إضاءات
(١) لماذا أبو زيد؟١
منذ بدايات محاولات دخولنا العصور الحديثة، ومحاولات الخروج من عصورنا ما قبل الحديثة، وعوالمها وتصوراتها، ولطبيعة شروط عملية تحديثنا ذاتها، ومن كونها عملية يحدد أهدافَها وتوجهاتها الحاكم، رجل السياسة؛ كل هذا جعل عملية التحديث تحديثًا بلا حداثة، جعلها عملية نقل نماذج جاهزة وفرضها بالقوة على الواقع. عملية يحكمها منطق القوة وليس منطق الإقناع، أو الفهم أو الاستيعاب والتجاوز. مما صبغ أنساقنا الفكرية ومنظومات مفكرينا في الغالب بصبغة عمليات تفكير هي في لبها عمليات ممارسة التفكير، ولكن بآليات السياسة. عمليات تفكير أقرب لفرض سلطة، ليس سلطة معرفية بآليات المعرفة، بل بفرض سلطة معرفية باستخدام قوة خارجة عن المعرفة، قوة خارجية لفرض هذا السلطان، جبرًا؛ ليصبح الأمر ليس سلطة معرفة بل سلطوية معرفية. سواء كان المفكر مؤيدًا للسلطة الحاكمة أو كان معارضًا لها. فهذا النهج حول أفكارنا في أغلبها إلى مجرد تركيبات أيديولوجية؛ أي تركيبات نتائج تفكيرها مُحدَدةً مُسبقًا، قبل البدء في عمليات التفكير، ويصبح التفكير مجرد عملية تبرير التحيزات المفكر المُحددة سلفًا. تركيبات لا تبدأ من واقعنا ومحاولة فهمه والتعامل معه حسب شروطه، بل عمليات تفكير في الغالب، تبدأ من تبنِّي نموذج كامل سابق التجهيز، سواء أكان نموذجًا سابقًا جاهزًا عند أسلافنا، أو كان نموذجًا جاهزًا سابقًا ونجح عند الآخر المتقدم علينا. ويصبح الدور على واقعنا أن يخضع قهرًا لهذا النموذج وبالقوة. مما جعل المفكر طوال الوقت يفكر وعينُه على راية السياسة في أي اتجاه هي، ويصبح كل حلمه أن يصل إلى هذه السلطة؛ ليستخدم عصاها في فرض نموذجه السابق التجهيز على الواقع بالقوة، أو يصل إلى أذنها؛ ليهمس ويوحي لها بأن تتبنى تصوراته وتفرضها بالقوة أيضًا على «قوم وادعين جهلاء».
فالمثقف؛ معارضًا كان أو مؤيدًا للسلطة، تقليديًّا أم تجديديًّا، سلفيًّا أو حداثيًّا، ليبراليًّا أم يساريًّا، قوميًّا أم إسلامويًّا، أفنديًّا أو شيخًا معممًا؛ كلهم تقريبًا متفقون على شيء واحد هو أن دور الناس مجرد جماهير في المشهد، مجاميع في خلفية الأحداث، كديكور في المشهد التحديثي. السلطة والمثقف كلاهما متفقان على أن الناس لا تعرف مصالحها وليست مستعدة بعدُ، الجميع تقريبًا اتفق على أن الناس تُربَط بحبل وتُسحَب منه، والصراع بين المتصارعين على ساحاتنا الثقافية والفكرية والسياسية، هو على «من يجب أن يُمسك بطرف حبل سحب الجماهير لسحبها». ونصر أبو زيد بعد مرحلة القراءة الأيديولوجية للتراث التي مر بها والتي تلَتْها مرحلة نقد الذات، تصور أن الدور الحقيقي للمثقف هو قطع هذا الحبل الذي تُجَر منه وبه الجماهير، وأن دور المثقف دائمًا يكون على يسار السلطة، أيِّ سلطة، حتى وهي تتبنى أفكاره أو تحاول تطبيقها، فالمثقف «حارس قيم لا كلب حراسة».
من هنا الحاجة للاحتفاء بنموذج هذا المثقف، كجزء من التعامل مع السؤال الذي طرحته هبَّة ٢٥ يناير: هل سنعيد النظر في عملية التحديث المُسيسة والتي تتم عبر نقل نماذج جاهزة، والتي نمر بها منذ قرنين، وأفضت في نصف القرن الأخير إلى سلسلة من التشظي والانشطار على مستوى الأديان، مسلمين ومسيحيين والطوائف والمذاهب سنة وشيعة وبين الوديان والصحراء حتى أصبحت الآن مدنًا وأحياء؟ والسؤال هو: هل سنؤسس لتحديث على أسس جديدة أم سنكتفي بمحاولة استعادة معادلة التحديث عبر التلفيق، المعادلة التي سقطت عام ١٩٦٧م؟
(٢) سؤال القرون العشر٢
منذ وفاة النبي محمد عليه السلام، ومُنذ جُمع القرآن بين دفتي مصحف، وعملية محاولة فهم وتأويل وتفسير القرآن يقوم بها المسلمون؛ لاستخراج المعاني التي يضبطون بها مجريات حياتهم. وعملية الفهم احتاجت إلى إيجاد أسس فكرية ومعرفية، يقوم عليها فهم القرآن واستنباط أحكام ودلالات منه. ومع اتساع عدد ورقعة المسلمين، واختلاف الثقافات والأعراق. والفِرق؛ سياسية وفكرية. فكان السؤال عن طبيعة القرآن، وكيف نفهمه؟ ومع تحدِّيات الجدل بين الدين الجديد وبين الديانة المسيحية، ذات التراث اللاهوتي الطويل المستقر في بلاد العراق والشام ومصر … إلخ. وبين لاهوت المسلمين الأوائل الذي ما زال يتشكل. ففي نصوص القرآن توتر حول طبيعة الذات الإلهية، فالقرآن يعطي صورة منزهة، تنزيهًا كاملًا عن ذات الله، سبحانه وتعالى بأنه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وأنه سبحانه: اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. وفي جانب آخر يعطي المصحف صورة مجسَّدَة عن الله، ذات لها يد: يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْا، وبأنه سبحانه ملِك ذو عرش عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، فبين التنزيه الكامل، والتشبيه والتجسيد الكامل، هناك توتر في المصحف.
فحاول المسلمون أن يرفعوا هذا التوتر من خلال أسس فكرية، فأخذ المتكلمون المسلمون من الآية السابعة من سورة آل عمران التي أشارت إلى أن القرآن منه آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، واستنادًا إلى ذلك فإن هناك آيات هي الأصول التي تؤول على أساسها الآيات المتشابهة. فِرَق المسلمين اتفقت تقريبًا، على هذه التفرقة، لكنهم اختلفوا فيما بينهم: ما هي الآيات التي تعد مُحكَمة، وتلك التي تُعد من المتشابهات؟ فأخذت كل فرقة ما توافَق مع أصولها الفكرية وجعلته من المحكم، وما يختلف مع هذه الأصول؛ هو ما يحتاج إلى التأويل، وكان الصراع بين فرقة المعتزلة وخصومها حول مثل هذا الأمر، ومنها قضية التعبيرات المجازية التي لا تُفهم فهمًا حرفيًّا، وقضية هل القرآن قديم قِدم الذات الإلهية، أم أنه مُحدث مخلوق، مرتبط بالزمن.
وكذلك الفقهاء المسلمون الذين سعوا لاستخراج الأحكام الفقهية، التي تُعد تشريعًا قانونيًّا من القرآن، فوضعوا قواعد للفهم؛ للتفرقة بين الآيات التي جاءت «تنسخ» آيات، وتلغي أحكام آيات أخرى، مما تطلَّب محاولة التفرقة بين الآيات التي نزلت على النبي عليه السلام بمكة عن تلك التي نزلت بالمدينة، ولتحديد القَبْلي والبَعدي، الحضري والسفري … إلخ. ولم يقصِّر البلاغيون في محاولة رفع التوترات الظاهرة بين آيات القرآن، في محاولة دراساتهم عن مصادر إعجاز القرآن، وبنائها على أُسس بلاغية ولغوية، حتى إن العرب المشركين بدعوة الإسلام يشهدون ببلاغته، فنجد عبد القاهر الجرجاني يجعل مصدر الإعجاز في القرآن ليس في ألفاظ القرآن المفردة، بل في طريقة نظم الكلمات في نسَق، والمدخل لدراسة إعجاز القرآن هو إدراك قوانين الكلام البليغ؛ من خلال دراسة الشعر كمدخل لفهم القرآن واستنباط أحكام ومعانٍ منه، وإن كانت جهود عبد القاهر قد وقَفت حسب الدرس البلاغي في عصره عند البلاغة على مستوى بلاغة الجملة.
والمتصوفة من المسلمين وتفريقهم بين الظاهر من معاني القرآن، المُدرَك بقواعد اللغة وآليات الدرس السائدة في الفقه وفي علوم القرآن، وبين الباطن الذي لا يمكن الوصول إليه إلا عبر المرور بالظاهر ودراسته، وفرَّقوا بين الشريعة التي تُدرَك من علوم الظاهر، وبين الحقيقة التي تصل إليها علوم الباطن. وكان للفلاسفة المسلمين، دورهم. فنجد ابن رشد، يضع أساس العلاقة بين مقُولات الحكمة التي نصل إليها بالبرهان العقلي، وعدم تناقضها مع الشرع. واعتمد استخدام المجاز لرفع التناقض البادي بين مقُولات البرهان وظاهر الشرع؛ لأنهما يخرجان من مصدر واحد.
ففي خلال قرون الحيوية الفكرية عند المسلمين، كانت كل هذه الرؤى تغذي بعضها بعضًا، وحتى حين تحيزت السلطة لرأي فرقة على حساب آراء فِرق أخرى، إلا أنه مع الدخول في فترات الضعف، اختفى هذا الثراء الفكري؛ لتسود رؤية واحدة، بسبب عوامل سياسية واجتماعية، تاريخية، وليس بسبب الكفاءة والقدرة الفكرية، فسادَ تعريفٌ واحد لسؤال: ما هو القرآن؟ منذ زمن المتوكل يدور حول أنه: «كلام الله القديم المحفوظ بين دفتي المصحف». وحُددت مصادر الشرع عند الفقهاء في القرآن والسنة والإجماع والقياس أساسًا. وفي عصور تالية حاول المسلمون الوصول إلى مقاصد كلية للشريعة، صاغها الشاطبي في خمسة: حفظ النفس، المال، الدين، العقل، العرض. ودخل الفكر عند المسلمين في قُرون التقليد والحواشي والاجترار، والترديد.
أتى التحدي الغربي على العالم العربي سياسيًّا وعسكريًّا، وأيضًا تحديًا فكريًّا من خلال جهود الاستشراق التي رأى فيها البعض ذراعًا فكرية للاستعمار الغربي، فجاءت جهود مفكرين مسلمين لمحاولة تحديث الفكر «الإسلامي»، وتركزت الجهود للعودة لمصادر من التراث بدل الشروح والحواشي، لكن كل الجهود باستثناء محاولة محمد عبده المتواضعة في طبعة كتابه الأولى «رسالة التوحيد»، للتعرض لمسألة الخلاف بين المعتزلة وخصومهم في مسألة: هل القرآن قديم قدم الذات الإلهية، أم مخلوق؟ وانحاز محمد عبده لمفهوم المعتزلة؛ إلا أن الطبعة الثانية من الكتاب حذف منها هذا الانحياز. ودارت كل الجهود في محاولة توسيع المعنى المفهوم من القرآن؛ ليتناسب مع نتائج العلم الحديث، والتوفيق بين المذاهب الفقهية، وعملية نقد للسنة. وحتى مدرسة التفسير الأدبي للقرآن الكريم التي مثلها الشيخ أمين الخولي وتلامذته، والتي اعتمدت على جهود محمد عبده الجزئية، وانطلقت إلى أنه قبل استخراج أحكام فقهية أو قانونية أو فكرية من القرآن، لا بد من دراسته دراسة أدبية وافية، قبل كل شيء، فهو «كتاب العربية الأكبر»، والمدخل إليه هو اللغة والبلاغة. وعلينا الاستعانة بآخِر ما وصلت إليه علوم البلاغة واللغة، في دراسته وعدم الوقوف عند المستوى الذي كانت عليه علوم البلاغة عند أسلافنا.
لكن كل هذه الجهود ظلت تدور في إطار الأسس اللاهوتية، والتصورات العقيدية، الفقهية الحنبلية، التي استمرت طوال القرون العشرة الأخيرة. وكل المحاولات الحديثة تقريبًا دارت في محاولة فتح المعنى، داخل هذا الإطار الكلامي/العقيدي/اللاهوتي، وكان نصر أبو زيد الذي عانى ليدخل الجامعة وهو في الخامسة والعشرين من عمره لظروف عائلية، وكان يعمل فني لاسلكي، أن اختاره قسم اللغة العربية ليكون هو المعيد بالقسم الذي يتخصص في الدراسات الإسلامية، رغمًا عن اعتراضه لمعرفته بتفاصيل ما حدث في نفس القسم من عقدين سابقين، مع الشيخ أمين الخولي وتلامذته، والتنكيل بهم.
فتناول أبو زيد موضوع دور المفكر الاعتزالي في نشأة مفهوم المجاز في الدرس البلاغي العربي، وكانت قد ظهرت بعض كتبهم منذ سنوات قليلة، حين بدأ في دراسته. وانبهر أبو زيد بأسسهم اللاهوتية، التي تختلف عن الأصول الأشعرية والحنابلة السائدة. وكانت حالة استخدام الدين لتبرير المواقف السياسية التي كانت تمر بها مصر، من اشتراكية الإسلام، وأعدوا ما استطعتم من قوة لمواجهة العدو الصهيوني، في زمن عبد الناصر، إلى السلام: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ، والدعوة لدعم الإسلام للمشروع الخاص، والملكية الفردية. وكيف أن تقسيم البشر إلى درجات، هو سنة قرآنية: وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ. وفسرت الدرجات على أنها المستويات الاقتصادية، لكن أبو زيد أدرك أن مثل هذه التأويلات الأيديولوجية قام بها أسلافنا أيضًا من خلال منهجه في الدراسة؛ للربط بين المفسر والنص من خلال علاقة الفكر بالواقع.
فسعى إلى دراسة جانب آخر من تراثنا الديني في تعامله مع القرآن، فكانت رسالته للدكتوراه عن فلسفة التأويل عند محيي الدين بن عربي، فاتسعت عدسة الرؤية من مفهوم جزئي هو «المجاز» إلى دراسة «فلسفة التأويل». لكنه استغرق متن الرسالة في عرض فلسفة ابن عربي، وتتبَّع فلسفة ابن عربي ذاته في التأويل في الباب الأخير، لكنه أدرك أيضًا أن الفكر عند المتصوفة لا ينفصل عن صراعات الواقع، وأخضع هو الآخر القرآن للتأويلات الأيديولوجية. وأدرك أبو زيد تأثير القرآن في تكوين فلسفة ابن عربي، فكان التساؤل عنده بعد ذلك هو: هل هناك مفهوم موضوعي للنص القرآني بعيد عن التحيزات المذهبية والفكرية، فقام بدراسة موسوعتي الزركشي والسيوطي في علوم القرآن. وفتح الباب الذي ظل موصدًا تقريبًا لعشرة قرون خلال الدراسة لأسئلة مثل: ما هو الوحي؟ وما هي طرقه؟ وهل للقرآن علاقة بالتاريخ، والثقافة العربية في القرن السابع؟ فخصص بابًا في الكتاب للقرآن مُنتَج ثقافي، بوضع النص في سياق الثقافة المعاصرة لظهوره تشكُّلًا وتشكيلًا، تظهر خصائصه في علاقته مع الواقع، وأحداثه من خلال مفهوم الوحي، والمكي والمدني، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ. والباب الثاني للقرآن مُنتِج ثقافي، لدراسة تشكيل النص القرآني للثقافة الإسلامية، من خلال آليات النص. وتعلم الكثير من جهود عبد القاهر الجرجاني، وجهود المستعرب الياباني «توشيكوا أوذوتسو»، وكان نصر أبو زيد من أوائل من أعادوا فتح الحوار حول ماهية القرآن، وما معنى الوحي وعلاقة القرآن بالتاريخ؛ الباب الذي لم يُطرق خلال عشرة قرون. من هنا كان التحدي، ومن هنا كانت معارضة جهوده؛ لأن القديم من طول استمراره أصبح عقيدة، ومن يخرج عليه يعد خارجًا عن العقيدة والدين.
لكن الطامة الكبرى، كانت عندما توجه نصر أبو زيد لدراسة تعامل المعاصرين وتأويلاتهم للنص القرآني من خلال دراسته في نقد الخطاب الديني، وتأويلات الخطاب الديني للقرآن وإهدارها للسياق، ودراسته عن الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، التي كانت بمثابة فصل أول في كتاب عن مفهوم النص دراسة في علوم السنة، ونقده الشديد لفكر مشروع النهضة، ونقده للاستبداد السياسي، وأن الإرهاب والعنف نتيجة لغياب الحريات، وغياب الديمقراطية، مما جعل خطاب أبو زيد مستهدفًا من الجانبين؛ من جانب السلطة، ومن جانب التيار الديني بكل فصائله، فلم يترك خطاب أبو زيد فرصة لأي منهما أن يدافع عنه، في ظل حالة الاحتقان التي كانت تمر بها مصر في بداية التسعينيات، والمواجهة المسلَّحة بين الدولة وجماعات العنف الدينية. أتت مسألة ترقية أبو زيد إلى أستاذ مساعد؛ لتصبح مجال التيارين، عبر مبدأ «عدو عدوي صديقي»، و«من معنا ومن علينا». وكان دور السلطة مثل عسكري المرور الذي فتح كل إشارات المرور في كل الاتجاهات.
كانت تجربة محنة قضية التفريق بينه وبين زوجته، وخروجه من مصر، وعدم اعتقاده أنه ضحية، وأن الأمر لم يكن شخصيًّا، بل هو نفس الصراع، يأخذ جولات. فمنذ معركة في الشعر الجاهلي لطه حسين، ومعركة الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، ورسالة محمد أحمد خلف الله عن الفن القصصي في القرآن الكريم، ومدرسة الشيخ أمين الخولي، ركز نصر أبو زيد جهوده على دراسة: ما هي المعوقات الفكرية التي تجعل دائمًا خطاب التقليد، وتجعل أهل الثبات يفوزون في كل هذه الصراعات؟ فركَّز جهده على الدراسات القرآنية، وليس الخطاب الديني بصورة عامة. وفي عام ألفين وفي محاضرته لاعتلائه كرسي الحريات بجامعة «لايدن»، باللغة الإنجليزية، عن التواصل بين الله والإنسان، تعمق فيها في تحليل عملية التواصل الرأسي بين الله والإنسان، وثنَّاها بمحاضرة بدمشق في الاحتفال بمئوية عبد الرحمن الكواكبي، عام ألفين واثنين، بعنوان «إشكالية تأويل القرآن قديمًا وحديثًا». بدأ يدرك أن الأزمة في قلة ثمار التجديد في ثقافتنا يعود إلى أننا نحاول التجديد من داخل نفس الإطار اللاهوتي الحنبلي القديم، ومن هنا تفشل كل محاولات فتح المعنى الديني؛ لأنها قائمة على النوايا الحسنة، وليس على نظرية ورؤية مؤسسة تأسيسًا معرفيًّا وفلسفيًّا.
وقد حاول أبو زيد في ندوة بباريس عام ألفين وثلاثة أن يقدم الإشكالية من خلال محاضرته، «نحو منهج إسلامي جديد للتأويل»، وبدأ يدرك أن الإشكالية هي في النظر إلى القرآن على أنه نص، واختصاره في ذلك، وأن ماهية القرآن، أقرب إلى الخطاب منها للنص، ونحتاج في تحليله أن نستخدم تحليل الخطاب، ثم بعد ذلك نستخدم تحليل النص، مع كل وحدة سردية. وظلت هذه القضية من النص إلى الخطاب، هي مجال دراساته ومحاضراته، خلال الأعوام التالية. وقد وصل إلى نتائج مهمة، ترفع كل التوترات التي حاول المتكلمون والفقهاء والبلاغيون والفلاسفة، وحتى المستشرقون في دراساتهم للقرآن، حاول تجاوزها، وكيف أن لها إجابات. وكانت محاضراته الأربع في ديسمبر سنة ثمانية بمكتبة الإسكندرية استعراضًا لجهوده، وكان ينقصها محاضرة أخرى عن جهوده في دراسة التأويلات الحديثة والمعاصرة في العالم الإسلامي للقرآن، والتي كتب عنها دراسة مهمة باللغة الإنجليزية، عن حركة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي، من الهند وماليزيا وإندونيسيا وإيران إلى العالم العربي، وجهود المفكرين المسلمين في أوروبا وأمريكا. فنحتاج إلى ترجمة جهود نصر أبو زيد خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة والتي تُرجمت إلى كل لغات المسلمين غير لغة العرب. نحتاج إلى ترجمتها إلى العربية وكذلك الموسوعة القرآنية في ستة أجزاء التي أخرجتها جامعة لايدن، وكان أبو زيد أحد المستشارين المشرفين عليها وأحد المشاركين فيها؛ لندرك كيف يمكن الخروج من ماهية القرآن كنص إلى القرآن كخطاب، ودور ذلك في حل الكثير من التوترات المتصورة داخل القرآن عند القدماء والمحدثين مسلمين ومستشرقين.
(٣) آفة النسيان٣
في مقدمة عمله الكبير «أولاد حارتنا»، أشار عمنا نجيب محفوظ إلى أن «آفة حارتنا النسيان». فرغم تاريخنا الطويل والتدوين بكل أشكاله، ونحن مشغولون بالماضي والتراث صباح مساء، حتى إننا أصبحنا نمشي للأمام وعيوننا للخلف، فرغم كل ذلك فنحن في وضع حركة تُشبه حركة «محلك سر»، نتحرك في أماكننا فكريًّا. فبعد قرن فات، مات فيه من مات، ما زلنا نتناقش تقريبًا فيما تناقش فيه محمد عبده في بدايات القرن الماضي إن لم نكن قد تراجعنا في بعض الجوانب، كأننا نعيش بلا ذاكرة. فرغم كل كلامنا عن الماضي فلا نخطو داخل وعينا وننتقل، لا يكمل التالي ما أنجزه سابقوه، ويتجاوز جهودهم نحو مرحلة أخرى، بل تقريبًا نبدأ من جديد، وكأننا نولد كل يوم لا ندري ماذا كان بالأمس، فرغم ما تلوكه ألسنتنا من لبان التاريخ، فنحن نعيش فكريًّا تقريبًا يومًا بيوم بلا ذاكرة.
وهذه الحالة لها أسباب بعيدة في معتقداتنا وتصوراتنا الثقافية عن الزمن، ولكن هذا موضوع لحديث آخر، لكن من الأسباب القريبة في نظري هو أننا نفكر بآليات السياسة، لا بآليات الفكر. وحالة التفكير بآليات السياسة تجعل حركة الفكر تبدأ من سؤال: «أنت معنا أم ضدنا؟» والإجابة عن هذا السؤال تحدد صدق ما تقول أو كذبه، وتحدد أهمية ما تقول أو هامشيته. فإذا كنت معنا ومنا، فكلامك صادق وآراؤك مهمة، وإن لم تكن، فمهما قلت ومهما فعلت فأنت مرفوض. هذا النهج في لُبه هو نهج تراثي قائم على أن أثق في الراوي قبل الرواية وفي السند قبل المتن، مما جعل كل معاركنا الفكرية تقريبًا في العصر الحديث هي عبارة عن غزو قَبَلي، قبيلة تغزو قبيلة وتسلبها عزيزها وتستبيح حرماتها، فتقوم المعارك ويخفت ترابها، ولم نعلم ما هي القضايا ولا ما هو لب النقاش، وكل اهتمامنا يكون: مَن قتل مَن، ومَن سلب درع مَن؟ وكل فترة تتجدد الغزوات؛ الغزوات الفكرية، وتكون أيامًا كأيام العرب القديمة، تفاخر بالأنساب الفكرية والأحساب الثقافية، ويظل الفكر، وتظل الثقافة «محلك سر يا عسكري».
فهذه غزوة أحزاب المتدينين في يوم وموقعة ترقية نصر أبو زيد بتسعينيات القرن الماضي، ما زال غبارها في ساحة الحياة الثقافية، ولكن من دافعوا عن نصر، وعن التنوير، وعن العلمانية، وعن حرية الرأي، تقريبًا لم يقرءُوا إنتاجه. ومن هاجموه دفاعًا عن الدين وعن الهوية وعن حياض الإسلام من غارات أهل «الكفر» و«التغريب» و«الحداثة»، لم يقرءُوا. وتداعت القبائل لساحات النزال على صفحات الجرائد، وعدو عدوي صديقي؛ ليُصبح حصاد الغزوات الفكرية هزيلًا ومجرد سير في المحل، ويتجدد القتال كل حين بمنطق «وإن عدتم عدنا».
فها هو خطاب نصر أبو زيد، نتصارع عليه، ويتاجر به من يتاجر، مرة باسم الدفاع عنه وتبجيل صاحبه واستخدامه كشعار في معارك وهمية، ومن يتاجر في نفس الخطاب باسم مهاجمته أيضًا. الطرفان يتاجران دفاعًا وهجومًا؛ فخطاب نصر أبو زيد ذاته لم يتمَّ جمعه، فقريبًا سيمر عقد من الزمان على رحيل نصر أبو زيد، وله دراسات، نعم دراسات مهمة مكتوبة بالعربي ومنشورة في مجلات ولم تُجمع في كتب، مثل «الرؤية في النص السردي العربي»، يحلل فيها تفسير وتأويل الرؤية في الثقافة العربية ودورها من خلال الجزء الأول من سيرة ابن هشام في عرضه لرؤيا جد النبي «عبد المطلب» وتأويلها. ورؤيا يوسف وتأويلها في سورة يوسف، ليقارن أبو زيد بين تعامل ثقافة العرب قبل الوحي مع الرؤيا وكيف تعامل الوحي مع هذه التصورات في الثقافة. دراسة كتبها في منتصف التسعينيات ونشرها، ولم تُجمع في كتاب من كتبه حتى الآن.
وهناك دراسات بالإنجليزية كتبها نصر ونشرها ولم تُترجم إلى العربية، ففي سنواته الخمس عشرة بعد رحيله عن مصر كان يكتب وينشر بالإنجليزية، بل له دراسات بالإنجليزية في جامعة أوساكا في اليابان في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي لم تُترجم ولم تُجمع في كتب. فقد كتب «السيرة النبوية سيرة شعبية»، حلل فيها السيرة النبوية، وكيف أن تداولها شفهيًّا على مدى ما يزيد على قرن ونصف قبل أن يتم تدوينها كتابة، وكيف شكل هذا التداول الشفاهي في مضمونها ووجود أشعار كثيرة في كتب السيرة. وقد حدثت ترجمة لها في بدايات التسعينيات، ونُشرت بمجلة فنون شعبية من مطبوعات وزارة الثقافة، ولكن الدراسة لم تُجمع في أي من كتبه.
ومساهمته بالكتابة وكعضو في اللجنة الاستشارية التي عملت على واحد من أهم الأعمال الفكرية والبحثية حول القرآن وعلومه وهي «الموسوعة القرآنية» التي أنتجتها جامعة لايدن بهولندا في ستة مجلدات، واشترك فيها باحثات وباحثون متخصصون في الدراسات العربية والإسلامية على مستوى العالم، ونشرت بداية من عام ٢٠٠٠م حتى ٢٠٠٦م. وتم العمل عليها أكثر من عقد من الزمان، ولنصر بها أربع مشاركات، بخلاف محاضراته بالعربي وبالإنجليزية التي بتحويلها إلى نصوص مكتوبة هي رصيد فكري لأبحاثه حول القرآن. بل إنني حين أضع أمامي أكثر من أربعين حوارًا صحفيًّا منشورًا مع نصر منذ مايو سنة واحد وتسعين حتى عام ألفين وعشرة، أرى تطور أفكاره من خلال قراءة هذه الحوارات ووضعها في سياقها الزمني. وحتى المؤسسة الفكرية التي أعلنت أنها نشرت الأعمال الكاملة لنصر أبو زيد، فهي لم تفعل سوى أنها أعادت نشر كتب نصر المنشورة أصلًا، وليس فعلًا جمع أعماله الكاملة.
بل إنك لو دخلت دار الكتب المصرية تبحث عن كتب نصر أبو زيد من أرشيف الدار، فلن تجد سوى كتاب واحد هو: «مفهوم النص» إن وجدته، وكتاب «القول المفيد في قضية أبو زيد»؛ لأن معظم كتب نصر منشورة في دور نشر لبنانية. وهي لا تضع نسخ إيداع بدار الكتب المصرية، بل إنك لو دخلت مكتبة جامعة القاهرة، التي نشرت الصحف سنة ١٩٩٦م أنها قد سُحبت كتب نصر تحت تأثير القضية، لدرجة أن باحث ماجستير كان يعد دراسته في أصول الفقه في «الجامعة الأم» عام ٢٠١٢م كان يبحث عن نسخة من كتاب «مفهوم النص» واضطررنا لتوفيرها له كملف بي دي إف على النت.
نصر أبو زيد قام بعمل أربع ترجمات لنصوص في علم العلامات وفي الدرس اللغوي الحديث من الإنجليزية للعربية في النصف الأول من الثمانينيات، هذه الترجمات لم تُجمع في كتاب، بل له ترجمة كاملة لكتاب عن ثقافة «البوشيدو» في اليابان، ترجمه عن الإنجليزية ولم يعد نشره ولا نشر مقدمة نصر الجميلة للترجمة، كتبها نصر ليزرع الكتاب في همومنا الثقافية والفكرية، بخلاف مقالاته في الصحف بالعربي ومقالاته وعروض كتب له بالإنجليزية، بخلاف تسجيلات صوتية لنصر تزيد على مائة ساعة بالعربي والإنجليزي، تعكس حياته وحياة التفكير عنده.
فحتى لا يأتي أحفاد لنا في بدايات القرن القادم، يمضغون لباننا الثقافي الذي نلوكه في معاركنا الآن مما مضغه أسلاف لنا في بدايات القرن الماضي، ولكي تتغلب حارتنا على آفة النسيان، مهم أن نرمم ذاكرتنا الثقافية، ونخرج من ثقافة الغارات القبلية، ثقافة الغزو والغنائم والسبايا الفكرية وسلب القتيل درعه وسيفه وملابسه كغنيمة. فعلينا أن نرمم ذاكرتنا بأن نجمع جنبات الخطاب ونوفره، فيقرؤه القراء ويبحث فيه الباحثون ويفكر المهتمون بالفكر، لا لكي نجعل من نصر أبو زيد أو غيره شيخًا له مقام وله قبة خضراء ندور حولها تقديسًا، ولا لكي نجعل منه أيضًا «خيال مآته» نُخيف منه الطيور، ونُخيف به العصافير. بل مهم لنا ولحارتنا أن نحوِّل خطابه وخطابات غيره إلى موضوع للدرس العلمي والتفكير والبحث النقدي، فنقف على ما أنجز؛ لكي نبني عليه بتجاوزه من داخله نقديًّا، وليس عبر غارات الكر والفر وثقافة الغنايم.
(٤) أبو زيد الذي فقدناه
خلال سنوات المواجهة بين الجماعات الدينية المسلحة والسلطة، منذ بداية التسعينيات، دخلت مسألة ترقية نصر أبو زيد إلى الأستاذية في حِبالها، في ظل حالة الانشطار الفكرية والثقافية داخل المجتمع المصري، مما حوَّل الترقية إلى ساحة للمواجهة ووسيلة للضغط على إدارة الجامعة، التي رضخت للضغوط، مضحية بحرية التفكير واستقلالية أحد أساتذتها، فقد نظرت إدارة الجامعة إلى أن المسألة مسألة ترقية أستاذ يمكن أن يتقدم بعد عدة أشهر للترقية مرة أخرى، ولا داعي لوجع الدماغ. رفض أبو زيد طريقة المواءمات والانحناء للريح، فتجددت عملية الوأد لمدرسة جادة للدراسات الإسلامية، كما حدث مع مدرسة الشيخ أمين الخولي وتلامذته في نفس الكلية قبل أربعة عقود. فقد أدرك أبو زيد أن الاستمرار في هذا المناخ سيؤدي في النهاية إلى انتهاء الباحث داخله، فلم يعد هناك مكان لمفكر وباحث مستقل، فعليك أن ترتمي في حضن أي من الجبهتين؛ لكي تستمر في داخل مصر.
ودفاعًا عن جامعة طه حسين التي حلم بها أبو زيد، واجتهد في سبيل دخولها والانتماء إليها، متحديًا عقبات الفقر ومتحديًا تحمله مسئولية رعاية أسرة كبيرة بعد وفاة أبيه وهو في الرابعة عشرة، متحديًا العمل كفني لاسلكي ليدرس ويدخل الجامعة، ويتخرج الأول على دفعته، بل ويحارب من أجل تعيينه بالجامعة أمام محاولة منعه من التعيين. فقرر أبو زيد أن يقبل دعوة جامعة «لايدن» للتدريس بها. خرج أبو زيد الذي قد بلغ الخمسين حينها ولم يملك شيئًا، لم يملك غير العلم الذي جاب شرق الأرض ومغربها من أجله، يُعلِّم أبناء الوطن، سعيًا إلى مجتمع العدل والحرية. ظل يحمل المرارة بداخله والحزن الآسي على بستان زهور تلاميذه ومدرسته الفكرية التي كان يرعاها، وانقطع عن العودة إلى مصر.
لكن فعل التفكير عند أبو زيد الباحث لم يذبُل أو يشيخ، وبدأت جهوده الفكرية تأخذ منحًى إنسانيًّا واسعًا، يكتب بالعربية والإنجليزية، وبدأ بستان زهور جديد من طلابه يزهر، هذه المرة طلاب من كل مكان في العالم الإسلامي وخصوصًا إندونيسيا، وكتب عن حقوق المرأة والإنسان في الإسلام، وأصبح يحاضر في أكبر الجامعات في العالم. وأخرج مؤلفه الماتع هكذا تكلم ابن عربي، وساهم في تحرير الموسوعة القرآنية (ستة مجلدات باللغة الإنجليزية)، اشترك في تحريرها خيرة متخصصي الدراسات الإسلامية في جامعات العالم.
وكان أبو زيد قد درس تأويل المتكلمين وعلماء اللاهوت المسلمين للقرآن في رسالته للماجستير عن المعتزلة، ودرس تأويل المتصوفة للقرآن في دراساته عن ابن عربي، وتناول تأويل البلاغيين للقرآن في دراساته عن إمام البلاغيين العرب عبد القاهر الجرجاني. ففي جامعة «لايدن» و«أوترخت» استكمل الضلع الرابع بدراساته عن تأويل القرآن في العالم الإسلامي في العصر الحديث في القرون الثلاثة الأخيرة في الهند وإيران وتركيا والعالم العربي، وإندونيسيا التي تكونت فيها مدرسة كبيرة من طلاب نصر أبو زيد. فأخرج دراسته المهمة باللغة الإنجليزية عن حركة الإصلاح في الفكر الإسلامي، وفي خلال السنوات القليلة الماضية حدثت انتقالة مهمة في فكر أبو زيد بانفتاحه على تجارب تحديث الفكر الإسلامي في العالم الإسلامي وليس العالم العربي فقط. وضاقت عدسة الباحث لتركز على الدراسات القرآنية، وكذلك الموقف النقدي من جوانب التعصب في العالم الغربي. لكن الجانب الأهم هو الانتقال في تعريف مفهوم القرآن من كونه نصًّا إلى العودة إلى الظاهرة القرآنية قبل جمعها بين دفتي مصحف كمجموعة من الخطابات. وسعى نصر أبو زيد في دراساته الأخيرة للبحث في رؤية العالم الكامنة في القرآن الكريم. ولقد ألقى أربع محاضرات كباحث مقيم بمكتبة الإسكندرية في ديسمبر ٢٠٠٨م، لخَّص فيها جهوده في الدراسات القرآنية، وفي محاضرة مهمة بجامعة نوتردام الأمريكية التي ألقى أبو زيد محاضرة افتتاح المؤتمر، تحدث عن الرؤية اللاهوتية للعالم في القرآن التي اهتم بها علماء الكلام واللاهوتيون المسلمون، وكذلك الرؤية الصوفية المثالية، وتحدث عن الرؤية الفقهية للعالم التي تبنَّاها الفقهاء، والرؤية الفلسفية للعالم في القرآن التي اهتم بها الفلاسفة المسلمون. وكانت دراسات أبو زيد الأخيرة وكتابه الذي كان على وشك الانتهاء منه عن الرؤية التكاملية في التعامل مع القرآن، وعدم إهمال أي من هذه الأبعاد أو إهمال بعضها لحساب البعض الآخر.
إن حلم أبو زيد الذي تمثل في معهد دولي للدراسات القرآنية، المعهد الذي يحتاج إليه العالم «الإسلامي» الذي لا توجد فيه تقريبًا سوى معاهد لتدريس الدين والوعظ، وليس للدراسة العلمية للقرآن. لكن لم يمهله القدر لكي يتم خروج حلمه الذي يحتاج إلى مراكز بحثية لكي تقوم به، وأصيب وهو على وشك الانتهاء من الدورة التدريبية الثانية في المعهد الدولي للدراسات القرآنية في إندونيسيا. فهل سيحدث مع خطاب أبو زيد ما حدث مع خطاب ابن رشد الذي أُهمل فكره في الشرق واحتفى به الغرب؟ وهل سيحدث نفس الشيء مع فكر أبو زيد الذي أصبح تلامذته في إندونيسيا وتركيا والهند وإيران؟ نحتاج إلى تجميع كل هذا العمل الذي فقدناه من نصر أبو زيد خلال العقد والنصف الماضيين. وهذا جهد أنا متأكد من عزم رفيقة حياته التي لولا وجودها في حياته خلال العقدين الماضيين لخسرنا الباحث نصر أبو زيد أيضًا. إن رحل جسد أبو زيد فسيظل فكره وتجربة حياته آية على القيم النبيلة في حياتنا مهما طفا على سطحها من غث.
(٥) استعادة عقل أبو زيد الذي هاجرنا
دخل جامعة القاهرة الحلم، وهو في الخامسة والعشرين، موظفًا كفني لاسلكي، مستعيدًا حلم الجامعة الذي حرَمه منه يتمه، وهو في الرابعة عشرة، وعبء الإخوة والأخوات الصغار، إلا أن مجانية التعليم الجامعي في بدايات الستينيات جددت الأمل، فذاكر الثانوية العامة منازل. وها هو اليوم، يدخلها، لكنها تموج بالتظاهرات على أثَر هزيمة يونيو التي مُني بها الوطن. وشهد تغيُّرَ الخطاب الديني الذي كان خطاب اشتراكية الإسلام، وخطاب العدالة الاجتماعية في الإسلام، ووَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ؛ لتتحول بوصلة الخطاب الديني وتصبح: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ، وأخماس الرزق التي تأتي من التجارة، والملكية الخاصة، ويُفسَّر قول الله تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ على أن الدرجات هي درجات التفاوت في المال وفي الرزق. وكانت المرة الأولى التي يختار القسم للمعيد الجديد تخصصه، وكان على دراية بما حدث من ربع قرن في نفس القسم، مع الشيخ أمين الخولي وتلامذته.
واستطاع أبو زيد أن يتواصل مع ما أصَّله الشيخ أمين الخولي، الذي كان أول من نشر لنصر مقالًا، وهو بعدُ في التاسعة عشرة من عمره، ويعمل فني لاسلكي بشرطة نجدة مدينة المحلة الكبرى وتلاميذه، من أنه قبل أن نستخرج من القرآن أحكامًا فقهية، وقوانين، وأخلاقًا، وفلسفات، لا بد من دراسته دراسة أدبية لغوية بلاغية، مستخدمين فيها كل علوم البلاغة الحديثة، واستطاع في دراساته التالية أن يؤصل للتفسير الأدبي للقرآن، معرفيًّا بتراث المعتزلة، والفلاسفة المسلمين، حتى التجديد الجزئي عند محمد عبده، والشيخ الخولي وتلميذه محمد أحمد خلف الله، وشكري عياد، وعائشة عبد الرحمن.
ومع عودته من اليابان في بداية التسعينيات، كانت دراسته عن الخطاب الديني المعاصر، وعن فشل مشروع النهضة الفكرية ومعادلته التي تشكلت في القرن التاسع عشر، لكن نصر أبو زيد المتسق مع قناعاته، ومع دور المفكر، المواطن، الذي واجه الاستبداد سواء كان باسم الدين، أو من خلال السلطة القمعية، في ظل حالة الاحتقان في المجتمع فكريًّا، وحالة المواجهة العسكرية التي وصلت إلى القاهرة، كانت مسألة الترقية، التي استُخدمت غطاء للصراع، فمن دافعوا عن أبو زيد لم يقرءُوا ما كتب، بل لأن خصومهم يهاجمونه، ومن يهاجمونه؛ لأن خصومهم «الشياطين» يدافعون عنه. وأمسكت السلطة الحاكمة العصا من المنتصف، فهي تضع حراسة أمنية على أبو زيد، وتفتح المساجد لتكفيره من على منابرها التي تديرها وزارة الأوقاف، ومن ناحية أخرى السلطة تتفاوض مع التيار الديني، وأيضًا تمول سلسلة كتب المواجهة والتنوير ضد فكر أهل التقليد. فالسلطة كعسكري المرور الذي أضاء إشارات باللون الأخضر في كل الاتجاهات، وأصبح الهدف ممن يعارضونه هو إخراس صوته داخل الجامعة، وهدف من يدافعون عنه إلا من ندر منهم، هو هزيمة خصومهم، حتى ولو بالارتماء في أحضان سلطة الاستبداد في مواجهة الظلامية.
لم يشعر أبو زيد يومًا أنه ضحية، أو أن الأمر مسألة شخصية، فوجد أن دوره كمعلم بالجامعة سيتوقف، فلا يستطيع التدريس في حراسة الأمن، وكان خائفًا أن يتوقف الباحث داخله أيضًا. وأدرك أنه قد انخرط في سجال، وفي مبارزة ستقتل نصر أبو زيد الباحث، فكان الرحيل للمحافظة على هذا الباحث، ولم يبكِ إلا على تلاميذه وعلى حديقة الزهور التي غرسها، فخرج من البلاد في سن الثانية والخمسين، لم يكن يملك شيئًا تقريبًا، فقد أنفق عمره موظفًا وأستاذًا بالجامعة، وجاب الغرب والشرق بحثًا عن المعرفة وعن التعلم، علم ومعرفة ليبني مجتمع العدالة الاجتماعية، مجتمع الحرية والكرامة والإنتاج. وشغله سؤال: لماذا حدث ما حدث؟ ولماذا التجديد يصل دائمًا إلى ثمار ضعيفة، بالية؟ أكد نصر أبو زيد على أن محاولة المفكر التجديدي الدائمة؛ للمواءمة مع الظروف، بالإضافة إلى أن التجديد عندنا قام في نفس الإطار اللاهوتي والعقيدي، الأشعري، والحنبلي الذي ساد؛ لذلك تفشل كل محاولات فتح المعنى داخل الإطار.
وفي مناخ البحث العلمي بجامعة «لايدن» استطاع أن يواصل الباحث أبحاثه، بل يستعيد المعلم دوره أيضًا، وانفتح على ثقافات المسلمين، وأصبح له تلاميذ من إندونيسيا وتركيا وماليزيا، وإيران ومن العالم العربي. وأنتج أبو زيد رصيدًا من العلم خلال العقد والنصف الأخير. ترجم المسلمون غير العرب الذين يمثلون ثمانين بالمائة من المسلمين دراساته إلى لغاتهم. وقد استطاع أبو زيد أن يكوِّن نظرية في التأويل تُبنى على ما توصل إليه أسلافنا من المتكلمين من التفرقة بين المحكم والمتشابه، وجدودنا من الفقهاء في استنباط الأحكام بالتفرقة بين الناسخ والمنسوخ والمكي والمدني … إلخ، والبلاغيون المسلمون في أن بلاغة القرآن ليست في مفردات ألفاظه بل في طريقة نظمه، وأهمية دراسة قوانين الكلام من خلال دراسة قوانين البلاغة في الشعر، كأساس لا سبيل عنه لدراسة بلاغة القرآن الكريم، وسابقون من المتصوفة، في التفرقة بين الظاهر والباطن، وبين الحقيقة والشريعة، وفلاسفتنا المسلمون في محاولة رفع التناقض الظاهر بين الشرع والبرهان العقلي.
وبنى أبو زيد على جهود التأويل في العالم الإسلامي منذ القرن السابع عشر إلى الواحد والعشرين، من الهند إلى العالم العربي، وإندونيسيا وإيران. وأصَّل فكريًّا لمدرسة التفسير الأدبي للقرآن الكريم، التي تعود بذورها الحديثة إلى محمد عبده.
•••
حوار مع جريدة الصباح الكويتية الإلكترونية أجراه د. رياض محمد الأخرس، عن كتابي «أنا نصر أبو زيد»:
– «من أنا؟» سؤال مُحير، هل أنا هو ما يشهد به آخرون عني من خلال شهادات دراسية، حصلت عليها، أو جوائز أو تكريم؟ لكن في سياق حوار مثل هذا، أتصورك تريد أن يعرف القارئ مقدار تعليمي الرسمي وشهاداتي؛ لكي يقرر لنفسه إذا كان يثق في شخص المتحدث؛ من كونه يحق له الحديث، ونأخذ كلامه على محمل الثقة والجد. وهذا هو الشكل المعاصر للممارسة التراثية، حول صحة سلاسل السند للمرويات؛ فالتراثيون اجتهدوا للثقة في الراوي أولًا، من خلال شروط جرح وتعديل، حتى نثق في صحة رواياته، لذلك فثقافتنا تقوم على ثبوت صحة الرواية بالثقة بمن قالها، فالحكم بالصحة يأتي من خارج الرواية، وليس من داخلها. مما يتجسد في أن صحة رأيٍ ما في ثقافتنا المعاصرة تتوقف على من قال به، وما هي سلطته، وما هو منصبه، وليست صحة الرأي بحجته أو بأدلته، وبمدى قدرته على تفسير الظواهر أو باستطاعة الرأي على الإقناع. ورغم ذلك؛ فجمال عمر قد درس في التعليم الحكومي المصري، بمراحله، حتى الدراسة الجامعية بكلية التربية، ليكون معلمًا. وعمل مدرسًا لمدة عام، وكان قد انتسب لكلية الآداب، لدراسة الفلسفة عامًا واحدًا، ورحل عن مصر عام ٩٧، ويقيم بمنطقة بروكلين بولاية نيويورك خلال العقدين الماضيين. لي عدة أعمال منشورة هي «مهاجر غير شرعي» ٢٠٠٧م، «تغريبة» ٢٠١٢م، «أنا نصر أبو زيد» ٢٠١٣م، «مقدمة عن توتر القرآن» ٢٠١٧م.
كنت مهتمًّا بأزمة الفكر العربي في مرحلة المراهقة والشباب المبكر، في نهايات الثمانينيات، وكنت منخرطًا في قراءة المشروعات الحضارية بمجلَّداتها التي تصدر؛ مجلدات محمد عابد الجابري، التي كنت أعاني في الوصول إليها لارتفاع أثمانها، لكن مكتبة كلية الآداب المجاورة في مبنًى منفصل كانت عامرة بالكتب الحديثة التي أريد أن أقرأ فيها، فكنت أذهب لمكتبتها وأجلس بالساعات للقراءة، وكنت كطالب في التربية يضايقني عسكري الأمن في الدخول. فكنت أتحايل بأن أدعي أني أفكر في الانتقال لكلية الآداب من كلية التربية، وأني داخل لشئون الطلاب، فكان العسكري يسمح لي بالدخول. وفي يوم كان الضابط واقفًا بجوار العسكري، واستوقفني، وتقريبًا تذكر ملامحي من ندوة سابقة كانت ضمن أنشطة الجامعة، ونقدت فيها الضيف وقتها. فما إن حكيت للضابط ادعائي بالنقل لكلية الآداب، حتى أرسَل معي العسكري لشئون الطلاب؛ ليتحقق من صدق ادعائي، فعلمت أني داخل في مصيبة، لمجرد إني عايز أستكمل قراءة كتاب «بنية العقل العربي وتكوينه» للجابري. فبينما العسكري كان مشغولًا، سرت بهدوء في طريقي للخروج من الباب الآخر للكلية، وبينما أنا على وشك الخروج، إذ بالعسكري في أعقابي، وينادي عليَّ: «إنت يا فندي». فلم ألتفت إليه وخرجت من الباب في الشارع، وإذا به يجري ورائي، وأنا أجري في الشارع بمدينة بنها بين العربات، وكله من أجل قراءة كتابات الجابري. وقرأت كتابات لحسن حنفي وعن جهود أدونيس وطيب تيزيني وحسين مروة وجلال العظم، وقرأت كل ما كتب زكي نجيب محمود.
حتى صدر كتاب «مفهوم النص؛ دراسة في علوم القرآن» لنصر أبو زيد، عام تسعين. وحين اطلعت عليه، وجدت عالمًا آخر في التعامل مع الظاهرة الدينية، يخرج بها من كونها مجرد دروشة، أو أنها مجرد سلم للوصول للسلطة. وجدت فيه كيف يمكن تناول الظاهرة الدينية تناولًا علميًّا، وكان حواره بجريدة الأهرام ٣١ مايو سنة واحد وتسعين على أسبوعين، حوارًا أدركت منه قيمة هذا الإنسان كإنسان مفكر، وكمفكر إنسان. وفي نفس اليوم عملت ملفًّا، وكتبت عليه «نصر أبو زيد»، ووضعت فيه ورقتي الجريدة التي بهما الحوار. ومنذ ذلك التاريخ، وأنا أجمع كل ما كتب ونشر نصر أبو زيد، وفي إحدى ندوات معرض كتاب القاهرة التي كان مشاركًا بها، صعدت إلى المنصة بعد الندوة وسلمت عليه. ورغم زحمة الناس، فإن نصر يشعرك بحميمية الريفي، وكأنه يعرفك من سنين، فذكرت له أني قرأت كتابه وعندي تساؤلات حوله، فرد بابتسامة عريضة وبلهجة مصرية «تعالَ لي الجامعة». وبالفعل ذهبت إليه بجامعة القاهرة، وفي المبنى التاريخي القديم، فوجدته في حجرة الأساتذة الضيقة بمكاتبها المتكاتفة يجلس وحوله طلبة الدراسات العليا، فقال لي: «هنا نتناقش في كل هذه الأسئلة.» وشاهدت فعل التفكير النقدي، الطلبة يماحكون أفكاره وينتقدونه، وهو يبتسم ويطرح عليهم مزيدًا من الأسئلة، وينقد ما تم طرحه. شعرت بلذة غريبة، من الحياة والحيوية الفكرية، الروح التي كنت أبحث عنها.
وحدثت مشكلة ترقيته وما تبعها من قضية الحسبة، والحكم بالتفريق بينه وبين زوجته، ثم رحيله عن مصر. وبعد رحيله بعام ونصف رحلت أنا أيضًا، وانقطعت الصلة المباشرة، لكن استمرت صلة الفكر، حتى التقينا بنيويورك نوفمبر ٢٠٠٧م عن طريق صديقنا المشترك فكري أندراوس، وليلتها قلت له «هديتي لعيد ميلادك السبعين، يا دكتور نصر، سيكون كتابًا لي عنك» فابتسم، وقال على طريقة المشايخ بالأزهر «وأنا أجزتك للكتابة عن حياتي.» واقترحت عليه أن يأخذ تسجيل «ديجيتال» وأن يسجل كل محاضرة يلقيها، أو حوار صحفي يتم معه، وأن يرسله لي على النت. وبالفعل في سنواته الثلاث الأخيرة استطعنا تسجيل ما يقرب من مائة وخمسين ساعة بصوته بالعربي وبالإنجليزي، وأرسل لي نسخًا من تسجيلات مناقشات رسالته للماجستير ورسالته للدكتوراه. وجمعت كل ما أمكنني الحصول عليه من تسجيلات برامج تليفزيونية تمت معه. وكل الحوارات الصحفية المنشورة معه التي استطعت الحصول عليها. وعملت قائمة مرتبة تاريخيًّا بكل هذا، تبدأ من أول مقال نشره في مجلة الأدب عام ١٩٦٢م وهو في سن التاسعة عشرة، ويعمل فني لاسلكي في شرطة النجدة بالمحلة، حتى النصوص التي نُشرت بعد رحيله.
وفي يوم ٤ يوليو ٢٠١٠م بدأت في كتابة كتاب «أنا نصر»، وفي اليوم التالي تركنا نصر أبو زيد ورحل عن عالمنا بجسده، وبالفعل أخرجت الكتاب في عام ٢٠١٣م؛ احتفالًا بعيد ميلاده السبعين كما وعدته قبلها بست سنوات. وحين فكرت في كتابة الكتاب كنت حائرًا، هل أعمل دراسة أكاديمية علمية، أبرز فيها ذاتي وقدراتي على التحليل، دراسة تكون للخاصة من المهتمين، أم أكتب عن نصر الإنسان ودلالات تجربته الشخصية الثرية والعميقة والموحية لتقرِّب نصر للناس؟ فاخترت أن أسير على خط رفيع ودقيق بين نصر الإنسان وأبو زيد المفكر، الخط الرفيع الذي حاولت أن أسير عليه أيضًا في عملي الأول «مهاجر غير شرعي» عبر التعامل مع الواقع المعاش واليومي، تعاملًا يكشف جوانبه المُترعة بخيال أرحب من عوالم الخيال التي يمكن أن يصطنعها كاتب. فتخيلت بكل هذه السنوات وهذه المعايشة مع خطاب نصر وحياته، لو أن نصر أبو زيد فكر أن يكتب عن حياته وحياة تفكيره، فكيف كان سيكتب؟ وبالفعل كتبت النص بصيغة الأنا، وكأنه يروي. وبذلت ما أمكنني من جهد للكشف عن بواطن القيمة في حياته كإنسان يجسد حلم وطن كان يحاول أن يواجه الفقر والجهل والمرض. حاولت أن أجسد مشواره الفكري، وبقدر الإمكان تقريب الأفكار المركبة والمجردة للقارئ العام. وستجد توثيقًا لكل جوانب حياته وكتاباته في روح فنية أدبية، وكذلك ستجد صوتًا آخر في الكتاب؛ صوتًا يرصد جوانب عن حياة نصر أبو زيد، رحل عن دنيانا، وهو نفسه لا يعرفها.
بل سعيت للتنقيب والاستقصاء عن جوانب من حياته عبر حوارات أجريتها مع زوجته ورفيقة مشواره منذ بداية التسعينيات في القرن الماضي د. ابتهال يونس، وصديقه منذ الستينيات في المحلة جابر عصفور، وصديقه في الجامعة علي مبروك عليه رحمة الله، وصديقه منذ الجامعة الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد. وكنت أتمنى التسجيل مع حسن حنفي، ومحمود علي مكي عليه رحمة الله، وأحمد مرسي الأستاذ بجامعة القاهرة ورفيق رحلة أبو زيد لأمريكا، لكني لم أتمكن. فقد حاولت أن يكون الكتاب نصًّا حيًّا يكشف جوانب الحياة في فكر أبو زيد وفي حياته الخاصة، فالمفكر لا ينفصل فكره عن سياقات حياته، يتشكل بها ويشكلها.
الكتاب والبحث كشف عن أن قيمة نصر أبو زيد ليست في كونه مفكرًا صاحب أفكار كبيرة وعظيمة فقط، وليس إنسانًا نبيلًا كافح من أجل أسرة توفي عنها أبوه وأبو زيد في الرابعة عشرة، واستطاع بمساعدة والدته، أن يعبرا بهذه الأسرة لشواطئ الأمان، بل القيمة الحقيقة في نصر كونه مفكرًا حيًّا، دائم النقد لفكره ولتصوراته، في حركة بندولية بين منهج الباحث وأدواته البحثية من جانب، وبين موضوع البحث ونتائجه من ناحية أخرى، فنصر يبدأ من سؤال وفي محاولة الإجابة على السؤال تتولد أسئلة أخرى، نتائجها تطرح تساؤلات على المنهج وأسسه النظرية مما يضيف إليه ويحذف منه ويطوِّر فيه، ليرتد المنهج الجديد في التعامل مع الأسئلة. لذلك فنصر أبو زيد مرَّ من وجهة نظري بثلاثة انتقالات في فكره، وللأسف الدارسون لخطابه لا يدركون هذه الانتقالات، فخطاب أبو زيد طوال الوقت مهتم بحالة الجدل الدائمة بين الوعي والتاريخ، بين المفكر وسياقاته، بين الفكر والواقع، في عملية جدل مستمر لم تتوقف إلا برحيله عنا.
– أستاذ جمال، هل لك أن تعطينا نظرة سريعة عن تكوين الكتاب، لمن لم يتمكن من الاطلاع عليه من القرَّاء، ليواكب حديثنا بسهولة أكثر؟
– كتاب «أنا نصر» يصور حياة نصر أبو زيد الصبي في قرية قحافة مركز طنطا في غرب دلتا النيل بمصر، كيف مر بمراحل حياته الشخصية والفكرية، وكيف حرَمه أبوه من دخول الثانوية العامة لطول مشوار الجامعة. وكانت الجامعة وقتها أيضًا تعليمها ليس مجانيًّا، فأرغمه أبوه الذي أحس بقُرب أجله أن يدخل تعليمًا فنيًّا متوسطًا، وبالفعل تُوفي أبوه ونصر في سن الرابعة عشرة، وكان طالبًا في مدرسة الصنائع، لتجد أمه نفسها مسئولة عن أسرة كبيرة فقيرة. وبالفعل تخرج نصر سنة ستين، وكافح يعمل كفني لاسلكي في وزارة المواصلات، منتدب مدني للعمل في قسم شرطة نجدة مدينة المحلة الكبرى، يعمل ليساعد أمه على تربية أسرتهم الكبيرة، وتجدد حلم الجامعة مرة أخرى، وذاكر من المنزل ليحصل على الثانوية العامة، ويدخل الجامعة وهو في سن الخامسة والعشرين، ويدرس بالجامعة وهو يعمل، ويتفوق في دراسته ويحارب ليصبح معيدًا، وينجز رسالتيه للماجستير والدكتوراه ويتخصص في الدراسات الإسلامية. ويصور الكتاب مراحله الفكرية، فالكتاب بمثابة خريطة معرفية لحياة نصر وحياة التفكير عنده، مدخل لكل من يريد أن يعرف مدينة أبو زيد الفكرية، الكتاب يفتح لك هذا العالم، لكنه لا يغنيك عن التواصل مع خطاب نصر في كتاباته، بل هو مقدمة لك للدخول لخطاب نصر أبو زيد.
– إنك، في مقابلة تليفزيونية سابقة، ألمحت، والآن تفضلت، بأن «نصر أبو زيد مر بثلاثة انتقالات في فكره»، ما هي هذه النقلات؟ وما السياقات التي اقتضتها؟ وهل هي في مسير معرفي تكاملي أم إنها انفعالات مع الواقع وقضاياه وإحباطاته؟
– أنت تشير إلى لقاء برنامج «عصير الكتب» مع بلال فضل، نعم نصر أبو زيد دخل الجامعة عام ثمانية وستين، عام بعد هزيمة ٦٧، وفي سنوات دراسته في الجامعة شاهد تحول بوصلة النظام السياسي في فترة حكم عبد الناصر وفترة حكم السادات، وكيف تحول المعنى الديني الرسمي والسائد بين الحكمين، والاستخدام النفعي للنصوص الدينية لتبرير التوجهات السياسية، فمن «اشتراكية الإسلام» واشتراكية أبي ذر الغفاري، ومن «الناس سواسية كأسنان المشط» كمعانٍ دينية للتوجه السياسي بأن الأرض لمن يزرعها، تتحول البوصلة ويتم تصدير الآية الكريمة وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا، وأن تسعة أعشار الرزق في التجارة؛ لتبرر الانفتاح والرأسمالية الوطنية، ومن مواجهة العدو بمنطق وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ لتتماشى مع توجه النظام السياسي، تصبح «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة»، وفي السبعينيات مع فض الاشتباك ومفاوضات السلام، فيتم تصدير: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ.
فكان السؤال الذي عانى منه نصر أبو زيد، هو: لماذا هذا التحول في المعنى الديني؟ ولماذا هذا الاستخدام النفعي للنصوص؟ وفي دراسته لتراث المعتزلة وخصومهم والمتصوفة في تعاملهم مع تأويل نصوص المصحف، في أطروحتيه للماجستير والدكتوراه، وجد أن القدماء أيضًا حوَّلوا نصوص المصحف لساحة للعراك، كل فريق يستخدم النصوص ليجعلها تنطق بمبادئه الفكرية. فكان السؤال الذي طرحه نصر أبو زيد على نفسه هو: هل يمكن الوصول إلى مفهوم للنص خارج هذه التحيزات الأيديولوجية؟ فكانت دراسته «مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن» محاولة للإجابة عن هذا السؤال وغيره. وهذان العقدان: السبعينيات والثمانينيات، هي مرحلة أسميها القراءة الأيديولوجية للتراث عند نصر أبو زيد، فتحت تأثير أستاذه حسن حنفي فلسفيًّا، وتأثير عبد العزيز الأهواني منهجيًّا، وتواصله مع دراسات تحليل الخطاب وتحليل النصوص والهرمنيوطيقا التي تواصل معها بعمق خلال منحة له عامين بأمريكا في نهايات السبعينيات. نصر كان يحاول نقد الخطاب الأشعري في تصوراته حول القرآن وقِدمه من ناحية، ويواجه الهجمة الحنبلية الحرفية في قراءة النصوص، الهابة من الصحراء تغذيها أموال البترول، ويغذيها أيضًا نجاح الثورة الإيرانية، فنصر كان يواجه التوجهين مستخدمًا تصورات المعتزلة.
وفي فترة نهاية الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات، دخل خطاب أبو زيد في مرحلة نقد ذاتي تمثلت في نقده لخطاب حسن حنفي، وفي نقده للخطاب المعتزلي، وفي نقده لمنهجه في تناول ابن عربي في رسالته للدكتوراه، ونقده لخطاب النهضة في الفكر العربي الحديث، ونقده للخطاب الديني السائد في الإعلام. ودخل في أزمة الترقية التي تحوَّلت إلى كرة يتصارع بها وحولها المتصارعون ضد بعضهم البعض على ساحة قضية نصر أبو زيد. وتم هدم بستان الزهور الذي كان يزرعه أبو زيد من باحثين في جامعة القاهرة، ثم رحيله من مصر شمالًا، إلى أوروبا.
الرحيل إلى الشمال ربما قد عطل المعلم في خطاب نصر أبو زيد، لكن أبو زيد الباحث ظل حيًّا، وكانت معاناته أنه في أوروبا بجسمه وعقله، لكن الروح والهموم كانت في البلاد، فكان النهار للجامعة والليل وأحلامه لهموم الوطن. أصبح أبو زيد مُركِّزًا على الدراسات القرآنية وليس الدراسات الإسلامية بشكل عام. وبدأت رحلته لنقده لتصور المصحف على أنه نص، بالمعنى الحديث للكلمة، نص في الدراسات اللغوية الحديثة، المفهوم الذي أصَّل له هو ودافع عنه في كتابه «مفهوم النص» بدأ ينقده، وفي محاضرته لكرسي الحريات بالجامعة عام ألفين باللغة الإنجليزية بدأت عملية الانتقال من تصور المصحف على أنه نص إلى النظر إليه على أنه خطاب، وكان نصر متأثرًا بإنجازات محمد النظرية حول «الظاهرة القرآنية»؛ إلا أنه تدارك «الترضيات» التي دائمًا كان يقدمها حتى لا يتصادم مع البنية الأرثوذكسية الدينية في دراساته. وفي محاضرة لنصر بدمشق في مئوية الكواكبي، ثم مداخلة في مؤتمر بباريس ٢٠٠٣م. تتجسد الانتقالة في محاضرته عند توليه كرسي ابن رشد بكلية الإنسانيات بجامعة أوترخت ٢٠٠٤م، ليتحدث عن القرآن كخطاب، ويسعى إلى نظرية تأويلية إسلامية جديدة للقرآن. وفي سنواته الخمس الأخيرة كان مشغولًا بالبحث عن «رؤية العالم في القرآن». ومعظم جهوده في ١٥ عامًا منذ رحل عن مصر حتى رحيله عنا. كانت كتاباته ومحاضراته في غالبها بالإنجليزية، وللأسف معظم باحثينا وحتى باحثي ماجستير ودكتوراه حين يدرسون خطاب نصر أبو زيد ما زالوا واقفين عند أبو زيد في منتصف التسعينيات، وعند قضية التفرقة بينه وبين زوجته، وخصوصًا في «مفهوم النص»، في حين أن أفكاره تطورت إلى القرآن كخطابات، وإلى البحث عن رؤية العالم.
انتقالات نصر أبو زيد هي فعل تراكم معرفي، حركة بندول الساعة ذهابًا وإيابًا بين المنهج والموضوع، بين النظرية والتطبيق، بين الباحث وأدواته البحثية، بين السؤال ومحاولات الإجابة التي تولِّد أسئلة أخرى. إنها البحث والفكر في حالة صيرورة مستمرة، فالبحث العلمي رحلة ومشوار وليس مجرد محطة وصول، والباحث الذي يتصور أنه قد وصل وامتلك الحقيقة فقد بدأت نهايته كباحث.
الشق الآخر من السؤال هو: لماذا لم ينتبه الدارسون إلى المراحل الثلاث في تطور فكر نصر أبو زيد؟ وهذا يقودنا إلى تساؤل آخر، وهو: هل هناك مَن درس نصر أبو زيد موضوعيًّا أصلًا، غير أولئك الذين تمترسوا معه أو ضده، وغالبًا دون أن يقرءُوه، كما أشرت لذلك حضرتك مرارًا، وكما حصل مع الشخصيات المشابهة غالبًا؟
واقعنا الفكري بالجامعة به حالة من الرتابة، حالة من الركود، فنحن نحاول دائمًا مواجهة التغيرات المتسارعة في العالم حولنا بنوع من تثبيت المتغيرات، ومحافظة على العالم الذي نعرفه ونألفه خوفًا من خطر المجهول. بل إن الثبات — قرين الجمود — نُعلِي من قيمته في حياتنا، فنحن ثقافة تعبد الأصول وتمجد الاستقرار؛ استقرار اللاحركة، كذلك باحثونا حينما يدرسون مفكرًا، فهم يتعاملون معه على أنه ظاهرة ثابتة. فمن لا يدرس خطاب نصر أبو زيد في تطوره؛ فمن الصعب عليه أن يمسك بهذه الانتقالات. السبب الثاني في نظري هو أنهم يتعاملون فقط مع بعض نصوصه، بخلاف باحثة من نيوزيلاندا، في جامعة ألمانية مثلًا؛ كانت تقوم بدراسة مقارنة في إحدى الجامعات الأوروبية بين فضل الرحمن ومحمد أركون ونصر أبو زيد، فأخذت عربتها «الفان» إلى هولندا لتقابل نصر، وتقضي أسبوعًا تبيت في عربتها لتسجل معه حوارًا على مدار الأسبوع، وتصاحبه في الجامعة لتدرس أفكاره لأطروحتها الجامعية، وعندي هذه التسجيلات، شيء بديع. وكذلك باحث من جامعة بأمريكا كان يعد رسالة له عن تصورات نصر أبو زيد عن القرآن، هو أيضًا سافر من أمريكا لهولندا ليقضي عدة أيام يناقش فيها أبو زيد عن تصوراته عن وحدة القرآن. للأسف في الكتابات العربية معظم مَن ينطلق لدراسة خطاب تكون نقطة البداية عنده أو عندها هو قضية التفرقة بين نصر أبو زيد وزوجته والضجة حولها. وحسب موقف الشخص المسبق من القضية تتحدد طريقته في دراسة الخطاب. فإما مدافع عن نصر يبحث عن مبررات يدافع بها عنه، وإما مهاجم يبحث في نصوصه عمَّا يؤكد الادعاءات التي اقتنع بها مسبقًا. وما زلنا في انتظار باحثين لا يسعَوْن لإصدار أحكام، بقدر ما أن يسعوا إلى فهم واستيعاب خطاب نصر أبو زيد حسب منطقه هو وتصوراته، ثم بعد ذلك يأخذون منها موقفًا بعكس عملية اتخاذ موقف من الخطاب أولًا ثم دراسته. وللأسف هذا ما حدث في التسعينيات أيضًا؛ ففي مباراة قضية أبو زيد من يدافعون عنه لم يقرءُوا مؤلفاته ومن يهاجمونه لم يقرءُوا، ومن قرأ من الجانبين كان فقط ليثبت موقفه المسبق، وتداعت القبائل.
– تشير، حضرتك، إلى أن أبو زيد قد تحوَّل في أوائل العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين إلى النظر إلى القرآن الكريم (كخطاب)، هل يمكن أن تعطينا ولو بإيجاز مفهوم نصر للقرآن كخطاب؟
– النظر للقرآن على أنه نص، والمصحف على أنه كتاب، طرَح العديد من الإشكاليات، ما زال المسلمون ودارسو المصحف يتعاملون معها منذ جمعه بين دفتَي كتاب. وقد حاولت في كتابي «مقدمة عن توتر القرآن» أن أطرح جوانب من هذه الإشكالات. ونصر أبو زيد ذاته وقع في هذا في دراساته القرآنية منذ رسالته للماجستير حتى نهايات التسعينيات، في النظر للمصحف على أنه نص، والتعامل معه على أنه كتاب، يجب أن يكون له مركز دلالة وبؤرة معنًى، فيصبح السؤال مثلًا: هل المصحف مع تنزيه الذات الإلهية أم هو مع التجسيم؟ فالمفكر الدارس للمصحف على أنه كتاب يحاول أن يجعل معنًى واحدًا من هذه المعاني هو المعنى المركزي ويجعل المعاني الأخرى هي الهامش؛ فعلها المعتزلة بأن جعلوا التنزيه هو المعنى المحكم، وأن كل الآيات التي تشير إلى جسم عند الحديث عن الذات الإلهية، جعلوها هي آيات متشابهة، يتم تأويلها طبقا للتنزيه. ويصبح الصراع بين المتصارعين على ما هو المعنى المركزي، وما هو المعنى الهامشي أو التاريخي المرتبط بواقعه ولا يتجاوزنه، وتاريخ تأويلات المسلمين يدور حول إيجاد حلول لما هو معنًى مركزي وما هو هامشي، حتى الآن.
فنصر أبو زيد بناءً على جهود محمد أركون في دراسة الظاهرة القرآنية، وجد أن النظر للقرآن على أنه نص — المفهوم الذي دافع هو عنه — هو لب الإشكال، فالنبي عليه السلام لم يخرج من الغار حاملًا نصًّا، بل خرج ونطق بكلام. وظل تبادل هذا الكلام منطوقًا حتى مع التدوين الذي وصلتنا أخباره، لم تكن وسيلة تداول لكلام الله، الكتابة كانت وسيلة تدوين لحفاظ، لكن تداول القرآن ظل شفاهيًّا، بل أبالغ وأقول ظل شفاهيًّا حتى عصرنا الحديث — لكن هذا موضوع آخر — النبي ينطق بمجموعة من الخطابات منفصلة، في أزمان مختلفة على مدار أكثر من اثنين وعشرين عامًا وخمسة أشهر، ومات النبي عليه السلام، ولم يكن هناك مصحف واحد على وجه الأرض، حتى جمع لجنة عثمان بن عفان، نحن نتحدث عمَّا يقرب من سبعة وثلاثين عامًا. الوحي يتم تبادله بدون شكل معين لمصحف حتى جمع عثمان بن عفان، هنا بدأ التعامل مع كتاب بين دفتين له ترتيب وشكل معين.
هذه الوحدات الخطابية التي نطق بها النبي، كل وحدة منها لها سياق، وقد تم إعادة ترتيب وجمع وحدات بجوار بعضها في السور، وظللنا نتعامل معها بالترتيب الذي تم جمعها في المصحف عليه، بل تعاملنا معها آيةً آيةً من أول الفاتحة حتى سورة الناس، وهذا جهد أنا أوليه اهتمامًا كبيرًا. لكن عودة إلى جهد أبو زيد، فمنذ منتصف التسعينيات وهو يتعامل مع هذا الجانب الحواري في المصحف، لكنه كان ما زال يتعامل معها من منطلق القرآن نصًّا، لكن حين بدأ ينظر للمصحف على أنه مجموعة من الخطابات تفتَّحت أمامه عوالم أخرى.
أُعطي مثلًا عامًّا مأخوذًا عن أبو زيد ذاته حتى يقترب ما أعني، فمثلًا إذا قرأت عبارة مكتوبة تقول: «قال له إزيك يا راجل.» قراءة هذه العبارة نفهم منها معنًى لغويًّا معينًا، يتسع معنى العبارة أو يضيق بسياق النص التي هي جزء منه. نفس هذه العبارة منطوقة، معناها يتوقف على «تون» النطق، وعلى «مود» الخطاب. فلو قالها غاضبًا لها معنًى، لو قالتها فتاة متقطِّعة بدلال أنثوي لها معنًى مختلف. ولو قِيلت بشعور خائف … إلخ هي نفس العبارة، لكن طريقة نطقها تجعل المعنى مختلفًا، وحين نكتبها تفقد كل هذا الزخَم من المعاني، ويتم اختصار المعنى حين نحوِّل المنطوق إلى نص. وبالطبع في حالة القرآن، لن نستطيع أن نصل إلى مود كيف نطق نبينا الكريم الكلمات حينما نطق بها أول مرة. لكن لو عدنا إلى العبارة التي أخذناها كمثال: «إزيك يا راجل» لو سألنا سؤالًا مثل: من المخاطِب وهو من المُخاطَب؟ فلو عرفنا أن قائل العبارة طالب في جامعة يخاطب بها أستاذًا في الجامعة، تأخذ العبارة معانيَ مختلفة تمامًا. ولو عرفنا أنه قالها في قاعة محاضرات، تأخذ معنًى أوسع، ولو عرفنا أنه قالها في حضور لفيف من الأساتذة … إلخ. تحليل الخطاب يهتم بالمتكلم وبالمُخاطَب، ويهتم بمود الخطاب. ففي المصحف حين نسأل من المُخاطَب، سنجد مجموعات من المخاطَبين. هناك خطاب لأهل الكتاب، وخطاب للمؤمنين، وخطاب لأهل قريش … إلخ. فنحن نحتاج لتحليل القرآن تحليلًا خطابيًّا، ثم بعد ذلك نحلله تحليل نصوص. وقد حاول نصر أبو زيد في محاضرات مختلفة، منها محاضرته الأخيرة بمكتبة الإسكندرية ديسمبر ٢٠٠٨م تقديم نماذج لذلك. وتُوفي وهو يبدأ في تأويل سورة الفاتحة بالإنجليزية.
– تفضلت أيضًا بأن نصر في السنوات الأخيرة من عمره تحول إلى (رؤية العالم في القرآن)، فهل يمكن أن توضح لنا المقصود من هذا؟
– المصحف بترتيبه الحالي هو ليس ترتيب نزول الوحي على النبي، وأيضًا المصحف بترتيبه الحالي هو الترتيب الذي أثَّر في فكر وحياة المسلمين عبر التاريخ، فلا يمكن إهمال أي من الترتيبين. فلو ركَّزنا على المصحف في ترتيب نزول الوحي فقط، سيتحول المصحف إلى مجرد شبه سرد تاريخي لسيرة النبي عليه السلام والمسلمين الأوائل وصراعاتهم مع أهل قريش وأهل الكتاب. وكان سؤال أبو زيد في سنواته الأخيرة: هل المصحف بترتيبه الحالي وراءه رؤية أو رؤى للعالم؟ فكان سعي أبو زيد بحثًا في جهود السابقين من المسلمين، وهل سعوا إلى ذلك؟ وهل في دراساتهم عن القرآن توجد بذور لرؤًى للعالم في القرآن؟ فنحن نعرف سعي الفقهاء لمحاولة الوصول إلى مقاصد كلية للنصوص الدينية، تكون مجردة عن الأحكام الفقهية التفصيلية. وبالفعل قدَّم أبو زيد محاضرة الافتتاح في مؤتمر «السياقات التاريخية للقرآن» بجامعة نوتردام بأمريكا إبريل ٢٠٠٩م حول الأمر، وعقَّب عليه المفكر الإيراني عبد الكريم سروش.
– من بعيد، قد لا يبدو كتاب «أنا نصر أبو زيد» أكثر من تجميع «ميكانيكي» لمقتطفات تعبر عن سيرة موضوعة، لكن التأمل الموضوعي المنصف فيها يكشف عن شيء أبعد وأعمق بكثير، هل يمكن أن تحدثنا عن المنهج الذي اتبعته في تأليف هذا الكتاب، وعن الجهد الذي بذلته فيه؟
– هل رصدت الأثر الذي تركه كتابك؟ وهل وصل إلى النخب المتخصصة والأكاديمية، وتفاعلت معه سلبًا أو إيجابًا؟ وهل تمت ترجمة الكتاب إلى اللغات الأخرى مثلًا كنوع من التفاعل معه ومع قضية موضوعه؟
– لا أظن أن «كتاب نصر أبو زيد» أخَذ الذي يستحقه من التغطية، لكن في النهاية أنا شهادتي بلغة أهل القانون «مجروحة»؛ لأني صاحب مصلحة، لكن تمت تغطيات صحفية عند صدوره، لكنها للأسف دارت معظمها كما دارت قضية نصر أبو زيد في التسعينيات، في إطار سِجال نصر أبو زيد وصراع التنوير والإظلام، ولم يقرأ المتصارعون من أي الطرفين خطاب نصر لا المؤيدين له ولا المعادين. لكن جاءني أستاذ من جامعة لايدن كان بالقاهرة يعمل في المخطوطات، وحضر ندوة قراءة للكتاب بالقاهرة، وكتب بالهولندية عن الكتاب، وطلب نسخة من الكتاب آخر تلامذة نصر أبو زيد الهولنديين في لايدن، حينما قرأ المقالة الهولندية.
الغريب أنني في حدود بحثي لم أرَ إشادة تدل على قراءة الكتاب فعلًا سوى ما وجدته منقولًا عن الدكتور علي مبروك بأن «الكتاب يتمتع بدرجة كبيرة من المصداقية». لماذا هذا الوضع؟ طبعًا ربما يكون هناك بعض الإشارات الصحفية العابرة التي لا تدل على رؤية الكتاب فضلًا عن تورُّقه أو قراءته بتأمل!
بالفعل علي مبروك عليه رحمة الله قرأ الكتاب، بل قرأ المخطوطة، فعلي كان ممن سجلت معهم عن علاقته بنصر في وقت إعدادي للكتاب كجزء من التقصي والتحقيق. وعقدت قراءة للكتاب حضرها مبروك، بل ودعاني لكي أحاضر طلبته في الجامعة عن نصر أبو زيد، وفكره وأجيب على أسئلتهم كجزء من تدريسه لمادة الفكر العربي الحديث. ومبروك بالفعل أدرك الجانب الإنساني من حياة نصر أبو زيد في الكتاب، بل وقال «إنه سيموت قبل جمال، وإنه متأكد أن جمال سيكتب أنا علي مبروك» عليه رحمة الله.
– أستاذ جمال، حضرتك كخبير ومتخصص في منهج أبو زيد وفكره، هل يمكنك الحديث عن ملامح منهج خاص نهائي ومكتمل خاص بنصر أبو زيد؟
– هناك نظرية في التأويل تشكلت عبر مراحل دراسة نصر أبو زيد لعمليات التأويل للقرآن قديمًا وحديثًا، وكنا سنلتقي في أكتوبر ٢٠١٠م بعد عودته من إندونيسيا للعمل على كتاب يجمع الأصول النظرية التي توصَّل إليها هو، نحو نظرية لتأويل القرآن الكريم، لكنه آثر أن يتركنا ويرحل عن دنيانا. هذه النظرية متَّصلة الجذور بجهود القدماء والسابقين من معتزلة ومن بلاغيين ومتصوفة وفلاسفة وجهود الفقهاء القُدماء في المقاصد الكلية. ومن المحدثين جهود الشيخ محمد عبده حول القرآن، وجهود مدرسة الشيخ أمين الخولي وتلامذته محمد أحمد خلف الله وشكري عياد، وإلى حد قليل بنت الشاطئ. كل هذا مربوط بما وصلت إليه منهجيات تحليل الخطاب وتحليل النصوص والهرمنيوطيقا والسيميولوجيا الغربية في جوانبها الإنسانية. فنصر نتاج جذور وبذور كثيرة، التراثي منها والحديث والمعاصر، الشرقي منها مثل جهود تشيكو أذوتسو في اليابان، والغربي مثل جهود جادمير وبول ريكور في الغرب، أو جهود مثل جهود أبونا متى المسكين في مصر في تعامله مع الكتاب المقدس، فنصر قد قابل أبونا متى وتناقش معه في جهوده سنة تسعين، وعندي نسخة من تسجيل الحوار.
لكن الخصيصة في تفاعل نصر أنه لم ينقل نظرية كاملة من أحد أو من اتجاه، سواء من القدماء أو المعاصرين. نصر دائمًا تعامله نقدي، مما يجعله يأخذ أدوات تحليل ومفاهيم ولا ينقل نظريات. وسيطول الكلام في تناول كل اتجاه ممن ذكرت، وماذا أخذ منهم وترك ولماذا؟ لكن يمكن أن أشير إلى جوانب عامة:
نصر أبو زيد ينطلق من إيمانه بأن القرآن كلام الله، أُوحي به إلى النبي محمد عليه السلام، والمصحف يقول: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ. فهذه طرق ثلاثة حددها الخطاب القرآني لتواصل الله مع البشر، الوحي أو من وراء حجاب أو يرسل رسولًا فيوحي. والخطاب القرآني يقع في الطريقة الثالثة أن الله أرسل رسولًا ليوحي بكلام الله. وقد دخل المسلمون القدماء في نقاش: هل الوحي بالقرآن لفظ ومعنى أم أنها معانٍ نزلت على قلب النبي: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ. ونطق هو بالألفاظ؟ واختلفوا في: هل كلام الله صفة ذات مما يجعل القرآن قديمًا، أم أن كلام الله حادث بعد خلق الله للعالم، فيكون القرآن مخلوقًا؟
أبو زيد في دراساته في السبعينيات والثمانينيات، كان ينطلق من لاهوت المعتزلة، وخصوصًا مفهوم خلق القرآن الاعتزالي في مواجهة مفهوم الحنابلة حول تصورهم أن القرآن هو كلام الله القديم قدم ذات الله، وفي مواجهة التصور الأشعري حول قِدم كلام الله وقِدم القرآن ككلام نفسي قديم. وهو التصور الذي ساد في تصورات المسلمين عن القرآن في العقائد، فأبو زيد كان يبني على تراث الاعتزال؛ لربط القرآن بالتاريخ والزمن والبشر في القرن السابع الميلادي وتصوراتهم، وما أنتجه فكر المعتزلة من تصورات في البلاغة العربية. لكن في النهاية تصورات المعتزلة هي أيضًا تصورات بنت عصرها، وهي إجابة عن تساؤلات عصورهم.
ويصبح السؤال هو: ما هي تساؤلات عصورنا نحن؟ فركز أبو زيد على مفهوم «كلام الله» وعلى مفهوم «الوحي» كصلة بين السماء والأرض. فماذا يعني حين نقول إن الله يتكلم؟ يعني أن هناك مُخاطَبًا يوجه الله إليه هذا الخطاب عبر وسيط، ويصبح السؤال هو: هل طبيعة من يُخاطبهم الخطاب الإلهي وطبيعة مستوى وَعْيهم وتصوراتهم عن الوجود وعن الحياة وطبيعة لغتهم ستلعب دورًا في شكل ونوع الخطاب الإلهي إليهم؟ فهل يمكن أن نقول إن اللغة العربية، وطرائق العرب في الفهم هي محددات للتواصل الإلهي مع هذه الشعوب؟ بما لا يحصر معاني الخطابات القرآنية في الحجاز في القرن السابع الميلادي فقط، فكل خطاب هناك ما يجذبه للحظة ظهوره التاريخية، لكن لكل خطاب أيضًا جانب متعدٍّ للحظته الأولى إلى لحظات تالية في التاريخ. فهذا الجانب الرأسي من التواصل يحتاج إلى تفاصيل كثيرة حول مفهوم الكلام ومفهوم الوحي.
الجانب الثاني هو ما يمكن أن نسمِّيه الجانب الأفقي، المتمثل في خطابات القرآن للمجموعات التي كانت في حالة حوار مع النبي ومع ظاهرة المسلمين في لحظة الوحي. الخطاب لأهل مكة، والخطاب لأهل الكتاب، والخطاب لليهود، والخطاب للنصارى، والخطاب للمسلمين الأوائل، والخطاب للنبي وزوجاته. الشق الثاني وهو تعامل البشر منذ النبي محمد والمسلمين الأوائل حتى وقتنا مع الخطاب القرآني، وهذا التعامل ظل تعاملًا على مستوى دلالات الألفاظ، واستنباط توجيهات سلوكية وضوابط من الخطاب القرآني لحياة المسلمين في الجهود الفقهية. وانتقلنا للتعامل مع القرآن على مستوى الجملة، فقهيًّا، وبلاغيًّا مثل جهود عبد القاهر الجرجاني. والمقاصد الكلية، والمتصوفة والشيعة تعاملوا مع القرآن بعلامات وإشارات ورموز بالمعنى السيميولوجي، وأنها لها ظاهر ولها باطن. ثم مع العصر الحديث دخلنا في التعامل مع أنساق أكبر من الجملة، ودخلنا في التعامل الموضوعاتي بأن نأخذ موضوعًا في كل آيات القرآن كما فعلت مدرسة التفسير الأدبي للقرآن الكريم.
فمنهج نصر أبو زيد — وأنا هنا جمال عمر يقرأ خطاب نصر ويبني عليه فستجد بعض ما أخذ به من داخل خطاب أبو زيد وأمده إلى مراميه الأبعد، وليست مجرد تصورات أبو زيد وحدها؛ لأن جهود أبو زيد كانت ما زالت في التبلور حتى وفاته وحتى آخر حوار بيننا. الخطوة الأولى هي تناول الخطابات القرآنية في بنية المصحف الحالية؛ لأنها البنية التي أثرت وشكلت وعي المسلمين عبر التاريخ. كذلك التعامل مع بنية الوحي القرآني حسب ترتيب نزولها. الخطوة الثانية هي أن نبدأ بتحليل الخطابات القرآنية تحليلًا خطابيًّا، نسأل مثلًا: من المُخاطَب في هذه الآيات؟ ونسأل: من المتكلم؟ طبعًا القرآن كله كلام الله، لكن في تحليل الخطاب نسأل عن صوت المتكلم. فالقرآن به عدة أصوات، فقد عرض كلام المشركين عن محمد، فهذا صوت المشركين … إلخ. ونسأل عن «مود الخطاب»، فهل الخطاب هنا خطاب بشارة وتطمين أم خطاب نهى وزجر، أم خطاب وعيد وتهديد؛ فمعاني الكلمات يشكلها مود الخطاب وليس مجرد السياق اللغوي … إلخ. ثم بعد ذلك يتم التحليل كتحليل نصي. الفارق في نظري أن المتلقي حاضر حضورًا بارزًا في الخطاب. أما في النص فمفهوم «القارئ الضمني» موجود لكنه ليس بنفس حضور المتلقي في الخطاب. فالمتلقي أكثر حضورًا في تشكيل الخطاب، لكن طبعًا كل هذا يحتاج إلى تفصيلات كثيرة ونماذج توضح المعنى.
– ما الإضافة النوعية التي قدَّمها أبو زيد في مجال الدراسات الإسلامية والقرآنية، الإضافة، أو اللمسة الخاصة به والتي تميزه مستقبلًا عند الباحثين من مدرسة الأمناء؟
– الشيخ محمد عبده في دروسه عن تفسير القرآن في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، ركَّز على أن القرآن لم يأتِ ليعلمنا تاريخًا أو طبًّا أو هندسة أو زراعة أو تجارة. هو كتاب «هُدًى»، وكل الكلام عن الجوانب الأخرى هي تمثيلات لتقريب المعاني للمؤمن. هذا الأساس بنى عليه الشيخ أمين الخولي. نعم مقصد القرآن هو «الهدى»، لكن قبل أن نحاول استخراج هُدَى، أو استخراج قيم وأحكام وأخلاق … إلخ من القرآن، فإنه «بيان باللغة العربية»؛ فلا بد أن ندرس القرآن ككتاب العربية الأكبر دراسة بيانية أولًا قبل أن نستخرج منه أي غرض آخر، وأن ندرسه بأحدث ما وصلت إليه دراستنا البلاغية من أدوات. ونتيجة لاطلاع الشيخ الخولي على الدراسات الحديثة حول الأسلوبية، حينما كان مستشارًا دينيًّا للسفارة المصرية في إيطاليا وفي ألمانيا، وتعلمه لغات أوروبية، وكان على وعي بدراسات المستشرقين حول القرآن في النصف الأول من القرن العشرين. لكن الجانب الآخر الذي أثَّر في منهج الشيخ الخولي هو كونُه ابن مدرسة القضاء الشرعي، فتجاوزت عنده النظرة الفقهية في تعاملها مع النصوص والنظرة القانونية بجانب دراسات البلاغة الحديثة رابطًا إيَّاها بتطور البلاغة العربية القديمة، فدعا لمناهج في التجديد للتفسير والنحو والبلاغة.
فقد تجاوز الشيخ أمين الخولي التعامل مع القرآن آيةً آيةً إلى المطالبة بجمع الآيات التي تخص موضوعًا واحدًا في كل القرآن، وندرسها كموضوع واحد في ترتيبها التاريخي، منطلقًا من النظريات اللغوية الحديثة بمفاهيم بدايات القرن العشرين حول الأسلوب. وحين انتقل إلى الجامعة المصرية حاول أن يطبق هذا في تصوراته عن إقليمية الأدب وفي الدراسات القرآنية، فقام تلميذه محمد أحمد خلف الله بدراسة آيات الجدل في القرآن في الماجستير، ودرس في الدكتوراه الفن القصصي في القرآن، ودرس شكري عياد في الماجستير تصوير يوم الحساب في القرآن، وقدمت بنت الشاطئ فيما بعد التفسير البياني للقرآن. لكن كل هذه الجهود ظلت محصورة في حدود الإنجاز اللغوي والبلاغي في بدايات القرن العشرين من خلال الأسلوبية، ودور البيئة في تشكيل النصوص. الجانب الثاني هو وقوفها عند التعامل مع القرآن كموضوعات، وليس دراسة النص ككل في وحدته.
من هنا إضافة نصر أبو زيد، فقد طرح إعادة التفكير في ماهية القرآن التي تم قفل الحديث فيها منذ عشرة قرون، وفي التصورات اللاهوتية حول الوحي والاتصال بين الله والبشر. وأيضًا نصر تواصل مع الدراسات اللغوية الحديثة، ومع علوم العلامات وعلوم تحليل النصوص وتحليل الخطابات التي لم يتعرَّض لها الخولي ولا تلاميذه في النصف الأول من القرن العشرين. كذلك دخلت علوم تحليل النصوص في تحليل النصوص الأدبية، لكن نصر هو الذي أدخلها وطبَّقها في الدراسات الإسلامية والقرآنية، وانتقل من التعامل مع القرآن كموضوعات إلى التعامل معه على مستوى النسق ككل. وهناك جهود كبيرة في غير العربية قام بها فضل الرحمن في باكستان بالإنجليزية، وشبستري وسروش في إيران بالفارسية، وجهود تنظيرية من محمد أركون بالفرنسية. ونصر قدَّم بعض الدراسات التطبيقية في بحثه القرآني «العالم بوصفه علامة» و «الرؤية في النص السردي العربي»، وتحليله للآيات الخاصة بحقوق المرأة تحليلًا سياقيًّا، رغم أنه قد قدَّم كل ذلك في مرحلته التي كان يرى القرآن فيها نصًّا، لكن إجراءات التحليل فيه ما زالت قائمة وموحية، حتى تطبيقاته التي قدمها في مفهوم النص. وهو الأمر الذي يحتاج إلى باحثين جادين لرصده والبناء عليه.
– ختامًا، هل تعتقد أن هناك من يسير حقًا على نهج نصر، أو يكمل منهجه أو يعمل على بلورته أكثر من تلامذته أو من باحثين آخرين، سواء في مصر أم خارجها؟
– للأسف، خطاب نصر أبو زيد ونتيجةً للسجال في بدايات التسعينيات والقضية، أصبح خطابه يتم الدخول إليه من خلال هذا السجال، إما دفاعًا عن نصر؛ فيذهب الباحث لقراءة الخطاب ليبحث عن أدوات للدفاع عنه، أو هجومًا على نصر؛ فيقرأ خطابه بحثًا عن أدلة الاتهام والإدانة. في الحالتين هي عملية سجال أيديولوجي، ونحن نحتاج للخروج من هذا السجال إلى دائرة الفهم والاستيعاب، وليس مجرد إصدار أحكام؛ لذلك فمدرسة نصر أبو زيد داخل جامعة القاهرة قد تم هدمها، لكن الخطاب اتسع خارج الجامعة، وتجلى ذلك في العقد الأخير. فخطاب نصر مقروء بشكل كبير زاد منها ممارسات الجماعات الدينية على الساحات العامة خلال العقد الماضي. وأيضًا خطاب نصر في إندونيسيا وفي ساحات الأكاديمية الغربية حول القرآن، لكن يظل الأمر في إطار أفراد، وليس مؤسسية؛ لذلك حاولت خلال العقد الماضي توفير خطاب نصر أبو زيد وإتاحته للباحثين والدارسين في كل مكان، ليستوعبه القارئ، ثم ننقده ونبني من داخله تجاوزه، بتعبير نصر أن نصعد على أكتافه فنرى أبعد مما رأى.
– ماذا عن المعهد العالمي للدراسات القرآنية الذي تحدث عنه نصر، هل رأى النور أم أن الفكرة انتهت برحيل أبو زيد؟
– وضع نصر أبو زيد بمساعدة علي مبروك وهولاند تايلور الأسس الفكرية للمعهد، وكانت زيارته إلى إندونيسيا صيف ٢٠١٠م، التي مرض فيها، بداية للعمل الفعلي على الأرض. لكن رحيل نصر أبو زيد كان ضربة كبيرة للمشروع. وقد حاول علي مبروك الاستمرار في الجهد بعد رحيل أبو زيد، لكن رحيل زخم أبو زيد أثَّر على الروح العامة، وكذلك رحيل علي مبروك ذاته ٢٠١٦م. ولا أعرف ماذا حدث منذ ذلك في الفكرة.
– هل هناك طبعة كاملة لجميع كتابات ومقالات ومقابلات نصر، وإذا لم تكن موجودة، فهل هناك من ينوي القيام بمثل هذا؟
– كل ما نُشر هو إعادة نشر لكتب نصر أبو زيد التي قد نُشرت من قبل، تحت اسم الأعمال الكاملة، لكنها ليست الأعمال الكاملة لأبي زيد، فهناك العديد من الدراسات المهمة المنشورة والمقالات العربية التي لم يتمَّ جمعها، بخلاف نصوص كثيرة باللغة الإنجليزية لم يتمَّ جمعها سواء بالإنجليزية، أو ترجمتها إلى العربية. ليس عندي خبر أو علم أن هناك من يعمل على جمع هذه النصوص المهمة والعديدة في كتب.