حكاية من سالف الزمان
(١) حكاية عن نشأة كتاب «الطريق والفضيلة» (تاو-تي-كنج) الذي أملاه الحكيم «لاو-تزو» وهو في طريقه إلى المهجر
١
لما بلغ السبعين من عمره وأحس بالضعف الشديد، تاقت نفس المعلم إلى الراحة؛ فقد تداعت أركان الخير في البلاد، والشر عاد إلى سطوته. وربط حذاءه.
٢
ثم حزم ما يحتاج إليه. متاع قليل، لكنه يضم شيئًا من هنا ومن هناك: الغليون الذي تعوَّد أن يدخن فيه كل ليلة، والكتيب الذي تعوَّد أن يقرأ فيه، ومن الخبز الأبيض على قدر النصيب.
٣
فرح قلبه برؤية الوادي للمرة الأخيرة، ثم نسيه عندما سار في طريق الجبل. فرح ثوره بالعشب النديِّ فراح يمضغ منه والعجوز فوق ظهره، ولم يكن هذا في عجلة من أمره.
٤
لكن في اليوم الرابع عند أسفل الجبل، سد عليه الطريق عامل الجمرك: هل من شيءٍ نفيسٍ يستحق الضريبة؟ «لا، لا شيء.»
والغلام الذي يسحب الثور تكلم قائلًا: لقد كان يعلم الناس. واحتاج هذا أيضًا إلى بيان.
٥
وعاد الرجل يسأل بلهجةٍ مرحة: وهل خرج من ذلك بشيء؟ وتكلم الغلام فقال بأن الماء الذي يجري بنعومة ولين، يهزم الصخر الجبار بمرور الزمن، وبهذا إن كنت فهمت، يغلب الصلب والخشن.
٦
ولكي لا يضيع عليهما ضوء النهار الأخير، ساق الغلام الثور، وما إن اختفى الثلاثة خلف شجرة صنوبر سوداء، حتى كان الرجل يعدو خلفهما وهو يصيح: أنت، توقَّف، أجب على السؤال.
٧
«ماذا تقصد بحكاية الماء أيها العجوز؟» توقف المعلم: «وهل يهمك أن تعرف هذا؟» قال الرجل: «ما أنا إلا عامل جمرك بسيط، لكن يهمني أن أعرف من ينتصر على من، إن كنت تعرف الجواب فتكلم.»
٨
«اكتبه لي، أمله على هذا الغلام. شيء كهذا لا يأخذه المرء معه ويغادر البلاد. الورق عندنا والمداد. وعندنا كذلك وجبة طعام للعشاء، أنا أسكن هناك، هل اتفقنا الآن؟»
٩
تطلَّع المعلم العجوز إلى الرجل من فوق كتفيه. السترة مرقعة، القدم حافية. وعلى الجبهة تجعيدة واحدة. آه، ما هو بغالب هذا الذي يعترض طريقه. وتمتم المعلم: أنت أيضًا؟
١٠
كان المعلم العجوز فيما بدا عليه، أعجز من أن يرد ررجاءً وُجِّه إليه بأدبٍ شديد؛ لذلك رفع صوته قائلًا: «من يسأل يستحق أن يتلقى الجواب.» وتكلم الغلام فقال: «وسوف يبرد الجو بعد قليل.» «حسن، فلنهبط هنا إلى حين.»
١١
ونزل الحكيم من على مطيته. سبعة أيام وهما يكتبان، وعامل الجمرك يحضر الطعام (كان في هذه الأثناء يلعن المهربين بصوتٍ خفيض)، وبعدها تم كل شيءٍ على ما يرام.
١٢
وذات صباح ناول الغلام عامل الجمرك إحدى وثمانين حكمة. وبعد تقديم الشكر على الزاد القليل الذي قدمه لهما، انعطفا حول شجرة الصنوبر وغابا في حضن الجبل. قولوا الآن: هل يمكن أن يكون الإنسان أكثر أدبًا من ذلك؟
١٣
(٢) إدوارد (عن حكاية اسكتلندية)
– إدوارد، يا إدوارد، ما الذي جعل سيفك محمرًّا بالدماء؟ أنت يا إدوارد، يا إدوارد، كيف أصبح سيفك مصبوغًا بالدماء؟ ولماذا تسير هكذا وأنت محزون الوجه والخطى؟
– آه، لقد قتلت صقري يا أمي، قتلته يا أمي، وليس لديَّ صقر سواه، ولا صقر يشبهه.
– إدوارد، يا إدوارد، دم صقرك ليس بهذا الاحمرار! تكلَّم يا ولدي بصراحة، اعترف لي.
– آه، قتلت حصاني الأحمر يا أمي، حصاني الأحمر قتلته يا أم، وكم كان مزهوًّا بنفسه هذا الحصان.
– كان حصانك عجوزًا، ولم تكن بحاجةٍ إلى ذلك. نعم يا إدوارد، يا إدوارد، كان حصانك عجوزًا، ولم يكن للقتل أي داعٍ. تكلَّم يا ولدي، لا بد أن هناك ألمًا آخر يضنيك.
– آه يا أمي، يا أمي! لقد قتلت أبي، قتلت أبي وقلبي يتحسر، يتحسر عليه يا أمي، نعم قتلت أبي وقلبي يتحسر عليه.
– إدوارد، يا إدوارد، وكيف تكفِّر عن ذنبك الآن؟ كيف تكفِّر عن ذنبك؟ آه، كلمني يا ولدي بصراحة.
– أمي، يا أمي، لا أريد أن تبقى قدمي على هذه الأرض، أريد أن أرحل بعيدًا، بعيدًا وراء البحر.
– إدوارد، يا إدوارد، وما المصير الذي سينتهي إليه بلاطك وقاعاتك؟ ما مصير قصرك يا ولدي وبلاطك، وهما نموذج الروعة والجمال؟
– آه يا أمي! سأتركهما في مكانهما حتى يسقط كل منهما ويتداعى، سأتركهما يا أمي ورائي، ولن أراهما مرةً ثانية.
– وما مصير زوجك وطفلك يا إدوارد؟ آه، ما مصيرهما يا ولدي؟ ومتى تسافر بالبحر؟
– العالم واسع يا أمي، دعيهما يا أمي يتسولان في أرجائه، ولن أراهما أبدًا. آه، لن أراهما أبدًا بعد ذلك.
– وكيف يا إدوارد تترك أمك العزيزة؟ قل لي يا ولدي إدوارد: كيف تترك أمك العزيزة الغالية؟
(٣) قصر على البحر
– هل رأيت القصر، القصر العالي الذي يقع على البحر؟ إن السحب الذهبية والوردية تسبح فوقه وتظلله.
وهو يود لو ينحني ويلمس التيار اللامع الصافي كالمرآة، بل يريد لو استطاع أن يصعد ويغوص في وهج السحب العابرة في المساء.
– حقًّا لقد رأيته بنفسي، ذلك القصر العالي على البحر، ولمحت القمر الواقف فوقه، والضباب المنتشر حواليه.
– صوت الريح وجيشان البحر، هل سمعت لحنهما الشجي وعزف الأوتار ونشيد الاحتفال؟ هل سمعتهما يترددان من الأبهاء العالية؟
– كانت الرياح كلها والأمواج راقدة في سكون عميق؛ فقد سمعت ترنيمة حزينة باكية، تنحدر لسمعي من القاعة ممزوجة بالدموع.
– وهل أبصرت الملك وزوجه يمشيان هناك في الأعالي؟ وأحسست برفيف المعاطف الحمراء ولمحت أشعة التيجان الذهبية؟
ألم يكونا يشيعان عذراء فاتنة الجمال، رائعة كالشمس، متألقة بشعرها الذهبي؟
(٤) أحد ملوك الشمال
كان في قديم الزمان ملك يعيش في الشمال، ملك متكبر وثري وجبار، لم يخلفه أحد مثله، ولن يشبهه أحد سواه.
ولما حان أجله واقترب من الموت، وكان يجلس متأملًا البحر الخاوي الكئيب، تسلل ورثته والتفوا حوله: الذئب، والبومة، والدب الكبير.
قال للدب ذي الشعر الكثيف: «سأترك لك الأيك والغابة، ولن يجرؤ صياد على إزعاجك، أثناء وجودك ومقامك فيها.»
ثم توجه للبومة وقال لها: «سأترك لك مدنًا وحصونًا لا تُحصى ولا تعد، وعليك أن توزعيها بالعدل على أبنائك وبناتك.»
وقال كذلك للدب الكبير: «سأترك لك حقلًا هادئًا وفي غاية السكون، تتزاحم فيه جثث فوق جثث من القتلى الذين أرديتهم في عهدي.»
(٥) نساء فينسبرج
كان الملك كونراد، أول ملوك أسرة هو هنشتاوفين، يحاصر بجيشه الجرار مدينة فينسبرج منذ أيام طويلة. صحيح أن خصمه «فيلفي» كان قد انهزم، ولكن الحصن ظل يقاوم، كما أصر مواطنو المدينة على عدم التسليم.
لكن الجوع جاء، الجوع الذي يشبه الشوكة الحادة. حاول المواطنون أن يسترحموا الملك الجبار فلم يلقوا منه إلا الغضب العنيف: «لقد قتلتم عددًا كبيرًا من فرساني المقربين إليَّ، وحتى لو فتحتم أبوابكم وبواباتكم فسوف أعمل فيكم السيف.»
حضرت نساء المدينة إليه، وتشفعن لديه قائلات: «إذا كنتم مصممين على رأيكم، فاسمحوا لنا بأن ننسحب نحن ونخرج من المدينة، إن أيدينا طاهرة وبريئة من الدم.» عندئذٍ ترطب غضب البطل المستعر أمام أولئك النسوة المسكينات، بل شعر بأن قلبه يرف بالرحمة والإشفاق عليهن.
«تستطيع النساء أن تنسحبن، ومن حق كل واحدةٍ منهن أن تحمل معها ما تشاء، وأن تخرج ومعها أعز ما تملكه من متاع، دعوهن يرحلن، ولا يقف أحد في طريقهن، هذا هو رأي الملك، وتلك هي كلمته.»
ولم يكد الصبح يطل بوجهه الرمادي في الشرق البعيد، حتى رأى الجنود المقيمون في المعسكر مشهدًا عجبًا؛ فقد انفتحت البوابة العتيقة في هدوءٍ شديد، وترنح موكب النساء خارجًا منها بخطواتٍ متأنيةٍ وثقيلة.
كانت تضطرهن الأحمال التي يضعنها على ظهورهن إلى إحناء رءوسهن؛ فقد كن يحملن أزواجهن، وهم عندهن أعز متاع. «أوقفوا هؤلاء النسوة الوقحات.» هكذا صاحت بعض الأصوات بالتهديد، وقال مستشار الملك بلهجة استنكار: «لا لم يكن هذا هو رأي الملك على الإطلاق.»
لما سمع السيد الصالح بما حدث أغرق في الضحك: «صحيح أن هذا لم يكن هو رأيي، ولكنهنَّ قد أحسنَّ التصرف. لقد قلت ما قلت، وكلمة الملك لا تتغير ولا تحيد، وليس من حق أي مستشار أن يلوي عنقها أو يسيء التفسير.»
(٦) التتويج الحزين
عاش في قديم الزمان ملك واسمه «ميليسنت»، أريد الآن أن أحكي لكم حكايته؛ فقد اغتال ابن شقيقه؛ ليضع على رأسه تاج الملك. وتم الاحتفال بالتتويج، بالأبهة والفخامة في قصر «ليفاي». آه يا أيرلندا، يا أيرلندا، هل كنتِ عمياء إلى هذا الحد؟
كان الملك جالسًا في منتصف الليل، في القاعة المرمرية الخالية. أخذ ينظر مذهولًا لما حوله من تُحف ونفائس، وكأنه قد سكر من كثرة الشراب على المأدبة الملكية، التفت إلى ولده قائلًا: أحضر لي التاج لألبسه مرة أخرى، لكن تبيَّن أولًا من الذي فتح الأبواب.
هنالك بدأت لعبة الموتى النادرة، إذ دخل موكبهم بخطًى خافتة هامسة، والموكب يضم عددًا كبيرًا من الضيوف الملثمين ووسطهم يهتز ويترنح تاج، وتتزاحم الأرواح وتتدافع داخلةً من الباب، وهي تدمدم وتتهامس بغير كلام، أما الملك فيشحب وجهه، ويرتسم عليه الرعب والوجوم.
ومن وسط الزحام الأسود يتطلع طفل لم يزل جرحه ينزف الدماء، يبتسم كالمحتضر ويطرق رأسه، ثم يدور في القاعة الواسعة قبل أن يخطو نحو العرش بخطًى وئيدة الإيقاع، ويمد يده إلى الملك بالتاج، إلى الملك الذي نفذ سهم الرعب في فؤاده.
(٧) لعنة المغنِّي
في قديم الزمان كان هناك قصر شامخ عالٍ، تسطع أضواؤه فوق الأرض، حتى شواطئ البحر الأزرق، ومن حوله تزدهر باقة نضيرة من الحدائق العَطِرة، تفور فيها ينابيع متدفقة تحت أنوار قوس قزح الساطعة.
هناك عاش ملك متغطرس، واسع الثراء في الممالك والانتصارات، يجلس على عرشه متجهم السحنة شاحب الوجه؛ لأنه لا يفكر إلا في الرعب، ولا يبصر غير الغضب والانتقام، كما أن كلامه سوط عذاب، وكتابته تسيل منها الدماء.
وذات يوم توجَّه نحو هذا القصر مغنِّيان نبيلان، تنسدل على ظهر أحدهما خصلات شعر ذهبية، ويكسو رأس الآخر البياض، كان العجوز يحمل قيثارته، ويجلس على صهوة جواد متألق بزينته، وكان يمشي إلى جواره رفيقه اليافع الشاب.
قال العجوز للشاب: «كن على أتم استعداد يا ولدي. تفكَّر في أغانينا الصادرة من الأعماق، وترنَّم بأعذب الأنغام. عبِّئ كل طاقاتك لتعبِّر عن الفرح والألم؛ فعلينا اليوم أن نحرك قلب الملك المتحجر.»
ها هما المغنِّيان يقفان في القاعة الفخمة العالية، وعلى العرش يجلس الملك مع قرينته، أما الملك فرائع روعة مخيفة كأنه ضوء دموي من الشمال، وأما الملكة فحلوة ورقيقة كأنها البدر في التمام.
لمس العجوز الأوتار، فانبعثت أعجب الألحان، وراحت تنثال على الأسماع بأعذب وأجمل الأنغام، ثم انساب صوت الشاب كأنه إشراقة السماء، بينما تدخَّل غناء العجوز كأنه جوقة من الأرواح خافتة الأداء.
أخذا يتغنيان بالحب والربيع والماضي السعيد، بالحرية والوفاء والطهر والعفاف وكرامة الإنسان، بكل ما هو حلو عذب يجيش في صدور البشر، وكل ما هو نبيل ورفيع يخفق به القلب والوجدان.
وجمت وجوه الحاشية، وكفت عن الدعابة والسخرية، والمحاربون الأشداء من جند الملك خشعوا لله، أما الملكة فذابت في لهيب الأسى، وفي نشوة البهجة، فانتزعت وردة من صدرها، وألقت بها إلى المغنيَين.
«لقد أغويتما رعيتي، فهل تتجرآن الآن على إغواء زوجتي؟» هكذا صرخ الملك من شدة الغضب، وراح جسده كله ينتفض، ثم أمسك سيفه وقذفه بقوة، فنفذ كالصاعقة في صدر الشاب، صدره الذي تفجَّر منه الدم وسال بدلًا من الأغاني الذهبية.
وفجأة تبددت حشود المستمعين كأن عاصفة هبَّت عليهم، وأخذ الشاب يحتضر بين ذراعي معلمه، معلمه الذي لفه في المعطف، ووضعه على ظهر الحصان، وبعد أن أحكم ربطه غادر معه القصر وما فيه.
توقف المغنِّي العجوز أمام البوابة العالية، وأمسك بقيثاره الذي يغار منه أي قيثار، ثم رفع يده وحطمه على عمود مرمري، وأخذ ينادي ويصيح بصوتٍ جلجل في القصر وفي الحدائق الغنَّاء: «ويلٌ لكِ أيتها القاعات المغرورة، أبدًا لن يتردد في أبهائك وتر، لن يصدح فيك غناء. لا لا، بل أصوات الآهات والحسرات وخطوات عبيد، حتى تدوسك روح الانتقام وتحولك إلى عفن ورماد.
ويل لك أيتها الحدائق المعطرة في ضوء الربيع البديع، ها أنا ذا أريك الوجه المشوه لهذا الميت الحبيب، حتى تجف أوراقك وأشجارك، وينضب كل نبع فيك، وتتحجري في مستقبل الأيام، وتتحولي إلى صحراء يباب.
ويل لك أيها القاتل الملعون، أنت يا لعنة الغناء والمغنِّين، ليذهب أدراجَ الرياح كلُّ كفاحك للحصول على أكاليل المجد الدموي، ليُنسَ اسمُك، وَلْيغُصْ في أعماق الليل الأبدي، وليتبدد في الخلاء كحشرجة الاحتضار الأخير.»
نادى العجوز واستجابت السماء للنداء؛ فتداعت الجدران والأسوار، وخربت الأبهاء، وبقي عمود عالٍ يشهد على الأبهة الزائلة، بل إن هذا العمود يمكن أن يتهاوى بين ليلة وضحاها.
(٨) إبيكوس وأسراب الكركي
– «مرحبًا بك أيتها الأسراب الودودة التي نعمتُ بصحبتها، حتى بلغت شواطئ البحر. كم أتفاءل بك، وأحس بأن قدري يشبه قدرك. فكلانا بدأ سفره من مكان بعيد، وراح يتوسل للآلهة أن تظله بسقف يحميه. فَلْيتلطف بنا المضيف الذي نلبِّي دعوته، هذا المضيف الذي يرعى الغريب ويذود عنه الذل والعار.»
هكذا راح يغذُّ خُطاه وهو منتشٍ ومنتعش، حتى وجد نفسه في قلب الغابة، هنالك سدَّ عليه الطريق فجأةً مجرمان قاتلان. اضطره الموقف أن يتأهب للقتال، ولكن سرعان ما سقطت يده هامدة باردة، يده التي تدرَّبت على أوتار القيثار، ولم يحدث لها أبدًا أن شدت قوسًا ولا أطلقت سهمًا.
أخذ يستغيث بالبشر وبالآلهة، لكنَّ ضراعته لم تصل لأحد يمكن أن ينقذه، ومهما صرخ وصاح بأعلى صوت، فما من مخلوق حي يلمحه البصر في هذا المكان: «آه! قُضِي عليَّ أن أموت هنا وحيدًا مهجورًا، هنا على أرض غريبة لا يبكيني فيها أحد. آه! كُتِب عليَّ أن أهلك هنا بأيدي أشقياء أشرار، حيث لا يظهر شبح إنسان ينتقم لي.»
تهاوى ساقطًا على الأرض متأثرًا بجرحه الشديد، بينما كانت أجنحة أسراب الكركي ترف وترفرف من فوقه، واستطاع أن يسمع — بعد أن صار عاجزًا عن الرؤية — الأصوات القريبة تتنادى وتتصايح في أذنَيْه: «أنتِ أيتها الكراكي الحبيبة، لترفعي أنتِ — حين يصمت كل صوت آخر — صوتَ الشكوى والتظلُّم من جريمة قتلي.» ولم يكد هذا الأنين يتسرَّب من بين شفتيه حتى انطفأ نور بصره، وأغمض عينيه.
تم العثور على جثته العارية، ومع أن وجهه تشوَّه من أثر الجروح التي أصابته، فقد استطاع مضيفه وصديقه الكورنثي، الذي دعاه للمشاركة في المهرجان، أن يتعرَّف على ملامحه العزيزة على قلبه: «كيف تحتَّم عليَّ أن أراك على هذه الصورة؟ أنا الذي كنت آمل أن أضع إكليل الغار على رأسك بعد أن تنتهي من الغناء، ويتوهَّج وجهك هذا ببريق المجد الساطع.»
شعر كل الضيوف — الذين تجمَّعوا في الاحتفال بأعياد بوزيدون — بالأسى والغضب عند سماعهم بالنبأ الحزين، بل إن بلاد الإغريق بأكملها قد غمرها الألم الفظيع، وأحسَّ كل قلب بأنه قد فقد عزيزًا عليه. اندفعت حشود الشعب الغاضبة إلى بيت الحاكم مُطالِبةً بالانتقام للقتيل والتكفير عن تلك الجريمة بسفك دماء القَتَلة المذنِبين.
لكن كيف يمكن العثور على أثرٍ واحد يدل على الآثِم البغيض وسط زحام الجماهير المتدفقة التي جذبتها روعةُ الاحتفالات والألعاب؟ هل كان القاتل أو كان القَتَلة من اللصوص؟ أم فعل الفعلة الشنعاء عدوٌّ خفيٌّ يحسد أمير الغناء؟ لا أحد يمكنه أن يقول الحقيقة سوى هيليوس (إله الشمس) الذي ينشر ضياءه على كل ما هو أرضي.
مَن يدري إن كان الآثِم ينقل الآن خُطاه الوقحة وسط حشود الإغريق؟ مَن يدري إن كان يجني ثمار جريمته الشنعاء في الوقت الذي تلاحقه فيه آلهة الانتقام؟ بل لعله يقف على أعتاب معبد الآلهة متحديًا لها، ويحشر نفسه بوقاحة وسط أمواج البشر التي تتدفَّق حشودها نحو المسرح.
ها هم المتفرجون يجلسون على المقاعد متلاصقين في الزحام الشديد، الذي توشك بسببه أن تنهار أعمدة الخشبة، وشعوب الإغريق لا تنفك تتوافد جموعها من بعيد ومن قريب، لتقف هناك منتظرةً بدايةَ العروض. وتفور حشودهم وتمور كأمواج البحر الجيَّاش بالبشر، بحيث يمتد القوس المترامي بالمسرح وبالناس ليلتحم بالأفق الأزرق للسماء.
ويظهر أفراد الجوقة قادمين من الخلفية، وعلى وجوههم ترتسم أمارات الجدية والجلال والإحكام التي تقضي بها التقاليد العريقة، وبخطواتٍ بطيئة ومتزنة يتجوَّلون ذهابًا وجيئةً في ساحة العرض. لا، ليست مغنيات الجوقة من نسل البشر، ولم ينجبهن إنسان فانٍ. أجل، إن أجسامهن شامخةُ القوام لتفوق مقاييس البشر الأرضية.
إن المعاطف السوداء لترف حول خصورهن، وأيديهن النحيلة المعروقة تؤرجح الوهج المحمر المعتم للمشاعل التي يحملنها، حتى لتبدو خدودهن وقد غابت عنها الدماء. وحيثما رفَّت خصلات شعورهن حول الجباه خُيِّل للمتفرجين أنها حيَّات وأفاعٍ منتفخة البطون، ومتخمة بالسم.
«طوبى للأبرياء من كل ذنب وخطيئة. طوبى لمَن يحافظ على طهارة الروح وطفولتها النقية، أولئك الذين لا يحق لنا أن نفكِّر في الانتقام منهم؛ لأنهم يسيرون في حياتهم على الطريق المستقيم، لكنْ ويلٌ لمن تسلَّل كاللص، وارتكب جريمته الشنعاء. سوف نتعقَّب آثارَه ونسلِّط عليه نسل الليل المخيف.
وإذا سوَّلت له نفسه أن يفر ويهرب، فسوف تطارده حشودنا المجنَّحة، وتُلقِي عليه الحبال التي تلتفُّ حول قدمَيه، ويسقط منهارًا على الأرض. هكذا نلاحقه بلا كلل ولا نقبل منه الندم على فعلته، ثم نتعقَّبه حتى يغيب في مملكة الظلال، وهناك أيضًا لا نرحمه، ولا نغفل عنه.»
هكذا ردَّدت الجوقة النشيد، ثم أدت رقصتها، وخيَّم على المكان كله سكون أشبه بصمت الموت، وكأن روحًا إلهية تقترب منه، وتجوب أنحاءه. وكما جرى العُرف واقتضت التقاليد القديمة، أخذ أفراد الجوقة يذرعون خشبةَ المسرح بخطواتٍ بطيئة محسوبة، وذلك قبل أن يختفي الجميع في الكواليس الخلفية.
وبين الوهم والحقيقة أخذت المخاوف والظنون توسوس في الصدور التي بدأت تنتفض وتبتهل للقوة المخيفة التي تحرس العدالة، وتصرف في الخفاء حكم القضاء، وتنسج عقدة الأقدار المظلمة بطريقةٍ تستعصي على كل محاولة لفهمها وسبر غَوْرها، وإن كانت تعلن عن سرها للقلوب العميقة، وتهرب دائمًا من نور الشمس.
وفجأةً يُسمَع من أعلى درجات المسرح صوتٌ يهتف وينادي: «انظر، انظر هناك يا تيموثيوس، انظر إلى كراكي إبيكوس.»
وفي لمح البصر تُظلِم السماء، وتتطلَّع الأنظار لأعلى المسرح، فترى أسرابًا سوداء من طيور الكركي تمر فوق الرءوس في موكبٍ كثيف.
«إبيكوس، يا له من اسم غالٍ يجدِّد الحزن والكمد في كل صدر، وكما تتدافع الأمواج موجةً في إثرِ موجة في البحر، كذلك يسري الاسم بسرعةٍ من فم إلى فم.
أليس هو إبيكوس الذي نبكيه؟ أليس هو الذي قضت عليه يدُ قاتلٍ غادر؟ ما الذي أجرى الاسم على اللسان؟ ما معنى أن يُذكَر هذا الاسم الآن؟ وما هو السر وراء موكب الكراكي السوداء؟»
ولا تفتأ الأصوات ترتفع شيئًا فشيئًا بالسؤال، ويتطاير هذا التحذير كومض البرق أو الصاعقة من قلبٍ إلى قلب.