مطاردةٌ … في الحيِّ الهادئ!
كانت ليلةً شديدةَ البرودة، من ليالي شهر فبراير، والحركة هادئة في الشوارع النصف مُضاءة في مدينة «لندن». وعلى الرغم من أن الضَّباب كان كثيفًا والرؤية مُتعذرةً، إلا أن «أحمد» كان على يقين من أنه مُراقبٌ من سيارة تتبعه منذ مدةٍ طويلة.
وعندما توقَّفَت سيارة «أحمد» في إحدى إشارات المرور، وقفَت خلفه السيارة التي تتبعه، وكانت من طراز مرسيدس ذات لونٍ أحمر. ولكنه لم يتمكن من معرفة قائدها، أو حتى من تمييز ملامحه؛ فقد توقَّفَت السيارة على بُعد أمتارٍ منه. وعلى ضوء أنواره الخلفية استطاع أن يقرأ لوحات السيارة في المرآة، وعندما فُتحَت الإشارة في شارع «الأمير ألبرت»، وهو أحد الشوارع الهادئة التي تلتفُّ حول حديقة «ريجنت»، دار «أحمد» دورةً كاملةً حول الحديقة ليتأكد من أنه مُراقبٌ فعلًا من هذه السيارة. ولما تأكد «أحمد» من ذلك امتدَّت يده إلى تابلوه السيارة، وأمسكَت بمسدَّسه الضخم ماركة «كولت»، والذي اعتاد أن يُخبِّئه تحت مقعده. وبعد التأكُّد من أن المسدَّس في مكانه، واصلَت يده طريقها حتى قُرص التليفون المثبَّت في تابلوه السيارة، وبدأ في الاتصال بأرقام المقرِّ السريِّ للشياطين في لندن. كان «أحمد» يقوم بهذه العملية بهدوء، حتى لا يعرف راكبُ السيارة الحمراء التي تُطارده أنه اكتشف وجوده.
وبعد لحظاتٍ جاء صوت «بو عمير» على الطرف الآخر، وباختصار شرح «أحمد» الموقف ﻟ «بو عمير» وأعطاه الرقم ليتحرى عنه في الكمبيوتر. وما هي إلا لحظاتٌ حتى كان «بو عمير» يخرج مسرعًا في سيارته الزرقاء، في اتجاه طريق الملك «إدوارد» حسب اتفاقه مع «أحمد» في التليفون. وبعد دقائق من القيادة السريعة، شاهد «بو عمير» الأضواء الحمراء الخلفية للسيارة المرسيدس، التي أصبحَت مُحاصَرةً بين سيارة «أحمد» وسيارة «بو عمير».
وعند ذلك أطلق «أحمد» العِنان لسيارته السريعة، وفي إثرها كانت المرسيدس الحمراء تحاول اللحاق به، وعند أول منعطف يمين ترك «بو عمير» المطاردة، في اتجاه العودة إلى حديقة «ريجنت» مرةً أخرى، ولكن بسرعةٍ هادئة، حتى يترك ﻟ «أحمد» الفرصة لصُنع فارقٍ في المسافة بينه وبين مُطارِده في «المرسيدس». وما هي إلا لحظاتٌ حتى سمع «بو عمير» أزيز عجلات سيارة «أحمد»، وعندئذٍ ضغط «بو عمير» على بنزين سيارته بقوة، حتى إن عَجَلات السيارة كادت تطير. وعند تلاقي شارعَي «مارلي» و«بارك» ضغط «أحمد» على فرامل سيارته بقوةٍ حتى ارتفع صُراخ العجلات، وظهرَت أدخنةٌ بيضاء على الأسفلت الأسود، وما كان من سائق المرسيدس إلا أن ضغط على فرامل سيارته هو الآخر، في محاولةٍ يائسةٍ لإيقافها. وقد نجح في ذلك، وتوقَّفَت سيارته حتى كادت مقدِّمتها تلمس مؤخرة سيارة «أحمد».
وفي هذه اللحظة تقدَّم «بو عمير» بسيارته بسرعةٍ فائقة، ليسُد الطريق على المرسيدس الحمراء حتى لا يحاول سائقها الفرار. وفي ثوانٍ كان «أحمد» و«بو عمير»، كلٌّ منهما خارج سيارته يحمل مسدسه في يده، و«أحمد» يقترب من السيارة في حذرٍ من الأمام، و«بو عمير» يتقدَّم من الخلف.
وفي تلك الأثناء، في مقرِّ الشياطين، كانت «إلهام» و«زبيدة» قد عادتا من المسرحية التي كان «قيس» قد دعاهما إليها، وبعد أن وضع سيارته في الجراج، تبعهما إلى داخل الفيلَّا، وكم كانت دهشتهم كبيرةً لعدم وجود «أحمد» و«بو عمير» في الداخل على عكس الاتفاق بينهم!
دخلَت «إلهام» غرفة الاتصالات، فوجدَت رسالةً من «بو عمير» يشرح فيها باختصار الموقف، وطلب فيها التحري عن رقم السيارة الذي أعطاه له «أحمد»، في الاتصال التليفوني السريع الذي تمَّ بينهما.
أسرعَت «إلهام» إلى «زبيدة» و«قيس» تقرأ عليهما رسالة «بو عمير»، فأخذ «قيس» منها الورقة وأسرع إلى الكمبيوتر وأملاه رقم السيارة، وبعد ثوانٍ ظهرَت على الشاشة كل المعلومات التي تفيد عن صاحب السيارة، وهو رجلٌ يُدعى «فريد عبد الله»، من أصلٍ جزائريٍّ يعمل كمديرٍ لشركةٍ تُدعى «جولدن وولف» للكيماويات، ومقرُّها «واشنطن» بالولايات المتحدة، عمره ٥٦ عامًا، متزوِّجٌ وله ابنةٌ واحدة عمرها ١٩ سنة.
أخذ «قيس» الورقة التي أخرجها جهاز الكمبيوتر، وخرج إلى الصالة ليقرأها على «إلهام» و«زبيدة»، وعندما نطق «قيس» باسمِ الرجل صاحب السيارة، ارتسمَت الدهشة على وجوه الشياطين الثلاثة؛ فهذا الرجل كان بينهم وبينه اتصالاتٌ ومعاملاتٌ في الصيف الماضي، حينما سافر «أحمد» و«بو عمير» لشراء بعض المعدَّات والأسلحة الكيماوية من الشركة في «واشنطن». وهو رجلٌ كما أوضحَت تقارير رقم «صفر»، ليس من النوع الذي يُشتبَه فيه، فما هو مُبرِّر أن يتعقَّب «أحمد» في لندن وهو على علاقةٍ جيدةٍ معه.
وفي هذه الأثناء، في الشارع الموازي لحديقة «ريجنت»، كان «أحمد» يتقدم ناحية باب سائق المرسيدس الحمراء، التي لم ينزل منها صاحبها، بعد توقُّفه المفاجئ خلف سيارة «أحمد»، الذي رقد على الأرض حتى لا يصيبه رصاص قائد السيارة، إذا كان مُسلحًا هو الآخر. وبعد نظراتٍ سريعة بين «أحمد» و«بو عمير»، انطلق «أحمد» إلى الباب يتبعه «بو عمير»، ليحميه وليطلق النار إذا ما بدأ الرجل الآخر في إطلاق رصاص مسدسه، ولكن السائق مرةً أخرى، لم يطلق مسدسه، ولم يخرج من السيارة؛ فقد كان ملقًى على عجلة القيادة في حالة إغماء، نتجَت عن ارتطام رأسه بعجلة القيادة من أثَر الفرامل القوية.
وعند ذلك، مدَّ «أحمد» يده إليه ليعيده إلى كُرسيه مرةً أخرى، وتبادل «أحمد» و«بو عمير» نظرات الدهشة والتعجُّب؛ فإن مُطارِد «أحمد» لم يكن رجلًا كما كان متوقعًا، بل كانت فتاةً في العشرين من عمرها تقريبًا، مغشيًّا عليها، وهناك نزيفٌ بسيطٌ من أنفها!