أنفٌ للملك
في أرض كوريا ذات الصباحات الهادئة، وفي الآونة التي استحقَّت فيها بكل جدارةٍ اسمَها القديم «تشو-سون» الذي يعني السلام والسكينة، عاش سياسيٌّ اسمه «يي تشين هو». كان رجلًا متعدِّدَ المواهب، وربما لم يكن أسوأَ من باقي ساسة العالم، ولكن مَن يدري على أيِّ حال؟ غير أنه، على عكس إخوانه في البُلدان الأخرى، كان يي تشين هو يقبع في السجن. ولم يكن ذلك لأنه اختلس من المال العام؛ بل لأنه اختلس منه الكثيرَ للغاية. فالإفراط يجلب على صاحبه الأسى في جميع الأمور، حتى في الاحتيال، وإفراط يي تشين هو قد أنزل به ضائقةً شديدة ومؤسفة.
كان يَدين للحكومة بعشَرة آلافٍ من العملة المحلية، وقد سُجِنَ في انتظار تنفيذ حكم الإعدام. كانت هناك ميزةٌ واحدة لهذا الموقف، وهي أنه حظيَ بالكثير من الوقت للتفكير. وقد أحسَن فيه التفكير. ونادى على السَّجَّان.
شرَع قائلًا: «أيها السيد المحترم، يقف أمامك الآن رجلٌ من أتعس الرجال. بالرغم من ذلك، ستُصبح كلُّ أموري على ما يُرام إذا سمحتَ لي بالخروج من السجن هذه الليلةَ لساعة واحدة وجيزة. أمورك كلها أيضًا ستصبح على ما يُرام؛ لأنني سأحرص على أن تترقَّى في المناصب على مَر السنين حتى تصل أخيرًا إلى إدارة جميع سجون تشو-سون.»
سأله السَّجَّان قائلًا: «ماذا تعني؟ ما هذه الحماقة التي تتحدث عنها؟ تريد الخروج لساعة وجيزة وأنت تقبع هنا في انتظارِ أن يُقطع رأسُك! وتريدني أن أسمح لك بذلك، بما لي من أمٍّ مُسنَّة أُجِلُّها، ناهيك عن زوجةٍ وعدَّة أطفال صغار! تبًّا لك من وغدٍ لعين!»
رد يي تشين قائلًا: «ما من مكانٍ يمكنني الاختباءُ فيه؛ من «المدينة المقدسة» إلى جميع أطراف السواحل الثمانية. إنني رجل حكيم، ولكن ما قيمة حِكمتي هنا في السجن؟ لو أنني كنتُ حرًّا، فأنا متأكد من أنني كنت سأستطيع البحث والحصول على مالٍ يكفي لرد المبلغ اللازم إلى الحكومة. إنني أعرف أنفًا سيُنقذني من كل الصعوبات التي أعانيها.»
صاح السَّجَّان قائلًا: «أنف!»
أجاب يي تشين قائلًا: «أجل، أنف، أنف مميزٌ إذا جاز التعبير، أنف مميز للغاية.»
لوَّح السَّجَّان بيدَيه في يأس. وضحك قائلًا: «آه، يا لك من بارع مضحك! وما أعجبَ أن ينتهيَ الحال بذكائك الرائع هذا على مِقصَلة الإعدام!»
وبقوله هذا، استدار السَّجَّان عنه وابتعد. لكنه، في نهاية المطاف، ساذجٌ ورقيق القلب؛ فلمَّا أوغل الليل سمَح السَّجان ليي تشين هو بالذهاب.
ذهب مباشرة إلى الحاكم ووجده وحده، فاستغلَّ ذلك وأيقظه من نومه.
صاح الحاكم قائلًا: «هيهات أن تكون يي تشين هو؛ وإلا فلستُ بالحاكم! ماذا أنت فاعل هنا بينما ينبغي أن تكون في السجن تنتظر مقصلة الإعدام!»
قال يي تشين هو وهو يجلس القُرفُصاء بجانب السرير ويُشعِل غليونه من الموقد: «أرجوك يا صاحبَ السعادة أن تستمع إليَّ. الرجل الميت لا قيمة له. هذا صحيح، أنا كرجل ميت لا قيمة لي بالنسبة إلى الحكومة، أو إلى معاليك، أو إلى نفسي. لكن، إذا افترضنا أنَّ معاليك ستمنحني حريتي …»
صاح الحاكم قائلًا: «مستحيل! علاوةً على ذلك، أنت محكوم عليك بالإعدام.»
استطرد يي تشين هو: «تعلم معاليك جيدًا أنني إذا تمكنتُ من سداد المبلغ الضخم الذي أَدين به، فستعفو الحكومة عني. لذا، كما أقول، إذا سمحتَ معاليك — وأنت رجل فهيم — بمنحي حريتي بضعةَ أيام، فسأدفع حينئذٍ ما أدين به للحكومة وسأكون في وضع يسمح لي أن أكون في خدمة معاليك. أعتقد أنني سأكون حينها ذا نفعٍ كبير لمعاليك.»
سأله الحاكم: «هل لديك خُطة تأمُل بموجبها في الحصول على هذه الأموال؟»
رد يي تشين هو: «أجل.»
«فلتعرِضْها عليَّ إذن مساءَ غد؛ أما الآن فسأعود إلى النوم»، هكذا قال الحاكم واستكمل شخيره من حيث قوطِع.
في الليلة التالية، وبعد أن حصل مرةً أخرى على إذنٍ بالخروج من السجان، حضر يي تشين هو، ووقف إلى جانب سرير الحاكم.
سأله الحاكم: «أهذا أنت يا يي تشين هو؟ وهل لديك الخُطة؟»
أجاب يي تشين هو: «أجل يا صاحب السعادة، والخطة معي.»
قال الحاكم آمرًا: «تكلَّم!»
كرَّر يي تشين هو: «الخطة هنا، هنا في يدي.»
جلس الحاكم وفتح عينيه، وقدَّم إليه يي تشين هو ورقةً كانت في يده. فحملها الحاكم إلى النور كي يراها.
قوال: «لا يوجد شيء سوى أنف.»
قال يي تشين هو: «أجل، أنفٌ مقروصٌ قليلًا هنا وهناك، يا صاحب السعادة.»
قال الحاكم: «أجل، مقروص قليلًا هنا وهناك، كما تقول.»
تابع يي تشين هو قائلًا: «إنه أنفٌ سمين للغاية كذلك، ومن ثمَّ، فإنه كامل من كل شيء. مهما بحثتم سيادتكم عن هذا الأنف في كل حدب وصوب، ومهما استغرق بحثكم، فلن تجدوه.»
أقرَّ الحاكم قائلًا: «إنه أنفٌ غير عادي.»
قال يي تشين هو: «يوجد أيضًا ثُؤلولٌ عليه.»
قال الحاكم: «إنه أنف غير عادي بحق. لم أرَ مثله من قبل. ولكن ماذا ستفعل بهذا الأنف يا يي تشين هو؟»
قال يي تشين هو: «أبحث عنه لإعادة الأموال إلى الحكومة. أبحث عنه كي أكون في خدمة معاليكم، وأبحث عنه لإنقاذ رأسي الذي لا قيمة له. علاوة على ذلك، فأنا أطلب من معاليكم وضع ختمكم الكريم على هذه الصورة للأنف.»
ضحك الحاكم ووضع ختم الدولة على صورة الأنف، وغادر يي تشين هو. قطع يي تشين هو طريقَ الملك المؤدِّيَ إلى شاطئ البحر الشرقي في شهرٍ ويوم، وحين وصل في ليلةٍ ما عند بوابةِ أكبرِ قصر في إحدى المدن الغنية، طرَق على بوابته بصوت عالٍ طالبًا الدخول.
قال بعنف للخدم الخائفين: «لن أقابل سوى سيد المنزل. إنني مسافر في مهمة تخصُّ الملك.»
اقتيدَ في الحال إلى غرفةٍ داخلية، وأوقِظَ سيد المنزل من نومه ليقابل زائره ووقف أمامه في ذهول.
قال يي تشين هو بنبرة اتهام شديد: «أنت «باك تشونج تشانج» رئيس هذه المدينة. وأنا في مهمة تخص الملك.»
ارتجف باك تشونج تشانج. كان يعلم جيدًا أن المهام المتعلقة بالملك دائمًا ما تكون فظيعة. ارتعدَت أوصاله، وكاد يجثوَ على ركبتيه خوفًا.
قال بصوت مرتعش: «الوقت متأخر. ألم يكن من الجيد أن …»
«ما يخص الملكَ لا ينتظر أبدًا!»، هكذا صاح يي تشين هو. وأردف: «أريد الحديث معك على انفراد، تعالَ معي بسرعة. لديَّ مسألة سريعة ينبغي أن أناقشها معك.»
وأضاف بشراسة أكبر: «إنها مسألة تخص الملك»، فسقط غليونُ باك تشونج تشانج الفضِّيُّ من أصابعه المتوترة، ووقع على الأرض مقعقعًا.
قال يي تشين هو بعدما صارا على انفراد: «لا بد أن تعرف أن الملك يعاني من محنة صحية، محنة صحية رهيبة للغاية. لقد فشل طبيبُ البلاط في علاجه، فلم يكن جزاؤه سوى قطع رأسه. أتى الأطباء من كل المقاطعات الثماني لرعاية الملك. أجرى الأطباء مشاورات حكيمة، وقرَّروا أن المطلوب لعلاجه أنفٌ لا غير، لكنه أنف من نوع خاص، من نوع خاص جدًّا.
لقد استدعاني معالي رئيس الوزراء نفسه. وسلَّمني ورقةً في يدي. مرسوم على هذه الورقة أنفٌ شديد الغرابة رسَمه أطباء المقاطعات الثماني، وعليه ختمُ الدولة.
«اذهب»، هكذا قال لي معالي رئيس الوزراء. «ابحث عن هذا الأنف؛ لأن محنة الملك موجعة. وحيثما تجد رجلًا له هذا الأنف، فاقطعه على الفور وأحضِره على وجه السرعة إلى البلاط، إذ لا بد أن يُشفَى الملك. اذهب ولا تعُد حتى تجد المنشود.»
وهكذا انطلقتُ في رحلة البحث. لقد سافرت بحثًا إلى أبعدِ أطراف المملكة، وقطعتُ الطرق الثمانية الرئيسية، وبحثتُ في المقاطعات الثماني، وأبحرتُ في بحار السواحل الثمانية. وها أنا ذا.»
بزهوٍ كبير، أخرج ورقةً من حزامه، وفتحها بينما صدَرَت عنها أصواتُ طقطقة، ودفعها أمام وجه باك تشونج تشانج. كانت صورة الأنف مرسومةً على الورقة.
حدَّق باك تشونج تشانج فيها بعيون منتفخة.
وقال: «لم أرَ مثل هذا الأنف من قبل.»
قال يي تشين هو: «يوجد ثؤلول عليه.»
كرر باك تشونج تشانج كلامه مرة أخرى: «لم أرَ قط …»
قاطعه يي تشين هو بصرامة وقال: «أحضِر والدك أمامي.»
قال باك تشونج تشانج: «إن أبي العجوز المبجَّل نائم.»
قال يي تشين هو: «لِمَ تُخفي الحقيقة؟ إنك تعلم أنه أنف والدك. أحضره أمامي لأقطع أنفَه وأرحل. أسْرِع، وإلا فضحتُ أمرك.»
بكى باك تشونج تشانج وهو يجثو على ركبتيه قائلًا: «الرحمة! هذا مستحيل! مستحيل! لا يمكنك أن تقطع أنف أبي. لا يمكن أن يُدفن في قبره دون أنفه. سيصبح أضحوكةً ومضربًا للأمثال، وستكون حياتي جحيمًا. أرجوك أن تفكر مَليًّا! قُلْ إنك لم تجد مثل هذا الأنف في رحلاتك. أنت أيضًا لديك أب.»
أمسك باك تشونج تشانج بركبتَي يي تشين هو وخَرَّ باكيًا على خُفَّيه.
قال يي تشين هو: «لقد رَقَّ قلبي لبكائك بشكل غريب. أنا أيضًا أعرف معنى بر الوالدين واحترامهما. ولكن …»، تردد يي تشين هو، ثم أضاف كما لو كان يفكر بصوت عالٍ: «إن أنفه يساوي قيمة رأسي.»
سأل باك تشونج تشانج بصوت رفيع خفيض: «كم يُساوي رأسُك؟»
قال يي تشين هو: «إنه رأس غير مهم. غير مهم على نحو سخيف! ولكن حماقتي الكبيرة تجعلني لا أقدِّر قيمته بأقلَّ من مائة ألف بالعملة المعدنية المحلية.»
قال باك تشونج تشانج وهو يقف على قدميه: «فليكن كذلك.»
قال يي تشين هو: «سأحتاج إلى خيولٍ لحمل الكنز، ورجالٍ لحراسته جيدًا في أثناء سفري عبر الجبال. يوجد لصوصٌ في كل مكان في البلاد.»
قال باك تشونج تشانج بحزن: «أجل، يوجد لصوص في كل مكان في البلاد. ولكن لك ما طلبت، ما دام أبي العجوز المبجَّل لن يفقد أنفه.»
قال يي تشين هو: «لا تقل شيئًا لأي شخص عما حدث، وإلا فسيُرسلون خدامًا آخرين وأكثرَ ولاءً مني لقطع أنف والدك.»
انطلق يي تشين هو في طريقه عبر الجبال، وسار مبتهجَ القلب يغني بسعادة بينما يستمع إلى صلصلة أجراس الخيول التي تجرُّ العربات المحملة بكنوزه.
لكن قصتنا لم تنتهِ بعد. ازدهر يي تشين هو، ولمع نجمه على مرِّ السنين. وبجهوده وصل السجان أخيرًا إلى منصب إدارة جميع سجون «تشو-سون»، ونجح الحاكم في الوصول إلى «المدينة المقدسة» ليكون رئيس وزراء الملك، بينما أصبح يي تشين هو رفيقَ الملك المقرب ونديمَه حتى آخرِ حياته السمينة المترَفة. أما باك تشونج تشانج، فقد حلَّت به الكآبة، وكان كلما نظر إلى أنف والده العجوز المبجَّل الباهظِ الثمن، هزَّ رأسه حزنًا والدموع في عينيه.