عرس في حقل القمح الملغوم
(١) أجراس إيرفورت
أجراس كنيسة إيرفورت، التي صُبَّت من المدافع التي كان يطلقها الجنود الفرنسيون على الجنود الألمان.
هذه الأجراس كانت في حرب السبعين، هي المدافع التي استولى عليها الألمان، وتبرَّع بها القيصر لتكون أجراسًا تتوِّج الكنيسة.
كانت تدق وكأن الحديد قد انصهرت فيه بقوةِ هزيمةِ العدو التقليدي القديم مع مجد ألمانيا وشرفها.
وعندما نشب الصراع من جديد في عام ألف وتسعمائة وأربعة عشر، تحوَّلت الأجراس إلى مدافع، وذلك في الجانب الألماني.
هكذا تم صهرها وصبها في مواسير حارقة راعدة، تحوَّل المصلون إلى جنود، والحرب … الحرب انتهت بالهزيمة.
ومع ذلك استطاع الألمان أن يغنموا مدافع فرنسية، من حديدها صُبَّت أجراس، راحت تدق من جديد في إيرفورت داعيةً الإله الألماني في تضرُّع أثناء الصلاة أن يقود بفضله الشعبَ الألماني في الحرب التي سيشنُّها للانتقام.
وجاء هتلر فأقسم على ذلك، ولكن بنغمة مختلفة؛ ففي عام ألف وتسعمائة وتسعة وثلاثين نادى بالتعبئة العامة للأجراس.
وتحوَّلت أجراس إيرفورت من جديد إلى مدافع، وانطلقت الحشود الشقراء لمحارِبة العالَم كله.
(٢) عرس في حقل القمح
ولما كانت الساعة تدق دقات منتصف الليل، من القرية المجاورة، فقد وقف أمامها في سترة رمادية قاتمة، مستندًا إلى بندقيته.
رأته على ضوء القمر الشاحب، بردائه المثقوب بالرصاص، كان وجهه فاقدَ الحياة ويداه شمعيتَيْن.
وقفا صامتَين في حقل القمح، وراحا ينظران إلى بعضهما؛ لأن أحدًا منهما لم يستطع أن يعبِّر بالكلمات عن ألمه العميق.
وقفا ساعة كاملة، ولم يقولا كلمة واحدة؛ لأن الكلمات عندما تقترب من شفاههما تحتبس في الحلوق وتجف.
والقمر الذي يُلقِي بالظلال الطويلة، يسبِّح في مهب الريح الباردة، يجرُّ معه ظلَّيْهما فيندمجان في ظلٍّ واحد.
ولما كان الظلان يتزاوجان، في ليلة العُرْس الناصعة، خُيِّل لعروس الجندي الشابة، كأنَّ حبيبها يضحك ضحكةً صافية.
ثم رأت يد الميت التي تدلَّت نحو الأرض، ترتفع ببطء وتطوِّقها، كأنها خاتم حديدي.
وفجأةً نطق الفم المتجمد، وقال لها: «تعالي نتمشَّى يا أحب الناس، طالما القمر يحمينا، وعيوننا ترى النجوم.»
سارا فوق حقل القمح، الذي جرفته الدبابات، الحقل الذي رواه الدم، وسمدته الأذرع والسيقان، ورطبته أنفاس الموت.
قال الميت: «انظري يا حبيبتي، هذا الحقل البور. آه، كم من الزمن مضى على هذا؟! قد زرعته يداي.
كنتِ واقفة هناك، حيث يهبط القمر الآن وراء السحب، هل ما زلت تذكرين؟ عندها أشرتِ إليَّ.»
تنصت العروس وتصمت وتشعر بالذراع التي تطوِّق جسدها باردةً كالثلج، في ليلة عرسها، بينا هي الآن زوجته.
راحت تخطو بجواره مشدودةَ القوام، تحس بأن قلبها ثقيل ثقيل، وهو بجانبها يخبط الأرض بقدميه، متوكئًا على سلاحه الصدئ.
لما رآها غارقةً في الصمت، بدأ هو الكلام. قال لها: «هل تعلمين يا حبيبتي أنني زرعت الألغام في هذا الحقل الذي نمَتْ فيه سنابل القمح؟
كانت هذه الألغام حبوبًا غير عادية، دُفِنت في باطن الحُفَر، وأنا الذي زرعتها بيدي، حصدت ثمارها في اليوم التالي.
كنت راقدًا في حفرةٍ خلف الطريق، في مخبأ مأمون، فكَّرت في تلك اللحظة، ثم اكتشفت أن فكرتي جاءت بعد فوات الأوان.
جاءت دبابات تتبعها دبابات ودبابات، في أعدادٍ لا تُعَد ولا تُحصى، زحف بالقرب مني جبلٌ مهول، من الغبار والصلب والحديد.
سحق كل ما لم يستطع أن يلوذ بالفرار، ودفنه في الأرض الرخوة، شعرت برئتي تُنتزع من صدري، وترتفع في اتجاه القمر.
كانت الحرب بالنسبة إليَّ قد انتهت، وكذلك انتهى السلام وضاع. هل يسعدك يا حبيبتي الغالية أنني حضرت اليوم إليك؟
أنا الآن بطل، بطل يا صغيرتي، بطل كما أردت وتمنيت. أنتِ التي أشرتِ عليَّ أن أتطوَّع في الحرب قبل الأوان.
والأب قال: نريد أراضي زراعية. وأنت يا حبيبتي، أنت قلت لي: ارجع وعلى صدرك الوسام.
(٣) سكاجيراك٥
تذكَّروا الحمَّالين من سكاجيراك، لقد اختنقوا في الدم، اختنقوا في الوحل، غرقوا مع سفينتهم العتيقة. والبحر … البحر جرفهم بعيدًا. لأجل أي شيء؟
عشرة آلاف ماتوا، سقطوا في أعماق البحر، عشرة آلاف فتحوا أفواههم الشاحبة: «لأجل أي شيء قد سقطنا ميتين؟ في سبيل أي شيء؟ لأجل شيء ليس بالكثير، لأجل شيء ليس بالكثير! فالسادة راحوا يمارسون لعبتهم، في قاعات البورصة الشاسعة. لأجل هذا قد سقطنا ميتين.»
العاصفة تنوح وتعول في سكاجيراك، تجلد أمواج البحر فتفور عالية. والحمَّالون، الحمَّالون في قبورهم المبتلَّة، يريدون أن يبعثوا إلينا برسالة؛ إنهم يطالبون بصليب، إنهم يحذِّروننا جميعًا، ويطالبوننا بأن نكون حَذِرين، هؤلاء الحمَّالون.
البحر تزبد أمواجُه على شواطئ سكاجيراك، والحمَّال يزحف من غمار القذر والغائط، ينزل من سفينته العتيقة المثقوبة، ويعرض علينا محنةَ ولده. في سكاجيراك، في سكاجيراك، يزحف الحمَّالون.
(٤) مأساة في أفغانستان
الثلج المغبر يتساقط من السماء، وأحد الفرسان يقف على أبواب «جلال أباد» — «مَن هناك؟» — «فارس بريطاني، يحمل معه رسالة من أفغانستان.»
«أفغانستان!» قلها بصوتٍ خافتٍ شديد الإرهاق. تزاحَمَ نصف أهالي المدينة حول الفارس، وتقدَّم حاكمها السير روبرت سيل فمدَّ له يده، وأنزله من على الحصان.
قادوه إلى بيت الحراسة الحجري، أجلسوه أمام الموقد. كم تدفئه النار! كم ينعشه الضوء! وها هو يتنفس الصعداء ويشكرهم، ثم يقول: «كنا ثلاثة عشر ألف رجل، وبدأنا الزحف من كابول؛ جنود، وقوَّاد، ونساء وأطفال، نحن جميعًا رحنا ضحيةَ الهزيمة والخيانة.
تبدد جيشنا كله، ومَن بقي حيًّا يجوب الآن أرجاءَ الليل في ضَياع وضَلال. إذا كان الله قد مَنَّ عليَّ بنعمة الإنقاذ، فانظروا أنتم إن كان بوسعكم إنقاذ البقية الباقية.»
صعد السير روبرت سيل على سور الحصن، تبعه الضباط والجنود أجمعون. قال السير روبرت: «الثلج يتساقط بكثافة، الذين يبحثون عنا لا يمكنهم أن يعثروا علينا، فهم ضالُّون كالعميان، وإن كانوا قريبين منا، أسمِعُوهم إذن ليشعروا أننا موجودون، غنوا أغنية في حب الوطن والبيت. وأنتم أيها النافخون في الأبواق، اجعلوها تتردَّد في آفاق الليل البهيم.»
عندئذٍ بدءوا النفخ في الأبواق دون كلل أو إرهاق. تردَّدت في الليل أصواتُ الأغاني واحدةً بعد الأخرى. عزفوا في البداية أغاني إنجليزية ذات ألحان بهيجة، ثم أتبعوها بأغاني المرتفعات التي تشبه الأنين.
طفقوا يعزفون ويغنون طوال الليل وطوال النهار، وتردَّدت أصوات النداء العالية مشحونةً بالحب والحنان. ظلوا ينفخون في الأبواق وينشدون، حتى هبطت الليلة التالية. عبثًا تنادون أيها المغنون وعبثًا تسهرون.
(٥) حكاية الجندي الميت
١
ولما دخلت الحرب في ربيعها الرابع، ولم تبشِّر بالسلام، اتخذ الجندي موقفه القاطع، ومات مِيتة الأبطال.
٢
لكن الحرب لم تكن قد انتهت؛ لهذا شعر القيصر بالحزن؛ لأن جنديَّه قد مات؛ إذ بدا له ذلك قبل الأوان.
٣
الصيف زحف فوق القبور، والجندي راح في نومه، وذات ليلة أقبلتْ بعثةٌ عسكرية طبية.
٤
مضت البعثة الطبية إلى حقل الله البعيد، وبالمعول المبارك نبشَتْ جثمانَ الجندي الصريع.
٥
الطبيب فحص الجندي بدقة، أو على الأصح ما بقي منه، والطبيب وجد أن الجندي لائقٌ للخدمة، وخاف على نفسه من المسئولية.
٦
وعلى الفور أخذوا الجندي معهم، وكان الليل أزرق جميلًا، ومَن لم يضع الخوذة على رأسه استطاع أن يرى نجوم الوطن.
٧
دلقوا جرعة نارية من الكونياك في جسده العَفِن، وعلَّقوا ممرضتَين في ذراعَيْه وامرأةً نصف عارية.
٨
ولأن الروائح العَفِنة تنبعث من الجندي؛ فقد سار في المقدمة قسيس، يهز فوقه مبخرة؛ لكيلا تنتشر رائحته الكريهة.
٩
في المقدمة ترن الموسيقى تشندرارا، تعزف مارشًا مرِحًا ولطيفًا، والجندي — كما تعلَّمَ أثناء حياته — يقذف ركبتَيْه بعيدًا عن مؤخرته.
١٠
وحوله يلفُّ ذراعَيْهما ممرِّضان صحيان، حتى لا يسقط منهما في الوحل، وهو شيء لا يصح أن يكون.
١١
لوَّنوا كفنَه بالأسود والأبيض والأحمر، وأخذوا يلوِّحون به أمامه، ولم تَعُد العين من زحمة الألوان تستطيع أن ترى الغائطَ المتساقط منه.
١٢
وسار في المقدمة مشدودَ الصدر، رجلٌ في سترة رسمية سوداء، كان كرجل ألماني، يدرك واجبَه تمام الإدراك.
١٣
هكذا أخذوا على أنغام التشندرارا يهبطون الطريق المعتم، والجندي يترنح معهم، كنتفة الثلج في العاصفة.
١٤
القطط والكلاب تصرخ، وفي الحقل تصفِّر الجرذان، حتى لا يُظَن أنهم فرنسيون؛ لأن هذا عار عليهم.
١٥
وعندما مرَّوا بالقرى، كانت النساء كلهن هناك، الأشجار تُحنِي رءوسَها، والبدر طالع والكل يصيح: «هورا!»
١٦
بالتشندرارا وإلى اللقاء، والنساء والكلاب والقسيس، والجندي الميت في الوسط، كأنه قرد يتطوَّح سكران.
١٧
وعندما مروا بالقرى، لم يستطع أحد أن يراه. كثيرون كانوا مُلتفِّين حوله، وهم يصيحون «تشندرارا» و«هورا».
١٨
كثيرون رقصوا وهلَّلوا له، فما استطاع أحد أن يراه. كان من الممكن أن يُرى من أعلى، ولم يكن فوقه إلا النجوم.