اغتيال … في شارع «ملبوري»!
كانت عجلاتُ الطائرة تُلامس أرض المطار برشاقة، وعلا تصفيق المشاهدين، للمهارة التي أظهرها المتسابق السادس في فنون الطيران، وهو شابٌّ من ولاية «فلوريدا». ونزل من الطائرة يردُّ على تحية الجماهير، وتوجَّه إلى المكان الذي يجلس فيه «أحمد». وعندما وصلَه قال له: هل أعجبك ما قمتُ به؟
ردَّ «أحمد»: حقًّا، لقد كان شيئًا رائعًا!
قال الفتى: حسنًا، أرنا ما يمكن أن تقوم به، أيُّها العربي.
قال الفتى هذه الجملة في سخريةٍ من «أحمد»، الذي كبَت غضبه، ولم يردَّ عليه، كي لا يفسد خطته.
في هذه الأثناء، كان المتسابق السابع يُحلقُ في الفضاء بالطائرة في حلقاتٍ بديعة، وكان «أحمد» يراقبه، وينتظر دوره. عند ذلك تقدَّم إليه رجل، وطلب منه أن يصحبه لكي يرتدي ملابس الطيران.
عندما وقف «أحمد»، قال ﻟ «إلهام» و«قيس»: أرجو أن تدعُوَا لي بالتوفيق؛ فأكثرهم يظن أننا ما زلنا نركب الجِمال، ولا نستطيع قيادة طائرة.
شدَّت «إلهام» على يد «أحمد»، وقالت له: الله معك وسوف يوفِّقك … وابتسمَت له.
أما «قيس»، فقد ضربه بقبضة يده على كتفه، ضربةً حانية، ليرفع من روحه المعنوية.
ذهب «أحمد» إلى مكان العرض. وعند ذلك، كان المتسابق السابع يُهدِّئ من سرعة طائرته على أرض المطار، معلنًا انتهاء العرض الذي قام به. بعدها توجَّه «أحمد» إلى الطائرة، وكل المشاهدين يُحملِقون فيه متعجبين، هل هناك فعلًا عربيٌّ يستطيع أن ينافس في مثل هذه المسابقة الفنية؟
بدأ «أحمد» في زيادة سرعة الطائرة على الأرض، ثم ارتفع بعجلاتها من على ممرِّ الإقلاع، وبدأ عرضه الذي ينتظره جميع المشاهدين.
بدأ أولًا في صُنع حلقاتٍ هوائية، فجعل جناحَي الطائرة يلفَّان كالمروحة في سرعةٍ كبيرة، ثم بدأ يرتفع وبسرعةٍ قصوى، حتى بلغ ارتفاعًا شاهقًا، ثم أبطل محرِّك الطائرة، فهبطَت بقوة تُصدِر صفيرًا عاليًا.
كانت الطائرة تتهاوى كحجر ألقاه طفل من قمةٍ عالية، والجميع يشاهدونها وهي تهبط كالصخرة، حتى ظن البعض بأن قائد الطائرة قد فقد السيطرة عليها، وما هي إلا لحظات حتى يلقى حتفه، ولكن «أحمد» قبل أن تصطدم طائرته بالأرض بعشرات المرات، أدار محركها مرةً أخرى، وارتفع بها قليلًا، وطار محاذيًا للأرض على ارتفاع لا يزيد عن خمسة أمتار، حتى انتزع تصفيقًا حادًّا، لم يحصل عليه أحد من المتسابقين الذين طاروا قبله. وبعد عدة دورات، عاد «أحمد» إلى الأرض، وعندما فتح باب الطائرة، لم يصدِّق بأن التصفيق الذي يسمعه له هو، وبتواضعٍ رفع يده ليحيِّي المشاهدين.
وبعدها نزل، وخلع ثياب الطيران، وتوجَّه إلى مقعده بين «قيس» و«إلهام»، اللذَين استقبلاه بتصفيقٍ حاد.
وقال له «قيس»: كنتُ متأكدًا من أنك ستقوم بأجمل العروض جميعًا.
وقالت «إلهام»: قلتُ لك، إن الله سيكون معك.
عند ذلك، وجد «أحمد» الشاب الأمريكي الذي كان يتقدَّمه في المسابقة، يقف أمامه قائلًا: اسمح لي أن أُصافحك، وأشيد بمهارتك؛ فلم أكن أتصوَّر أن أي عربي يمكن أن يقوم بهذه الألعاب الانتحارية، التي قمتَ أنت بها الآن.
وقبل أن يردَّ «أحمد»، كان الفتى قد أعطاه ظهره وذهب. وعند ذلك، أعلن منظِّم المسابقة في الميكروفون، بأن جميع حُكام المسابقة قد أجمعوا بأن الفائز هو رقم ثمانية. وعلت الموسيقى تعزف ومعها تصفيق المشاهدين، وجاء رجلٌ شديد الأناقة وبجانبه فتاةٌ تحمل شهادة تقدير أعطاها ﻟ «أحمد» وطلب منه أن يرافقه إلى منصة الشرف.
كان سرور «أحمد» بفوزه في المسابقة قويًّا؛ لأن خطته قد نجحَت، وحانت فرصته للدخول في كواليس هذه الشركة لمعرفة نشاطها. وعندما وصل «أحمد»، وجد رجلًا في حوالي الخمسين من العمر، طويل القامة، يجلس في وسط المائدة. استنتج «أحمد» على الفور أنه «فرانك مالكوم»، نائب المدير «وندرهاند»، الذي سافر إلى سان فرانسيسكو.
قال له «فرانك»: إن الشركة يُسعِدها أن تتعاون مع شابٍّ ناجحٍ مثلك، فهل تقبل أن تقود طائرة الشركة، وتطوف بها سماء ولاية «واشنطن»؟!
فقال «أحمد»: بالطبع!
قال الرجل: إذن أراك بعد الحفل؛ فهناك موضوعاتٌ أحب أن أناقشها معك!
ردَّ عليه «أحمد»: اتفقنا!
ذهب «أحمد» إلى حيث كان «قيس» و«إلهام»، وأبلغهما بما حدث.
وقال ﻟ «قيس»: اذهب إلى السيارة في الخارج، وتابِع في جهاز الاستقبال ما سيحدث من مناقشات. أما «إلهام» فإنها تعود بسيارة تاكسي إلى المقر، بعد الحفل، لترى إذا كانت ثمة أخبارٌ جديدةٌ، أو تطوراتٌ بخصوص «حانة القرصان»!
كانت الساعة قد قاربت السابعة والنصف في المقر، و«بو عمير» و«زبيدة» لم تصلهما أي أخبار عن «أحمد» و«قيس» و«إلهام». وعند ذلك، قرَّر «بو عمير» أن يذهب إلى شارع «ملبوري»، حيث موعده مع الرجل الذي حدَّثه تليفونيًّا، وفعلًا اتجه إلى غرفته، وفتح دولاب ملابسه وأخرج حقيبةً متوسطة الحجم، حافلةً بأشكالٍ مختلفةٍ من الأسلحة الصغيرة، من خناجر ومسدسات، حتى أنواعٍ متوسطة من الرشاشات. فاختار «بو عمير» منها مسدسًا ضخمًا، من طراز «سميث وين»، لامعًا، بقبضةٍ عاجية، وملأ خزانته بالرصاص، ووضع بعض الطلقات في جيبه، وارتدى الحزام الحامل للمسدس، وارتدى عليه جاكت سبور، وأعاد الحقيبة إلى مكانها، ونظر إلى نفسه في المرآة، وتأكد من أن المسدَّس غير ظاهرٍ في مكانه.
وخرج «بو عمير» إلى غرفة المعيشة حيث كانت «زبيدة» تقرأ كتابًا، وقال لها إنه سيذهب بمفرده إلى شارع «ملبوري»، وعليها هي أن تنتظر لتلقِّي أي أخبارٍ من رقم «صفر»، أو من بقية الأصدقاء الذين ذهبوا إلى الحفل. فوافقت «زبيدة».
غادر «بو عمير» المقر، واتجه إلى السيارة، وكانت إيطالية سبور صغيرة لونها فضي، من طراز «ألفا روميو» أُعجب بها «بو عمير» وبإمكانياتها المتقدمة. كانت المسافة بين مقرِّ الشياطين وشارع «ملبوري» تحتاج لنحو ٤٥ دقيقة. عرف «بو عمير» ذلك، من الخريطة الضوئية الواضحة الموجودة في السيارة. وأدار «بو عمير» المحرِّك، وبدأ رحلته إلى شارع «ملبوري»، في حين بدأَت آخر أضواء النهار في الرحيل، وبدأَت أنوار الشارع تُضاء.
في ذلك الوقت، كانت «إلهام» قد استقلَّت سيارة تاكسي في الطريق إلى المقرِّ مرةً أخرى، بينما عاد «قيس» إلى السيارة وفتح جهاز الإرسال وتحدَّث إلى «زبيدة» التي أبلغَته بالمكالمة التليفونية التي دارت بين «بو عمير» والرجل، والموعد الذي اتفقا عليه. وأحسَّ «قيس» بالقلق، ولكنه كان على يقينٍ من أن «بو عمير» أحسن من يتصرف في المآزق الخطيرة. وبعد ذلك، حاول «قيس» الاتصال ﺑ «بو عمير» في السيارة، إلا أن المسافة التي كانت بينهما كانت أبعد من أن يستطيع جهاز الاستقبال أن يلتقطها. حاول ذلك مرةً أخرى دون جدوى، في حين كان «بو عمير» قد قطع تقريبًا أكثر من ثلثَي المسافة، ووصل إلى الحي الذي يقع فيه شارع «ملبوري»، وهو حيٌّ هادئٌ جدًّا، لا ترتاده الكثير من السيارات، إلا سيارة عابرة بين لحظة وأخرى. وبعد أن تأكد «بو عمير» من المكان بواسطة الخريطة، بحث عن الشارع فوجده شارعًا غير نظيف مُظلمًا تقريبًا، إلا أن «بو عمير» كان على استعداد أن يذهب إلى آخر الدنيا في سبيل أداء واجبه.
كان وصول «بو عمير» إلى الشارع سابقًا لموعده بحوالي ربع ساعة، قضاها في السيارة، والصمت مخيمٌ على أرجاء المكان حوله، والدقائق تمُرُّ ثقيلةً بطيئةً. وكان «بو عمير» يُراقب عقرب الساعة في يده، وكأنه يحثُّه على أن يسير بسرعةٍ أكبر. وقطع هذا الصمتَ الثقيل وصولُ سيارة أُجرة صفراء في نهاية الشارع، وقفت لحظات، ثم أكملَت طريقها، بعد أن نزل منها الرجل الذي حدَّثه تليفونيًّا في المقرِّ. وقف الرجل لحظاتٍ ينظر حوله، فأضاء «بو عمير» أنوار السيارة الأمامية حتى يتبيَّن الرجل مكانه، فأسرع الرجل الذي كان يرتدي نفس ثيابه القديمة المهلهلة إليه، وعندما أقبل سأل «بو عمير» الذي نزل من السيارة: أين الخمسين دولارًا؟
ابتسم «بو عمير» ومدَّ يده في جيبه، وأخرج حافظته وأخرج منها ورقة الخمسين دولارًا، فمدَّ الرجل يده ليأخذها، فأبعدها «بو عمير» عنه.
فقال الرجل: حسنًا، الرجل الذي ضربك على رأسك يُدعى «مايكل» الأخرس؛ لأنه لا يتكلم كثيرًا، وهو يعمل سائق شاحنةٍ تحمل اسم «الشركة الدولية للصناعات»، ولكنني لم أتوصل إلى عنوان مسكنه.
ومدَّ يده واختطف ورقة الخمسين دولارًا، وفردها أمام عينَيه، وضحك.
وعند ذلك، وفي بداية الشارع، انحرفَت سيارةٌ مسرعة، علا صوتُ عجلاتها فمزَّق الصمتَ في المكان، وأقبلَت مسرعةً كحيوانٍ متوحشٍ طليق، في اتجاه «بو عمير» والرجل.
لم يطمئن «بو عمير» لذلك، فمدَّ يده وأمسك بقبضة مسدَّسه، ولكنه لم يخرجه، وفعلًا ظهر رجلٌ من نافذة السيارة، ومعه مِدفعٌ رشاش، وبدأ في إطلاق النار في اتجاه «بو عمير»، والرجل الواقف الذي سقط على الأرض فورًا. كما أحَسَّ «بو عمير» بحرارةٍ شديدة في كتفه اليسرى، فعرف أنه قد أُصيب أيضًا.