السيدة صاحبة الكلب
١
قيل إن وجهًا جديدًا ظهر على الكورنيش؛ سيدة تصحب كلبًا. أخذ دميتري ديميتريتش جوروف الذي وصل إلى يالطا منذ أسبوعين وأَلِف المكان، يهتم بالوجوه الجديدة هو الآخر. ورأى وهو جالس في جناح «فيرنيه» كيف مرَّت على الكورنيش سيدة شابة، شقراء، متوسطة القامة، تضع على رأسها «بيريه»، ووراءها ركض كلب أبيض صغير.
ثم قابلها بعد ذلك في حديقة المدينة وفي المنتزه عدة مرات في اليوم.
كانت تتنزَّه وحدها، في نفس البيريه وبصُحبة الكلب الأبيض. ولم يعرف أحد من هي، فسَمَّوها ببساطة: السيدة صاحبة الكلب.
وفكَّر جوروف: «إذا كانت هنا بدون زوجها وبدون معارف، فلا بأس من التعرُّف إليها.»
كان يظن أن تجربته المُرة قد علَّمته بما يكفي لكي يسمِّيهن كما يشاء، ومع ذلك فبدون «الجنس المنحط» لم يكن ليستطيع أن يعيش يومين اثنين؛ كان يشعر بين الرجال بالملل والضيق، وكان معهم قليل الكلام، باردًا، ولكنه عندما يُصبح وسط النساء يُحس بالحرية ويعرف عمَّا يتحدث معهن وكيف يتصرَّف، وحتى الصمت كان سهلًا عليه. كان في مظهره وخلقه، وفي طبيعته كلها شيء ما جذاب خفي، يستميل إليه النساء ويستهويهن. وكان يعرف ذلك، وهو أيضًا، كانت قوةٌ ما تشده إليهن.
وقد علَّمته التجارب العديدة، والمريرة حقًّا، منذ زمن بعيد، أن كل تقارُب، إذ يجعل الحياة في البداية أكثر تنوُّعًا وبهجةً ويمثِّل مغامرةً لطيفة خفيفة، لا بد أن يتحوَّل لدى الأشخاص القويمي السلوك وخاصةً أهالي موسكو، البطيئي الحركة، المتردِّدين، إلى مسألة كبيرة معقَّدة للغاية، ويصبح الوضع في النهاية مرهقًا. ومع ذلك فلدى كل لقاء جديد بامرأة جذابة كانت هذه التجارب تغيب بصورة ما عن ذاكرته، وتُراوده الرغبة في الحياة ويبدو كل شيء بسيطًا ومسليًا.
وذات مرة، قُبيل المساء، كان يتغدَّى في الحديقة، واقتربت السيدة ذات البيريه على مهل لكي تشغل الطاولة المجاورة. وأنبأه تعبير وجهها، ومِشيتها، وفستانها، وتسريحتها، أنها من وسط محترم، متزوجة، وفي يالطا لأول مرة، وبمفردها، وأنها تشعر بالملل هنا … كان في الأقاصيص التي تُروى عن فساد الأخلاق المحلية الكثير من الكذب، وكان يحتقرها ويعلم أن مثل هذه القصص، في أغلبها، يؤلِّفها أشخاص لو كان بمقدورهم لارتكبوا الآثام عن طِيب خاطر. ولكن عندما جلست السيدة إلى الطاولة المجاورة، على بُعد ثلاث خطوات منه، تذكَّر تلك القصص عن الانتصارات السهلة والرحلات إلى الجبال، وسيطرت عليه فجأةً فكرة مُغرية عن علاقة قريبة عابرة، عن قصة غرام مع امرأة مجهولة لا يعرف اسمها.
ودعا الكلب إليه بلطف، وعندما اقترب منه رفع إصبعه مهدِّدًا، فنبح الكلب مُغضَبًا، وهدَّده جوروف ثانية.
ونظرت إليه السيدة وخفضت بصرها على الفور، وقالت: إنه لا يعض.
وتضرَّجت وجنتاها.
– هل يمكن أن أعطيه عظمة؟ وعندما هزَّت رأسها موافِقةً سألها ببشاشة: هل وصلتِ إلى يالطا منذ مدة طويلة؟
– منذ خمسة أيام.
– أمَّا أنا فأُجرجر الأسبوع الثاني هنا.
وصمتا قليلًا. ثم قالت دون أن تنظر إليه: الوقت يمضي بسرعة، ومع ذلك فما أشدَّ الملل هنا!
– إنها مجرد عادة أن يقال إن المكان هنا ممل. ولكن الواحد من هؤلاء يعيش في بيته، في مكان ما في بليوف أو جيزدر، دون أن يشعر بالملل، وما إن يأتي إلى هنا حتى يقول: «آه يا للملل! يا للتراب!» حتى لتظن أنه جاء من غرناطة.
وضحكت. ثم واصلا الأكل في صمت كشخصَين لا يعرفان بعضهما، ولكن بعد الغداء سارا متجاورَين، وبدأ بينهما حديث مازح خفيف، حديث أُناس أحرار، راضين، سِيَّان لديهم إلى أين يمضون وعمَّا يتحدَّثون، ومضيا يتنزَّهان ويتحدَّثان عن غرابة إضاءة البحر؛ فقد كان لون المياه بنفسجيًّا، ناعمًا ودافئًا، وامتدَّ عبرها من القمر شريط ذهبي. وتحدَّثا عن الجو الخانق بعد يوم حار. وأخبرها جوروف أنه من موسكو، وأنه خريج كلية الآداب ولكنه يعمل في بنك، وكان في وقتٍ ما يستعد للغِناء في أوبرا خاصة، ولكنه ترك ذلك، ويملك في موسكو منزلين … وعرف منها أنها نشأت في بطرسبورج ولكنها تزوَّجت في مدينة «س»؛ حيث تعيش منذ عامين، وأنها ستقضي في يالطا حوالي شهر، وربما يأتي في أثرها زوجها الذي يريد أيضًا أن يستريح. ولم تستطع قَط أن توضِّح أين يعمل زوجها؛ في إدارة المحافظة، أم في إدارة الإقليم، وضحكتْ هي نفسها من ذلك. وعرف جوروف أيضًا أن اسمها آنا سرجييفنا.
وبعد ذلك فكَّر فيها وهو في غرفته بالفندق، وفي أنها ربما تقابله غدًا. هكذا ينبغي أن يكون … وعندما أوى إلى الفراش تذكَّر أنها منذ فترة قريبة كانت طالبة؛ كانت تدرس كما تدرس ابنته الآن؛ وتذكَّر كم كان في ضحكها وحديثها مع رجل غريب من تَهيُّب وارتباك. لا بد أنها المرة الأولى في حياتها التي تبقى فيها وحدها وفي وضع كهذا، عندما يغازلونها، ويتطلَّعون إليها ويتحدَّثون معها بهدف خفي واحد، لا يمكن إلا أن تحدسه. وتذَكَّر عُنقها الرقيق الضعيف، وعينَيها الرماديتين الجميلتين.
وفكَّر جوروف وهو يستسلم للنوم: «هناك شيء ما فيها يثير الشفقة مع ذلك.»
٢
مرَّ أسبوع منذ تعارفهما. وكان يوم عيد. كان الجو في الغرف خانقًا، وفي الشوارع ثارت دُوامات الغبار، وطيَّرت الريحُ القبعات. واستبدَّ بهما الظمأ طول النهار؛ فكان جوروف يدخل الجناح كثيرًا ويعرض على آنا سرجييفنا شراب عصير الفواكه تارة، والآيس كريم تارةً أخرى. ولم يكن ثمة مكان يُلجأ إليه.
وفي المساء، عندما هدأ الجو قليلًا، ذهبا إلى حاجز الأمواج ليُشاهدا مجيء السفينة. وكان في الميناء كثير من المتنزِّهين، وقد جاءوا لمقابلة أشخاص ما، وحملوا في أيديهم الزهور. وهنا تبدَّت بوضوح خَصِيصتان تُميِّزان جمهور يالطا المتأنق؛ فقد كانت النساء الكبيرات السن متزينات كالشابات، وكان هناك جنرالات كثيرون.
وبسبب اضطراب البحر وصلت السفينة متأخرة، بعد غروب الشمس، ودارت مدة طويلة قبل أن ترسو على الحاجز. وتطلَّعت آنا سرجييفنا عبر العُوينات إلى السفينة والركاب وكأنها تبحث عن معارف، وعندما كانت تخاطب جوروف تلمع عيناها. تكلَّمَت كثيرًا، وكانت أسئلتها مقتضبة، وكانت تنسى على الفور عمَّا سألت. ثم فقدت عُويناتها في الزحام.
وتفرَّق الجمهور المتأنق، ولم تعد الوجوه تبين، وهدأت الريح تمامًا، بينما ظل جوروف وآنا سرجييفنا واقفَين وكأنما ينتظران أن يهبط أحد آخرُ من السفينة. كانت آنا سرجييفنا الآن صامتة، تشم الزهور دون أن تتطلَّع إلى جوروف.
وقال جوروف: الجو في المساء صار أفضل. إلى أين سنذهب الآن؟ هلَّا رحلنا إلى مكان ما.
ولم تردَّ بشيء.
عندئذٍ نظر إليها مليًّا واحتضنها فجأة، وقبَّلها في شفتيها، فهبَّت عليه رائحة الزهور ورطوبتها، وعلى الفور تلفَّت حوله بخوف: ألم يرهما أحد؟
ودمدم بصوت خافت: فلنذهب إليكِ.
وانصرفا بسرعة.
كان الجو في غرفتها خانقًا، وتضوَّعت فيه رائحة العطر الذي ابتاعته في المتجر الياباني. وفكَّر جوروف وهو ينظر إليها الآن: «ما أكثر ما يحدث في الحياة من لقاءات!» لقد بقيَتْ لديه من الماضي ذكرى نساء خاليات البال، طيبات، مرحات من الحب، ممتنات له على السعادة التي منحها إياهنَّ وإن تكن قصيرة. ونساء — مثل زوجته — أحببن بلا صدق وبثرثرة كثيرة وحركات مفتعلة وهستيريا، وبتعبير على الوجه، كأنما لم يكن ذلك حبًّا أو شهوة، بل شيء أهم بكثير … وامرأتان أو ثلاث، بارعات الجمال، باردات، كان يطوف بوجوههن فجأةً تعبير جشع ورغبة عنيدة في أن يأخذن، ويختطفن من الحياة أكثر ممَّا تستطيع أن تعطي، وكنَّ نساءً مضى شبابهن، نَزِقات، غير مفكرات، متسلطات، غير ذكيات، وعندما كان جوروف يشعر بالبرود نحوهنَّ كان جمالهنَّ يُثير فيه الكراهية، وتبدو له الدانتلا على ملابسهنَّ الداخلية أشبه بقشر السمك.
أمَّا هنا فتلك الهيبة والارتباك لشباب غير مُحنك، والشعور بالخجل، وساد انطباع بالحرج كأنما طرقٌ أحدهم الباب فجأة، ونظرت آنا سرجييفنا، هذه «السيدة صاحبة الكلب»، إلى ما حدث نظرةً خاصة، وبجدية شديدة، وكأنما كان في ذلك سقوطها. هكذا خُيل لجوروف، فبدا له ذلك غريبًا وغير مناسب. تهدَّلت قسماتها وذبلت، وتدلَّت على صفحتَي وجهها خصلات شعرها الطويل بصورة حزينة، واستغرقت آنا سرجييفنا في التفكير بكآبة، فبدت في ذلك الوضع كالخاطئة في لوحة قديمة.
وقالت: هذا ليس حسنًا. إنك الآن أول من لا يحترمني.
وكان على المائدة في الغرفة بطيخة، فشقَّ جوروف قطعةً وراح يأكلها على مهل. ومَر ما لا يقل عن نصف ساعة وهما صامتان.
كانت آنا سرجييفنا مؤثرة، وانبعث منها طهارة المرأة القويمة، الساذجة التي لم تَخبُر الحياة بعد. وكانت الشمعةُ الوحيدة المشتعلة على الطاولة لا تكاد تضيء وجهها، بَيدَ أنه كان واضحًا أنها تعاني عذابًا داخليًّا.
وسألها جوروف: ولماذا أكف عن احترامك؟ أنت لا تدرين ما تقولين.
فقالت وعيناها تمتلئان بالدموع: فليغفر لي الله. هذا فظيع.
– كأنما تبحثين عن تبرير.
– وكيف أُبرِّر ذلك؟ إنني امرأة سيئة، منحطة. إنني أحتقر نفسي ولا أفكِّر في المبرِّرات. أنا لم أخدع زوجي بل خدعت نفسي. وليس الآن فحسب، بل منذ زمن بعيد وأنا أخدعها. ربما كان زوجي رجلًا شريفًا، طيبًا، ولكنه خادم. أنا لا أعرف ماذا يفعل ولا كيف يخدم، ولكن أعرف فقط أنه خادم. كنت في العشرين من عمري عندما تزوَّجته، وكان الفضول يؤرِّقني وكنت أتوق إلى شيء ما أفضل. كنت أقول لنفسي: هناك حياة أخرى حقًّا. كنت أريد أن أعيش وأعيش وأعيش … كان الفضول يُلهبني … إنك لا تُدرك ذلك، ولكني أقسم لك، لم أعد أستطيع السيطرة على نفسي، كان هناك شيء ما يحدث لي، ولم يعد من الممكن لقوة أن تُبقيني، فقلت لزوجي إنني مريضة وسافرت إلى هنا … وها أنا ذا قد أصبحتُ امرأةً مبتذلة، ساقطة، بوسع أي شخص أن يحتقرها.
كان جوروف قد ملَّ السماع، وأحنقته هذه النبرة الساذجة، وهذا الندم المفاجئ وغير المناسب. ولولا الدموع في عينَيها لظن أنها تمزح أو تؤدِّي دورًا.
وقال بصوت خافت: أنا لا أفهم، ماذا تريدين؟
ودفنت وجهها في صدره والتصقت به. وقالت: صدِّقني، صدِّقني أتوسَّل إليك … إنني أحب الحياة الشريفة، الطاهرة، أمَّا الخطيئة فكريهة علي. أنا نفسي لا أدري ما الذي أفعله. البسطاء يقولون: الشيطان أضلَّنا، وبوسعي الآن أن أقول عن نفسي: لقد أضلَّني الشيطان.
فدمدم جوروف: كفى، كفى …
وتطلَّع إلى عينَيها الجامدتين المفزوعتين، وقبَّلها، وراح يتحدَّث بصوت خافت وبِرِقة فهدأتْ شيئًا فشيئًا، وعاد إليها المرح. أخذ كلاهما يضحك.
وعندما خرجا إلى الكورنيش فيما بعد، لم يكن هناك أحد، وبدت المدينة بأشجار السرو ميتةً تمامًا، لكن البحر ظل يصخب ويضرب الشاطئ، وتراقص على الأمواج زورق وحيد وعليه مصباح يومض ناعسًا.
ووجدا حوذيًّا ورحلا إلى أورياندا.
وقال جوروف: لقد عرفتُ اسم عائلتك عندما كنا في المدخل، كان مكتوبًا على اللوحة: فون ديدريتس. هل زوجك ألماني؟
– كلا، جده كان ألمانيًّا على ما أظن، أمَّا هو فروسي أرثوذوكسي.
وفي أورياندا جلسا على أريكة، غير بعيد عن الكنيسة، وتطلَّعا إلى البحر في الأسفل وهما صامتان. كانت يالطا تلوِّح بالكاد من خلال ضباب الصباح، وعلى قمم الجبال استقرَّت السحب البيضاء بلا حراك. وسكنت أوراق الشجر وأزَّت زيزان الحصاد، أمَّا صخب البحر الرتيب المكتوم المتناهي من أسفل فكان يتحدَّث عن السكينة والكرى الخالد الذي ينتظرنا. هكذا كان البحر يصخب في الأسفل عندما لم تكن هناك يالطا وأورياندا، وهكذا يصخب الآن، وسوف يصخب في المستقبل بنفس اللامبالاة والصوت المكتوم عندما لا نعود على قيد الحياة. وفي هذه الاستمرارية، في هذه اللامبالاة التامة حيال حياة كلٍّ منا وموته، ربما يكمن ضمان خلاصنا الأبدي، ضمان حركة الحياة المستمرة على الأرض، والرقي المستمر. وفكَّر جوروف وهو جالس بجوار امرأة شابة، بدت في الفجر على هذه الصورة من الجمال، مستكنَّ النفس، مفتونًا بهذا الجو الأسطوري: البحر والجبال والسحاب والسماء الرحبة … فكَّر في أن كل شيء رائع في هذا العالم حقًّا لو أمعَنا التفكير، كل شيء ما عدا ما نفكِّر فيه ونفعله عندما ننسى أسمى أغراض الوجود، وكرامتنا الإنسانية.
ومَر بجوارهما شخص ما، يبدو أنه حارس، وتطلَّع إليهما ثم انصرف. وهذه الحركة بدت أيضًا غامضةً وجميلة، ولاحت السفينة القادمة من فيودوسيا مطفأة الأنوار وقد أضاءها نور الفجر.
وقالت آنا سرجييفنا بعد صمت: الندى على العشب.
– نعم، فلنَعد.
وعادا إلى المدينة.
وبعد ذلك كانا يلتقيان كل ظُهر على الكورنيش، ويفطران معًا، ويتغديان ويتنزَّهان ويُعجَبان بالبحر. واشتكت له من أنها تنام نومًا سيئًا، وأن قلبها يدق بقلق، وكانت توجِّه إليه نفس الأسئلة وهي مضطربة من الغيرة تارة، وتارةً أخرى من خشية أنه لا يحترمها بما فيه الكفاية. وكثيرًا ما كان يحدث وهما في المنتزه أو الحديقة، وعندما لا يكون بقربهما أحد، أن يجذبها إليه فجأةً ويقبِّلها بشهوة. وهذا الفراغ المطلق، وهذه القبلات في وضح النهار مع التلفُّت والخوف من أن يكون أحد قد رآه، والحَر، ورائحة البحر والحركة الدائبة أمام عينيه لأناس غير مشغولين، متأنقين، شِباع، كأنما أعادت خلقه من جديد، فكان يقول لآنا سرجييفنا كم هي جميلة، وكم هي مغرية، وكان متلهفًا عليها ولم يفارقها خطوة واحدة، بينما كانت هي تستغرق في التفكير كثيرًا، وترجوه طوال الوقت أن يعترف بأنه لا يحترمها ولا يحبها أبدًا، بل لا يرى فيها سوى امرأة مبتذلة. وكانا كل مساء تقريبًا يرحلان في وقت متأخر إلى مكان خارج المدينة، إلى أورياندا أو الشلال. وكانت نزهاتهما موفقة، وفي كل مرة كانت الانطباعات دائمًا رائعة، ومهيبة.
وانتظرا أن يصل زوجها، ولكنها تلقَّت منه رسالةً يُخبرها فيها أنه مريض بعينَيه، وتوسَّل إليها أن تعود بسرعة. وعجلت آنا سرجييفنا بالرحيل وهي تقول لجوروف: حسن أنني أسافر. هذه مشيئة الأقدار.
ورحلت في عربة ورحل معها إلى المحطة ليوَدِّعها. وقطعا النهار كله في السفر. وعندما استقلَّت عربة القطار السريع ودق ناقوس المحطة للمرة الثانية قالت: دعني أتطلَّع إليك ثانية … مرةً أخرى. هكذا.
لم تبكِ، ولكنها كانت حزينة، وبدت كأنها مريضة، وكان وجهها يرتعش.
وقالت: سأفكِّر فيك … وأتذكرك. ابقَ في رعاية الله. لا تذكُرني بسوء. إننا نفترق إلى الأبد. هذا ضروري؛ لأنه ما كان ينبغي أن نلتقي. حسنًا، يرعاك الله.
ورحل القطار بسرعة، وسرعان ما غابت أنواره، وبعد دقيقة لم يعد ضجيجه مسموعًا، كأنما تآمر كل شيء عن عمد لإنهاء هذه الغيبوبة العذبة، وهذا الجنون بسرعة. وعندما أصبح جوروف وحده على الرصيف وهو يتطلَّع إلى الأفق المظلم، أخذ يُصغي إلى صرير الجنادب وأزيز أسلاك البرق بإحساس من استيقظ لتوه. وفكَّر في أنه ها هي ذي مغامرة قد مرَّت في حياته وانتهت، ولم يبقَ منها سوى الذكرى … كان متأثرًا وحزينًا، وأحسَّ بقليل من الندم؛ فهذه المرأة الشابة التي لن يراها أبدًا لم تكن سعيدة معه. كان لطيفًا وودودًا معها، ومع ذلك فقد كان في معاملته لها وفي لهجته وملاطفاته ظلٌّ من السخرية الخفيفة، وشيء من الاستعلاء الفظ لرجل سعيد، هو فوق ذلك أكبر منها مرتين. كانت تقول له طوال الوقت إنه طيب وغير عادي، وسامٍ. لقد بدا لها، فيما يظهر، على غير حقيقته في الواقع، وإذن فقد خدعها عن غير قصد.
وانتشرت في المحطة رائحة الخريف، وكان المساء باردًا.
وفكَّر جوروف وهو يغادر الرصيف: «وأنا أيضًا آن لي أن أرحل إلى الشمال. حان الوقت.»
٣
عندما عاد إلى بيته في موسكو كان كل شيء يسير كما في الشتاء، وأُوقدت الأفران. وفي الصباح، عندما يتهيأ الأطفال للمدرسة ويتناولون الشاي يكون الجو مظلمًا فتُشعل المربية الضوء بعض الوقت. وبدأت بوادر الصقيع. وعندما يهطل الثلج لأول مرة، وفي أول أيام استخدام الزحافات، تشعر بالسرور وأنت ترى الأرض البيضاء والأسقف البيضاء، ويُصبح الهواء أنقى وأروع، وفي هذه الأوقات تتذكَّر سنوات الصبا. وتكتسب أشجار الزيزفون والبتولا العجوز، البيضاء من الثلج، تعبيرًا بشوشًا؛ فهي أقرب إلى القلب من السرو والنخيل، ولا تراودك الرغبة بالقرب منها في التفكير في الجبال والبحر. كان جوروف موسكوفيًّا، وقد عاد إلى موسكو في يوم بارد صحوٍ، وعندما ارتدى معطف الفِراء والقفازَ الثقيل وتمشَّى في شارع بتروفكا، وعندما سمع مساء السبت رنين أجراس الكنائس، فقدت رحلتُه القريبة إلى الأماكن التي كان فيها كل سحرها بالنسبة له. وغاص شيئًا فشيئًا في حياة موسكو، وأصبح يقرأ بنَهَم ثلاث صُحُف يوميًّا ويقول إنه لا يقرأ صحف موسكو عن مبدأ. واجتذبته المطاعم والأندية ودعوات الغداء والحفلات اليوبيلية، وأصبح يشعر بالفخر لزيارة مشاهير المحامين والممثِّلين له، ولأنه يلعب الورق مع بروفيسور في نادي الأطباء. وأصبح بوسعه أن يأكل طبقًا كاملًا من «السليانكا» المحمَّرة.
وخُيل إليه أنه لن يمر شهرٌ حتى يغلِّف الضباب آنا سرجييفنا في ذاكرته، ولن تخطر له إلا نادرًا بابتسامتها المؤثرة كما خطرت من قبل أُخريات. ولكن مَر أكثر من شهر، وأوغل الشتاء، بَيْد أن كل شيء ظل واضحًا في ذاكرته وكأنما لم يفارق آنا سرجييفنا إلا بالأمس. وهاجت الذكريات أقوى وأشد. فما إن تتناهى إليه في مكتبه في هدوء المساء أصوات أطفاله وهم يحضرون الدروس، أو يُصغي إلى أغنية عاطفية أو إلى عزف الأورغن في مطعم، أو تَعوُّل الريح في مدخنة المدفأة، حتى ينبعث كل شيء حيًّا في الذاكرة: ما كان عند حاجز الأمواج، والصباح الباكر المضبَّب في الجبال، والسفينة القادمة من فيودوسيا، والقبلات. وكان يروح ويجيء طويلًا في الغرفة، ويتذكَّر ويبتسم. ثم تحوَّلت الذكريات إلى أحلام، واختلط في خياله ما حدث بما سوف يكون. لم تعد آنا سرجييفنا تخطر له، بل كانت تتبعه في كل مكان كالظل وتراقبه، وعندما يُغمض عينَيه يراها أمامه حية، وبدت له أجمل وأصبى وأرق ممَّا كانت. وهو أيضًا بدا لنفسه أفضل ممَّا كان آنذاك في يالطا. وكانت تتطلَّع إليه في المساء من خزانة الكتب ومن المدفأة، ومن ركن الغرفة، وكان يسمع أنفاسها وحفيف ثيابها الرقيق. وكان يُتابع النساء في الشارع بعينَيه بحثًا عمن تُشبهها.
وأمضَّته رغبة شديدة في أن يُفضي لأحد ما بذكرياته، بَيْد أنه لم يكن من الممكن أن يتحدَّث عن حبه في البيت، أمَّا خارج البيت فليس هناك من يتحدَّث إليه؛ فليس من المعقول أن يتحدَّث مع السكان أو في البنك. ثم عمَّ يتحدَّث؟ هل هو أحبها آنذاك؟ وهل كان هناك شيء ما جميل وشاعري أو ذو عِبرة، أو حتى شائق في علاقته بآنا سرجييفنا؟ واضطُر أن يقول كلامًا عامًّا عن الحب، وعن النساء، فلم يفطن أحد إلى الأمر. زوجته فقط لعَّبت حاجبَيها الداكنين وقالت: أنتَ يا ديميتري لا تليق في دور الغندور.
وذات ليلة، وكان خارجًا من نادي الأطباء مع موظفٍ شاركه اللعب، لم يتمالك نفسه فقال: لو تدري بأي امرأة ساحرة تعرَّفت في يالطا!
وجلس الموظف في الزحَّافة فمضت به، لكنه الْتفت فجأةً وصاح: يا دميتري. ديميتريفيتش!
– ماذا؟
– لقد كنت على حق بالأمس؛ فالسمك عفن!
أثارت هذه الكلمات، العادية تمامًا، حنق جوروف فجأةً لسبب ما، وبدت له مهينةً ملوثة. يا للأخلاق الهمجية، يا لهذه السحنات! وما هذه الليالي التي بلا معنى، وأي أيام مملة باهتة! اللعب المحموم، والأكل حتى التخمة، والسُّكْر، والأحاديث المكرورة عن نفس الشيء. الأعمال التي لا ضرورة لها والأحاديث المكرورة تستولي على أفضل ساعات العمر، وعلى أفضل القُوى، ولا يبقى في النهاية سوى حياة مبتورة، مقصوصة الجناحين؛ لا يبقى سوى هُراء، ولا تستطيع أن تهرب منه أو تَفِر، كأنما وُضِعت في مستشفى المجانين أو في السجن!
لم ينم جوروف طوال الليل وهو ساخط، ثم عانى طوال اليوم التالي من الصداع. وفي الليالي التالية نام نومًا سيئًا، وكان يجلس في الفراش ويفكِّر أو يروح ويجيء من ركن لركن. وملَّ الأطفالَ، وملَّ البنكَ، ولم يكن يرغب في الذهاب إلى أي مكان أو الحديث عن أي شيء.
وفي أعياد ديسمبر استعد للسفر، وقال لزوجته إنه راحل إلى بطرسبرج للتوسط لأحد الشبان، وسافر إلى «س». لماذا؟ هو نفسه لم يكن يعرف جيدًا. لقد أراد أن يرى آنا سرجييفنا ويتحدَّث إليها ويدَبِّر موعدًا معها إذا أمكن.
وصل إلى «س» صباحًا وحجز في الفندق أفضل غرفة، وكانت أرضيتها مغطاةً كلها بجوخ عسكري رمادي، وعلى الطاولة محبرة، رمادية من الغبار، تحمل فارسًا على جواد، وقد رفع يده بالقبعة بينما كان رأسه مبتورًا. وأعطاه الفراش المعلومات اللازمة؛ فون ديدريتش يسكن في شارع ستارو-جونتشارنايا في منزله الخاص، غير بعيد عن الفندق، وهو يحيا حياةً طيبة، في بحبوحة، ويملك خيوله الخاصة ويعرفه الجميع في المدينة. ولفظ الفراش اسمه هكذا: ضريضيرتس.
ومضى جوروف على مهل إلى شارع ستارو-جونتشارنايا وعثر على المنزل. وفي مواجهة المنزل مباشرةً امتدَّ سور رمادي طويل بمسامير.
وفكَّر جوروف وهو ينظر تارةً إلى النوافذ وتارةً إلى السور: «من هذا السور لا بد أن تهرب.»
وفكَّر: اليوم عطلة، وزوجها على الأرجح في البيت. وعلى أي حال فليس من اللائق أن يدخل البيت ويُحرجها. وإذا أرسل لها رسالةً فستقع في الغالب في يد زوجها، وعندئذٍ سيفسد كل شيء. أفضل شيء الاعتماد على الصدفة. وراح يتمشَّى في الشارع بجوار السور وينتظر هذه الصدفة. ورأى شحاذًا يدلف إلى البوابة فتهاجمه الكلاب، ثم سمع بعد ساعة عزفًا على البيانو، وتناهت إليه الأنغام ضعيفةً غير واضحة. لا بد أنها آنا سرجييفنا التي تعزف. وفجأةً فُتح باب المدخل الرئيسي، وخرجت منه امرأة عجوز، وركض خلفها الكلب الأبيض المعروف. وأراد جوروف أن ينادي الكلب، ولكن قلبه دق فجأةً بعنف، ولم يستطع من الاضطراب أن يتذكَّر اسم الكلب.
وأخذ يتمشَّى وهو يزداد كراهيةً للسور الرمادي، وبدأ يفكِّر بعصبية في أنَّ آنا سرجييفنا قد نسيته وربما تمرح الآن مع رجل غيره؛ فهذا شيء طبيعي بالنسبة لامرأة شابة، مضطرة أن ترى من الصباح إلى المساء هذا السور اللعين. وعاد إلى غرفته في الفندق، وظلَّ جالسًا على الكنبة فترةً طويلة وهو لا يدري ماذا يفعل، ثم تغدَّى، ونام طويلًا.
«ما أغبى كل هذا وأسخفه — فكَّر بعد أن استيقظ وهو ينظر إلى النوافذ المظلمة؛ فقد كان المساء قد حلَّ — ها أنا ذا قد شبعت نومًا، فلماذا؟ وماذا أفعل ليلًا إذن؟»
جلس على الفراش المغطَّى ببطانية رمادية رخيصة مثل بطانيات المستشفى. أخذ يبكِّت نفسه بأسًى: «تلك هي السيدة صاحبة الكلب … تلك هي المغامرة … فلتجلس الآن هنا.»
وقبل ذلك في الصباح كان قد لفت نظره في المحطة إعلان بأحرف كبيرة عن عرض أوبرا «فتاة الجيشا» لأول مرة. وتذكَّر ذلك الآن فتوجَّه إلى المسرح.
وفكَّر: «من الجائز جدًّا أنها تحضر العروض الأولى.»
كان المسرح مكتظًّا. وهنا أيضًا، مثلما في جميع مسارح الأقاليم كان الضباب متجمعًا أعلى النجفة، وارتفع اللغط في أعلى المسرح. وفي الصفوف الأولى، قُبيل بدء العرض، وقف المتأنقون المحليون، عاقدين أيديهم خلف ظهورهم. وفي مقصورة المحافظ جلستْ في الصف الأول ابنته في لِفاع من الفرو، أمَّا المحافظ نفسه فكان مختبئًا بتواضع خلف ستار باب المقصورة فلم تظهر سوى يديه. واهتزَّت ستارة المسرح وظل الأوركسترا يضبط آلاته طويلًا، وكان جوروف يفتش بعينيه في نهم طوال فترة دخول النظارة وشغلهم للمقاعد.
ودخلت آنا سرجييفنا. جلست في الصف الثالث، وعندما تطلَّع جوروف إليها خفق قلبه بعنف، وأدرك بوضوح أنه لم يعد لديه في الدنيا كلها إنسان أقرب وأعز وأهم منها. هذه المرأة الصغيرة، الضائعة في هذا الحشد الريفي، والتي لا تتميَّز بشيء؛ هذه المرأة ذات المنظار المبتذل في يديها، أصبحت الآن تشغل حياته كلها، أصبحت حزنه وفرحته والسعادة الوحيدة التي يرجوها الآن لنفسه. وعلى أنغام الأوركسترا السيئ وآلات الكمان السوقية أخذ جوروف يفكر كم هي جميلة. كان يفكر ويحلم.
ودخل مع آنا سرجييفنا وجلس إلى جوارها رجل شاب بسالِفَين صغيرَين، طويل جدًّا، محني القامة. وكان رأسه يهتز مع كل خطوة، فبدا كأنه ينحني محييًا باستمرار. يبدو أنه زوجها الذي قالت عنه في يالطا في صورة إحساس مرير، إنه خادم. وبالفعل فقد كان في قامته الطويلة، وفي سالِفَيه، وفي الصلعة الصغيرة شيء من تواضع الخدم، وكان يبتسم ابتسامةً عسلية، ولمعت في عروة سترته شارة علمية كأنها شارة الخدم.
وفي الاستراحة الأولى انصرف الزوج ليدخِّن وبقيَتْ هي في مقعدها. واقترب منها جوروف، الذي كان يجلس هو أيضًا في الصالة، وقال بصوت متهدِّج وهو يغتصب ابتسامة: مرحبًا.
وتطلَّعت إليه وامتقعت، ثم تطلَّعت مرةً أخرى برعب وهي لا تصدِّق عينَيها، وأطبقت يدها بقوة على المروحة والمنظار معًا وهي تجاهد فيما يبدو لكي لا تسقط مغشيًّا عليها. وكان كلاهما صامتًا. كانت جالسةً وهو واقف وقد أفزعه ارتباكها، دون أن يجرؤ على الجلوس بجوارها. وصدحت آلات الكمان والناي التي كان العازفون يضبطونها، وتملَّكهما الرعب فجأة، وخُيل إليهما أن الأنظار تتطلَّع إليهما من جميع المقصورات. ولكن ها هي ذي قد نهضت واتجهت بسرعة نحو باب الخروج، فتبعها. وسارا معًا يتخبَّطان في الطرقات والسلالم صاعدَين هابطَين، ومرق أمام عيونهما أناس ما في سترات قضاة ومعلمين وموظفين، ومرقت نساء، ومعاطف فرو على المشاجب، ولفحهما تيار هواء حاملًا رائحة أعقاب السجائر. وفكَّر جوروف وقلبه يخفق بعنف: «أوه يا إلهي! لمَ هؤلاء الناس، وهذه الأوركسترا؟»
وفي تلك اللحظة تذكَّر فجأةً ذلك المساء في محطة القطار، عندما ودَّع آنا سرجييفنا وقال لنفسه إن كل شيء قد انتهى ولن يلتقيا بعد ذلك أبدًا. ولكن كم كانت النهاية بعيدة!
وعلى سُلم ضيق مظلم كُتب عليه «مدخل أعلى المسرح» توقفَت.
– كم أفزعتَني! — قالت وهي تتنفَّس بصعوبة ولا تزال شاحِبةً مأخوذة — أوه، كم أفزعتني! أنا حية بالكاد. لماذا جئت؟ لماذا؟
فقال جوروف بصوت خافت على عجل: افهميني يا آنا، افهميني … أتوسَّل إليك، افهميني.
كانت تتطلَّع إليه بخوف، وتوسُّل، وحب، بنظرة ثاقبة لكي تطبع ملامحه في ذاكرتها طويلًا.
ومضت تقول دون أن تصغي إليه: كم أتعذَّب! كنت طوال الوقت أفكِّر فيك وحدك، وكنت أعيش بفكري معك. وأردت أن أنسى، أنسى، فلماذا جئت؟ لماذا؟
على بسطة السلم العليا كان يقف طالبان، يدخِّنان ويتطلَّعان إلى أسفل، ولكن جوروف لم يعد يُلقي بالًا لشيء، فجذب آنا سرجييفنا نحوه، وأخذ يقبِّل وجهها وخدَّيها ويدَيها.
فقالت برعب وهي تدفعه عنها: ما الذي تفعله؟ ما الذي تفعله؟ لقد أصابنا الجنون. ارحل اليوم، ارحل الآن … أستحلفك بكل القديسين، أتوسَّل إليك … إنهم قادمون إلى هنا!
كان هناك شخص يصعد الدرج.
ومضت آنا سرجييفنا تقول همسًا: ينبغي أن ترحل، أتسمعني يا دميتري ديميتريتش؟ سأجيء إليك في موسكو. أنا لم أكن قَط سعيدة، والآن أصبحت تعيسة، ولن أكون أبدًا سعيدة، أبدًا! لا تجعلني إذن أتعذَّب أكثر! أقسم لك إنني سآتي إلى موسكو. والآن لنفترق! يا عزيزي، يا حبيبي الطيب، لنفترق!
وصافحته ومضت تهبط الدرج بسرعة وهي تلتفت نحوه كثيرًا، وكان واضحًا في عينيها أنها لم تكن سعيدةً بالفعل … ولبث جوروف في مكانه قليلًا وهو يُرهف السمع، وعندما هدأ كل شيء بحث عن معطفه وغادر المسرح.
٤
وأصبحت آنا سرجييفنا تأتي إليه في موسكو. كانت تغادر «س» مرةً كل شهرين أو ثلاثة وتقول لزوجها إنها ذاهبة لاستشارة بروفيسور بخصوص مرض نسائي، فكان زوجها يصدِّقها ولا يصدِّقها. وعندما تصل إلى موسكو كانت تنزل في «سلافيانسكي بازار» وتُرسل إلى جوروف على الفور رسولًا على رأسه قبعة حمراء، وكان جوروف يذهب إليها ولا يعلم أحد في موسكو بذلك.
وذات مرة كان ذاهبًا إليها في صباح شتائي (جاءه الرسول قبلها في المساء فلم يجده)، وكانت بصحبته ابنته التي أراد أن يوصلها إلى المدرسة في طريقه. وتساقط ثلج مُبلَّل كبير النُّدَف.
وقال جوروف لابنته: درجة الحرارة الآن ثلاثة فوق الصفر ومع ذلك يسقط الثلج، ولكن الجو دافئ فوق سطح الأرض فقط، أمَّا في طبقات الجو العليا فالحرارة مختلفة تمامًا.
– بابا، ولماذا لا يرعد الرعد في الشتاء؟
فشرح لها ذلك أيضًا. كان يفكِّر وهو يتكلَّم في أنه ذاهب الآن إلى موعد، ولا يعلم بذلك أي إنسان، وربما لن يعلم. كان يعيش حياتين: حياةً ظاهرة، يعرفها ويراها كل من ينبغي أن يعرفها ويراها، حياةً مليئة بالصدق النسبي والخداع النسبي، وتشبه تمامًا حياة معارفه وأصدقائه؛ وحياةً أخرى تمضي سرًّا. وحسب اتساق غريب للظروف، ربما كان عرضًا، جرى كل ما كان بالنسبة له مهمًّا، وطريفًا، وضروريًّا، كل ما كان فيه مخلصًا وصادقًا مع نفسه، كل ما كان يشكل نواة حياته، جرى في سرية عن الآخرين. أمَّا ما كان كذبًا، وقشرةً يختبئ خلفها ليخفي الحقيقة، كعمله في البنك مثلًا، ومناقشاته في النادي، و«جنسه المنحط»، وتردُّده مع زوجته على الحفلات — كل ذلك كان ظاهرًا. وحسب حاله كان يحكم على الآخرين ولا يصدِّق ما يراه، ويعتقد دائمًا أن لكل إنسان حياته الحقيقية، الشائقة التي تمضي تحت ستار السرية مثلما تحت جنح الليل، وكل مخلوق فرد يقوم وجودُه على الأسرار؛ وربما لذلك يسعى الإنسان المثقَّف بقلق من أجل أن تُحتَرم الأسرار الشخصية.
وبعد أن أوصل جوروف ابنته إلى المدرسة اتجه إلى «سلافيانسكي بازار». وخلع معطفه في الأسفل وصعد ودقَّ الباب بخفة. كانت آنا سرجييفنا في فستانها الرمادي المحبَّب إليه تنتظره منذ مساء الأمس وقد أرهقها السفر والانتظار. كانت شاحبةً وتطلَّعت إليه دون أن تبتسم، وما إن دخل حتى ارتمت على صدره. وكانت قبلتها طويلة، ممتدة، كأنما لم يلتقيا منذ عامين.
وسألها جوروف: كيف حالك؟ ماذا هناك من جديد؟
– مهلًا، سأخبرك الآن … لا أستطيع.
لم تستطع أن تتكلم؛ فقد كانت تبكي. واستدارت عنه وضغطت على عينَيها بالمنديل.
وقال جوروف لنفسه: «فلتبكِ قليلًا ولأجلس أنا.» وجلس في المقعد.
ثم دقَّ الجرس وطلب شايًا. وبعد ذلك، وبينما كان يشرب الشاي، ظلت هي واقفةً ووجهها إلى النافذة … كانت تبكي من الاضطراب، ومن إدراكها الحزين بأن حياتهما تمضي على هذا النحو البائس إذ لا يلتقيان إلا سرًّا، ويختبئان من الناس كاللصوص! أليست حياتهما محطمة؟
وقال جوروف: هيَّا، كفاكِ بكاءً.
كان من الواضح له أن حبهما هذا لن ينتهي قريبًا، وليس معروفًا متى ينتهي. وتعلَّقت به آنا سرجييفنا أكثر فأكثر، وكانت متيَّمةً به، ولم يكن من المعقول أن يقول لها إن كل ذلك لا بد أن تكون له في وقت ما نهاية. وما كانت لتصدِّق ذلك.
واقترب منها وأمسك بكتفيها لكي يلاطفها ويداعبها، وفي تلك اللحظة رأى صورته في المرآة.
كان رأسه قد بدأ يشيب. وبدا له غريبًا أنه هرم وتدهور إلى هذه الدرجة في الآونة الأخيرة. وكانت الكتفان اللتان وضع عليهما يديه دافئتين ترتعشان. وأحسَّ بالعطف على هذه الحياة، التي كانت لا تزال دافئةً جميلة، ولكنها ربما تقترب من الذبول والانطفاء كحياته هو. تُرى لماذا تحبه هكذا؟ لقد كان يبدو للنساء دائمًا على غير حقيقته، ولم يكُنَّ يحببنه هو نفسه، بل يُحببن فيه الرجل الذي صنعه خيالهن والذي كنَّ يبحثن عنه في حياتهنَّ بنهم. وبعد ذلك، عندما يُدركن خطأهنَّ، كنَّ مع ذلك يُحببنه. ولم تكن أي منهنَّ سعيدةً معه. وكان الزمن يمضي وهو يتعرَّف ويصادق ويفارق، ولكنه لم يعرف الحب مرةً واحدة. كان ذلك أيَّ شيء سوى أن يكون حبًّا.
والآن فقط، عندما شاب رأسه، أحبَّ كما ينبغي، حبًّا حقيقًا، لأول مرة في حياته.
أحبَّا هو وآنا سرجييفنا بعضهما البعض كشخصين قريبين جدًّا، كأهل، كزوج وزوجة، كصديقين رقيقين، وبدا لهما أن القدر نفسه قد هيَّأهما أحدهما للآخر، ولم يكن مفهومًا لماذا هو متزوج وهي متزوجة. وكأنما كانا طائرَين مهاجرَين، ذكرًا وأنثى، أمسكوا بهما وأجبروهما على العيش في قفصَين منفردَين. لقد غفرا لبعضهما البعض كل ما كانا يخجلان منه في ماضيهما، وغفرا كل ما في حاضرهما، وأحسَّا أن حبهما هذا قد غيَّرهما كليهما.
وكان في لحظات الحزن سابقًا يُطَمئِن نفسه بشتى الأفكار التي كانت تَرِد إلى ذهنه، أمَّا الآن فكان في شاغل عن الأفكار. كان يشعر بشفقة عميقة وبرغبة في أن يكون صادقًا ورقيقًا.
وقال لها: كفى بكاءً يا حبيبتي، هذا يكفي … تعالَي نتحدَّث وسوف نصل إلى حل.
وظلَّا يتشاوران طويلًا ويتحدَّثان في كيفية التخلُّص من التخفي والخداع والمعيشة في مدينتين مختلفتين والفراق الطويل، وكيف يتحرَّران من هذه الأغلال التي لا تُطاق.
– كيف؟ كيف؟ — تساءل وهو يمسك برأسه — كيف؟
وبدا له أنه لم يبقَ إلا قليل ويعثر على الحل، وعندها تبدأ حياة جديدة رائعة. وكان من الواضح لهما معًا أن النهاية لا تزال بعيدةً بعيدة، وأنَّ أعقد شيء وأصعبه يبدأ لتوه.