حدث … في وقتٍ قصير!
انبطح «بو عمير» بجانب الرجل الذي لم ينطق بكلمة، فعرف «بو عمير» أنه قد فارق الحياة. توقَّفَت السيارة في نهاية الشارع، ولمعَت أنوارها الحمراء الخلفية، وبدأَت تستدير للعودة مرةً أخرى إلى «بو عمير»، الذي كان يفكر بسرعةٍ كبيرة، وعرف أن السيارة ستعود لتُهاجمه، فأسرع بالاختباء تحت عَجلات سيارته، التي لم تَسلَم من طلقات المدفع الرشاش. وبدأَت السيارة الأخرى في الاقتراب بسرعةٍ مرةً أخرى، فارتمى «بو عمير» أمامها، وبمهارته المعروفة في إطلاق الرصاص أطلق رصاصةً واحدة، استقرت في قائد السيارة، التي أسرعَت كفيلٍ مذعور، تجري في كل اتجاه، حتى اصطدمَت بجانبها في أحد الأعمدة، وانقلبَت واستقرَّت على ظهرها.
مرَّت لحظاتٌ بطيئةٌ قبل أن يفتح الباب الخلفي، ويخرج منه أولًا مدفع رشاش، ثم بدأ جسم رجلٍ ضخمٍ يخرج من تحت أنقاض السيارة، ووقف، وكأنه لا يُصدِّق نفسه أنه خرج حيًّا من هذه الحادثة المروِّعة. وفجأةً، نظر الرجل ناحية «بو عمير»، وانحنى ليلتقط المدفع الرشاش، ولكن طلقة من مسدس «بو عمير» كانت أسرع منه، واستقرت في يده اليمنى. وقبل أن يطلق «بو عمير» رصاصته الثانية، انحنى الرجل واختبأ خلف السيارة المقلوبة؛ ليحتمي بها من رصاص «بو عمير» المحكم.
فكَّر «بو عمير» قليلًا، هل يذهب للرجل؟
لكن الإجابة كانت أسرع من السؤال.
ثم ردَّ الرجل على «بو عمير» بطلقةٍ نارية، مرَّت من فوق رأسه، فارتمى جانبًا ليحتمي بحائطٍ صغير. وعندما بدأ «بو عمير» يشعر بآلام الجرح في كتفه اليسرى، تحسَّس بيده اليمنى كتفه، فوجد ملابسه مبتلة. وعرف أنه ينزف باستمرار، ومن الأفضل أن يُسرع في التخلص من هذا الرجل الضخم، الذي لم يكُف بين لحظةٍ وأخرى عن إطلاق نيران مسدسه.
تأكَّد «بو عمير» أن محاولة الانقضاض على الرجل ستكون انتحارًا؛ فقد كان الرجل مختفيًا في ركنٍ بينما هو واضحٌ في نور الشارع؛ فليس هناك سبيلٌ واحدٌ لخروج هذا الرجل من مخبئه سوى طريقةٍ واحدة.
بدأ «بو عمير» ينفِّذ خطَّته، فجلس على ركبته وركَّز نظره جيدًا، ومن خلال الأضواء الخلفية الحمراء للسيارة المقلوبة، وجَّه فُوَّهة مسدَّسه إلى خزَّان بنزين السيارة. وأطلق أول رصاصة، فاستقرت في الهيكل، وأطلق الثانية، وانتظر قليلًا، فسمع وسط الهدوء خرير البنزين على الأرض.
عرف الرجل بمحاولة «بو عمير» فبدأ يُطلِق رصاصه بطريقةٍ جنونية. وانتظر «بو عمير» لحظةً، ثم أطلق رصاصته الثالثة التي قلبَت الليل في شارع «ملبوري» إلى نهار مرةً أخرى، فحوَّلَت السيارة المقلوبة إلى كتلةٍ من لهب، فما كان من الرجل إلا الجري هربًا بحياته من جهنم التي صنعها له «بو عمير»، وأسرع يعبُر الطريق إلى الناحية الأخرى، وكانت تُتابعه في جريه فُوَّهة مسدس «بو عمير»، الذي انطلقَت منه رصاصةٌ واحدة. بعدها، لم يستطع الرجل أن يكمل جريه؛ فقد سقط يترنَّح.
تحامل «بو عمير» على نفسه حتى وصل إلى سيارته، ووضع نفسه فيها وهو يشعر بآلامٍ مُبرِّحة، بدأَت تسري في كل جسده، وأدار المحرك، ثم بدأ يقود ببطءٍ في اتجاه المقر.
في هذا الوقت، كان «قيس» يجلس في السيارة خارج مقرِّ الشركة التي بها «أحمد»، وهو يتابع الحديث الدائر بين «أحمد» وبين الرجال الذين قابلوه في الشركة، وهم يعرضون عليه عملًا مجزيًا، بعد إعجابهم بمهارته في الطيران. وقبل أن ينتهي الحديث قال له المدير «فرانك مالكوم» إنه إذا أظهر «أحمد» تعاونًا معهم فسوف يكلِّفونه بعملٍ للشركة في إحدى البلاد العربية، في مجال أعمال الطيران.
ساورَت «أحمد» الشكوكُ بعد سماعه هذا العرض، ولكنه أظهر سعادةً بالغة، وأعلن أنه سوف يكون على أتم استعدادٍ لذلك. وقبل أن تنتهي المقابلة، طلب «أحمد» الذهاب إلى دورة المياه قبل أن يخرج. وفعلًا ذهب إلى دورة المياه، وفيها اتصل ﺑ «قيس» في السيارة.
وقال له: «قيس»، بعد خمس دقائق سوف أخرج من الشركة واستقل سيارة أجرة، لا تُظهر أنك تعرفني، وإنما لاحظ إذا كنتُ مراقبًا أم لا؟ وكن على اتصالٍ بي، وقابِلني عند المدخل الخلفي لفندق «أمريكانا».
ردَّ «قيس»: سأكون هناك في الموعد.
وفعلًا بعد خمس دقائق كان «أحمد» يخرج من الباب الزجاجي الخارجي للشركة.
ثم أشار لسيارة تاكسي ركبها وانطلقَت به وكانت شكوكه في محلها؛ فلم تمضِ لحظاتٌ حتى انطلقَت في أثره سيارة «بونتياك» صفراء، يركبها رجلان؛ أحدهما يرتدي نظارةً شمسيةً كبيرةً داكنة، وخلفهم انطلق «قيس» بالسيارة.
وبعد رُبع ساعة، وصل «أحمد» إلى فندق «أمريكانا» وهو فندقٌ ضخمٌ حديث، وتوجَّه إلى الاستعلامات وقام بحجز غرفةٍ له. وبعد أن صَعِد إلى غرفته التي كانت في الطابق السادس والعشرين وتطلُّ على المدينة في منظرٍ رائع، راقب «أحمد» منافذ الحجرة، وشاهد الحمَّام المرفق بها، وفتحة التكييف، فتأكَّد من أنه غير مُراقب.
اتصل ﺑ «قيس» الذي ينتظره عند المدخل الخلفي للفندق، وسأله عن أحوال الرجلَين اللذين يتبعانه، فردَّ عليه «قيس»: إنهما موجودان في السيارة، ولكن في هذه اللحظة نزل أحدهما وتوجَّه إلى الاستعلامات.
مرت دقائق، وخرج الرجل بعدها ترتسم على وجهه علامات الارتياح، وركب السيارة وانطلقَت؛ فقد تأكد من أن «أحمد» لم يخدعهم، وأن اسمه حقيقيٌّ من واقع سجلَّات الفندق. وكذلك اطمأن «أحمد» و«قيس» أن الخطة قد نجحَت، فأسرع إلى «قيس» الذي كان ينتظره. وعندما وصل ابتسم كلٌّ منهما للآخر؛ فقد نجحت خطة «أحمد». وبدأ الاحتكاك بالشركة، وخاصةً ما قاله «فرانك مالكوم» عن المهمة التي سوف يؤديها في الشرق الأوسط؛ فقد تكون على علاقة باختراع العالِم «فريد عبد الله».
سأل «أحمد» «قيس»: هل معنى ذلك، أنهم قد حصلوا فعلًا على المعادلات الخاصة بالاختراع؟ وهل وقع العالم «فريد» في أيديهم؟
قال له «قيس»: أظنُّ ذلك، وإلا فما هي طبيعة مهمتك في هذا البلد العربي؟
ثم ضحك وقال: إنهم يرون فيك صيدًا ثمينًا؛ فأنت عربي، وبالطبع سوف تُسهل لهم مهمتهم في الوطن العربي، وما قمت به كان ذكيًّا جدًّا لاكتساب ثقتهم فيك.
كانت «إلهام» قد وصلت منذ مدة إلى مقرِّ الشياطين في «إسترال بلدج»، وقد بدأ القلق يساورها على «بو عمير» الذي قد تأخر جدًّا، فقد تجاوزت الساعة العاشرة والنصف ولم يصل عنه أي خبرٍ.
فقررت أن تتصل ﺑ «قيس» و«أحمد» في السيارة وتسألهما عن «بو عمير».
ردَّ عليها «أحمد»، وأبلغها بما حدث في المسابقة: وعندما نقلَت له قلقها من أجل تأخر «بو عمير» طمأنها «أحمد» وأخبرها أنهما في الطريق إليها.
عاودَت «إلهام» الاتصال ﺑ «بو عمير» في السيارة لكن دون جدوى؛ فهي لم تكن تعلم بأن جهاز الإرسال والاستقبال في السيارة لم يَسلَم من طلقات الرصاص. ذهبَت «إلهام» مع «زبيدة» إلى شُرفة المنزل، تُراقب السيارات القادمة، علَّها تجد سيارة «بو عمير». ومضت الدقائق بطيئة، قبل أن يصل «بو عمير» بسيارته الفضية الصغيرة، التي سرعان ما عرفَتها. فأسرعَت هي و«زبيدة» إلى الباب للقائه ومعرفة ما حدث، ولكن «بو عمير» لم يصعد وتأخر، فأسرعَت «إلهام» إلى السيارة لرؤيته، فوجدَته منكفئًا على عَجلة القيادة وقد غاب عن وعيه.