هُموم كتابة
١
في جلسة، جمعنا فيها فكري أندراوس على عشاء، مع نصر أبو زيد، في مطعم بالقرب من منطقة وول ستريت، بنيويورك، في نوفمبر عام ٢٠٠٧م، وبعد محاضرة أبو زيد، بجمعية ألوان الثقافية، عن عمليات الإصلاح الديني في بلاد المسلمين في القرون الثلاثة الماضية، احتفاءً وترحيبًا بأبي زيد، الذي كان تحت تأثير التعب من السفر ومن فرق التوقيت بين شرق المحيط الأطلنطي وبين غربه، حيث جيء به مباشرة من مطار كينيدي بنيويورك إلى المحاضرة. كنت لم ألتقِه منذ أن صعدت على منصة ندوة، كان يشارك بها في معرض كتاب، بعد حكم المحكمة الابتدائية برفض الدعوى ضده؛ للتفريق بينه وبين زوجته، وذكرت له أنه عندي بعض الأسئلة التي أود أن أناقشه فيها. ابتسم وبحميمية قروي مزارع، وكأنه يعرفني من قبل أن نلتقي، قال بدفء: «تعالَ لي الجامعة» وبالفعل ذهبت إلى الجامعة. وفي المبنى الأثري الآن مبنى كلية الآداب، وفي حجرة الأساتذة المزدحمة بمكاتب تُكاتف بعضها البعض، كان يجلس، ممتلئ البدن، قصير القامة، صوته يصلك عن بُعد، ويلتفُّ حوله طلبة للدراسات العليا، يماحكون أفكاره، وهو يرد عليهم بأسئلة. ذكَّرته بنفسي، قال: هنا نناقش كل ما يشغلك من أسئلة. جلست أسمع، عالم جديد عليَّ لم أعِشْه في جامعتي أو مراحل تعليمي المختلفة، تأكد لي صدق حدسي؛ حينما قرأت كتابه «مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن» في بداية سنة واحد وتسعين، وحينما قرأت حواره مع محمد حربي المنشور في الصفحة الثقافية بجريدة الأهرام في الواحد والثلاثين من مايو في نفس العام؛ بقيمة هذا الإنسان كإنسان وكمفكر وكباحث، حي، متواضع، صادق في نقده. ففتحت ملفًّا وكتبت عليه اسمه، ووضعت فيه ورقتي الجريدة، ومنذ ذلك التاريخ، وأنا أجمع كل كلمة كتبها نصر أبو زيد ونشرها، أو سُجلت.
قامت موقعة حجب ترقيته للأستاذية، وتلتها واقعة قضية التفريق بينه وبين زوجته، ورحيله نحو الشمال، وبعد رحيله بعامٍ ونصف العام رحلت أنا الآخر، وانقطع التواصل. وبعد رحيلي بعشر سنوات ها نحن نلتقي مرة أخرى، لكن في نيويورك. سأله سامح إسكندر: «هو أنت مواليد سنة كام يا دكتور نصر؟» فأجبت أنا: «عشرة يوليو ١٩٤٣م». فابتسم، نصر، وقال على طريقة تقاليد المشايخ القدماء، «أجزتك أن تتكلم عني». فضحكنا، فقلت له: «هديتي لعيد ميلادك السبعين — كان عليها خمس سنوات — هيكون كتاب لي عنك.»
جلست ظهر الأحد الرابع من يوليو ٢٠١٠م للبدء في كتابة كتاب «أنا نصر أبو زيد»، وفي اليوم التالي كتب لي الصديق محمد شعير باكيًا: إن نصر أبو زيد قد رحل عن دنيانا. عشت أسبوعًا من حزن لم أمُرَّ به من قبل، حتى عند رحيل والدي. أفكر في هذا الألم العميق الذي شعرت به، وأحاول أن أعرف سببًا أو أسبابًا له، لماذا ألمي لفراق نصر أبو زيد؟ رغم أننا لم نلتقِ سوى مرات معدودة، ولم أجلس أنا وهو وحدنا سوى مرة واحدة. لم أكن طالبًا من طلابه في الجامعة، لم أنتظم في عملية تعليمية مباشرة معه، فما وراء هذه الصلة العميقة به التي أشعر بها؟
فأتذكر شعوري حين قرأت كتابه «مفهوم النص» نصر حي، حي في تساؤله، حي في نقاشه وتفكيره، حياة تفيض في تمهيد الكتاب. نفس الحيوية النقدية التي لمستها في حواره بجريدة الأهرام، حيوية نقده الذاتي المستمر، وقلق السؤال الدائم. وحين قرأت كتابيه «نقد الخطاب الديني» و«الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية»، حينما نُشرا بداية عام اثنين وتسعين، ودراساته في مجلة القاهرة ومجلة إبداع. حينها، أدركت أنه وضع يده في فم الخطر، لمست هذه الجسارة المزروعة في أرض التراث، وليس فقط في التراث الغربي. لكن أتصور أن الخيط العميق الذي وصلني بخطاب نصر أبو زيد هو إيمانه بالناس، وفي القلب منهم الشباب، الخيط الذي لم ألمسه فيمن قرأت لهم من قبله من مفكرين ومن أسماء مصرية وعربية كبيرة. كان حضور الناس في خطاباتهم وما زال حضورًا كديكور في مشهد، مجاميع في الخلفية، لكن في خطاب نصر أبو زيد الناس، وفي القلب منهم الشباب، هم الهدف، وهم الغاية، بل هم الوسيلة، لا يعترف خطابه بثنائية خاصة وعامة، ولا بسلطة، ولا أن يكونا هما الطريق وهما الغاية من الحياة الفكرية في المجتمع؛ لأن بأيديهم سلطة المعرفة، وبأيديهم سلطة الفرض بالقوة، بل خطاب نصر يعول على ديموقراطية المعرفة وعلى الشعوب وعلى البشر في تغيير واقعها. شعرت بأن هذا الخيط هو الخيط الأعمق الذي يشدني لخطابه بجوار حيوية الخطاب وطاقته النقدية العميقة الصادقة.
٢
لمسني من داخلي إيمان نصر أبو زيد بالناس، وبالشباب تحديدًا، فكان مؤلمًا ما حدث داخل لجنة الترقيات ضد ترقيته للأستاذية، وما حدث من صراع المتصارعين بقضيته في أروقة المحاكم، لكتم وقطع لسانه داخل الجامعة، باسم القانون وبسيف الحسبة. لكن الألم الأكبر كان حين قرأت في الصحف خبر سحب مكتبة الجامعة لكتبه من رفوفها. الجامعة التي كانت حلم جيل في بدايات القرن العشرين أن تكون قاطرة للحداثة تجر مشروع التحديث من سقوطه، تصبح هي بنهاية القرن، قاطرة تجر المجتمع إلى الخلف، وتكبح حركته نحو الأمام، سعيًا نحو الاستقرار. فشعرت بالثقة التي أولانا بها خطاب نصر أبو زيد، وبمسئولية ثقته فينا. كشاب، شعرت أني أقول لهذه المؤسسة: إن كان صوت أبو زيد قد تم إسكاته داخل قاعاتها، وكتبه قد تم سحبها من رفوف مكتباتها، فسيأتي من هم خارج هذه القاعات وخارج تلك الأسوار، من سيجمع هذا التراث ويحيي هذا الصوت، وشعرت أن هذه هي مهمتي، أن أقوم بما قصرت فيه مؤسسة الجامعة الحديثة في ثقافتنا بقدر طاقتي.
فجمعت نسخًا من كل ما كتب ونشر نصر أبو زيد من كتب وأبحاث ومقالات، وكل ما نشر من حوارات صحفية معه، ووصلت إليها. جمعت كل الحوارات التليفزيونية التي عملت معه واستطعت الحصول على نسخ منها. وفي لقائنا هذا في المطعم بنيويورك بجوار وول ستريت لم أثقل عليه، لكن في اليوم التالي كانت عنده محاضرة بجامعة كولومبيا بشمال جزيرة منهاتن، حيث كان يدرس إدوارد سعيد عليه رحمة الله، واتفقنا أن نلتقي بعد محاضرته، فأخبرته أني سأعمل مدونة على النت تكون رواقًا لخطابه، واقترحت عليه أن يأخذ تسجيل صوت ديجيتال، ويسجل به كل حواراته الصحفية، ومحاضراته بالعربي والإنجليزي؛ لكي نكوِّن أرشيفًا صوتيًّا له؛ لأني ألاحظ أنه في العقد والنصف الأخير يحاضر أكثر من كتابة نصوص. فوجدته وكأن فني اللاسلكي داخله، والذي عمل لمدة اثني عشر عامًا بوزارة الداخلية، حي فوجدته يرسل لي بالبريد نسخًا من تسجيلات أجراها معه «نفيد كرماني»، حين كان يكتب كتابًا بالألمانية عن حياته في نهايات القرن الماضي. وطلبت منه نسخًا من تسجيلات مناقشاته لرسالتيه للماجستير وللدكتوراه وبالفعل أرسلها لي. وأصبح بالفعل يسجل كل حوار صحفي يتم معه، أو محاضرة يلقيها ويرسله لي على النت؛ ليتجمع في السنتين الأخيرتين من عمره، ما يزيد على مائة ساعة تسجيلات بصوته عربي وإنجليزي، لتكون أرشيفًا لآخر ما كان يفكر فيه نصر أبو زيد، ولتصبح مدونة «رواق نصر أبو زيد» هي المصدر الأساسي لكل من قاموا بتغطيات صحفية لرحيل نصر أبو زيد عن دنيانا، خمسة يوليو عام ٢٠١٠م، خمسة أيام قبل عيد ميلاده السابع والستين.
٣
فكيف أكتب عن نصر أبو زيد؟ ظل السؤال يحيرني، فقد قرأت كل كلمة كتبها ونشرها، وقد سمعت كل التسجيلات التي تحصلت عليها بصوته (عربي وإنجليزي)، وقرأت كل حواراته الصحفية المنشورة بالعربية والإنجليزية التي تحصلت عليها، وشاهدت كل الفيديوهات سواء لمحاضرات له أو لقاءات تليفزيونية، قرأت كل مرافعات المحامين في قضية التفرقة بينه وبين زوجته، وحيثيات الأحكام في درجات التقاضي الثلاث، وكل التقارير التي قُدمت في عملية ترقيته إلى أستاذ بالجامعة، وكل ما دار حولها حينَها في الصحف والمجلات المصرية. وقد سمعت ما سجله معه نافيد كرماني لكتابه عنه بالألمانية، وقرأت ما كتبت إيستر نيلسون عنه في كتابها معه وعنه بالإنجليزية، والمقال الطويل بمجلة النيويوركر الذي كتبته ماري آن ويفر. فهل أقوم بعمل دراسة أكاديمية، تكشف عروق الدم الحية داخل خطاب نصر أبو زيد الفكري والأكاديمي؛ لكي يعرفه وربما يفهمه من لم يفهموه من أهل الفكر والثقافة، سواء من دافعوا عنه أو من هاجموه؟ أم أكتب عن حياته وكفاحه مع أسرته بعد وفاة والده، وهو في سن الرابعة عشرة مع أمه؛ ليصل بأسرته إلى بر أمان، ونضاله في الجامعة وفي حياته الخاصة بمراحلها المختلفة، ليرى القارئ العام نصر أبو زيد الإنسان؟
حالة الاحتقان المكتومة التي كان يعيشها المجتمع المصري بين أهل الثبات والتقليد وأهل الدعوة للتجديد والتغيير، والصراع بين هوية ثابتة جامدة أصلية وبين هوية حية متعددة المشارب وتحتوي الاختلافات، هذا الصراع الذي لم يكن له قنوات ولا ساحات لكي تتم مناقشته والتعامل معه. ما إن ظهرت قضية ترقية نصر أبو زيد على السطح، حتى تحولت إلى ساحة، بل إلى كرة يلاعب بها كل منهما خصومه، لتدخل العملية في ظل المواجهة الأمنية مع خطر الإرهاب والإرهابيين حينها، إلى ساحة واسعة لتخليص الحسابات، باستخدام كرة قضية نصر أبو زيد، مما جعل من يدافعون عن نصر وعن خطابه، في غالبهم لم يقرءُوا خطابه، ومن هاجموه وحاربوه لم يقرءُوا، ليتحول الأمر إلى ثقافة تحارب أعداء وتحارب معارك متوهمة، ثقافة معاركها لا تبني خطوة للأمام، ولا تضع درجة سلم لعلو، بل مجرد اجترار المعارك وأحيانًا بنفس مكوناتها وبنفس توجهاتها، مهما اختلفت العصور ومهما اختلفت وسائل الصراع من عصر إلى آخر.
فثقافتنا تحتاج إلى تقديم خطاب نصر أبو زيد وتقديم مكوناته وعناصره للطرفين المتصارعين؛ حتى يبني من سانَده مساندته على معرفة؛ وليبني من عارَضَه ونقضَه معارضته ونقده على معرفة، فاخترت أن أقدم خطاب نصر أبو زيد للقارئ العام، اخترت أن أعطي من عمري ما يمد في عمر خطاب نصر الحي. اخترت أن تختفي الأنا عندي، خلف «أنا نصر أبو زيد»، عن طيب خاطر، لكن ليس لتحويل نصر إلى شيخ له مقام وقبَّة عالية نتبرك بها، بل لتقديم خطاب أبو زيد، لكي نستوعبه كثقافة ونهضمه، ثم نتجاوزه بأن ننظر أبعد مما نظر أبو زيد، ونسير أبعد مما وصل هو، لكن نفعل ذلك بناءً عن معرفة بخطابه، وليس عبر عصبية قبيلة فكرية دفاعًا عنه أو هجومًا عليه بمنطق: «أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب»، ولا بمنطق: «عدو عدوي صديقي»، بل تقديم شبه خريطة لخطاب نصر لكل من يريد أن يدخل عالمه معرفيًّا، تقديم يكون مساعدًا لمن سيدخل عالم مؤلفاته ونصوصه، ليعرف كيف يتحرك بين جوانب خطاب نصر أبو زيد، لكنه ليس عرضًا يغنيك عن قراءة مؤلفاته، بل يأخذك إليها، ويسير بك في طرقاتها. ثم تقرر أنت كقارئ وتقرري كقارئة: أين وكيف تتعاملون مع جوانب الخطاب؟
الأمر الثاني: إن حياة نصر أبو زيد الشخصية، وما بها من كفاح، ومن صراع مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي والفكري، هي قصة موحية، بجانب التصور العميق الذي جمعني بخطاب نصر أبو زيد منذ أطروحته للماجستير، عبر سعيه للربط بين الفكر والواقع؛ الربط بين جدل المفكر وبين واقعه بمكوناته، فلا الفكر ولا المفكر يتحركان في فراغ ولا يصدران عن فراغ. والعلاقة هنا ليست بين المفكر وبين واقعه الاجتماعي العام فقط، بل مع واقعه الشخصي المباشر أيضًا. فثقافتنا تميز بين النظر والعمل وأحيانًا تفضل العمل على النظر كما في فكر جماعات التمرد والعنف الساعية لتديين الحياة العامة، أو تقديم النظر على العمل مثل خطابات تأييد السلطة، وتأييد الواقع، بصورها المختلفة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. فحياة نصر لم تنفصل عن حياة التفكير عنده، فما يقوله وينادي به يؤمن به ويمارسه في حياته الشخصية.
٤
سأكتب عن حياة نصر أبو زيد، وعن حياة التفكير عنده، لكن: كيف سأكتبها؟ شعرت أنني أريد أن أُقرب خطابه للناس، وللقارئ العام، ولكن ليس بعرض حدوتة، بل أن تكون الكتابة من العمق أيضًا ما يستفيد منها الباحثون المهتمون بخطابه أكاديميًّا. فكيف أفعل كل ذلك؟ فاخترت أن أتصور لو أن نصر أبو زيد جلس ليكتب عن حياته وعن حياة التفكير عنده، فكيف كان سيكتبها؟ ففكرت أن أكتب الكتاب بصيغة الأنا، كأن الشخصية هي التي تروي عن حياتها وعن حياة التفكير عندها. فرغم كل ادعاء بالدراسة «الموضوعية الأكاديمية» فهي موضوعية إنسانية، بمعنى أنها موضوعية تخضع لجوانب الباحث الإنسانية، القائمة على التحيز، فلا توجد موضوعية بدون تحيز إلا وهمًا، فلماذا اخترت هذا الموضوع ولم أختر ذاك الموضوع؟ هو تحيز في حد ذاته. لماذا استخدمت هذا المنهج ولم أستخدم ذاك المنهج؟ تحيز آخر. لماذا اخترت هذا الآن وفي ذلك التوقيت، وبهذه الطريقة؟ هو تحيز في ذاته. فلا مجال لنفي التحيز من أعمالنا، لكن الصراع هو في أن أدرك تحيزاتي، وأن أحاول أن أحيِّدها بقدر الإمكان. لكن الادعاء بأنها غير موجودة لا ينفي وجودها، بل يجعلها موجودة وتعمل من تحت سطح الخطاب سواء وعيت بها أم لم أعِ بعملها. ففي النهاية حتى في الدراسة «الأكاديمية الموضوعية» سيكون هو خطاب نصر أبو زيد كما أدركته أنا وكما وعيتُه، ومن خلال ما طرحته على خطابه من أسئلة كانت تشغلني. فلو أتى من بعدي من يطرح أسئلة أخرى على الخطاب، فستتطور المعاني والدلالات باختلاف الأسئلة التي يطرحها الباحث وباختلاف همومه الفكرية. فسأكتب الكتاب كأن نصر أبو زيد ذاته يتحدث عن حياته وعن حياة التفكير عنده بصوت الأنا. فالرابط بيني وبين نصر أبو زيد في الكتاب هو كلمة «أنا» فأنا نصر أبو زيد، وأيضًا أنا أكتب عن «أنا» نصر أبو زيد، كما أدركتها مما توفر إليَّ من مادة، كما كانت همومي وأسئلتي التي أطرحها على خطابه، وحسب وسائلي ومدركاتي المعرفية الإنسانية بنت الزمان والمكان.
لكن بهذه الطريقة سوف أعرض وجهة نظر نصر أبو زيد الشخصية عن الأمور وعن نفسه فقط؟ وماذا عن الأمور التي أثرت في حياته وفي وقائع حياته، ولم يدركها هو ذاته، بل ورحل عن دنيانا وهو لا يعرفها، وقد تكشفت بعد ذلك، أو أنا عرفت بها؟ فلا أستطيع أن أكتبها بصوت الأنا، مما دفع أن يكون هناك صوتان في الكتاب؛ صوت الأنا الفرد، وصوت آخر عام يذكر جوانب عامة سواء كان نصر على علمٍ بها أو تلك التي لم يكن على علم بها، وأثرت في الوقائع والأحداث. الجانب الآخر أنني سأقوم بعملية تحقيق في الأحداث وفي الوقائع، عبر لقاءات مع أشخاص كان لهم دور في حياته، وفي الوقائع؛ لكي أكون صورة لا تعتمد فقط على ما قال أو كتب نصر أبو زيد فقط، بل من خلال روايات الآخرين أيضًا. بل سيكون هناك ملفات عامة مثل التقارير التي قُدمت في اللجنة العلمية لترقيات الأساتذة، وكذلك في داخل أجهزة الجامعة سواء من قسم اللغة العربية لمجلس الكلية، أو من مجلس الكلية إلى مجلس الجامعة.
فقمت بعمل لقاءات مُسجلة مع د. ابتهال يونس، رفيقة دربه منذ بدايات التسعينيات، والتي رافقته خلال محنتي الترقية وقضية التفريق، وألَم ابتعاده عن الجامعة وعن البلاد في هولندا. والتقيت د. جابر عصفور في يناير ٢٠١١م رفيقه منذ كانوا في الثامنة عشرة، من نادي الأدب بمدينة المحلة، في لقاء طويل، وبعض المكالمات الأخرى عبر التليفون التي سجلتها معه. وجلسة طويلة بالتليفون مسجلة مع د. علي مبروك عن علاقته بنصر أبو زيد. وسجلت مع الشاعر زين العابدين فؤاد عن علاقته بنصر، وعلاقتهما بجابر عصفور في الجامعة وصداقاتهم منذ نهايات الستينيات. وكنت أتمنى أن أسجل مع د. حسن حنفي عن علاقته به رغم أن كتابه «حوار الأجيال» ثلثه عن خطاب نصر أبو زيد، وكذلك كنت أتمنى أن أسجل مع د. محمود علي مكي، لكني لم أتمكن.
٥
بدأت الكتابة عن حياة نصر وكأنه هو الذي يقصها، وأجمع أجزاءها وأربطها ببعضها، كنُتف متفرقة وأنا أنسجها في سياق سردي. حاولت أن يكون حيًّا، كان في مخيلتي أمي حين يقرءُون لها، كيف ستتعامل مع قصة نصر أبو زيد، أريد لها أن تفهم خطابه وتعيش تجربته من خلال النص، فجمعت أجزاء متناثرة. فمثلًا واقعة لم يذكرها سوى إبراهيم عيسى في تغطيته الصحفية للقضية كصحفي، وقد قصَّها عليه نصر أبو زيد؛ عن موقف له مع مواطن في سوبر ماركت بمدينة ستة أكتوبر التي كان يقيم بها نصر وزوجته، ونقاش هذا المواطن معه. حدث آخر لم يذكره نصر في أي من تسجيلاته عن حياته أو فيما كتب، لكنه ذكره مع محمود سعد في لقاء تليفزيوني معه بالتليفزيون الحكومي المصري. وكان الذي أثار الموضوع هو محمود سعد: وهو عملية حرمان نصر أبو زيد من التعيين كمعيد، رغم أنه الأول على الكلية، وشكواه لرئيس الجامعة، وجلوسه أمام بابه مفترشًا الأرض متظلمًا، وكاتبًا في شكواه بلغة الدواوين المصرية «مُتظلم بالباب». حتى حصل على حقه، بل وحقوق آخرين في نفس الدفعة من أقسام أخرى في التعيين. معلومة أخرى لم يذكرها نصر أبدًا إلا في حوار له قبل رحيله بثلاثة أشهر في لقاء له في لبنان مع برنامج على قناة الحرة، ذكر فيه اسم والدته. وعرضت الصورة التي رسمها سعيد الكفراوي في مقالين في ذكرى نصر أبو زيد عن يوم حدوث هزيمة سبعة وستين، وهما معًا في مدينة المحلة.
وبالنسبة لتفكيره فقد رتبت كتاباته منذ أول مقال منشور له، وهو في سن التاسعة عشرة بمجلة الأدب التي كان يحررها الشيخ أمين الخولي، وكتب فيها أبو زيد عن أدب العمال والفلاحين حتى آخر ما نشر له بعد رحيله عنا، في ترتيب تاريخي حسب تواريخ أول مرة نُشرت، وعرضت مضمون كل منها في سياق حياته وسياق أحداث حياته. بل وضمنت في النص السردي توثيقًا في المتن؛ ماذا نُشر، وأين نُشر، وما هو المحتوى الفكري؟ وكانت عملية في غاية الصعوبة، كيف أكتب عن رسالة ماجستير نصر أبو زيد، أو رسالة الدكتوراه في ثلاث أو أربع صفحات؟ دون أن تكون كتابة سطحية أو مُخلة، وأيضًا كيف يتم التعرض لأفكار فلسفية ولاهوتية بأسلوب يقربها من القارئ العام، بدون عُجمة لغة الاصطلاح، وبدون تسطيح لها أيضًا؟ عرض للفكر في سياق حياة الكاتب وتفاعله مع أحداث ووقائع حياته الشخصية، والأحداث العامة التي انخرط فيها.
الجانب الآخر في أحداث ووقائع عمليتي حرمانه من الترقية إلى أستاذ، ووقائع قضية التفريق بينه وبين زوجته في المحاكم المصرية، ووقائع كل منها منذ تقدَّم أبو زيد بعد شهر من إتمام زواجه، بدكتورة ابتهال يونس في ربيع سنة اثنين وتسعين، تقدم للجنة ترقيات الأساتذة، ورصد الوقائع يومًا بيوم من واقع التقارير، وتلميح فهمي هويدي للأمر بجريدة الأهرام في نوفمبر من نفس العام، حتى صدور قرار مجلس الجامعة في منتصف مارس برفض الترقية. ثم رصدت الجانب العام من القضية في الصحف منذ مقالة لطفي الخولي بجريدة الأهرام حول الأمر، وبداية طرح القضية للنقاش العام، ثم وقائع بداية الدعوى القضائية في مايو سنة ثلاثة وتسعين، والإجراءات التي تمت حتى صدور قرار ترقية نصر أبو زيد إلى أستاذ في بداية يونيو ستة وتسعين، وبعدها بأسبوعين يصدر حكم محكمة النقض دائرة الأحوال الشخصية بالتصديق بصحة إجراءات حكم محكمة الاستئناف في حكمها الذي تم إيقافه إجرائيًّا، بالتفريق بين نصر أبو زيد وزوجته. فقد رصدت هذا الجانب بدقة ليكون جزءًا من التأريخ الفكري لحياتنا الفكرية. وفي هذا الجزء كان صوت الراوي هو صوت باحث موضوعي يرصد من الأحداث ما لم يُدركه نصر أبو زيد ذاته، ورحل عنا دون أن يعلمه. وقد تكشف بعد ذلك فيما نشره جابر عصفور عن محنة أبو زيد في جريدة الحياة، عن دور شوقي ضيف في الأمر، وعن المفاوضات التي تمت بين جابر عصفور كرئيس لقسم اللغة العربية في ذلك الوقت، وبين شوقي ضيف كرئيس للجنة الترقيات، عن طريق وساطة دكتور محمود مكي.
كانت هناك مجموعة من المقالات كان قد نشرها دكتور جابر عصفور عن وقائع القضية في عام ثمانية وتسعين، لم أكُنْ قد اطلعت عليها، وقد جمعها في كتابه «ضد التعصب» وقد اطلعت عليها عام ألفين وسبعة عشر، الجانب الفكري منها هو محتوى تقرير مجلس قسم اللغة العربية لمجلس كلية الآداب ردًّا على تقرير اللجنة العلمية. وهو التقرير الذي شارك في كتابته جابر عصفور، لكن كانت هناك بعض التفاصيل والوقائع التي كان جابر على علم بها كونه طرفًا في الأحداث كرئيس للقسم، وكصديق حميم لنصر أبو زيد في هذه المقالات. وقد تعرضت لهذا الأمر في دراسة عن «مدرسة القاهرة لنقد التراث والأشعرية».
في زيارة نصر أبو زيد لنيويورك في نوفمبر عام ألفين وسبعة، وفي الجلسة الوحيدة التي جلست فيها أنا وهو فقط، سجلت حواري معه، ثم كتبته في نص، نشرته جريدة أخبار الأدب، وحدث عندي إشكال في جهاز الكمبيوتر، فضاع هذا التسجيل الصوتي مع غيره من تسجيلات هذا العام، لكن بقي النص، فضمنت نص هذا الحوار في متن الكتاب؛ لكي يظهر الفرق بين صوت نصر أبو زيد في النص وبين صوت جمال عمر، لمن يدقق. ثم في نهاية الكتاب وضعت «رحيق» عبارة عن سجل مرتب تاريخيًّا في شكل متتابع، سجل بكل ما كتب ونشر نصر أبو زيد لمن أراد أن يدرسه، لكن بشكل مختلف عن طريقة كتابة المصادر والمراجع في الدراسات الأكاديمية.
٦
صدر الكتاب في مارس عام ألفين وثلاثة عشر، في العام الذي في العاشر من يوليو منه يكون عيد الميلاد السبعين لنصر أبو زيد كما وعدته قبلها بست سنوات، وبعد ثلاث سنوات من رحيله، وبعد عامين بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وفي ظل وصول تنظيم الإخوان المسلمين لحكم مصر. فشعرت بأن نفس الصراع الأيديولوجي ونفس التوظيف النفعي بين التيارات، بدأ يستخدم ويوظف الكتاب، ويستخدم اسم نصر أبو زيد والكلام عنه نفعيًّا.
فمن دار نشر الكتاب ذاتها؛ فمن تصميم الغلاف، حيث تم تصغير حجم كلمة «أنا» في الغلاف وتكبير كلمة «نصر أبو زيد»، فاسمه كبير ومشهور، وسينشر الكتاب ويجعله يبيع نسخًا.
حضر حفل توقيع الكتاب في دار النشر بالقاهرة، أستاذ مخطوطات في جامعة لايدن بهولندا وزوجته، وكان يقوم بعمل مع دار الكتب المصرية، وأخبرني أنه التقط الكتاب منذ أسبوع، وأنه مستمتع به، وأنه كان يعرف نصر أبو زيد في لايدن، بل وأخبرني أنه سيكتب مقالًا لمطبوعة هولندية عن الكتاب بالهولندية. وبالفعل فعل، وأرسل لي المقال الذي قمت بترجمته إلى الإنجليزية. ونقطته المحورية في التناول، هو كيف أن في ظل وصول جماعة الإخوان لسطح الحياة السياسية في مصر، يخرج كتاب كهذا عن نصر أبو زيد، الذي رحل عن مصر من قبل، وكيف أن إعطاء الفرصة لهذه الجماعات ممكن أن يُبشر بتغيُّرها وبالحرية، وبالديمقراطية.
على الجانب الآخر، من يقاومون وصول المتدينين إلى السلطة يستخدمون الكتاب في استعادة قصة نصر أبو زيد، والاضطهاد الديني له والتفريق بينه وبين زوجته، وقوى الظلام التي فردت أجنحتها على الحياة بمصر، ويكون وخطابه حلقة مواجهة بين النور والظلام. ولأن الكتاب مكتوب من ضمير الأنا، تمت الكتابة عنه على أنه كتاب لنصر أبو زيد، عبارة عن حوار سجله معه جمال عمر، وحول التسجيلات إلى كلمات مكتوبة، فالكتاب هو سيرة ذاتية لنصر.
حين ينظر الصحفي الذي يُقلِّب الكتاب فيرى أنه ليس به هوامش، ولا يرى صفحة بها مراجع ومصادر مرتبة بالطريقة التي تعود عليها، فيقرر أن النص سيرة ذاتية. فكان هذا هو الاختبار الذي يكشف لي مَن قرأ الكتاب ومن لم يقرأ، وأنه مجرد مر مرور الكرام على الكتاب، مهما طال أو قصر النص الذي كتبه عن الكتاب. وكثير من محرري صفحاتنا الثقافية بارعون في الكتابة عن كتب، كتابة العالم الخبير، من مجرد اطلاعهم على مقدمة الكتاب وعلى فقرة الجلد والفهرست، والبراعة الأكبر هي في النقل عن بعضهم البعض دون الإحالة.
٧
كتاب «أنا نصر أبو زيد» مقدمة لدخول مدينة خطاب نصر أبو زيد لمن أراد. لكنَّ هناك جهودًا أخرى كثيرة تحتاج إلى أن تُستكمل؛ فبعد ما يقرب من عقد من الزمان على رحيل نصر بجسده عن دنيانا، فلم يتم جمع نصوصه المنشورة بالعربي ولا ترجمة الإنجليزي منها إلى العربية وهو كثير؛ مما يحتاج إلى عمل مُنظم لإنجازه. وأنا هنا أتناول خطاب نصر أبو زيد كمثال، نحتاج أن نفعله في خطابنا الفكري والثقافي العام، على الأقل خلال القرنين الماضيين؛ لكي نكون أكثر إحاطة بواقعنا وبحياتنا، فليس هذا الجهد لشخص نصر أبو زيد، كفرد، بل هو نموذج ومثال أضربه، لعل أحدًا يفعل مثله مع الكثير والكثير من مفكرينا ومع تياراتنا الفكرية ومعاركنا الفكرية والثقافية؛ لنكون على وعي بواقعنا به شيء من الشمول، وأن يكون مبنيًّا على المعرفة، وليس فقط على تركيبات أيديولوجية مُختصرة ضيقة الأفق، نتائجها محددة قبل البدء في تركيبها. بل مهم حين نكوِّن أيديولوجية لنتعامل بها مع واقعنا. والأيديولوجية هي نوع من التفكير المنظَّم، والمتحيز المتوجه نحو هدف مُسبق، لكن الفارق بين أيديولوجية بمعنى سلبي وأيديولوجية بمعنى إيجابي، هو: هل تُبنى الأيديولوجية على معرفة وعلى إدراك لحقائق ووعي بشروط الواقع وقوانين عمله، أم هي أيديولوجية مبنية على تمنيات وأحلام متوهمة وقدرات غير واقعية وغير فعلية؟ فتصبح أنساقًا فكرية مخدرة للوعي، وينتج عنها إهدار للواقع ذاته؛ لأنه يظل على حاله، لعدم إدراك شروط وقوانين عمله وكيفية التعامل معها.
أقول إننا نحتاج لجهد كبير، والكتاب هو مقدمة له. فها هي خريطة لخطاب نصر أبو زيد، ما أطمح إليه في المستقبل أن تكوَّن القائمة بكل ما كتب أبو زيد، وبحواراته الصحفية، وتسجيلاته الفيديو وتسجيلاته الصوتية، الخاص منها والعام مرتبة ترتيبًا تاريخيًّا في قائمة، وموضوعة في سياقها في حياته وفي حياة خطابه، وتكون على موقع على النت، والباحثون في خطابه وعن خطابه يدخلون على الموقع، فيضغط القارئ على عنوان المقالة فيصل إليها، يضغط على عنوان تسجيل مناقشة رسالة الماجستير لنصر، فيصل إلى التسجيل ويستطيع أن يسمعه. فيستطيع المؤيد لخطابه ويستطيع المناقض لخطابه أن يصلا إلى الخطاب ذاته ويطلعا عليه، فيكون تأييدهم أو نقدهم مبنيًّا على معرفة، وليس فقط عبر نقل كلام آخرين يثقون فيهم، حيث تحولت حياتنا الثقافية إلى صراعات قبَلية، قائمة على العصبية الثقافية، وأصبحت معاركنا الثقافية والفكرية مجرد سجالات كر وفر، وغنائم وأسرى فكريين.
أحاول أن أواجه حالة الأطلقة، وظاهرة اللاتاريخية، في فكرنا؛ سواء في تجربتنا التراثية أو في تجربتنا الحداثوية في القرنين الماضيين. أطلقة ولا تاريخية تتخفى وراءهما رؤية للعالم، تجعل من العالم مكونات متناثرة في الكون لا رابط خلفها، إلا قوة قاهرة جبارة نافذة لا رادَّ لقضائها، يمكنها أن تتدخل في أي وقت وفي أي لحظة، ضاربة بأي قوانين عرض الحائط، ومُلقية بأي شروط للواقع، أو قوانينه الاجتماعية، أو السياسية أو الاقتصادية في طي النسيان. ونتيجة لذلك التصور عن الذات الإلهية وتصور علاقتها بالعالم، فلا وجود لقدرة البشر ولا دور للإنسان، ولا فاعلية حقيقية لقوانين يسير عليها الكون فيزيقيًّا أو تحكم حياة الطبيعة. وتصبح هذه القوانين ما هي إلا مناسبات لحدوث الفعل، لكنها ليست السبب أو حتى علة لحدوث الأفعال، وإن الفاعل الرئيسي وراء «الأسباب» هو قوة أكبر وأوسع من الأسباب ومن العلل، هذه الرؤية للعالم هي التي على مثالها قامت نظمنا السياسية في الحكم، التي تدور حول فرد أو مؤسسة، في قمة هرم السلطة، تتمركز في يديها كل السلطات. وتمثلت في أنساقنا الاجتماعية والاقتصادية، بل والثقافية، وفي القلب منها الدين. ولقد حاولت الإشارة إلى هذه المنظومة في دراسة لي «مدرسة القاهرة في نقد التراث والأشعرية دراسة علائقية».
أقول إنني أحاول أن أواجه ظاهرتي الأطلقة واللاتاريخية السائدتين في وعينا، والمبنيتين على رؤية للعالم ترى العالم نُتفًا مُتناثرة، لا يحكمها قانون حتمي، وترى الإنسان لا فعلية له. أحاول أن أواجهها بعلائقية؛ تربط بين الظواهر في نسق، علائقية، تربط بين الظواهر في علاقات تقوم فيها الظواهر في وجودها، وفي شروط هذا الوجود على بعضها البعض. وهذا الكتاب هو محاولة تطبيقية لها بشكل عام على ظاهرة خطاب نصر أبو زيد. وقد حاولت تطبيقها على ظاهرة كيفية التعامل مع المصحف في تجربتنا التراثية، وفي تجربتنا الحداثوية من خلال كتابي «مقدمة عن توتر القرآن». لكن الأمر يحتاج إلى التعرض للظاهرة بشكل أكثر عمقًا في نص مباشر لها، بتناول العلائقية كمنهج وكفلسفة في مواجهة الرؤية الأشعرية للعالم، وفي مواجهة رؤيتها للعالم، بعد فشل اتجاهات الاعتزال والتشيع بتياراتهما، وتيارات الإباضية؛ فقد فشلوا في تكوين رؤى تستطيع أن تقدم بديلًا. وأتصور أنه لا فائدة من اجترار أنساق من الماضي للمواجهة؛ كمحاولة إحياء اعتزال قديم، لمواجهة الرؤية الأشعرية للعالم في عصرنا، فالاعتزال القديم سقفه المعرفي هو الآخر محدود بعصوره التي تختلف عن عصورنا. ربما الفقرتان السابقتان تحتاجان إلى تفصيل وشرح أكبر، لكن ليس مكانه هنا، لعل في المستقبل أن يكون في موضع آخر.
٨
من عاداتي في الكتابة أن أدرس الموضوع أولًا وأعايشه زمنًا؛ حتى يستوي في ذهني، فيحدثني الموضوع أو تحدثني الظاهرة ذاتها، وتكشف نفسها لي، حين أشعر بهذا الامتلاء وذلك الامتلاك. حينها أفكر في الكتابة، فتكون الكتابة دفقة، دفعة، قذفة، حية، متماسكة، أحاول أن تكون نابضة، حتى وهي كتابة «علمية» «موضوعية»، فهي كتابة من ذات إنسانية بنت الاجتماع والسياسة والثقافة، ونتاج التجربة الحياتية المحدودة بحدود الزمان والمكان، وبقدرة الإنسان وأدواته على الفهم والإدراك وعلى قدرة وسائله. كذلك فإن الكتابة عبر لغة؛ واللغة بتكوينها حين نستخدمها كأفراد، أو كجماعات تكون متحيزة تحمل حمولات تاريخية. ويكون الصراع كبيرًا بين أن تستخدمك اللغة ذاتها، وبين أن تستخدمها أنت وتوظفها، وتجعلها تقول كلامًا، وتوظفها بطُرق لم يطرقها غيرك، وهو صراع دائم ومستمر لا نهاية له، فكل نهاية منه هي بداية لرحلة أخرى.
أكرر نفسي مرة أخرى: مهم أن نعايش الظاهرة التي ندرسها، مفكرًا كان أو تيارًا أو مذهبًا فكريًّا … إلخ. فالمعايشة تنسج خيوط التآلف، والحميمية التي تجعل الظاهرة تُفصح وتقول وتعبر وتتجلى. وتكون مهمتي بعد ذلك هي محاولة الإمساك بهذا الظهور وذلك الإفصاح، من خلال كلمات حية بقدر الإمكان، وفي دفقة. فتكون الكتابة هي آخر مرحلة من الدرس ومن البحث.