كلمات الله الموجودة في المصحف. هذه رؤية كونية عامة للوجود وللغة بتفاصيلها المختلفة.
ينتقل ابن عربي أو ينتقل التصوف بشكل عام مما أسميته، من فقر المجاز إلى رحابة الرمز: ما هوا فقر المجاز؟ ما هو فقر التحليل المجازي؟ التحليل المجازي يرى العبارة تتضمن معنيين؛ معنًى يجب نفيه، وهو المعنى الظاهر. معنًى أعمق يكون هو المعنى. إذن في الفكر اللغوي عند المتكلمين وعند الفلاسفة تم وضع المجاز في جدلية الظاهر والباطن، وإن لم يقولوا بالظاهر والباطن. لكن الظاهر في المجاز يجب إلغاؤه، فيجب إلغاء مفهوم اليد الجارحة كما يقول المتكلمون، حين يقول القرآن يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ. وأنا تعرضت إلى معنى هذه الآية، يد الله فوق أيديهم، يجب دلالة اليد على اليد الجارحة أن تسقط تمامًا. يعني هناك المعنى الظاهر وهو اليد الجارحة، والمعنى الباطن وهو القدرة. يجب أن يسقط المعنى الظاهر لحساب المعنى الباطن، وهذا إفقار في التحليل اللغوي، ابن عربي ينتقل من فقر المجاز إلى رحابة الرمز، وفي الرمز لا يمكن إسقاط الظاهر لحساب الباطن؛ لأن في الرمز الطريقة الوحيدة للوصول إلى الباطن هو الظاهر، فأنت تحتاج الظاهر طوال الوقت.
حل أزمة فكر الثنائيات
هذا التصور للزمن السرمدي، التجليات، والتصور للغة باعتبار الوجود في جانب منه هو ظهور التجليات الإلهية، نتيجة التجليات الإلهية. وفي جانب منه هو تعبير لغوي، هو كلمات الله. هذا يؤدي إلى ردم الفجوة بين ما يسمى العقل والنقل. وهذه الثنائيات، فكر الثنائيات الذي وصل إلى حتى ابن رشد، يعني الفكر العربي الاسلامي يعتمد على هذه الثنائيات طوال الوقت. ويعتمد على ما يسمى زمن التتالي. كان لا بد لمفهوم الزمن أن يتغير، يحل الزمن السرمدي محل زمن التتالي؛ لكي يتم رد الفجوة بين هذه الثنائيات.
العقل والنقل: اختفى العقل والنقل تمامًا، باعتبار أن الوجود هو كلمات الله، والقرآن هو كلمات الله. نسقان من الكلام ونسقان من الدلالة، جدلية الظاهر والباطن بدلًا من إلغاء الظاهر لحساب الباطن. الحقيقة والشريعة ليست ثنائية عند المتصوفة؛ ذلك لأن الشريعة هي المدخل للحقيقة، رغم كل الاتهامات التي صاغها الناس وصاغها الفقهاء ضد التصوف باعتبار أنه يُسقط الشريعة، على الأقل في ابن عربي، يمكن الدكتور يوسف يقول لنا عن «الجيلي»، إسقاط الشريعة هو محض اتهام.
الوجود والعدم ثنائية اخرى تختفي من الفكر، ليس هناك عدم، ولا يمكن أن نسمي عدم الظهور عدمًا، بما أن كل الموجودات كامنة. أيضًا يخرج الفكر الصوفي عن نسق الواجب والممكن، والمُحال، هذه الثلاثية يستبدل بالممكن — طبعًا ابن عربي أحيانًا يستخدم لغة الممكن — الكامن، فالكامن موجود، ولكنه موجود في كمون. وهنا طبعًا يستعير ابن عربي أن القرآن حين يتحدث في كُنْإِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٦/يس: ٨٢) يقول لمن؟ لا بد أن القول «كُن» تتوجه على سامع، وهو ما أطلق عليه المعتزلة — وإن كانت هذه الفكرة ليست واضحة في الفكر المعتزلي — الوجود في العدم، الوجود العدمي. هذا مستوى وجود، وجود عدم الظاهر، لهذا الوجود تتجه الكلمة الإلهية، الكلمة الإلهية أيضًا «كُن» ليست مكوَّنة من حرفين الكاف والنون؛ لأن ابن عربي يريد أن يُلغي كل أنواع الثنائيات، إنما هي في الأصل «كون»، الأصل اللغوي «كون»، اختفت الواو لالتقاء الساكنين، فالواو كامنة؛ لأن كل شيء في الوجود يعتمد على هذه الثلاثية في الوجود الذات الإلهية، الموجودات في العدم، وعلاقة الكلمة كُن، الذات الإلهية تتجلى بفعل هذه الكلمة، وتتجلى فتظهر الموجودات.
كل شيء يحتاج إلى هذه العلاقة الثلاثية، حتى في اللغة، اللغة يقول ابن عربي: هي علاقة إسناد، فهناك المُسند والمسند إليه والعلاقة. المُسند يحتاج إلى المُسند إليه، والمُسند إليه يحتاج إلى المُسند، والعلاقة تحتاج إلى كليهما، الظاهر والباطن. ما الذي يربط هذه العلاقة بين الظاهر والباطن؟ الذي يربط هذه العلاقة هو الروح. أحيانًا ابن عربي يسميها الروح الساري في الذراري، ويقصد بها الروح الإلهية، النفخة الإلهية، إنها سارية في كل شيء.
القِدم والحدوث: هذه المشكلة، هل العالم قديم أم مُحدث؟ هل العالم قديم في علم الله؟ وكيف ينبثق المحدث عن القديم؟ هذا سؤال الفلاسفة. ابن عربي لجأ إلى مفهوم الخيال، الخيال المتصل، البرزخ الأعلى، برزخ البرازخ. وهو مفهوم على درجة عالية من التعقيد، وعلى درجة عالية من التدقيق أيضًا. لا يستوي مفهوم البرزخ بالعلم الإلهي. إنه أكثر تعقيدًا من مفهوم العلم الإلهي كما طُرح عند المتكلمين، وأحيانًا يُلخص هذا البرزخ في حديث «الناس نِيَام فإذا ماتوا انتَبُهوا». هذا معناه عند ابن عربي أننا كلنا نعيش في عالم البرزخ. إن كل ما نراه ونشاهده ونقوم به هو أحلام تحتاج إلى التأويل، وإن هذا التأويل يحدث حينما ننتبه، حينما نموت. من هنا يسعى الصوفي إلى الموت، إلى الموت وهو يتنفس، الذي يسمونه الفناء. والدكتور حسن حنفي عامل موسوعة كبيرة جدًّا اسمها من الفناء إلى البقاء.
المُحكم والمتشابه: ثنائية أخرى في الفكر القرآني، هذه الثنائية لا تُوجد هناك في كل مُحكم متشابه، وفي كل متشابه إحكام، وابن عربي لغوي دقيق، يأخذ الآية التي أخذها المعتزلة؛ لأنها دليل المُحكم لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، يقول إنها تتراوح بين النفي والإثبات، ذلك أن لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، جعلت كأن الله شيء كالأشياء، لكنه شيء لا يشبهه شيء آخر. هذا هو النفي، نفي الشيئية. لكن نجد وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ إثبات الصفة، فهي تشبيه، إذن في هذا الدليل الذي يأخذه المتكلمون على أنه تنزيه، هو يقول: تنزيه في تشبيه، أو تشبيه في تنزيه.
يأخذ نفس الأمر بالنسبة لكل القرائن القرآنية التي اتخذها المعتزلة على حرية الاختيار، والتي أخذها خصوم المعتزلة على الجبر. فيقول هؤلاء نظروا بعين واحدة، وهؤلاء نظروا بالعين الأخرى، ولا بد أن تنظر بالعينين. ويستشهد بنفس الآيات فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ، هنا إثبات ونفي. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى، فهناك نفي للرمي وإثبات للرمي إِذْ رَمَيْتَ، هذا النفي والإثبات هو الجدلية التي يتحرَّك نسق التأويل عند ابن عربي لردم الفجوة بين ما يسمى المحكم وبين ما يسمى المتشابه.
رأى ابن عربي مفهوم الغموض الكوني، وهذا الغموض، التوتر، لكن هذا الغموض، هذا التوتر في حال العارف، وليس في حال العين، هذا التوتر لا يوجد في الخارج. ربما يوجد في الخارج التجليات الدائمة. بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ تجليات مستمرة. هذا الاستمرار في التجليات هو الذي يخلق التوتر. عند العارف كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، هذه التجليات الدائمة أحيانًا يسميها «النكاح الساري في جميع الزراري»، ويستخدم كلمة نكاح باعتبار أن كل شيء يعتمد على مُسند ومُسند إليه وعلاقة. ذكر وأنثى وعلاقة، هنا يوظف مصطلحات كثيرة جدًّا تُصيب غير العارف بنسَق فكر ابن عربي بنوعٍ من الدهشة، وبنوع أحيانًا من الرفض. «الغموض الكوني توتر في الحال»، أي في حال العارف لا في عين الكون.
الجبر والاختيار: قلت عين واحدة أم عينان.
الذات والصفات: هذه أيضًا ثنائية موجودة في الفكر الكلامي، هو يضع الذات بمعزل عن المعرفة في الغيب المطلق، إنما الألوهة هي مجموع الأسماء الإلهية الفاعلة، أو الذات غيب؛ فكل التجليات هي من صنع هذه الأسماء الإلهية، أما الذات فهي غيب وراء ذلك كله.
هنا يُقسِّم ابن عربي العالم. لا بد ونحن نقرأ هذا ونستمع إلى هذا أن نتذكر دائمًا مفهوم الزمن السرمدي؛ لأنه يبدو أن هناك تتاليًا، وليس في الأمر تتالٍ، هو البرق. لكن هذا التتالي يُتعقل، فالتتالي عقلي وليس بعدي، هو من صُنع الإنسان المفكر.
برزخ الألوهة: الألوهة هي الذات الإلهية، هي مُجمل الأسماء الإلهية، وهي الفاعلة في العالم. واسم الله هو الذي يجمع هذه الأسماء كلها. هذا البرزخ هو ما بين الذات الإلهية وما بعده من الذات الإلهية، وبين العالم. العالم من صُنع تجليات الأسماء الإلهية على الموجودات الكامنة. طبعًا ربما نقول إن كل هذا في العلم الإلهي، لكن هذا يُبسط تعقيد واتساع رؤية ابن عربي.
فعندنا عالم البرزخ الأعلى أو الخيال المطلق وعالم الجبروت يتكوَّن من أربعة مستويات؛ برزخ الألوهة، برزخ العمَاء ما يسميه الوجود المطلق، والعدم المطلق يبدو كما لو كان عدمًا مطلقًا، وما يساوي عند الفلاسفة العلة الهيولانية، برزخ الألوهة يساوي عند الفلاسفة … هذا تفسيري، ابن عربي لم يتحدث عن العلة الفاعلة ولا العلة الهيولانية ولا العلة الصورية ولا العلة الغائية، وإنما أنا في محاولتي للفهم يعني وضعتها في هذا النسق. وهذا النسق وجد موافقة من الأستاذ الدكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاني — برزخ العماء هو يساوي العلة الهيولانية. المادة، وكلمة مادة هنا لا تصح، التي وجد فيها العالم، التي يوجد فيها العالم بالكمون.
برزخ حقيقة الحقائق الكلية، لا تتصف بوجود، ولا تتصف بعدم، ولا تتصف بقِدم، ولا تتصف بحُدوث، تساوي العلة الصورية؛ لأن العلة الهيولانية تحتاج للعلة الصورية لكي تتشكل. يعني يمكن تمثيل العلة الهيولانية بالخشب، والعلة الصورية بصورة الكرسي أو صورة المائدة، التي يصنع منها النجار من الخشب الكرسي يحتاج النجار إلى تصميم، صورة. هذه حقيقة الحقائق الكلية تساوي المقولات الكلية، الصور الكلية. مثل البياض في الأبيض، البياض يوجد في كل أبيض، وهو نفسه لا وجود له متحيز في الخارج، ليس هناك شيء يمكن أن يشار إليه اسمه البياض. ما يسمى أحيانًا، إذا استخدمت مصطلحات علم الكلام الأعراض.
برزخ الحقيقة المحمدية: الله والإنسان وهي العلة الغائية؛ العلة الغائية وهي الإنسان، والحقيقة المحمدية هي جذر الظهور الإنساني. هناك تمييز بين الحقيقة المحمدية وبين محمد النبي الذي ظهر في مكة في القرن السابع الهجري، الحقيقة المحمدية حقيقة مطلقة تساوي العلة الغائية. في كل هذا التقسيم، يتم الاستشهاد بالقرآن ولكنه استشهاد تأويلي، واستشهاد بالحديث والتراث، ولكنه استشهاد تأويلي. «اعلم أن الشيء الواحد العين»؛ لأن السؤال دائمًا: كيف ظهرت الكثرة عن الواحد؟ السؤال الفلسفي: كيف ظهر الكثير عن الواحد؟ ومن هنا جاءت نظرية الفيوضات عند الفارابي وعند ابن سينا: كيف ظهر المُحدث من القديم؟ جاءت نظرية قِدم العالم في العلم الإلهي وحدوث العالم في الظهور. وهذه الفكرة يؤكدها ابن رشد، كل هذه الثنائيات تجد لها حلولًا أخرى عن طريق هذا العالم الذي يُسمى عالم الوسائط.
«اعلم أن الشيء الواحد، العين، إذا ظهرت عنه الحقائق المختلفة، فإن ذلك من حيث القوابل لا من حيث عينه، ومن هنا إذا حققت هذه المسألة يبطل قول الحكيم — يعني الفيلسوف — لا يصدر عن الواحد إلا واحد.» فكرة التجليات كبديل عن الفيض. وكبديل عن الخلق من عدم، هي من إنجازات الفكر الفلسفي الصوفي.
بعد عالم البرزخ، أو برزخ البرازخ، أو عالم الجبروت، عالم المعقولات: من برزخ الإطلاق إلى عالم الخلق. كنا نتحدث عن عالم مُطلقات، أول عالم المعقولات العقل الأول. تأثير طبعًا، أفلوطيني، نعم. لكن العقل الأول في القرآن هو القلم. التجلي الثاني النفس الكلية باطنة في العقل الأول، يعني هناك علاقة الباطن والظاهر، هنا من أن التالي — واحذروا من كلمة التالي وابن عربي دائمًا يحذر؛ لأن التالي يعني تتاليًا زمنيًّا — النفس الكلية تساوي اللوح المحفوظ؛ ذلك لأن القلم يكتب في اللوح المحفوظ. أحيانًا يسمي العلاقة بين المؤنث والمذكر، العقل الأول ذكر والنفس الكلية أنثى. وهناك علاقة تُنتج الطبيعة الكلية، أو الطبيعة الكل، ومن الطبيعة الكل ينبثق الهباء، وهو أكثر كثافة من العماء الذي وجد في مرحلة برزخ البرازخ.
عالم الخلق والأمر: وهو أربع مراحل؛ الجسم الكل أو العرش — هنا توظيف للقرآن — الكرسي، والعالم والكون يقع من الكرسي كحلقة ملقاة في فَلَاة، الفلك الأطلس فلك الكواكب الثابت، دخول في جغرافيا مضنية لكي نفهم، لا بد أن نعود إلى الجغرافيا الكلاسيكية حتى نفهم كل هذا. كل هذه عوالم فيها من المعقولية وفيها من الروحانية أكثر مما فيها من الأبعاد الجغرافية كما سيأتي.
عالم الأفلاك وهو العالم الأخير: وهو الأفلاك السبعة السماء الأولى، الثانية، الثالثة، الرابعة، الخامسة، السادسة، السابعة. كوكب زحل، المشتري، المريخ، الشمس، عطارد، وأخيرًا كوكب القمر. ثم ما تحت فلك القمر، وهو عالم الكون والفساد، عالم التغيير. مرة أخرى هذا ليس تتاليًا في الزمان، وهذه ليست مراحل يتلو بعضها بعضًا في الزمان. وإنما هي تجليات، ونعود مرة أخرى لنذكِّر باستعارة البرق.
كل هذه العوالم ترتبط باللغة، يعني ارتباط هذا النسق من العالم بحروف اللغة، لماذا؟ لأن كل هذا نشأ من التجليات الإلهية، التجليَّات الإلهية في العَمَاء هي أقرب، يمكن أن تشبه بالنفس الإلهي، حروف اللغة تتكون في النفس الإنساني. هنا المقارنة والموازاة بين الموجودات وبين حروف اللغة؛ ثمانية وعشرون موجودًا، وثمانية وعشرون من حروف اللغة وبينهما اسم إلهي. طبعًا يرجع للعقل الأول، الهمزة، والهمزة في الصوتيات الحديثة هي ألف المد وليست الهمزة؛ لأن ألف المد هي حرية إطلاق النفس، وأنا نطقت آه، فنطقت الهمزة، لأنه لا يمكن النطق بها، وإنما هي ألف المد إذا قلت كلمة مثل «قضاء». هذه ألف لا يمكن أن تنطق، فحرية النَّفس في اللغة تساوي العقل الأول، ليس هناك مماثلات لغوية ولا صوتية في عالم البرازخ أو العالم المطلق.
وبعد الألف، والهاء، حسب المخارج، هنا يوظف كل المعرفة اللغوية من أجل أن يقيم النسق أن اللغة هي نمط آخر من أنماط الوجود، بل إن الوجود يتجلى فيما يسمى المحسوسات، ويتجلى في اللغة، العين، الحاء، الخاء، كلها يعتمد على المخارج. توظف اللغة طبقًا للمخارج، لا أريد أن أطيل في هذا الأمر.
اللغة الإلهية واللغة الإنسانية: اللغة هي أحد تجليات الذات الإلهية، كما أن ما يسمى بالوجود هو أحد التجليات الإلهية. يتعرض ابن عربي لتفاصيل الخلق؛ هي تفاعل هذه الموجودات الكلية التي حددها في حروف اللغة، فيما يسمى عالم الكون والفساد، كل شيء يتحقق في عالم الكون والفساد يحتاج إلى هذه العلاقة الثلاثية. اللغة الإلهية هنا هي التي تعمل، فيما يسمى الكون والفساد. لماذا؟ لأن اللغة أصوات، كل ما تحدثت به الآن اختفى في الهواء — طبعًا سُجل — لكن الصوت وهو مخرج الكلام يختفي في الهواء. فاللغة الإلهية واللغة الإنسانية جانِبَا حقيقة واحدة. وبهذا حل ابن عربي مشكلة المواضعة — الذين حضروا المحاضرات السابقة عن مشكلة المواضعة، ما هي العلاقة بين الدال والمدلول؟ هل المواضعة إلهية توقيفية أم المواضعة إلهية توفيقية؟ كل هذه أسئلة لا معنى لها في نسق ابن عربي، هناك اللغة الإلهية لغة الوجود والموجودات، ومنها تُشتق اللغة الإنسانية. فإذا قلت المواضعة توقيفية، فهذا صحيح بالمعنى الصوفي. وإذا قلت إن المواضعة توفيقية فهذا صحيح بالنظر إلى الجانب الإنساني في اللغة. كما أن الإنسان يمكن أن تنظر إليه فلا ترى إلا الجانب الفيزيقي، ويمكن أن تنظر إليه فلا ترى إلا الجانب الروحي والنفخة الروحية، والإنسان ليس هذا تمامًا وليس هذا تمامًا. كذلك اللغة لها جانبها الإلهي ولها جانبها الإنساني. إذا نظرت من جهة، فاللغة إلهية وإذا نظرت من جهة أخرى، فاللغة إنسانية.
مشكلة القرآن، قديم أم مُحدث أم مخلوق: كل هذا سؤال لا معنى له عند ابن عربي. مُحدث قديم، ممكن أن يقول ابن عربي: قديم مُحدث، لا قديم ولا حادث، إذا نظرت إلى القرآن الذي تتلوه، فتلاوتك هذه تجعله مُحدثًا، لكن انتماء القرآن إلى أفق العالم، إلى أفق الوجود، إلى أفق الكون، يُدخله في إطار التجليات التي ليست قديمة وليست مُحدثة.
ما الذي يُعطي ابن عربي كل هذه الحرية؟ هناك مشكلة حول ما يسمى ختم النبوة، التي تعني انقطاع العلاقة بين السماء والأرض، لا وحي بعد ذلك، طبعًا فيه تفسيرات كثيرة لختم النبوة، ربما أبرزها أن ختم النبوة معناها أن الإنسان قد أصبح قادرًا على التعامل بالعالم، يعني أُعطي الدليل وعليه بعد ذلك أن يستخدم عقله. هذا كلام يقوله بعض الفلاسفة، يقوله محمد إقبال، يقوله بشكل فلسفي عميق، وليس بشكل خطَابي، كخطبة جمعة. بالنسبة للمتصوفة، وكذلك بالنسبة للشيعة: خُتمت النبوة، لكن الوحي لم ينقطع، لا وحي يأتي بشرع جديد، لكن الوحي يأتي بإلهام يؤدي إلى فهم جديد، وهنا يتم التمييز معرفيًا بين فلك النبوة وفلك الولاية: الولي والنبي. فلك النبوة ينتهي بخاتم النبوة محمد عليه السلام، فلك الولاية لا نهاية له، لماذا؟ لأن فلك الولاية مستمد من الاسم الإلهي الولي، وكل ما هو مستمد من اسم إلهي لا نهاية له، طبعًا هناك خاتم الولاية المحمدية، وهناك خاتم الولاية العامة. وفي أحيان نصوص ابن عربي تضعه هل هو خاتم الولاية — لأن خاتم الولاية العامة هو عيسى عليه السلام، حين يعود إلى الأرض حسب المعتقد — أحيانًا ابن عربي يضع نفسه بوصفه خاتم الولاية المحمدية. وهذا الذي يسمح لي أن أقول اكتملت الحضارة العربية الإسلامية في القرن السادس، اكتملت، وكل اكتمال لا يليه إلا النقصان.
فأعتقد كونه يحدد نفسه باعتباره ختم الولاية المحمدية كأنه على وعي ما بهذا الاكتمال الحضاري. اكتمال كما نعلم عمل انشقاقًا، يعني ابن عربي وابن رشد كلاهما من الأندلس، وابن رشد تعرَّض لاضطهاد ما، لكن فكر ابن رشد رحل عبر إسبانيا وعبر الترجمة اللاتينية رحل إلى الغرب، لكن ابن عربي نفسه ترك الأندلس وجاء إلى الشرق، حيث كتب الفتوحات المكية في فترة طويلة قضاها في مكة، مر في هذه الرحلات على مصر، لكن مصر لم تُحبه كثيرًا — كان فيه مؤتمر عن ابن عربي في مصر منذ أسبوعين في دار الكتب، للأسف الشديد كنت هنا فلم أتمكن من الحضور — ثم إلى قونية، وهناك تلميذه الأساسي صدر الدين القونوي، الشارح الأساسي لأفكار ابن عربي، وهناك تعرف إلى جلال الدين الرومي، وأثَّر فيه.
أعود مرة أخرى إلى التوتر، الخلق الدائم بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ التجلي السرمدي، استبدال زمان التتالي بالزمان السرمدي، انفتاح المعنى في الزمان والمكان؛ لأن أي معنًى يطرحه ابن عربي لا يقول أبدًا إنه معنًى نهائي، ذلك أن المعنى نابع من التجربة، وتتعدد التجارب بتعدد السالكين، الطرق إلى الله تتعدد بتعدد السالكين، انفتاح المعنى في الزمان والمكان، هذا هو الدرس الذي نأخذه من هذه السياحة في فكر ابن عربي.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
(٢) نقاط المحاضرة التي استخدمها نصر أبو زيد في عرضه
-
القرآن في التأويل الصوفي.
-
انفتاح المعنى من خلال التجربة.
-
لماذا ابن عربي؟
-
القرن السادس واكتمال التجربة الحضارية الإسلامية (ما بعد ابن رشد).
-
حلقة الوصل بين التراث الإنساني السابق واللاحق.
-
استيعاب الخطاب الصوفي السابق تفسيرًا وتأويلًا:
- (١)
الحكيم الترمذي (ت ٢٨٠ﻫ).
- (٢)
سهل بن عبد الله التستري (ت ٢٨٣ﻫ).
- (٣)
الحسين بن منصور الحلاج (ت ٣٠٩ﻫ).
- (٤)
ابن مسرة الجبلي (ت ٣١٩ﻫ).
- (٥)
محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفَّري (ت ٣١٩ﻫ).
- (١)
-
-
لماذا الآن؟
-
بين سؤال السبعينيات وسؤال الألفية الثانية.
-
حوار الحضارات أم صدام الحضارات.
-
العولمة ولاهوت التدمير.
-
محاربة إله السوق بأسلحة الميثولوجيا.
-
احتراق الدين تسيير عربة الاستبداد والاستغلال والفساد.
-
الفقر الروحي واقتناء أشكال التدين.
-
سؤال المعنى الأعمق.
-
-
مجال المعنى.
-
أين يوجد المعنى؟
-
استقلال المعنى خارج العقل، العقل يكتشف المعنى، البرهان.
-
وجود المعنى في اللغة/الوحي: البيان.
-
وجود المعنى في وعي العارف: العرفان.
-
جدلية الوجود والوعي: التجربة.
- (١)
كنت كنزًا مخفيًّا، فخلقت الخلق فبي عرفوني: التجليات.
- (٢)
الإنسان عين الوجود وغايته: المجلى الأكمل.
- (٣)
من العالم بدأ وإلى العالم يعود: المعراج المعرفي.
- (١)
-
-
الوجود لمحة برق: الزمن السرمدي.
-
حقق يا أخي نظرك في سرعة البرق إذا برق، فإن برق البرق إذا برق كان سببًا لانصباغ الهواء به. وانصباغ الهواء به سببُ ظهور أعيان المحسسوسات، وظهور أعيان المحسوسات به سبب في تعلق إدراك الأبصار بها، والزمان في ذلك واحد مع تعقلك، وتقدم كل سبب عن مُسبِّبه.
-
فزمان إضاءة البرق عين زمان ظهور المحسوسات به، عين إدراك الأبصار ما ظهر منه.
-
-
بحار الكلمات وأشجار الأقلام.
-
العالم واللغة.
-
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (الكهف: ١٠٩).
-
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ (لقمان: ٢٧).
-
العالم كلمات الله المسطورة في الوجود، والقرآن كلماته المسطورة في المصحف.
-
من فقر «المجاز» إلى رحابة «الرمز».
-
-
حل أزمة فكر الثنائيات: زمن التتالي.
-
العقل والنقل: جدلية الظاهر والباطن (الحقيقة والشريعة).
-
الوجود والعدم: سر «كن».
-
القِدَم والحدوث: الخيال المتصل/البرزخ الأعلى (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا).
-
المحكم والمتشابه (التشابه في الإحكام والإحكام في التشابه) الغموض الكوني: التوتر في الحال لا في العين.
-
الجبر والاختيار: عين واحدة أم عينان؟
-
الذات والصفات: الألوهة مجموع الأسماء الفاعلة، والذات غيب.
-
-
عالم البرزخ الأعلى/الخيال المطلق.
-
عالم الجبروت.
-
برزخ الألوهة (الذات الإلهية والعالم/مجموع الأسماء الإلهية) = العلة الفاعلة.
-
برزخ العماء (الوجود المطلق والعدم المطلق) = العلة الهيولانية.
-
برزخ حقيقة الحقائق الكلية (القِدَم والحدوث) = العلة الصورية.
-
الحقيقة المحمدية (الله والإنسان) = العلة الغائية.
-
اعلم أن الشيء الواحد العين إذا ظهرت عنه الآثار المختلفة، فإن ذلك من حيث القوابل، لا من حيث عينه. ومن هنا إذا حققت هذه المسألة يبطل قول الحكيم «لا يصدر عن الواحد إلا واحد».
-
-
عالم المعقولات:
- (١)
من برزخ الإطلاق إلى عالم الخلق.
-
العقل الأول/القلم.
-
النفس الكلية/اللوح المحفوظ.
-
الطبيعة الكلية.
-
الهباء.
-
- (٢) عالم الخلق/والأمر.
-
الجسم الكل/العرش.
-
الكرسي.
-
الفلك الأطلس.
-
فلك الكواكب الثابتة.
-
- (٣)
عالم الأفلاك.
-
السماء الأولى (كوكب زُحَل).
-
السماء الثانية (كوكب المُشتري).
-
السماء الثالثة (كوكب المريخ).
-
السماء الرابعة (كوكب الشمس).
-
السماء الخامسة (كوكب الزُّهرة).
-
السماء السادسة (كوكب عطارد).
-
السماء السابعة/الدنيا (كوكب القمر).
-
- (٤)
عالم الأمر.
- (٥)
عالم الخلق.
- (٦)
عالم الشهادة الكون والاستحالة.
-
الأفلاك السبعة أ.
-
- (٧)
عالم الشهادة.
-
الأفلاك السبعة ب.
-
العناصر.
-
الموجودات الأصلية.
-
الأحياء.
-
- (١)
-
ختام.
-
اللغة الإلهية واللغة الإنسانية: حل مشكل «المواضعة».
-
القرآن قديم حادث، لا قديم ولا حادث.
-
ختمت النبوة، لكن الوحي لم ينقطع: فلك النبوة وفلك الولاية.
-
خاتم الولاية المحمدية، وخاتم الولاية العامة.
-
الخلق الدائم (بل هم في لبس من خلق جديد) = التجلي السرمدي.
-
انفتاح المعنى في الزمان والمكان.
-