المؤسسات
نعرف من قصة التاريخ الإسلامي كيف كانت المجتمعات الإسلامية المختلفة على مر العصور، ونعرف أيضًا أن مصائر المسلمين والإسلام تأرجحت باختلاف الزمان والمكان؛ بل أحيانًا في الزمان والمكان الواحد. وحتى لو قصرنا اهتمامنا على زمان ومكان معينين، ثمة مقاييس متنوعة يمكن في ضوئها قياس المجتمعات الإسلامية؛ فرغم كل ما يقال عن «العصور الذهبية» — تحت حكم الخلفاء الراشدين أو العباسيين الأوائل أو الأمويين الأندلسيين أو في أي وقت آخر — نادرًا ما كان اعتناق الإسلام، والإنتاجية الثقافية الإسلامية، والحكم السياسي الإسلامي يتزامن بعضها مع بعض في أي مكان.
إلى حدٍّ ما، يمكن تفسير هذا التنوع اللافت للنظر عن طريق التعريف بالشعوب المختلفة التي برزت في التاريخ الإسلامي؛ كلٌّ بما يحمله من مخزون ثقافي خاص به. لكن ضيق المساحة يجبرنا على تقديم بعض التعميمات (التي نأمل التماس العذر فيها)؛ فبالطبع ليس كل الأتراك متفتحي الذهن مثلما أنه ليس كل الفرس فخورين أشدَّ الفخر بثقافتهم رفيعة الشأن. ثمة طريقة أخرى لتفسير هذا التنوع وتوضيحه، وهي دراسة المؤسسات التي كانت طابعًا مشتركًا — من الناحية النظرية — في كل المجتمعات الإسلامية، وإن كانت مختلفة — على أرض الواقع — في الأماكن والأزمنة المختلفة من التاريخ الإسلامي. ودراسات الحالة الثلاثة المختارة هنا هي المسجد، والجهاد، والخلافة (أو الإمامة). الأولى مؤسسة مادية، والثانية دينية قانونية، أما الثالثة فتجمع بين سمات المؤسستين الأولى والثانية معًا.
المسجد
نفس اللغة المعمارية، ونفس التصوير الخيالي، ونفس المسارح، ونفس المعابد؛ فيمكنك العثور عليها في أي وقت على مدار ٥٠٠ سنة في جميع أرجاء دول البحر المتوسط — في اليونان، أو إيطاليا، أو آسيا الصغرى، أو شمال أفريقيا، أو جنوب فرنسا … هذا المبنى … هو معبد إغريقي صغير ربما وُجد في أي مكان في العالم الروماني الإغريقي.
اتصفت بعض المساجد الأولى التي بُنيت في الأقاليم المفتوحة بالسمات المعمارية الرومانية الإغريقية أيضًا، ولكن بدلًا من الإشارة إلى أن الثقافة الإسلامية كانت الوريث للتقاليد الكلاسيكية، أظهرت تلك المساجد العكس تمامًا. لم يحاول الحكام المسلمون أن يفرضوا طراز بناء (رومانيًّا إغريقيًّا) موحدًا في كل مكان ذهبوا إليه؛ بل كانت العادات المحلية هي التي تؤثر في المسلمين الذين كيَّفوا المباني القائمة — ومواد البناء وأساليبه حينما كانوا يبدءون من لا شيء — بما يتلاءم واحتياجاتهم. وفقًا لذلك، أثَّر الموروث الثقافي الروماني الإغريقي على المعمار الإسلامي فقط في الأراضي التي استولى عليها المسلمون من أيدي البيزنطيين.
لا غرو أن أكبر مسجد في العالم هو المسجد الحرام الذي بُني حول الكعبة في مكة التي يتوافد إليها ملايين الحجاج كل عام. وعلى نحو غير متوقع إلى حد ما، يُقال إن ثاني أكبر المساجد هو مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء بالمغرب. المسجد الذي تم بناؤه على مدار سبع سنوات (١٩٨٦–١٩٩٣) على يد أكثر من ٦٠٠٠ شخص (عادةً ما كانوا يعملون ليل نهار) يتسع لعدد ٢٥٠٠٠ شخص، وبه أطول مئذنة في العالم (نحو ٢١٣ مترًا). إنه مبنى مذهل بكل المقاييس؛ حيث الأرضية الزجاجية (المبنيَّة جزئيًّا فوق سطح الماء)، والسقف المنزلق الأوتوماتيكي، وأشعة الليزر التي تشير إلى مكة أثناء الصلوات الليلية، والأرضيات الرخامية الدافئة، والأبواب الكهربائية، والأسقف المزينة بالرسوم والنقوش، وأعمدة الجرانيت الأبيض، والثُّريَّات الزجاجية المستوردة من إيطاليا. ما لا يقل إثارة للدهشة عما سبق حقيقة أن الشعب المغربي (حتى الفقراء منه) تحملوا بالكامل تكلفة بناء هذا المسجد التي بلغت ٨٠٠ مليون دولار.
من منظور الشريعة الإسلامية، ليست المساجد ضروريةً بالأساس؛ فكل ما يحتاجه المسلم لأداء الصلوات هو سبيل للوضوء، وسطح نظيف للسجود، ودراية بموقع مكة. لذا كثيرًا ما يرى زوَّار العالم الإسلامي مجموعات كبيرة من الرجال يؤدون الصلاة في شوارع المدن ظهر يوم الجمعة. لِمَ تُبنى المساجد من الأساس إذن؟ ولِمَ يُنفق عليها ٨٠٠ مليون دولار؟ قدَّم الفقهاء منذ زمن عددًا من الإجابات عن السؤال الأول مؤكدين على التأثير الزائد للصلاة الجماعية والأهمية الخاصة للأماكن المقدسة (مثل مكة والمدينة؛ تمامًا مثلما يصلي اليهود عند «حائط المبكى» مع أنهم — مثل المسلمين — يؤمنون بوجود الله في كل مكان). أما الإجابة عن السؤال الثاني فأكثر تعقيدًا. من الواضح أن المسجد يتعدى كونه قاعة للصلاة؛ فقد لعبت المساجد دورين آخرين لهما أهمية تاريخية كبرى على مرِّ القرون؛ الأول أنها رمز للانتصار والقوة موجَّه للمسلمين وغير المسلمين على حد سواء، والثاني أنها أداة عملية لتداول الأفكار داخل الأمة.
على مرِّ القرون، عندما كان يفتح المسلمون أرضًا، كانت لهم حرية بناء المساجد أينما شاءوا. والواقع أنه بقدر ما كانت الشريعة الإسلامية تحمي الكنائس والمعابد التابعة لغير المسلمين (ما دامت لا تطغى على دور العبادة الإسلامية)، فإن الأماكن الوحيدة المحظورة على المسلمين في هذا السياق هي دور العبادة القائمة بالفعل. على الرغم من ذلك، يزخر العالم الإسلامي — بدءًا من القرن السابع وحتى القرن الحادي والعشرين — بمساجد كانت في وقت من الأوقات كنائس ومعابد. فقد بُني المسجد الأقصى وقبة الصخرة المجاورة له فوق جبل الهيكل في القدس، والمسجد الأموي في دمشق كان فيما سبق كنيسة يوحنا المعمدان (وقبلها كان معبدًا رومانيًّا)، وكنيسة آيا صوفيا تحولت على يد السلطان محمد الثاني إلى مسجد آيا صوفيا بإسطنبول (واستكمالًا للقصة، فقد حُوِّل المسجد مرة أخرى إلى متحف عام ١٩٣٥). وتوجد مئات الأمثلة على هذه العملية، وكذلك حالات عديدة حدث فيها التحول ولكن في الاتجاه الآخر؛ فأثناء الحملات الصليبية، حُوِّلت المساجد (التي كان العديد منها كنائس في الأساس) إلى دور عبادة مسيحية، ولم تَعُد مساجد مرة أخرى إلا عندما طُرد الفرنجة من الأرض المقدسة عام ١٢٩١. بالمثل، بُني جامع قرطبة في القرن العاشر في مكان كان معبدًا ثم كنيسة حتى عاد في الثلاثينيات من القرن الثالث عشر كنيسة (وظل هكذا حتى اليوم).
وهكذا كان بناء المساجد وسيلةً فعالةً لنقل رسالة مفادها تفوق الإسلام على الأديان الأخرى. فالقضاء على الحضور الأبرز لثقافة منافسة في إحدى المدن يعطي إشارةً واضحةً بأن ميزان القوى قد انتقل بعيدًا عن الموروث الأقدم، ويعيد الحسابات لصالح الإسلام. يريد معظم الناس أن يكونوا على الجانب الفائز من التاريخ، وعادةً ما كان فتح الأراضي يُتبع بتحول السكان المحليين إلى الإسلام على نطاق واسع. ويمكن أن تكون رسالة الانتصار التي يحملها المسجد موجهة أيضًا إلى المسلمين أنفسهم، وثمة أمثلة عديدة لمساجد فريدة من الناحية المعمارية كان الهدف من تشييدها ترك انطباع محدد لدى المسلمين المحليين. لذا من المرجح أن يكون مسلمو العراق الذين شهدوا تشييد مسجد سامراء ومئذنته في القرن التاسع قد ربطوا شكل المبنى — المكوَّن من الطوب اللبن الرافدي على شكل زقورة بابلية قديمة — بموروثات قديمة من الشرق الأدنى عن ملوك مفوَّضين من السماء يمكنهم الصعود إليها للحديث مباشرة مع الآلهة.
ليس المسجد رمزًا لتنوع الإسلام فحسب، وإنما يجسد أيضًا مدى «طبيعية» الثقافة الإسلامية. فالمساجد في الصين تبدو «صينية» وليست عربية أو سورية أو عراقية أو رومانية إغريقية. ومن السهل تمييز المساجد التي تنتمي لعهد المغول عن تلك التي تنتمي للعهد العثماني، مع أن كلا النوعين هما — في الظاهر على الأقل — نتاج للثقافة الإسلامية التركية نفسها. الواقع أن مساجد المغول تمزج بين عناصر إسلامية وهندية، بينما تمزج المساجد العثمانية بين عناصر إسلامية وبيزنطية. وحتى عندما كان بناء المساجد وسيلة لتأكيد انتصار الإسلام على الأديان الأخرى، كان الإسلام ومعالمه تُعرَّف بالارتباط المباشر مع المعالم الخاصة بالموروثات الدينية المحلية. وبينما كان الرومانيون متعنتين في طمس معالم الموروثات المعمارية للثقافات الأخرى، كان المسلمون مدركين دومًا للسياقات المحلية، ودمجوا سمات المجتمعات السابقة داخل مجتمعاتهم، فأوجدوا في كثير من الأحيان مزيجًا فريدًا في نوعه بين الأنماط القديمة والحديثة. بصورة ما، يعد الإسلام أول حضارة «خضراء» (لكن لا بد من الاعتراف أن هذا قد حدث عن غير قصد) بما له من تاريخ طويل من إعادة تدوير المواد الأقدم واستخدام المنتجات والموروثات المحلية في الغالب. وهذا ليس سبب قراءة الهيبيين لشعر الرومي، لكنه لن يضر بالطبع.
الجهاد
الهيبيون القارئون لشعر الرومي أقل ولعًا بالجهاد الذي قد يأتي تأييده من جهات أخرى غير متوقعة؛ فقد صرَّح رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك وعضو البرلمان البريطاني جيني تونج بأنهما لو كانا قد نشآ في ظل الظروف التي يعيشها الفلسطينيون، لأصبحت تونج «انتحارية» و«لانضم باراك إلى إحدى المنظمات الإرهابية» على حد قولهما. وما لم يكن باراك وتونج مسلمَين سرًّا في ذلك السيناريو الافتراضي الذي تحدثا عنه، فإنهما مخطئان على الأرجح في هذا الشأن. ومع أن دوافع منفذي العمليات الانتحارية معقدة من غير شك، فمن الواضح أن الانضمام إلى صفوفهم يستلزم توافر معيارين: الأول أن يكون مرتكب الجريمة مشتعل غضبًا من أمر ما، والثاني أن يكون خيار تهدئة غضب هذا الشخص عن طريق العنف متاحًا ومبرَّرًا تبريرًا قاطعًا من وجهة نظره. وفي حالة القضية الفلسطينية، نجد أن الفئة العامة المسماة جهادًا — التي يُعتقد أن الهجمات الانتحارية تنتمي إليها — هي التي تعطي التبرير المطلوب، وهذا يفسر سبب عدم لجوء آلاف الفلسطينيين المسيحيين لمثل هذه الأساليب مع أنهم يعيشون في ظل الظروف البائسة نفسها (وكذلك ملايين الأفارقة والهنود غير المسلمين الذين يعيشون في ظروف أسوأ بكثير). ولا شك أن الغالبية العظمى من المسلمين لا يؤيدون التفجيرات الانتحارية — ناهيك عن لجوئهم إليها — (وعادةً ما يدينونها أشد الإدانة)، علاوة على أن التفسيرات غير المقترنة بالعنف لكلمة الجهاد انتشرت بين المسلمين طيلة قرون. والحقيقة أن مؤسسة الجهاد مثال رائع على التنوع الشديد للتاريخ الإسلامي في ظل تفسير عدد لا حصر له من الحكام والعلماء والمجموعات الدينية ومجتمعات بأكملها فريضة الجهاد كلٌّ على طريقته.
ظاهريًّا، ينبغي إفساح القليل من المجال لتلك التأويلات المتناحرة لمفهوم الجهاد، لأن القرآن يتحدث عنه (وإن كان ذلك باستخدام كلمات مبهمة، ولأن الجهاد أيضًا كلمة عربية قياسية. تتكون الكلمات العربية من جذر ساكن (من ثلاثة حروف عادةً)، ومجموعة من الأنماط أو الأشكال اللفظية التي يدخل فيها الجذر. ولكل من جذور الكلمات وأشكالها معانٍ أساسية؛ وفي مثالنا فإن جذر الكلمة وهو (ج ﻫ د) له علاقة بالنضال، وكلمة «الجهاد» نفسها اسم مشتق يعني في الأساس «فعل شيئًا من أجل (أو ضد) شخص ما». ومن ثم تعني كلمة «الجهاد» حرفيًّا «النضال ضد شخص آخر». يخبرنا القرآن أن الجهاد يكون «في سبيل الله» وضد «المشركين» (سورة التوبة: الآية ٥) أو «أهل الكتاب» ما لم يفوا بشروط معينة (سورة التوبة: الآية ٢٩). وإجمالًا، قد يكون المعنى الأساسي لكلمة «جهاد» «النضال الديني ضد المشركين و[مجموعات معينة] من غير المسلمين». دعونا نركز فحسب على مصطلح «الجهاد».
مع أن هذا التعريف قد يبدو مباشرًا، فإن له العديد من التأويلات (المتعارضة عادةً)، وذلك لعدد من الأسباب. أولًا، نادرًا ما يستقي المسلمون التعاليم الدينية مباشرةً من القرآن. لقد صيغت الشريعة عن طريق تحليلات العلماء الذين يفهمون الآيات القرآنية ويفسرونها بما يتفق والمصادر الأخرى لأحكام الدين. يرى معظم هؤلاء العلماء أن الجهاد يعني «حربًا تهدف إلى نشر الإسلام»، وهي عبارة مفتوحة في حد ذاتها أمام التأويل. هل كان نشر الإسلام يهدف إلى كسب النفوذ السياسي على الآخرين (كما كان الحال مع الرومان والمغول) أم اعتناق الدين (كما الحال مع الإرساليات البوذية والمسيحية)؟ اتفق الجميع على أن الإجابة هي «كلا الأمرين معًا» مع إعطاء الأولوية للتحول إلى الدين، واعتبار النفوذ السياسي حجر الأساس في طريق الاعتناق النهائي. اتُّفق أيضًا على أن «الجهاد» فرض على المجتمع ككل؛ وإن كان للمسلمين الأفراد حرية السعي وراء أشكال الجهاد التي يختارونها لنيل الرضا الإلهي، بصرف النظر عن الجهود الجماعية. وما لم يتفق عليه بالإجماع هي تلك الأسئلة بشأن من يستهدفهم الجهاد والظروف التي يُشن فيها (وغيرها من القضايا الأخرى). المرتدون عن الإسلام صيد مباح وفقًا لتقدير الجميع، لكن ماذا عن اليهود، والمسيحيين، والهندوس، والوثنيين؛ وأيضًا — وهو الأهم في نظر الكثيرين في الغرب — الملحدين والمرتدين عن الأديان الأخرى؟ تتحلى معظم السلطات الحاكمة برؤية سمحة للأمور، وتمنح صفة «غير المسلمين الذين يمكن التعايش معهم» لنطاق واسع من المجموعات. على الطرف الآخر، ينظر بعض المتطرفين إلى غير المسلمين جميعهم وحتى أولئك المسلمين الذين يختلفون معهم بشأن أمور تخص العقيدة أو الشريعة على أنهم زنادقة لا بد من هزيمتهم. ويرى بعض رجال الدين أن الجهاد ينبغي أن يكون مبادرة إسلامية، في حين يرى آخرون أنه لا يجب اللجوء إليه إلا كرد فعل لاستفزاز خارجي.
ثانيًا، مثلما يرى أي شخص مرور السيارات في الشوارع، فإن نص القانون لا يُطبَّق دومًا على أرض الواقع؛ لذا فإنه حتى لو حدث اتفاق بين كل العلماء المسلمين حول جميع القضايا، فسوف تكشف الحقائق على أرض الواقع عن تنوع (وما إن تنشأ السوابق حتى تجد سبيلها للتكرار). ومن ثم فإنه كان من الأسهل جغرافيًّا على الحكام في الأناضول وشبه الجزيرة الأيبيرية والهند مثلًا بسط حدود الإسلام من الحكام في شبه الجزيرة العربية أو العراق. ومن الناحية السياسية، يمكن ألا يُلتزم بإملاءات كتب الشريعة المكتوبة في ظل خلافة قوية حينما يعتري الدولة ضعف، فضلًا عن أن حقائق شن الجهاد كثيرًا ما تعارضت مع النظرية القانونية.
ثالثًا، أفسحت المناهج الدينية المتنوعة على مر القرون المجال أمام التأويلات العديدة لمفهوم الجهاد. فبدءًا من القرن التاسع، وتحديدًا في القرن العاشر، قسَّم العديد من المسلمين — الذين تأثروا بالاتجاهات الصوفية (الشيعة الاثني عشرية على سبيل المثال)، والاتجاهات الروحانية (الصوفيين)، وبالهجمات المسيحية ضد زعم الإسلام بأنه دين سلام — الجهاد إلى نوعين؛ النوع الأول أطلقوا عليه اسم «الجهاد الأصغر» وهو الالتزام المألوف بنشر الإسلام على حساب الأديان الأخرى، ولا يُلجأ إليه إلا كإجراء دفاعي. والنوع الثاني هو «الجهاد الأكبر»، وهو واجب عام يقع على عاتق جميع المسلمين لدرء أهوائهم الآثمة. ومع أن هذا التمييز منسوب إلى النبي محمَّد نفسه، فواضح من السجل التاريخي أن معظم الحكام (والعديد من المسلمين) عارضوا مثل هذه التأويلات. ومع ذلك، فالنقطة المهمة أن هذه التأويلات كانت موجودة ليتبناها أولئك الذين يمقتون العنف حتى وإن كان دفاعيًّا، ويتبناها — حديثًا — المدافعون عن الإسلام الذين يزعمون أن الجهاد كان دفاعيًّا أو صراعًا داخليًّا طوال الوقت.
وأخيرًا، حتى لو استقر المرء على تأويل معين لواجب «الجهاد» — لنقل تأويلًا ليِّنًا لا يكون الجهاد المادي وفقًا له سوى وسيلة دفاعية، ولا ينبغي أن يستهدف مدنيين أبرياء بأي حال — فربما تظل هناك اختلافات كبيرة في فهم المصطلحات ذات الصلة. مما لا شك فيه أن التأويل الليِّن المستخدم هنا سوف يروق للغالبية العظمى من المسلمين الذين يرون الجهاد معركة شخصية ضد الإغواء، والذين سيُجرُّون إلى الحرب المادية فقط عندما يتعرضون للاستفزاز على يد أولئك الذين يهددون الإسلام نفسه. وحتى عندئذ، لن تُزهق أرواح الأبرياء. النقطة المهمة هنا أنه من المرجح أن يكون المتطرفون أمثال الضالعين في الهجمات التي استهدفت شبكة النقل والمواصلات في لندن في السابع من شهر يوليو عام ٢٠٠٥، مؤيدين لهذا التأويل الذي يبدو لينًا. لكن المتطرفين يرون أن الإسلام يتعرض للهجوم (بدليل الاستخدام المتسم بقلة التمييز لعبارة «الحرب على الإرهاب» من قبل بعض الحكومات الغربية)؛ ومن ثم يكون الجهاد الدفاعي ضرورة، ولا يكون غير المقاتلين الذين قُتلوا في الهجمات أبرياء على الإطلاق؛ ففي الدول الديمقراطية يتحمل الناخبون المسئولية الكاملة عن أفعال حكوماتهم (ويقصد بها في هذه الحالة عداء بريطانيا (حسبما يراه المتطرفون) للمسلمين في العراق وأفغانستان).
هكذا تكون الميزة الرئيسية التي يروج لها المتطرفون الإصرار على أن جهود الجهاد العالمية ذات طابع دفاعي. وهذا الأمر يجعل الجهاد على الفور مغريًا للمسلمين الذين ربما يشعرون بأنهم محاصرون بشيء ما؛ إما الثقافة الغربية، أو المجتمعات غير الإسلامية التي يعيشون فيها، أو مسار التاريخ (الذي يشعرون أنه يتجاوزهم مع أن أسلافهم حكموا العالم في وقت من الأوقات). إذا استشعر المسلمون في المجتمعات الغربية أنهم معرضون لرُهاب الإسلام أو ممنوعون من ممارسة الإسلام، فسيكون لزامًا عليهم حينئذ إيجاد الظروف الضرورية لتطبيق الشريعة، وذلك عن طريق إقامة دولة إسلامية في مكان لا توجد به بالفعل. يرى بعض الإسلاميين (أمثال أسامة بن لادن وأتباعه) أنه لا توجد دولة إسلامية مقبولة في أي مكان، وأنه لا بد من إقامة الخلافة من الأساس وبالقوة. وهكذا فإنه كي نستوعب مفهوم الجهاد الذي يتبناه تنظيم القاعدة، لا بد أن نعي الطبيعة (المبهمة إلى حد ما) لمفهوم الخلافة نفسه.
الخلافة أو الإمامة
العديد من المجموعات الإسلامية — إن لم يكن معظمها — تحدوها الآمال في إقامة الخلافة؛ أي دولة إسلامية موحدة يقودها خليفة. والبعض (أمثال «حزب التحرير») يرى أن إقامتها هو هدفهم الوحيد. وعلى الأرجح يرحب الكثيرون من المسلمين ممن يتبعون النهج السائد في المجتمع نظريًّا بتجديد عهد الخلافة، لكنهم يشعرون بأنهم ليسوا هم المسئولين عن تحقيق ذلك. أما الإسلاميون فيعتقدون أنه لزام على المجتمع ككل شن الجهاد من أجل توسيع حدود الدولة الإسلامية. ولكن في ظل عدم وجود دولة إسلامية ولا مجتمع موحَّد، لا بد أن يكون هدف الجهاد — في الوقت الحالي — هو إقامتهما. وحتى من وجهة نظر أولئك المسلمين الذين يرون الجهاد مجرد امتناع عن تناول الفطائر المعدة باستخدام لحم الخنزير أو عن ألعاب الكمبيوتر غير اللائقة، ثمة الكثير من العوامل التي تزكِّي فكرة العيش تحت مظلة الخلافة. فحينئذٍ فقط، سوف تتسنى للمسلمين الحرية الحقيقية لممارسة طقوس الدين دون تقديم اعتذارات عن ذلك. علاوةً على ذلك، سوف تعمل الخلافة على توحيد الأمَّة، ومن ثم سوف تحرر القدرات السياسية والاقتصادية والعسكرية الهائلة في العالم الإسلامي. يقول الإسلاميون إن عِلل المجتمعات الإسلامية الحديثة ترجع كليةً إلى الانقسامات داخل الأمة؛ حيث الحدود الزائفة التي تفرضها قوى الغرب، والأشكال المتنوعة من الحكومات (الفاسدة كلها) التي يعيش تحت حكمها المسلمون (كجزء من مخطط غربي مرةً أخرى)، وغير ذلك. بتوحيد الأمة، سوف تعيد الخلافة المسلمين إلى قيادة العالم. فأي ضَيْر في ذلك؟
لا شيء بالطبع، وليست المشكلة في رفض المسلمين فكرة الخلافة على مدار التاريخ، وإنما في عدم اتفاقهم على شكلها وتفاصيلها. المفارقة أنه بدلًا من توحيد الأمة، تسببت النزاعات بشأن الخلافة في تقسيمها — سياسيًّا ودينيًّا — أكثر من أي فكرة أو مؤسسة أخرى. إلى هذا الحد، تكون الخلافة مثالًا نموذجيًّا لتنوع المجتمعات الإسلامية والتاريخ الإسلامي.
توفِّي النبي محمَّد عام ٦٣٢ بعد أن حكم الدولة الإسلامية سياسيًّا ودينيًّا منذ قيامها عام ٦٢٢، وكان لا بد من شخص آخر يتولى مسئولية شئون الدولة في غيابه. لكن من يكون هذا الشخص، وكيف يجري اختياره؟ أشار أحد الحلول المقترحة باجتماع زعماء القبائل معًا واختيار المرشح الأنسب من بين قبيلة محمد (قريش). هذا ما يظنه أهل السنَّة، ومبدأ الشورى هذا هو الأساس الذي اختير وفقه بعض الخلفاء الأوائل. لكن ماذا لو كان محمَّد نفسه — بوحي من الله — قد رشَّح بالفعل خليفة مناسبًا في حياته؟ يظن الشيعة أن هذا هو ما حدث، وأن عليًّا هو من وقع عليه الاختيار، ومن ثم يعتقدون أن الخلافة ينبغي أن تنتقل عبر الذرية المباشرة لعليٍّ من جيل لآخر. وكما رأينا في الفصل الأول، طالما اختلف الشيعة على الخط الفاصل الدقيق لسلالة الإمام؛ الأمر الذي أوجد مزيدًا من الانقسامات. وماذا لو اتضح أن عليًّا قائد مخيب للآمال في ظن أولئك الذين وُصفوا بالخوارج؟ هؤلاء يرون أن الخليفة ينبغي أن يكون أكثر المرشحين ملاءمة للمنصب بغض النظر عن نسبه (وعندما اتضح لهم أن عليًّا ليس الشخص الملائم، قتلوه). رأى آخرون أن الكلمة الفصل ينبغي أن تكون لقدرة القائد على الإمساك بزمام الدولة. وعلى كل حال، إذا كانت كل الأحداث بيد الله، وكان الله هو من يهب السلطة لشخص معين أو أسرة معينة، فمن ذا سيعترض؟ هذه كانت وجهة نظر الأمويين. يمكن الاستطراد في طرح المزيد من وجهات النظر، لكن لا بد من توضيح أمر؛ وهو أن الخلافة لم تفشل في توحيد الأمة فحسب، بل كانت السبب الرئيسي وراء حدوث الانقسامات داخلها. وبدلًا من إطلاق العنان للقوة الجمعية للأمة، أهدر المسلمون على مدار التاريخ الإسلامي جلَّ طاقاتهم الفكرية والجسدية في صراعات نشبت بينهم وبين بعضهم البعض بشأن هذا الأمر.
ثمة تنوع كبير أيضًا شهدته الآراء في العالم الإسلامي بشأن طبيعة مؤسسة الخلافة. ماذا كان دور الخليفة (أو الإمام وهو المصطلح المستخدم نظريًّا لدى أهل السنة وعمليًّا لدى الشيعة)؟ كان الحكم السياسي للأمة حقيقةً مسلمًا بها، لكن ماذا عن الزعامة الدينية؟ اعتبر البعض ومن بينهم الأمويون والعباسيون الأوائل والشيعة أيضًا أن للخليفة/الإمام سلطة دينية. هذا الافتراض تؤيده حقيقة أن الخلاف بشأن مؤهلات الخليفة تسبب في ظهور طوائف وليس أحزابًا سياسية. واختلف معهم آخرون مثل العلماء والعباسيين الذين جاءوا بعد «محنة خلق القرآن» (فيما عدا استثناء واحد أو اثنين في القرن الثاني عشر). وما الذي يمكن فعله حينما يعلم الناس من يكون الخليفة/الإمام — مثلما يفعل الشيعة أو مثلما فعلوا — غير أن الحكم السياسي للأمة مخوَّل للشخص غير المناسب؟ هل ينتظرون حتى يعيد الله السلطة إلى إمامه، أم يشرعون في تحقيق ذلك على الفور؟ حُلَّت هذه المشكلة لدى الكثيرين من الشيعة عندما اختفى إمامهم المختار في نهاية القرن التاسع، الأمر الذي حثهم على التصوف. الشيعة الآخرون الذين استمر وجود أئمتهم عادة ما تبنوا مذهب الفعَّالية، وظهر أشهرهم في ظل حكم الفاطميين.
بدءًا من منتصف القرن العاشر تلقت هيبة منصب الخلافة ضربة قاصمة؛ ففي الأراضي العباسية وأثناء حكم البويهيين الشيعة، اختُزل الخليفة (السنِّي) إلى شخص يضفي الشرعية على الحكم «الفعلي» لآخرين. وفي الوقت نفسه، ظهر معارضو الخلفاء وذلك في ظل حكم الفاطميين والأمويين الأندلسيين. وبحلول القرن الثالث عشر تدنت مكانة المنصب أكثر بعد قضاء المغول على الخلافة العباسية في العراق، وتنصيب المماليك لخليفة عباسي «صوري» في القاهرة. والغريب أن هذا الخليفة أجاز بدوره مرتبة الخلافة لآخرين، وأبرزهم العثمانيون (الذين لم يستطيعوا ادعاء انتسابهم إلى سلالة شريفة؛ إذ لا يمتد نسبهم إلى قريش، بل ينتسبون — حسب الأسطورة — إلى أنثى ذئب رمادي، كما كان حال الرومان القدماء). ووصل الأمر إلى حد أن الخليفة العباسي في القاهرة عيَّن خلفاء آخرين توافَق منصبهم مع منصبه؛ ففي عام ١٤٨٤ منح الخليفة العباسي المملوكي لقب «الخليفة» إلى علي جاجي بن دوناما الذي حكم بورنو (في الفترة ١٤٧٦–١٥٠٣)، بعد أن كان قد قام بالأمر نفسه قبل سنوات قليلة مع أسكيا محمد الذي حكم سونغاي (في الفترة ١٤٩٣–١٥٢٨).
عندما كان يريد معارضو الخليفة القضاء على ادعاءاته بالشرعية، كانوا عادةً يطلقون عليه لقب «المَلِك». في القرآن، الملكية قاصرة على الله، وفي عهد محمد كان الرجال الذين يحملون هذا اللقب كفارًا مستبدين مثل القيصر البيزنطي والشاه الساساني. وعلى الرغم من أنه أعيد إحياء الألقاب القديمة — ومن بينها لقب «ملك» — في الأراضي الفارسية بدءًا من القرن العاشر، فإن الحكام المسلمين غرب إيران لم يتخذوا هذا اللقب لأنفسهم طواعيةً إلا تحت التأثير الغربي، وهو ما بدأ مع الشريف حسين («ملك الحجاز» من عام ١٩١٦) وابنه فيصل (ملك سوريا ثم العراق). وسرعان ما ظهر الملوك المسلمون في مصر، والحجاز، ومملكة نجد والحجاز المعروفة منذ عام ١٩٣٢ باسم المملكة العربية السعودية. بعدها حذت المغرب وليبيا والأردن الحذو نفسه. ويرى الإسلاميون أن هذا دليل آخر على هيمنة الغرب على الأراضي الإسلامية؛ فوجود «مملكة» تحكم مكة والمدينة أمر يثير الحنق الشديد، ولا عجب في أن منظمات مثل «حزب التحرير» محظورة في المملكة العربية السعودية.
على مدار التاريخ الإسلامي، زعم بعض الرجال أنهم صنوف أخرى من زعماء الأمَّة المفوَّضين من الله. بعض هؤلاء أعلنوا أنهم المخلِّصون المسيحيون («المهديون»، وهم كُثُر وربما يكون أشهرهم مهدي السودان في الفترة ١٨٨١–١٨٨٩)، بينما لم يكن الآخرون سوى مصلحين دينيين مثل السلطان المغولي أكبر، وحاكم إيران الأفشاري نادر شاه (الذي حكم البلاد في الفترة ١٧٣٦–١٧٤٧). ومع ذلك جمع آخرون سمات زعماء شتى؛ فقد زعم والاس فارد محمد — مؤسس حركة «أمَّة الإسلام» — أنه المهدي المنتظر وأيضًا نسخٌ لروح المسيح (وجعل إلايچا محمد نبيًّا له). وأحيانًا كانت الطبيعة الهرطقية لادِّعاء أحد القادة أكبر بكثير من أن يتحملها حتى كيان مرن كالإسلام، وهو ما كان يؤدي إلى نشأة أديان منفصلة مثل الدرزية والبهائية.
إن كان أحد أهدافك في الحياة أن تقابل خليفة أو إمامًا، فلا تبتئس؛ إذ الخلفاء والأئمة موجودون حتى في عصرنا اليوم؛ فآغا خان الرابع هو الإمام الحالي للجماعة الإسماعيلية النزارية (وهو الإمام التاسع والأربعون من نسل عليٍّ)، والجماعة الإسلامية الأحمدية تتبع الخليفة ميرزا مسرور أحمد (الذي تولى خلافة الجماعة منذ عام ٢٠٠٣ حتى اليوم)، وهو الخليفة الخامس لميرزا غلام أحمد الذي زعم عام ١٨٨٩ أنه المهدي، والمسيح، ومجدد الإسلام. الأحمدية والنزارية منتشرتان على نطاق واسع، ولهما ملايين من الأتباع في جميع أنحاء العالم. وهناك خلفاء آخرون — مقبولون على نطاق أضيق يظهرون من آنٍ لآخر — من بينهم مِيتين كابلان (وُلد عام ١٩٥٢) الذي نصَّب نفسه «خليفة كولونيا» والذي يقضى عقوبة السجن مدى الحياة في أحد السجون التركية لمحاولته الإطاحة بالحكومة التركية وإقامة خلافة محلها.
حريٌّ بنا أن نضع في الاعتبار أنه حتى المحاولات الناجحة لإعادة حكم الأمة إلى الخليفة/الإمام الشرعي تكاد دائمًا أن تُقاد — بفعل مطالب الحكم الفعلي — نحو التخلي عن أهدافها وادعاءاتها الأولى، والرجوع إلى الممارسات نفسها التي استنكرتها في مراحلها الثورية. هكذا كان حال العباسيين، والفاطميين، والمرابطين، والصفويين، وآخرين كثيرين في التاريخ الإسلامي وتاريخ العالم بصورة عامة (فيما يتعلق بالثورات السياسية). أما عن الدعوات الحالية لإعادة إقامة الخلافة، فهي تتبع نماذج متوقَّعة؛ وما يصعب توقعه هو الشكل النهائي لأي خلافة مستقبلية.