الحب الصادق وحَّد بينهما
(١) ابنة صاحبة الفندق
كان ثلاثة فتيان يتمشون على شط الراين الهادئ الوديع. بحثوا عن مكانٍ يستريحون فيه، ثم رأوا أمامهم الفندق الصغير. طرقوا الباب ففتحت صاحبة الفندق.
– «أيتها السيدة المحترمة، هل لديك بيرة ونبيذ؟ وابنتك الساحرة الجمال، أين هي الآن؟»
– «عندي بيرة طازجة ونبيذ صافٍ، أما ابنتي فهي في الحجرة المجاورة ترقد في التابوت.»
اتجهوا ناحية الحجرة وفتحوا الباب. وجدوا الفتاة ممددة داخل تابوت يغلِّفه السواد.
تقدم الفتى الأول ورفع عن وجهها النقاب، ثم أخذ يتأملها بنظراته الحزينة.
«آه لو كنتِ الآن حية، أيتها الفتاة الفاتنة الجمال، إذن لأحببتك على الفور من كل قلبي وبدءًا من اللحظة والآن.»
وأقبل الفتى الثاني على التابوت، ومد يده فغطى وجه الفتاة بالنقاب، ارتد إلى الوراء قليلًا، ثم راح جسده يرتجُّ من البكاء: «آه، ما أقسى أن أجدك راقدة في هذا التابوت! كم أحببتك ورعيت عهودك عدة سنوات!»
(٢) القفاز
جلس الملك «فرانز» أمام حديقته التي تحبس بين أسوارها وفي أقفاصها الأُسُود، منتظرًا بداية الصراع بين الوحوش بعضها وبعض، وبين الوحوش والإنسان.
اتخذ كبار رجال البلاط أماكنهم من حوله، أما كرائم السيدات فجلسن في الشرفة العالية، وقد تألَّقت زينتهن، وسطعت حليهن، ووُضِعت على رءوسهن أكاليل الزهور.
لم يكد الملك يعطي الإشارة من إصبعه حتى انفتح أحد أبواب الحلبة الواسعة، ودخل منها أسد يمشي بخطًى ثقيلة متأنية، ويتلفت حوله بنظرات متوانية صماء. فتح فمه على اتساعه، وأخذ يتثاءب، ويهز عُرفه الأشقر المتهدِّل على رأسه، ثم تمطَّع قليلًا قبل أن يتمدد على الأرض ويستريح.
عاد الملك يشير بإصبعه، فانفتح على الفور باب ثانٍ، خرج منه نمر ضخم أخذ يقفز قفزات وحشية خاطفة. ولم يكد يرى الأسد الراقد أمامه، حتى دوت زمجرته العالية، وأخذ يضرب الأرض بذيله ذات اليمين وذات اليسار، ثم بدأ يلف في دائرة بعيدة عن الأسد، وقد تدلَّى لسانه، وراح يلعق به شفتَيه قبل أن يتمطَّى على الأرض، وهو يدمدم بصوتٍ متحشرجٍ مكتوم.
وأشار الملك بإصبعه من جديد، فأفلت من الباب المزدوج فهدان مخيفان مرة واحدة. اندفعا بكل ما فيهما من شهوة العراك وشراسة النزال نحو النمر الممدد على الأرض، فلم يكن منه إلا أن صدهما بمخلبيه الأماميين، بينما نهض الأسد واقفًا وهو يزأر فساد الهدوء وخيَّم السكون على الجميع. وهكذا رقدت القطط الوحشية المرعبة، والتأم شملها في شبه دائرة تتصاعد من داخلها روائح التحفز للقتل والقتال.
فوجئ الجميع بقفاز ألقت به من فرجة في الشرفة إحدى الأيدي الجميلة، ورأوه وهو يسقط وسط الدائرة التي تضم الأسد والنمر والفهدين، وترامى إليهم صوت تبين لهم أنه صوت الحسناء «كونيجوند» التي لاحظوا أنها تميل برأسها ناحية الفارس «ديلورجس» وتقول له بنغمة مرحة ساخرة: أيها الفارس، إن كان حبك هو الحب الصادق الحار كما تؤكد لي كل يوم وكل ساعة، فأثبت لي ذلك بأن تُرجِع القفاز الذي سقط من يدي.
نهض الفارس فورًا على قدميه، وأسرع بالنزول إلى الحلبة المخيفة بخطواتٍ راسخةٍ ثابتة، وتقدَّم من الدائرة المرعبة فالتقط القفاز بإصبعه الجسور في لمحةٍ خاطفة.
ارتسم الذعر والذهول على وجوه الفرسان والكبراء والحِسان النبيلات وهم يتابعون المشهد لاهثين مضطربين. وعندما أقبل الفارس ومعه القفاز الذي أرجعه للحسناء رددت كل الألسن، ولهجت كل الأصوات بآيات التمجيد والثناء، وعبَّرت كل النظرات التي تركزت عليه عن الإعجاب والإكبار، لكن نظرة الحسناء «كونيجوند» تميزت عن سائر النظرات؛ إذ كانت مفعمة بالحب والحنان غنية بالوعود والمواعيد.
أما الفارس نفسه فقد رمى القفاز في وجهها وهو يقول: وفِّري الشكر يا سيدتي فأنا في غنى عنه.
(٣) أنثى
ربط الحب قلبيهما برباط وثيق، أما هي فأنثى ماكرة لعوب، وأما هو فلصٌّ قاتل ووغد زنيم. وفي كل ليلة يرجع إليها من مغامراته الإجرامية، كانت تلقي بنفسها على السرير وتنخرط في نوبة من الضحك الشديد.
كانا يمضيان نهار اليوم بين اللذة والسرور، وفي المساء كانت ترقد واضعة رأسها على صدره العريض، وعندما ألقوا القبض عليه وأخذوه معهم إلى السجن المظلم البعيد، وقفت في النافذة، وأخذت تضحك في حبور.
أرسل إليها من يقول لها على لسانه: تعالي في أقرب وقت، أنا في شوق لك، قلبي يهتف باسمك ويحنُّ إليك.
لم يكن منها بعد أن بلغتها الرسالة إلا أن هزت رأسها، وأغرقت في الضحك السعيد.
(٤) بنو عذرة
في كل مساء كانت ابنة السلطان الفاتنة الحسناء، تتمشى جيئةً وذهابًا عند النبع الصغير، النبع الذي توشوش فيه وتتناثر منه المياه البيضاء.
وفي كل مساء كان العبد الشاب يقف عند النبع الذي توشوش فيه المياه البيضاء، وكان وجهه في كل يوم يزداد عليه الشحوب والاصفرار.
في أحد الأيام اندفعت الأميرة نحو العبد، وقالت له بكلماتٍ خاطفةٍ حادة: أريد أن أعرف اسمك. أعرف وطنك وقبيلتك وأصلك.
(٥) قصة حب موضوعية
بعد أن عرفا بعضهما ثماني سنوات كاملة (ويمكن القول بأنهما عرفا بعضهما معرفةً لا بأس بها)، ضاع منهما الحب فجأةً كما تضيع من المرء عصا أو مظلة أو غطاء للرأس.
كانا حزينَين، وحاول كل منهما أن يبدو مرحًا وطبيعيًّا، بل حاولا أن يتبادلا القُبَل، وكأن كل شيء لم يزل على حاله كما كان. ثم نظر كل واحد منهما للآخر، واحتارا كيف يتصرفان. عندها انفجرت في البكاء الشديد، ووقف هو بجوارها صامتًا لا يدري ماذا يقول.
كانت شمس العصر تفرش أشعتها على أسطح البيوت. قال إن الساعة ربما جاوزت الرابعة بقليل، وقد حان الوقت لتناول القهوة أو الشاي، وسمعا بالقرب منهما أصوات عزف على البيانو.
(٦) ملك من تولا٦
عاش في جزيرة تولا من قديم الزمان، ملك صان عهد الوفاء حتى الرمق الأخير. كانت زوجته قد أهدته وهي في غيبوبة الاحتضار، كأسًا ذهبية رائعة الحسن والجمال.
لم يكن يفوق حبه لهذه الكأس شيء في الوجود، فهو يفرغ خمرها في جوفه مع كل طعام أو شراب. وكلما ارتشف منها ولو قطرة واحدة، طفرت إلى عينيه الدموع الغزار.
عندما كبر في السن وشعر بأن أجله قد حان، أحصى المدن والقلاع والأصقاع في المملكة، ثم قام بتوزيعها على ورثته من الأمراء، وتخلى عن كل شيء ولم يحتفظ لنفسه إلا بالكأس.
جلس إلى المأدبة الملكية للمرة الأخيرة، ومن حوله جموع الفرسان والنبلاء والأمراء، هناك في البهو الفخم العالي بهو الآباء، في قصره الشامخ المطل على البحر الكبير.
ونهض السكير العجوز ووقف أمام النافذة، وراح يرتشف آخر جمرات الحياة، ثم انحنى ورمى الكأس المقدسة من يده في ماء البحر الجياش بالرياح والأمواج.