ساحرة من نهر الراين
(١) ملك العفاريت
من هذا الذي يسري في الليل والبرد والريح؟
إنه الأب مع ولده المسكين.
بالأمس اشتعلت نار الحمى في الجسد الصغير، لمسته كف الأم ومرَّت على الصدر والوجه والجبين.
صرخت من لسع الجمر المتَّقد، وصاحت: ولدي! يا ولداه!
خذه إلى المستشفى القريب. لا تنتظر الصبح لكيلا نندم، لا تبطئ حتى لا يذهب منا ويضيع.
لفته في حزامٍ من الصوف، وغطته بالملاءة البيضاء.
ركب الأب حماره وحمل معه الولد العليل. احتضنه وضمَّه إلى صدره، وعلى الكتف أراح الرأس المحموم.
– ولدي! لِمَ تُخفِي وجهك؟ ممَّ تخاف؟
– أبي يا أبي، ألا تراه يا أبي هناك؟
– مَن يا صغيري؟ من هذا الذي تراه؟
– إنه يا أبي ملك العفاريت، يشير إليَّ ويدعوني. على رأسه التاج المرصَّع بالذهب والياقوت، ومن ظهره يتدلَّى الذيل الأسود الطويل.
– لا تخف يا ولدي، ما الشبح الذي تتخيله إلا غيمة من غيوم الضباب.
– أبي. إنه يقول لي: تعال، تعال معي يا ولدي الحبيب! سوف نلعب معًا أجمل الألعاب. وسنجري معًا على الشط وحولنا الورود والأزهار، وأمي العجوز ستهديك الثوب الذهبي الذي أعدته لهذا اللقاء.
– اهدأ يا ولدي، اهدأ.
– ألا تسمعه يا أبي؟ ألا تسمع همسه في أذني بالكلام الحلو والوعود؟
– قلت اهدأ يا ولدي، اهدأ فالمستشفى يقترب، المستشفى غير بعيد.
– ما زال يلحُّ يا أبي ويقول: ألا تريد أن تأتي معي يا ولدي الصغير؟ إن بناتي اللطيفات ينتظرنك يا ولدي من زمنٍ طويل، سوف يرحبن بك ويستقبلنك كالأمير، وسيرقصن على شرفك، ثم يهدهدنك ويضعنك وسط الحلقة ويهللن ويهتفن باسمك وبأعذب لحن سيغنين.
– اهدأ يا حبة عيني، ليس ما تسمعه سوى أصوات الريح ترفرف في أوراق الشجر الذابلة الصفراء.
– كيف لا تراهنَّ يا أبي؟ بنات ملك العفاريت هناك في الأيك البعيد. في ذلك المكان الساكن المعتم الكئيب.
– ليس ما تراه يا ولدي سوى أغصان الصفصاف، تترنح في البرد والليل والريح.
– اسمع يا أبي، اسمع ما يقوله ملك العفاريت: أحبك، أحبك ويسحرني وجهك الفاتن وشكلك البديع، تعال معي تعال معي تعال، ولا تكن الولد العنيد! وإذا لم تطعني فسوف أستخدم معك قوتي وبأسي الشديد، آه!
إنه يمد يده إليَّ ويمسك بخناقي بيدٍ من حديد. آه! أنقذني يا أبي، أحس في صدري وجنبي بالألم الشديد.
والأب أيضًا أحس بالألم الشديد وداهمه الرعب المخيف، ضرب بعصاه الحمار العجوز الذي لم يكف عن لكزه طول الطريق، لف ذراعه حول الجسد الواهن المحترق وشده إلى صدره ليحميه من البرد والضباب والريح، ما هي إلا خطوات حتى لاح المبنى الأبيض كالوجه الطيب من بعيد.
وعندما وصل إلى البوابة الضخمة نزل من على الحمار الذي ربطه إلى حديد السور، وانطلق يجري إلى الداخل ليسلم الولد للطبيب.
(٢) لورا لاي
لا لست أدري ما الذي جرى لي، ولا لماذا تتملك قلبي الأحزان؛ لأن هذه الحكاية من سالف العصر والأوان، لا تريد أبدًا أبدًا أن تغيب عن بالي.
في بلدة تقع على نهر الراين اسمها باخاراخ، كانت تعيش ساحرة فاتنة آسرة الجمال، لا تسل عن ضحايا سحرها وفتنتها، ولا عن القلوب التي حطَّمتها ومزَّقتها، فربما كانت تعد بالمئات أو الآلاف. اقتنع الناس — وهم في رعب — بأن على يدها مصارع الرجال، وبأن القيود التي تأسرهم بها عيناها وتوردهم موارد الهلاك، لا سبيل للخلاص منها، وكيف السبيل من سحر عينيها إلى الخلاص أو الإنقاذ؟
بلغ خبر جمالها وما حصده منجله الناصع الفتاك إلى آذان الأسقف الكبير؛ فأصدر أمره باستدعائها للمثول أمام سلطة الكنيسة ومجمعها الخطير، لكن الأسقف — فيما يُروى ويُشاع — انبهر بجمال الساحرة، وكاد يفقد الوعي والشعور. لا ندري ماذا قال لنفسه، لكننا سمعنا عمَّا قاله لها في تأثرٍ شديد: أنتِ أيتها الخاطئة المسكينة، أنتِ يا لورا لاي، من أغراك ومن أغواك بهذا السحر الشرير؟
قالت الساحرة الجميلة قاتلة الرجال، ومحطمة قلوب العشاق: مولاي الأسقف، سيدي القسيس الكبير، لقد تعبت من الحياة، تعبت من الحياة. أتوسل، أبتهل إليك أن تأمر بموتي الآن وفي الحال؛ لأنني ما دمت حية فسوف ينتهي كل من تقع عليه عيناي، أو تقع عيناه عليَّ إلى الهلاك والضياع والبوار والخسران. وماذا أملك من حظي يا سيدي الأسقف الكبير؟ هل أنا التي جعلت من عينيَّ جمرتين من النار واللهيب؟ أم أنا التي حوَّلت ذراعي إلى عصا ساحر داهية ورهيب؟ أتوسل وأبتهل إليك يا مولاي، أن تأمر بإلقائي في النار قبل فوات الأوان، وتكسر عصاي قبل أن تلتف ذراعي كالحية حول أعناق الرجال في كل مكان.
– لن أمسَّك بسوءٍ يا ابنتي، ولن أستطيع أن ألعنك على الإطلاق، حتى تعترفي لي وتقولي يا لورا لاي، كيف أمكنك أن تقذفي بقلبي — وأنا رجل الله — في قلب النيران؟ كيف يمكنني أن أكسر عصاك فأكسر معها قلبي نصفين وأصبح كالمجانين والعشاق. أعترف بأني أكاد أصدق الآن ما بلغني عنك من أخبار، لكني أرجو أن تعترفي أنت وتكشفي عن قلبك النقاب يا لورا لاي.
– لا تسخر مني يا سيدي القسيس الكبير، فما أنا يا مولاي إلا ساحرة مسكينة، وادعُ ربك وربي الرحيم أن يغفر ذنوب خاطئة بغير ذنبها وملعونة، تريدني أن أعترف؟
– أجل، أجل. كيف صعقت الملَّاح البائس بشعاعٍ من عينيك وأنت على قمة جبلٍ عالٍ؟ وكيف …؟
– وكيف اصطدمت مركبه بالصخرة فتحطمت المركب وتحطم معها الملاح؟ أوليس كذلك ما ترويه الأغنية على ألسنة الملاحين والفلاحين، وتردده النسوة وعجائز تلك البلدة والشبان مع الأطفال. مولاي تعبت من الأغنية ومن غناها ويغنيها صبح مساء. ولهذا جئت إليك لتنفِّذ حكمك فيَّ وتأمر.
– ليس قبل أن تعترفي وتقولي، ما حكاية هذا الملاح؟ وماذا فعلت به يا لورا لاي؟
– صدقني فالأمر بسيط يا مولاي، وهو كما حدث بعيد عما يحكون. لم أذنب فيه — علم الله — ولم أقصد أن أوذي الرجل المسكين.
– لكن شعاع الجمر بعينيك، ماذا فعل؟ اعترفي، قولي.
– صدقني لم يحدث هذا عن قصد، لم أجنِ عليه، بل لم أعرف أن الرجل على مركبه يتأرجح فوق الموج الهادئ، بل لم أره ولا أطللت عليه. كان الجو جميلًا قبل الشفق ترف عليَّ الأنسام الرطبة، وأنا أجلس فوق القمة، قمة جبل تلمع كالذهب، وتتدفأ في نور الشمس الغاربة المنحدرة خلف الأفق كما التفاحة في غور الهاوية المعتم توشك أن تغرق. كان الراين هنالك من تحتي يتدفق ويسيل وديعًا وحييًّا بالأمواج العذراء الرائعة الفتنة، وأنا العذراء الفاتنة هنالك فوق القمة، وأمشط شعري الذهبي بمشط ذهبي، وحُليي تلمع في عنقي وعلى صدري وبمعصمي وفي كفي تضيء الظلمة، وكنت أغنِّي يا مولاي، أغنِّي للموج الناعم في الأعماق وللنسمة والطير العابر، والتفاحة تشحب حمرة خديها، تتصارع مع جيش الظلمة، توشك أن تغرق في العتمة. كانت أغنيتي رائعة اللحن كما يروون، جاشت بالنغم الآسر، صعدت للملأ الأعلى، ثم انحدرت هابطةً للأمواج تهدهدها بالترنيمة والإيقاع. ما ذنبي أنا والملاح العابر في مركبه ينظر لي، ويطيل النظر إلى القمة؟ ما ذنبي أن سحرته أشعة عيني الذهبية حتى اختبل، انشغل عن الخطر الداهم، وارتطم المركب بالصخر الوعر فحطَّمه وتحطَّم معه، وغاصا في الأعماق المظلمة البشعة؟ ما ذنبي؟ قل لي يا مولاي الأسقف ما ذنب عيون لم تره أصلًا، وذراع لم تلتف على صدره؟ ما ذنبي إن كانت أغنيتي خلبته وأخذت منه اللب مع الوجدان، فظل يصعد عينيه لأعلى، غفل عن المركب والدفة، حتى اصطدم بتلك الصخرة وابتلعته الأمواج؟
– حقًّا حقًّا، لا ذنب عليك، لا ذنب عليك.
– بل أنا مذنبة يا مولاي، وذنبي أعظم من أن يُغفر؛ لهذا جئت إليك ورحت أبثك شكواي وأتوسل لك، أتوسل أن تطلب من فرسانك أن تقتلني وتخلصني من قدري البائس والمخجل والمزري.
– ولماذا المخجل والمزري؟ هل ذنبك أنك ساحرة العينين، وأن …
– أجل ذنبي ذنبي، لم تكتفِ عيناي بتكبيل العُشاق جميعًا بخيوط السحر الكامن في نظرتها، بل جعلته يهرب مني ويفر إلى البلد النائي.
– من هذا؟ من هذا الهارب من سحرك؟ قولي.
– هو حبي الأوحد في الدنيا يا مولاي، حوَّل عينيه عني، غدر وخان، ذهب إلى البلد النائي.
– خوفًا من فتنتك وسحر عيونك. مفهوم مفهوم، ولهذا …
– لهذا جئت إليك الآن، وكلِّي العزم مع التصميم أن تخرجني من دائرة السحر الملعون. لفَّت تلك الدائرة ذراعيها حولي كالثعبان، وها أنا أتسمم وبنفس السم القاتل للعشرات وللعشرات من العشاق. ربي يعلم أني امرأة ساكنة ووديعة. إن الكلمات إذا خرجت من شفتيَّ كذلك ساكنة ووديعة، لا عيني أو كلماتي قصدت يومًا أن تجرح أحدًا، دع عنك بأن تقتل أو تؤذي وتصيب الأفئدة بداءٍ لا ينفع معه دواء. أنا نفسي أتألم من جرحي يا مولاي الأسقف. أرجوك ارحمني من جرحي وارحم قلب العاشق والمجنون. يكفي أني أتألم، يشتد عليَّ الألم إذا عيني لمحت عيني في المرآة. أتوسل لك أرجوك. هبني أن أستغرف وأكفِّر عن ذنبي في حق الناس وفي حق حبيبي. تعبت تعبت، وما عاد لعيشي طعم فأْمر يا مولاي.
– بإلقائك في النار كما قلت؟ لا، لا. بل ألقيك قريبًا في الدير لتعتكفي فيه كراهبة، وتعدي نفسك لمغادرة الأرض إلى أحضان السيد كالعذراء الطاهرة بموكب أحباب الرب. يا فرسان، استدعوا لي الفرسان هنا من قبل غروب الشمس، هيا هيا استدعوا الفرسان.
وحضر ثلاثة فرسان قبل مغيب الشمس. امتطوا صهوات جيادهم، ومضوا إلى الدير ومعهم لورا لاي.
– يأيها الفرسان، يأيها الفرسان، أرجوكم أن تقفوا الآن، دعوني أصعد تلك الصخرة في هذا الجبل الوعر لألقي آخر نظرة، وأطل على قصر حبيبي من تلك الصخرة.
– من تلك الصخرة؟ في هذا الجبل الوعر المنحدر إلى هاوية الموت؟
– أجل، من تلك الصخرة يا فرسان، دعوني ألقي آخر نظرة، آخر ما تشهد عيناي من الدنيا هو قصر حبيبي الغائب. ودعوني أيضًا ألقي آخر نظرة، من فوق الصخرة، للموج المحبوب الناعم في نهر الراين. أرجوكم أبتهل إليكم يا فرسان، قبل دخولي الدير لأصبح عذراء الرب القادر أن يغفر ذنبي وخطاياي.
والصخرة عالية وعرة، وجدار الصخرة ينحدر إلى الأعماق الخطرة، لكن الساحرة — بإذن من فرسان الرب الطيب — تتقدم منها، تتسلقها حتى تصل إلى قمتها وتطل على الوادي منها، وعلى السهل القابع في الأعماق. بعدت هذي الساحرة عن العالم، وارتفعت فوق الأرض وفوق جميع العشاق.
نظر الفرسان إليها، حسدوها أو غاروا منها أو نقموا أن تفلت منهم، فيكون نصيبهم القتل أو الطرد من النعمة والخذلان.
وربطوا جيادهم في السهل، وصمموا على الصعود إليها هناك فوق القمة الخطرة العالية. ها هم يتسلقون ويتسلقون، وهي هناك تطل على النهر الهادي المحبوب، على النهر الفاتن والمفتون، وماذا ترى هناك في الأسفل السحيق؟ قلبها يخفق، ويشتد ضرباته، وتسرع وتكاد تختلج مع الموج العميق. فهي تلمح سفينة صغيرة تتأرجح على الأمواج فتقول لنفسها: لا بد أن حبيبي الغائب فيها، لا بد أن هذا الواقف هناك هو حبيبي الذي لم يكن ولن يكون لي سواه. هنالك تميل على الحافة، تحني جذعها ورأسها وتلقي بنفسها من أعلى الصخرة إلى عمق الأعماق.
وماذا عن الفرسان الثلاثة؟ ماذا عن فرسان الرب الشجعان الأمجاد؟ يقال إنهم بعد أن صعدوا بشق الأنفس، ووصلوا إلى القمة عجزوا تمامًا عن الهبوط. كان من نصيبهم أن يهلكوا هناك على القمة التي غادرتها الساحرة الفاتنة إلى الأعماق. وهكذا كُتب عليهم أن يموتوا وحدهم هناك، يموتوا وحدهم بلا قسيس يناولونه الاعتراف الأخير، ولا مثوى في قبر يضم الجسد الفاني والعظام.
هكذا انتهت الأغنية الغريبة العجيبة، الأغنية التي ترنَّم بها ملاح يمخر بسفينته أو قاربه أمواج نهر الراين الهادئة الوديعة، ثم أخذها عبر الأجيال من بعده ملاحون آخرون. ودائمًا كان يتردد — فيما يُحكى ويقال — من أعلى الصخرة المشهورة هذا النداء، دائمًا ما كان يتردد في سمع الملاحين والفلاحين على ضفاف الراين الحنون، ومن أعلى الصخرة التي عُرِفت بصخرة العذراء والفرسان الثلاثة، دائمًا ما كان يتردد هذا النداء:
لورا لاي.
لورا لاي.
(٣) الولد الضائع في المرج الشاسع
وبينما هو غارق في العرق والقلق الفظيع، هزَّه المعلم من نومه، وأمره بارتداء ثيابه بغير إبطاء. سأله متعجبًا عن سبب الفزع الذي أصابه، ثم وضع له النقود على الفراش فوق الغطاء.
– آه يا معلمي، يا معلمي، ورأيتك تضربني بقسوة، حتى أصبت بالإغماء، وكانت الشمس يا معلمي بلون الدم المسفوح في كبد السماء.
– انفض عنك الأحلام الصبيانية، وانهض على الفور يا غلام، فالشمس لا تبدو لك وحدك محمرة، بل لكل الأنام، قم من نومك أيها الكسول وإلا ضربتك بالسوط على رجليك كالبهائم والأغنام.
– رحماك يا معلمي، هذا ما كنت تقوله وتفعله على الدوام، وكم رأيت هذا على وجهك، في نظرتك، وفي نبرة الكلام، وها أنت تمد ذراعك.
وقبل أن يكمل العبارة كانت العصا تنهال على اللحم والعظام.
– آه، آه، سأذهب، سأذهب، ولكن يا معلمي الكبير، إذا سألت أمي عني فقل لها ابنك يقول لك الوداع، وحتى لا تتوه مع الرياح الأربع في كل اتجاه وتخاف، قل لها يا معلمي إنها ستجدني هناك، هناك في المرج تحت شجرة الصفصاف.
خرج الولد من المدينة فاستقبلته الأعاصير والرياح، وامتد أمامه المرج الشاسع الملفوف في الضباب والمسكون بالأشباح والأرواح.
آه، تكاد الريح تقذفني في الهواء، والخطوة في هذا المرج المخيف كأنها آلاف الخطوات، وكل شيء ساكن من حولي، كل شيء صامت أخرس تحت السماء، وعبثًا أحس أو أرى أو أشعر بأنفاس أحد الأحياء، فلا شيء في هذا التيه إلا الطيور الجائعة كالغيلان، تنقض من أعلى على فرائسها من الحشرات والديدان.
ويصل الولد إلى بيتٍ وحيدٍ يبدو كالكوخ المهجور، وبينما هو يقترب منه إذ يظهر على بابه راعٍ فقير، يخفق قلب الولد من الرعب، وتعلو دقاته، فتشل خطاه، ويقف في مكانه كالشحاذ الكسير: أيها الراعي الطيب، تبدو على وجهك التقوى والصلاح، لقد ادخرت من مصروفي القليل أربعة قروش، فأْمر يا سيدي الراعي خادمك الأمين، أن يصحبني حتى القرية القريبة، ويدلني على الطريق، سأعطيه يا سيدي الراعي أربعة قروش، يمكنه أن ينفقها يوم الأحد على كأسٍ من البيرة أو من النبيذ. سأعطيه هذه القروش التي تثقل عليَّ بالهم والوسواس، فقد رأيت في المنام أنني أُقتل بسببها، وتخمد مني الأنفاس.
أشار الراعي إلى خادمه القوي الطويل، الذي خبر دروب المرج، وطرق فيه كل سبيل. وظهر الخادم على الباب فارتعب الولد المسكين، الوجه جهم غليظ، والشر يلمع في العين، ويبدو على الملامح والجبين.
– أيها المعلم، أيها الراعي، سامحني لا لا لا، الأفضل أن أمضي وحدي بغير رفيق ولا دليل.
ضحك الخادم الطويل، وقالت نظرته الساخرة للراعي العجوز: يريد أن يحتفظ لنفسه بالقروش هذا الولد البخيل.
– ها هي ذي القروش الثلاثة.
رمى الولد القروش، ولم يدرِ إن كانت قد وقعت تحت قدمي الراعي الطيب أو تلقفتها يد الخادم المتجهم الطويل؛ فقد انطلق مسرعًا زائغ البصر مبلبل الخاطر والبال، وسرعان ما تبدت أمامه شجرة الصفصاف من بعيد، وما درى بأن السائر خلف ظهره هو الخادم العنيد. رنَّ الصوت الوحشي وراءه: أنت يا ولد لا تحتمل مشقة الطريق، لا تنسَ أنك طفل، ولا تستغني عن الصاحب والرفيق. آه لا تسرع في خطواتك، تأنَّ ففي التأني السلامة، وإذا كانت النقود ثقيلة عليك فتعال هنا ولا تخف، تعال نسترح معًا تحت الشجرة، شجرة الصفصاف. واحكِ يا ولدي عن ذلك الكابوس البشع الفظيع، فربما أكون أنا أيضًا قد رأيت مثل هذا الكابوس المريع، والتقت أحلامنا السوداء كما نلتقي الآن في هذا المرج الشاسع البديع.
مدَّ الخادم ذراعه، وضغط على يد الولد ضغطة ثقيلة صارمة، وأُرتِجَ على الولد فلم يُبْدِ أي مقاومة. هناك راحت أوراق الأشجار تهمس في الريح بصوتٍ كالأنين، والجدول تتدفق في صمتٍ وهدوء قطرات مائه الحزين.
– قل لي يا ولدي. تقول إنك حلمت حلمًا فظيعًا. ما الذي رأيت في الحلم؟
– حلمت برجل يتقدم مني، رجل جهم الوجه غزير الشعر الطويل.
– هل كنت أنا هذا الرجل؟ انظر لي وتمعن فيَّ.
أحسب أني هذا الرجل وأنك لم ترَ أحدًا غيري، أوليس كذلك؟ قل لي ماذا حدث؟ تكلم، ماذا حدث بهذا الحلم؟
– سحب الرجل السكين.
– هل كانت تشبه هذي السكين؟
– أجل، هي هي، هي نفس السكين.
– أمسكها في قبضته.
ثم طعن.
– طعنك في الرقبة؟ أوليس كذلك؟
– آه، ما جدوى أن أتعذَّب وأعذبك بكلماتي، ما الجدوى من أن … هيا خذها الآن.
(٤) الباحث عن كنز
فقيرًا في الجيب، مريضًا في القلب.
رحت أجر ورائي أيامي المظلمة المملولة والملعونة.
رأيت أن الفقر أعظم المصائب،
والجاه والثراء أعظم النعم.
ولكي أضع حدًّا لهمومي وآلامي السقيمة، رحت أبحث عن كنزٍ تحدثت عنه الكتب النادرة القديمة. يا نفسي، آه يا نفسي. لا بدَّ أن تحصلي على هذا الكنز، ولتعلمي أنني راهنت بدمي على تحقيق هذا الفوز.
وهكذا انطلقتُ إلى المكان المعلوم، وأخذت أرسم دوائر حول دوائر تتسع وتتقاطع وتتعانق، وأشعلت النيران التي حوَّلت الأرض إلى سماء تتوهَّج بالنجوم الساطعة، وتنذر بالبروق الصاعقة. لم أنسَ أن ألقم النار بالأعشاب الشهيرة الموصوفة، وأن أغذي وقودها بعظام الموتى اليابسة المخيفة. وبدأت أتلو تعاويذي المحفوظة، وأهيب بالشياطين الفظيعة والأرواح الرقيقة والغليظة. ثم شرعت أحفر في الموقع المحدد المحدود، وأنا واثق بالعثور على الكنز العتيد التليد. آه ما أبشعها من ظلمة، الليلة كانت عاصفة سوداء.
وفجأة لاح نور يخفق ويبرق من بعيد، كأنه نجم أو كوكب سعيد، وتزامن هذا مع دقات الساعة منتصف الليل. هنالك أخذت على غِرة، وأشرق الضوء الساطع من كأسٍ كالدرة، يحملها في يده صبي فاتن الجمال على جبينه غُرة.
(٥) صياد بجبال الألب
– ألا تريد يا ولدي أن ترعى الأغنام؟ الأغنام الهادئة الطيبة التي تعيش على الأعشاب، وتمرح لاعبة على شط الغدير؟
– أمي، أمي دعيني أمضي يا أمي للصيد، هنالك فوق أعالي جبل الألب.
– ألا تحب يا ولدي أن تجذب القطيع الصغير، ليسير وراءك على أنغام البوق المرح وألحان النفير؟ فترن الأجراس بصوتها المحبوب، وتندمج مع غناء الغابة العجيب؟
– أمي، أمي، قلت لك دعيني أسرح وأهيم، فوق أعالي الجبل الموحشة هناك.
– ألا يعجبك يا ولدي أن تتعهَّد الأزهار اللطيفة التي تنمو وتزدهر في أحواض الزهور؟ هناك لن تجد البستان ولا الحديقة التي ترحِّب بك وتدعوك، فما أفظع الوحشة في الأعالي المقفرة الجدباء!
– اتركي الزهور في حالها لتنمو وتزدهر في سكون، ودعيني يا أمي أذهب إلى قمة الجبل المكين.
وانطلق الصبي في رحلة الصيد كما أراد، وقلبه يجيش بالرغبة والقلق والاندفاع الجسور، نحو البقعة المقفرة التي يرتفع فيها الجبل الموحش المهول. مرت أمامه بسرعة أشد من سرعة الريح، غزالة تعدو هاربة مرتعشة بعد أن لمحت ظله النحيل. راحت تتسلق أضلاع الصخر العارية كأنها تسبح أو تطير، وما إن لمحت شقًّا في الحجر المتصدع حتى قفزت تختبئ فيه، لكن الصبي النزق الجريء كان يتبعها وفي يده قوس الموت الوشيك. ها هي ذي فوق الحافة تتعلق بنتوء في أقصى الطرف الحاد، تتلفَّت حولها وتحتها، فلا ترى من دربٍ أو سبيل، بل صخور منحدرة في عمق الهاوية السحيق، وتنظر خلفها ولا تلمح سوى العدو المتربص بها من قريب. إنها ترسل نظرات الرعب الخرساء، وتبتهل وتتوسل لصبي قاسي الفؤاد، لكن تتوسل عبثًا إذ ها هو يضع يديه على القوس، ويدخل فيه النبل الفتَّاك.
(٦) لعبة العمالقة
قلعة «نيديك» في منطقة الإلزاس اسم ذاع صيته في الحكايات والأساطير، واشتهر برجه العالي الذي كان يعيش فيه العمالقة قبل أزمان وأزمان. لقد سقط البرج العالي وانهار، وآلت القلعة اليوم إلى الخراب والوحشة والبوار. ولو سألتَ عن العمالقة فلن تعثر لهم على أثر وسط الأنقاض.
ذات يوم خرجت طفلة من نسل العمالقة من القلعة لتلعب أمام الباب، ودفعها الفضول لأن تهبط المنحدر إلى الوادي البعيد؛ إذ تاقت نفسها لمعرفة ما يجري هناك في الأعماق.
قطعت خطوات قليلة وسريعة لتجد نفسها قد عبرت الغابة، وسرعان ما بلغت الأرض التي يعيش فيها البشر. والمدن والقرى والحقول المزروعة بدت لعينيها من عالمٍ غريب.
وبينما هي تطل تحت قدميها متطلعة لما تراه هناك، وقع بصرها على فلاح يعمل في حقله الصغير. كان الكائن الصغير منكبًّا على عمله الشاق العجيب، ومحراثه يلمع تحت وهج الشمس، ويسطع بضوءٍ غريب.
هتفت صائحة: «ياه! يا لها من لعبةٍ طريفة! سأحملها وأعود بها إلى البيت.» ثم انحنت بسرعة وبسطت منديلها على الأرض، وكنست بيديها كل ما كان يتحرك هناك، وكوَّمت ما جمعته وطوته في منديلها الصغير. وأخذت تقفز بسرعة وهي تهلل بالفرح على عادة الأطفال، ودخلت القلعة وانطلقت في لهفة تبحث عن أبيها في كل مكان.
– أبي، أبي الحبيب، أترى هذه اللعبة البديعة العجيبة؟ لم يسبق لي أن رأيت مثلها في قلعتنا العالية الأبواب والأسوار.
كان العجوز يجلس إلى المائدة، ويحتسي كأسًا من النبيذ، نظر إلى ابنته في هدوءٍ وسألها في حنان: «ما هذا الشيء المثير الذي تطوينه في منديلك اللطيف؟ أراك تتقافزين يا ابنتي من الفرح، فدعيني أنظر ما تحملين.»
نشرت الطفلة منديلها الصغير، وبدأت تصفُّ على المائدة كل ما احتواه: الفلاح والمحراث والحصان الذي كان يجر المحراث. راحت تضع كلًّا منها في مكانه، وهي تصفق بيديها وتثب إلى أعلى وتهلل بالفرح والصياح.
تجهَّم وجه الأب واكفهرت ملامحه، هزَّ رأسه في هدوء، ثم قال: «ما الذي فعلته يا ابنتي؟ ليست هذه لعبة على الإطلاق! هيا احمليها يا ابنتي على الفور، وأعيديها إلى الموضع الذي أخذتها منه. هيا يا ابنتي فليس الفلاح لعبة، ولا أدري كيف خطر لك هذا على بال. هيا نفذي الأمر بلا تردد أو إبطاء، فلولا الفلاح يا ابنتي ما عرفتِ الخبز الذي تأكلين كل صباحٍ ومساء. هل غاب عنكِ أن نسل العمالقة من صلب الفلاحين؟ لا ليس الفلاح لعبة يا ابنتي، وليحمنا الله من شر هذه الأفكار.»
(٧) صبي الساحر
أخيرًا غادر المعلم والساحر الخطير. صرت وحدي وخلا عليَّ البيت الكبير. سأجعل أرواحه وعفاريته طوع إرادتي، وآمرها بأن تتصرف كما أحب وأشاء. حقًّا أنا صبيه الذي يتعلم على يديه، لكنني سمعت كلماته وراقبت حركاته وسكناته وعاداته، وبقوتي وعزمي سأفعل الآن ما أريد، وأحقق مثله العجائب والمعجزات.
وأنت أيتها المكنسة القديمة، هيا تعالي والعبي لعبتك الحميمة. هيا ارتدي أسمالك البالية السقيمة، قد كنت دائمًا خادمة مطيعة؛ فامتثلي لأمري الآن، حقِّقي إرادتي ورغبتي الفظيعة. قفي على رجليك، وارفعي الرأس لأعلى، واحملي الوعاء فوقه ممتلئًا بالماء. هيا اذهبي وعودي، عودي واذهبي دون تلكؤ ولا إبطاء. تحركي، تحركي أيتها المكنسة القديمة الحمقاء.
ها هي المكنسة تنحدر هابطة إلى شاطئ النهر حقًّا، بل ها هي تملأ الوعاء وترجع مسرعة كالبرق، ثم تصل إلى هنا وتصب سيول الماء مرة بعد مرة بعد مرة، حتى يفيض الحوض وتمتلئ الجرار والقدور، والأوعية والأطباق والصحون، وتدفق من أفواهها الماء بعد الماء.
ما زلت لا تريدين أن تقفي عند حدك. إذن فلا بد من الإمساك بك مهما كان الثمن. سألقي بنفسي عليك وأشطرك نصفين. ها هي البلطة في يدي ولن تهربي من مصير المارقين. ها هي ذي تعود وفوقها الوعاء يترنح ويدلق الماء. انتظري أيتها الروح الجاحدة، فسوف تركعين الآن وتندمين. ها هي ذي الضربة تقصم ظهرك الملعون، تقطع خشبتك المهترئة بحدها المسنون، انشطرت إلى نصفين، وأستطيع الآن أن أتنفس وأستريح من القلق والجنون.
وتواصل المكنسة — التي أصبحت مكنستين — لعبتها السخيفة. ويبتل كل شيء وتطمره المياه؛ القاعة والأعمدة والسلالم والحجرات والشرفات.
وجاء المعلم الساحر العجوز فهتف على الفور: