المصادر
كيف نعرف ما نعرف من معلومات عن التاريخ الإسلامي؟ نظريًّا، لمَّا كان التاريخ «الإسلامي» فرع من التاريخ بصورة عامة، فإن الأدوات والوسائل التي يستخدمها مؤرخو المجتمعات الأخرى متاحةً أيضًا — بدرجة أكبر أو أقل — لمؤرخي الإسلام. وبطبيعة الحال، فإن مصادر كل فرع من فروع التاريخ تكون خاصة به، ومصادرنا عن بعض الفترات والمناطق أفضل من تلك المتاحة عن غيرها؛ ففي بعض الحالات يكون لدينا عدد قليل من المصادر التي تكشف عن الكثير، وفي حالات أخرى يكشف قدر هائل من المصادر عن معلومات أقل بكثير مما يُتوقع منها.
في عامي ١٩٧٧ و١٩٧٨ نُشرت أربعة كتب خاطبت مؤرخي الإسلام بأن أداءهم دون المستوى؛ فقد انتقد كتاب «الاستشراق» للكاتب إدوارد سعيد الباحثين الإسلاميين على أمور عدة من بينها إيجاد مجال دراسة يتعالى على المجتمعات الإسلامية التي يدرسونها ويوجه النقد لها. أيضًا أخبرت كتب «دراسات قرآنية» و«البيئة الطائفية» لجون وانسبرو و«الهاجرية» لكلٍّ من باتريشيا كرون ومايكل كوك الإسلاميين بأنهم ليسوا ناقدين بدرجة كافية (بالمعنى البحثي لا التقييمي للكلمة). على مدار العقود الثلاثة الماضية، أُجبر الباحثون على الانشغال بالأفكار المطروحة في هذه الكتب، ولو من أجل تفنيدها فحسب. عمومًا، يعمل المؤرخون على نوعين من المواد المكتوبة: مصادر رئيسية (كتبها أشخاص «تحت» مجهر التاريخ)، ومصادر ثانوية (كتبها أشخاص ينظرون «من خلال» المجهر). يهتم كتاب إدوارد سعيد بالمصادر الثانوية، وسوف نتطرق إليه في الفصل التالي؛ بينما تتعلق أعمال وانسبرو وكلٍّ من كرون وكوك بالمصادر الرئيسية، وسوف نناقشها في هذا الفصل.
مصادرنا عن التاريخ الإسلامي بعد عام ١١٠٠ (وفقًا للتسلسل الزمني الوارد في الفصل الأول) في الأغلب من النوع الذي سيكون مألوفًا لمؤرخي المجتمعات الأخرى. لقد كتب الناس في هذه القرون كتبًا عديدة عن العديد من الموضوعات، وما إن نقرأ هذه الكتب حتى يصبح بوسعنا محاولة إعادة بناء وتحليل العالم الذي تصفه. ولا شك أن المؤرخ الحذر سوف يحترز من الروايات المضلِّلة أو المتحيزة (أو مما قد يظنه البعض انحيازًا لا مفر منه يصطحبه كل كاتب إلى كتاباته)، لكن فيما عدا ذلك ستكون دراسة التاريخ الإسلامي شبيهة بوجه عام بدراسة التاريخ الأوروبي على سبيل المثال. والواقع أنه بحلول هذه الفترة، وبسبب أحداث أشرنا إليها في الفصل الأول، فإن بعض مصادرنا عن المجتمعات الإسلامية هي وثائق وتقارير أوروبية. على سبيل المثال، ترك لنا جان شاردان (الذي توفي عام ١٧١٣) سردًا عن رحلاته من فرنسا إلى الشرق الأدنى وإيران، جاء في عشرة مجلدات. بالمثل، تأتي معرفتنا بالعلاقات الأوروبية-العثمانية من الوثائق الأوروبية والعثمانية أيضًا. الأمر نفسه ينطبق على مجتمعات دول البحر الأبيض المتوسط في الفترات السابقة عندما تفاعل المسيحيون من جنوب أوروبا والمسلمون من شمال أفريقيا والشرق الأدنى على نحو متكرر؛ تاركين كمًّا وفيرًا من الآثار الأدبية والوثائقية عن هذا التفاعل يمكن للمؤرخين الآن الاستفادة منه. ومن هذا السياق يأتي أحد أهم مصادرنا عن التاريخ الإسلامي، وهي جنيزة القاهرة. يستحق هذا المصدر — الذي لا مثيل لطبيعته ومحتوياته في المجتمعات الأوروبية — تسليط الضوء عليه في هذا الفصل.
تتكون جنيزة القاهرة من نحو ٢٥٠٠٠٠ مخطوطة اكتُشفت في معبد يهودي مصري في نهاية القرن التاسع عشر. يعارض اليهود (والمسلمون أيضًا) التخلص من الوثائق التي يُذكر فيها اسم الله. ولهذا السبب، تودَع الوثائق الدينية التي لم يعد يُرجى منها فائدة (لأنها ممزقة أو غير ذات صلة) في مكان آمن. ويبدو أن اليهود في القاهرة الفاطمية قد وسَّعوا هذا النطاق ليشمل الوثائق التي تتعلق بالله أو بالقضايا الدينية بوجه عام، بل والوثائق المكتوبة بالأبجدية العبرية (المقدسة في نظرهم). ولأن اليهود الذين عاشوا في الأراضي الإسلامية عادةً ما كانوا يكتبون باللغات المحلية (مثل العربية والفارسية) مستخدمين الحروف الأبجدية العبرية، تضم جنيزة القاهرة مجموعة من الوثائق فائقة التنوع تتعلق بكل جوانب الحياة في ظل الإسلام في مصر الفاطمية، وفلسطين، وسوريا، وكذلك جنوب أوروبا، وشمال أفريقيا، واليمن، وأراضي أخرى كان هذا المجتمع اليهودي على صلة بها. ومع أن معظم المصادر الواردة من الأراضي الإسلامية قد كتبتها يد النخبة المثقفة، تضم مصادر الجنيزة بوجه عام سجلًّا لأحداث الحياة اليومية بين عامة الناس، وتمدنا بعرض سريع ثري بالتفاصيل للتاريخ الإسلامي فيما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر. «في أرض قديمة» رواية تاريخية للروائي أميتاف جوش اعتمدت على هذه الوثائق؛ وكتاب «مجتمع بحر أوسطي» الواقع في خمسة مجلدات للمؤرخ شلومو جويتين هو تحليل وإعادة بناء بارعة لحياة أولئك الذين أسهموا في تكوين الجنيزة. لذا فالجنيزة هي أهم مصادرنا لتكوين رؤية تصاعدية للتاريخ الإسلامي.
الفترة ما بين عامي ٨٠٠–١١٠٠ التي ترجع إليها العديد من وثائق الجنيزة هي أيضًا الفترة التي تنعكس فيها الرؤية التنازلية للتاريخ الإسلامي في مجموعة هائلة من الأعمال الأدبية كادت جميعها تُكتب باللغة العربية (الاستثناءات العارضة كانت أعمالًا فارسية من الشرق). وبسبب الثورة الورقية المشار إليها في الفصل الأول من ناحية، والمسار الممتد حتمًا الذي تتطورت خلاله مثل هذه الموروثات المركبة والمعقدة، فإن أي عمل ذا أهمية أساسية للفقه الإسلامي، واللاهوت، والدراسات القرآنية وعلم الحديث، والتأريخ — الأكثر أهمية لنا — يرجع إلى هذه الفترة. قبل ذلك الحين، كانت الوثائق الإدارية هي وحدها التي تُدوَّن بانتظام. جدير بالملاحظة أنه حتى الأعمال المنسوبة للمؤلفين الأوائل ارتبطت بالكتابة أول ما ارتبطت في هذه الفترة. من المؤكد أن المسلمين كتبوا أعمالًا في الفترة من عام ٦٠٠ إلى عام ٨٠٠؛ فبعض أجزاء القرآن نفسه وبعض قصائد الشعر الإسلامي الأولى مثلًا يمكن القول استنادًا إلى دليل داخلي (هو أنه يغلب عليها ألفاظ مهجورة لغويًّا) أنها كُتبت قبل القرن الثامن، لكن لا يوجد الكثير بخلاف ذلك. نقَلَ ابن إسحاق (الذي توفي عام ٧٦٧) إلى تلاميذه سيرة محمد، وقرأها الناس (في صورة كتاب) وتحدثوا عنها، وأعادوا صياغتها. ونحن نعلم عن هذا الأمر ليس لأن سيرة ابن إسحاق قد بقيت، وإنما لأن إحدى النسخ المنقحة التالية — التي كتبها ابن هشام (الذي توفي عام ٨٣٨) — باقية. حتى الشعر العربي الجاهلي المعروف لنا هو شعر جاهلي «كما حفظه أدباء القرن التاسع». وهكذا فإن المصادر الأدبية من الفترة ٨٠٠–١١٠٠ ذات أهمية كبيرة لنا، لإعادة تجميعها الأمور التي وقعت في الفترة السابقة لها. يثير هذا الأمر العديد من الأسئلة (التي تؤدي بدورها إلى العديد من الإجابات) المهمة جدًّا في دراسة التاريخ الإسلامي كما سنرى الآن.
مصادر الفترة ٦٠٠–٨٠٠ (وأوجه قصورها)
في عام ١٩٧٢ اكتُشفت «جنيزة» إسلامية في اليمن تحتوي على عشرات الآلاف من المخطوطات القرآنية التي يرجع تاريخ بعضها إلى نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن. حتى ذلك الحين، كان دليلنا الأول على الآيات القرآنية يأتي من قبة الصخرة في القدس (نحو عام ٦٩٢)، أما «اللغة» الإسلامية الأولى والثقافة بوجه عام فنُقلت إلينا من آلاف الوثائق التي لا تزال باقية (وهي في الأغلب ورق البردي من مصر) والنقود المعدنية من القرنين السابع والثامن. يخبرنا ورق البردي شيئًا عن إدارة مصر منذ القرن الأول للحكم الإسلامي، موضحًا كيف غيَّر أو لم يغيِّر ظهور الإسلام هناك من الأوضاع القائمة على أرض الواقع. وتوجد النقود المعدنية من مختلف أنحاء الخلافة بأعداد هائلة، وهي تخبرنا بمعلومات عن الخلفاء، والولاة، والمتمردين ضعاف التأثير في الأقاليم البعيدة. تمدنا التواريخ الخاصة بعهد أحد الحكام، والألقاب التي اختارها لنفسه، والنقوش التي حفرها على عملاته بتفاصيل ترتبط بالمشهد السياسي في زمان ومكان معينين.
حتى عندما يصف كتَّاب العصر العباسي النصف الأول من القرن الثامن (الذي ربما قد عاصروه بصورة مباشرة)، لا بد من غربلة رواياتهم من الدعاية المناوئة للأمويين؛ فهذه المصادر ليست تؤيد العباسيين عن وعي فحسب، بل تؤيد الشرق (عن وعي أقل) أيضًا، بمعنى أنها تركز على إيران والعراق أكثر من تركيزها على سوريا ومصر وشمال أفريقيا وشبه الجزيرة الأيبيرية (مع أن هذه المناطق الفردية قدمت أعمالًا خاصة بها أقلَّ بكثير كمًّا وتأثيرًا). ويمكن فهم هذه التحيزات إلى حد ما؛ فلماذا قد يفعل المؤرخون العباسيون المقيمون في العراق والمنحدرون من أصل فارسي (وهذا وصفهم إجمالًا) خلاف ذلك؟ في النهاية كلنا نعرف أن التاريخ يكتبه المنتصرون، وهؤلاء المنتصرون لم يحملوا عبء المفاهيم المرتبطة بالصواب السياسي. لكن المصادر العباسية المتاحة عن بداية الإسلام مشكوك فيها أيضًا لأسباب أقل وضوحًا.
تخيل أنك وجدت ضيفنا المريخي أمام بابك. العقبة الأولى المتمثلة في محاولة فهم من يكون هذا الكائن، ومن أين أتى، ولماذا أتى، هي عقبة لغوية. فما إن نعرف لغته، حتى يمكننا سؤاله أي شيء. لكن ما الذي سنفهمه من إجاباته؟ هل نفترض أن معايير الدقة التي نطبقها في الغرب المعاصر يطبقها أهل المريخ أيضًا؟ حتى لو قررنا أنه ملم بمعاييرنا وصادق في محاولاته الوفاء بتلك المعايير، هل نتوقع منه أن يتذكر أي شيء عن مولده وطفولته، أو أن تكون آراؤه عن والديه وأسرته وأصدقائه منصفة (لا تشوبها شائبة)؟ وما الذي نفهمه من التناقضات العديدة التي قد نجدها في شهاداته؟
في بعض النواحي، يكون التعامل مع المصادر الأدبية لتاريخ الأديان العالمية المبكر أكثر صعوبة من التعامل مع الشهادات التي يدلي بها سكان المريخ. يسوء فهمُنا لليهودية الأولى والمسيحية الأولى (إذا أخذنا مثالين) بسبب أوجه القصور التي تضفي غموضًا إلى صورتنا عما حدث في الفترة التشكيلية لهاتين الديانتين؛ وأهمها حقيقة أنه لا توجد فعليًّا مصادر معاصرة يمكن التحقق منها، وأن هذه أحداث تاريخية مخاطرها اللاهوتية والروحانية والسياسية مرتفعة للغاية (مما يجعلنا نتشكك في الروايات التي قد تفيد سارديها).
ودراسة صدر الإسلام لا تختلف عن ذلك. حتى لو افترضنا أن مصادرنا اللاحقة قد راعت الدقة في نقل رواياتها (وهو افتراض سنعود إليه تفصيلًا فيما يلي)، فلا تزال هذه المصادر تطرح مشكلتين مرتبطتين إحداهما بالأخرى. أولًا، يمكن أن تكون المصادر متعارضة؛ فتمدنا في بعض الحالات بعشرة روايات متعارضة لحدث واحد. ثانيًا، كثيرًا ما ترتبط هذه المصادر بموضوعات مثقلة بالمعاني السياسية والدينية مثل حق مجموعة معينة في الحصول على الأموال التي تقدمها الدولة (إذ كانت لأسبقية الدخول في الإسلام، أو المشاركة في الفتوحات الأولى تبعات مالية مباشرة على كثير من المسلمين)، أو الممارسة الصحيحة للشعائر الإسلامية (فإذا أوضحت رواية تاريخية أن محمَّدًا أو أصحابه فعلوا شيئًا ما بطريقة معينة، يمكن لتلك الطريقة أن تكون سابقة ملزِمة قانونًا). لذا، فإن ما قد يبدو لنا تاريخ «دنيوي» تشكِّله في الواقع وإلى حد كبير قضايا دينية وقانونية. لهذا السبب فإن مؤرخًا بارزًا مثل الطبري (الذي سنلتقيه لاحقًا) قد قدم «عدة» روايات للحدث نفسه، دون أن يعبر عن رأيه بشأنها؛ فلكي يكون مؤرخًا نافعًا وموضوعيًّا، كان عليه أن يقصر مهمته على تقديم الخيارات الموجودة لقرائه الذين قد يوظفون واحدة من الروايات دعمًا لوجهة نظرهم. وقد أوضح الباحثون المعاصرون أن العديد من الأحاديث النبوية أو الأخبار التاريخية المتضاربة تشكلت كجزء من مناظرة فقهية بين المذاهب المحلية وأتباعها؛ وهو ما قد يفسر سبب تعدد روايات الأحداث التي دونها الطبري في عمله الجليل.
علاوةً على ذلك، لا ينبغي أن نسلِّم جدلًا بأنه ما إن نتغلب على المعوقات اللغوية، سيصبح معنى النصوص واضحًا لنا. قد يكون التشابه بين اللغة العربية في القرنين التاسع والتاسع عشر أكبر من التشابه بين اللغة الإنجليزية المعاصرة والإنجليزية القديمة، لكن الفهم الحرفي للغة رواية ما لا يضمن فهم الحقائق التاريخية. أوضح الباحثون أن الروايات العربية عن هذه الفترة (حياة محمد والفتوحات الأولى على وجه الخصوص) زاخرة بالمجاز. والمجاز صورة بلاغية أدبية غرضها نقل المعنى دون النظر إلى معناه الحرفي. على سبيل المثال عندما تتباهى طفلة بأن والدها «أقوى عشر مرات من والد بينلوب»، فنحن نعرف أنه في ٩٩٪ من الحالات (وهذا مجاز في حد ذاته) لم تقِس هذه الطفلة القوة النسبية لكل من والدها ووالد بينلوب، ولم تجد النسبة ١٠ : ١. «أقوى عشر مرات» هي وسيلة أخرى لقول «كثيرًا». ومن الأمثلة على ذلك في المصادر الإسلامية الأولى التأكيد على أن محمَّدًا قد جاءه الوحي في الأربعين من عمره. يتفق الجميع — باستثناء أكثر المنقِّحين ولعًا بالافتراضات — على أن محمدًا قد عاش بعد سن الأربعين، لذا لا بد وأنه قد فعل «بعض» الأشياء في ذلك العام. حتى هنا، لا مجال للشك في هذه المعلومة من السيرة. مع ذلك، يدرك الباحثون المطلعون على ثقافات الشرق الأدنى ولغاته من القرون السابقة والتالية لظهور الإسلام أن سن «الأربعين» مجاز عن «النضج الروحي». والقول إن محمَّدًا قد جاءه الوحي في هذه السن تعني القول إنه كان ناضجًا روحيًّا، لا إنه كان في الأربعين من عمره حرفيًّا. إذا وافقنا على أن «سن الأربعين» مجاز بلاغي، فلن يضيرنا ذلك شيئًا لأنه لا علاقة له بالمعتقدات والشعائر الإسلامية. ذكر الباحثون المعاصرون عشرات الصور المجازية في الروايات المنقولة عن حياة محمد وخصوصًا الفتوحات الأولى، وحتى لو لم تكن هذه الصور الأساسية هادمة تمامًا لفهمنا التاريخ الإسلامي نفسه، فإنها تزعزع ثقتنا في جدوى هذه المصادر. بعبارة أخرى، ما «تقوله» هذه المصادر وما «تخبرنا به» ليسا متطابقين دومًا، ولكي نفهمها تمامًا، لا بد أن ندرس ما لدينا من مصادر ضمن سياق لغات الشرق الأدنى وأدبه الوارد من العصور القديمة، وتلك عملية لا تزال في مهدها.
ذُكر أيضًا أن المصادر العربية الأولى عن القرن الأول من التاريخ الإسلامي لا بد من فهمها ضمن السياق الأعم لهذا اللون الأدبي. فلكي نحدد قيمة رواية أو عمل معين، من المجدي أن نكون ملمين بالروايات السابقة واللاحقة لهذا الموضوع. أظهرت الدراسات في هذا الاتجاه أن المصادر العربية الأولى المعتمدة على روايات منقولة شفهيًّا متعلقة بظهور الإسلام تتزايد بمرور الوقت في الحجم والتفاصيل بدلًا من أن تتضاءل. وهذا ينطبق على التفاصيل المتعلقة بحياة محمَّد في كل من السيرة والحديث. لذا قيل إن ابن عباس نقل في أحد أعماله في القرن الثامن ما لا يزيد عن عشرة أحاديث نبوية، وبحلول القرن التاسع قيل إنه نقل ١٧١٠ حديث. بعض هذه الأحاديث ربما يكون مجموعة الأحاديث القليلة التي يُعتقد أنه نقلها، لكن أيُّها تحديدًا؟
للإجابة عن هذا السؤال، ابتكر الباحثون وسائل لفصل ما اعتبروه أحاديث صحيحة وروايات تاريخية موثوق بها عن الأحاديث الموضوعة والروايات التاريخية المبتدَعة. قبل التطرق إلى هذه الوسائل، يجدر بنا التأكيد على أن الجدال حول موثوقية مصادرنا عن التاريخ الإسلامي الأول كثيرًا ما يساء فهمه على أنه جدال ما بين المؤمنين الذين يثقون في تلك المصادر وغير المؤمنين الذين لا يثقون فيها. وهذا خطأ لعدة أسباب. سنرى في هذا الفصل والفصل التالي أنه كان ولا يزال هناك غير مسلمين يقبلون المصادر الأولى كما هي، مثلما أن هناك مسلمين يطبقون أساليب الدراسة النقدية على هذه المصادر. الواقع أن المنهج النقدي في التعامل مع هذه المصادر ابتدأه المسلمون في القرن التاسع؛ فتعريف الكلمات الأجنبية في القرآن — وهو إجراء يرفضه المسلمون المعاصرون باعتباره عملًا «استشراقيًّا» عدائيًّا — بدأ على يد مؤلفي المعاجم المسلمين في العصر العباسي. والأكثر أهمية أن عملية تمييز القليل من الأحاديث الصحيحة عن الكم الهائل من الأحاديث الموضوعة قد بدأت وتطورت على يد المسلمين. لذا قيل إن البخاري (توفي عام ٨٧٠) — الذي جمع واحدًا من أمهات كتب الحديث الستة (لدى أهل السنة) — اختار مجموعته من الأحاديث الصحيحة البالغة نحو ٧٤٠٠ حديث من بين نحو ٦٠٠٠٠٠ حديث. ونحو ثلثي هذه الأحاديث البالغ عددها ٧٤٠٠ حديث هي أحاديث مكررة؛ لذا فالعدد الفعلي للأفعال والأقوال المنسوبة إلى محمَّد أقل من ٣٠٠٠. وجدير بالذكر أن الباحثين المعاصرين النزاعين إلى الشك يحسبون حسابًا أكثر مما ينبغي للإحصائيات الواردة هنا. ومع أن هؤلاء الباحثين يتجاهلون حقيقة أن العدد «٦٠٠٠٠٠» هو مجاز بلاغي استخدمه أهل الشرق الأدنى للتعبير عن «مجموعة هائلة» (راجع سفر الخروج، إصحاح ١٢: آية ٣٧)، فإن ٧٤٠٠ حديث تظل مجرد كسر بسيط من المجموعة الأصلية. كيف فعل البخاري (ورفاقه) ذلك؟
الأسانيد: الحل التقليدي
للفصل بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة، وضع المسلمون واستخدموا علم الإسناد في القرنين الثامن والتاسع. يتكون أي حديث (وهذا ينطبق أيضًا على المصادر التاريخية الأولى) من شقين: الأول المتن وهو تصريح عن شيء قاله أو فعله النبي أو أي مرجعية أخرى، والثاني «الإسناد» الذي يُعد كحاشية من دول الشرق الأدنى تخبرنا بكيفية وصول كل رواية إلينا (على سبيل المثال: رواه الطبري عن (س) عن (ص) عن (ع) الذي كان شاهدًا على الحدث). وقد أُخذ تحليل الإسناد على محمل الجد إلى حد أن لونًا إضافيًّا كاملًا من أدب السير وُجد من أجل تحديد ما إذا كانت الحلقات المختلفة في أحد الأسانيد موثوقًا فيها ووارد أن تكون منقولة من وإلى حلقات أخرى في السلسلة أم لا. معاجم السير الذاتية هذه هائلة، واللون نفسه لا مثيل له فعليًّا في الموروثات التاريخية الأخرى. وهكذا، فإن المشكلات المتعلقة بالمصادر المتاحة عن صدر الإسلام لدى معظم المسلمين قد حُلَّت على النحو التالي: ابتُكر أسلوب (تحليل الإسناد)؛ ووُضعت أدوات (معاجم السير) لتمكين الباحثين من تطبيق هذا الأسلوب؛ واضطلع باحثون ثقات (بقيادة البخاري وخمسة آخرين في حالة الأحاديث، والطبري وآخرين في حالة الروايات التاريخية) بغربلة جميع المصادر؛ والآن نعلم تحديدًا ما فعله النبي محمد وما قاله، وكيف تكشفت بقية أحداث التاريخ الإسلامي.
جزء كبير من هذا العمل يُنسب — على الأقل بصورة غير مباشرة — إلى باحث معروف باسم الشافعي (توفي عام ٨٢٠). كان الفقه الإسلامي قبله متمركزًا محليًّا؛ إذ كان لكل منطقة تراثها وفقهاؤها الموثوق بهم. لذا كان يُقتفي أثر الأحاديث الأولى عودةً إلى الفقهاء البارزين في كل تراث محلي. وأدرك الشافعي أن هذا التنوع خطر على ترابط الأمة، ووضع قاعدتين وافقت عليهما بوجه عام جميع المذاهب؛ أن الأحاديث المنسوبة إلى النبي محمد نفسه فحسب هي التي تُتَّبع (ومن ثم إلغاء الأحكام المحلية الذاتية)؛ وأن مثل هذه الأحاديث «لا بد» وأن تُتَّبع (حتى وإن تعارضت مع القرآن، لأن أقوال محمَّد تؤخذ على أنها «تفسير حي» سماوي للقرآن نفسه). بعد الشافعي، شرعت مذاهب محلية متنوعة في جمع الأحاديث ذات الأسانيد الصحيحة؛ مما أسفر في النهاية عن ست كتب يعتبرها أهل السنة جديرة بالثقة. (جدير بالذكر أن العلاقة بين أحاديث الشيعة والفقه الشيعي أبسط من ذلك بكثير؛ لأن الأحاديث المنسوبة للأئمة كانت تُنقل منذ البداية مع وجود تنوع محلي ضئيل نسبيًّا.)
رصد الباحثون المعاصرون مشكلات مرتبطة بهذه العملية ونتائجها، وبحثوا في متن الحديث (وكذلك إسناده) عن دليل يؤيد صحة الرواية أو ينقضها. وبالفعل ذكر إجناتس جولدتسيهر (الذي توفي عام ١٩٢١) في نهاية القرن التاسع عشر أن الأحاديث تخبرنا عن الجدل الفقهي الذي شهده القرن الثامن وأوائل القرن التاسع أكثر مما تخبرنا عن حياة النبي محمد. سار على نهجه جوزيف شاخت (توفي عام ١٩٦٩) الذي أوضح نقطتين مهمتين. أولًا، انتهى جوزيف بدراسة مجموعة كبيرة من الأحاديث الأولى إلى أنه في منتصف القرن الثامن فقط كانت الأسانيد التي تنتهي إلى محمَّد هي المنتشرة على نطاق واسع. ثانيًا، أدرك أنه كلما زاد اتساق سند ما مع قاعدتي الشافعي، زاد احتمال كونه لاحقًا في التاريخ لهاتين القاعدتين. وهكذا، فالأمر لا يقتصر على أن الأسانيد التي تنتهي إلى محمَّد لا تثبت صحة حديث ما، بل إنها تكاد تثبت النقيض (على الأقل فيما يتعلق بالإسناد نفسه؛ فربما يكون هو بدوره مقترنًا بنص صحيح).
أثيرَ اعتراضان آخران على علم تحليل الإسناد: أولًا، يمكن أخذ أي إسناد جرى التحقق منه بالطرق التقليدية ووضعه على أي حديث أو رواية تاريخية يسعى أحدهم إلى اعتمادها. ثانيًا، حقيقة أن بعض الأحاديث «الصحيحة» لم يُستشهد بها في خلافات القرنين الثامن والتاسع مع أنها كانت ستقدم لها حلًّا حاسمًا تشير إلى أن هذه الأحاديث لم تكن موجودة بعد. وعلى النقيض، سلَّم الباحثون المعاصرون أن أي حديث يتعلق بمسألة كانت قد أصبحت مهجورة بحلول نهاية القرن الثامن أو مسألة تتناقض مع عادة أصبحت مقبولة لدى كل المسلمين من المرجح أن يكون حديثًا قديمًا على نحو أصيل، حتى لو كانت أسانيد هذه الأحاديث ضعيفة (ومن ثم ففي مثل هذه الحالات، يكون الباحثون المعاصرون أكثر تقبلًا لموثوقية إحدى الروايات من الباحثين المسلمين القدامى).
يشترك هؤلاء الباحثون مع المسلمين القدامى في الاقتناع بأن الأحاديث والروايات الأولى عن ظهور الإسلام تحتوي على بيانات مفيدة يمكن على أساسها إعادة بناء التاريخ الإسلامي، لكنهم يختلفون في أساليبهم لتحديد الروايات الجديرة بالثقة. ولأنه لا توجد قضايا دينية أو لاهوتية تعتمد على مسألة الموثوقية (بصرف النظر عن أي تحيزات ثقافية أو سياسية قد تنطوي عليها)، يجيز الباحثون المعاصرون لأنفسهم افتراض عدم جدارة الأحاديث بالثقة ما لم يثبت عكس ذلك، بينما يفترض الباحثون القدامى العكس. مع ذلك، يتفق مؤيدو كلا المنهجين على أن الأحاديث والروايات التاريخية الأولى قد تكون مفيدة للمؤرخين غير ضارَّة.
يتعلق جزء كبير مما طرحناه آنفًا بجدوى (أو عدم جدوى) تحليل الإسناد. ولأن الأسانيد استُخدمت من قِبل جامعي الأحاديث ومعظم المؤرخين الأوائل على حد سواء، فالقضايا المرتبطة بها تتعلق نظريًّا بكل الروايات المكتوبة عن أول قرنين في التاريخ الإسلامي. لكن عمليًّا، تعاملت معظم الدراسة الحديثة المرتبطة بهذه المسائل مع الأحاديث على وجه الخصوص، بينما كانت أكثر تقبلًا تمامًا للروايات «التاريخية». وكانت مسألة وقت فحسب قبل أن يحاول الباحثون تطبيق معايير التشكك نفسها على الروايات التاريخية مثلما كانت تُطبق على الأحاديث، وهو ما يأخذنا إلى كتابي وانسبرو وكتاب «الهاجرية» لكرون وكوك. الفكرة الأساسية لهذه الدراسات أنه على الرغم من اتخاذ روايات السيرة والأحداث التاريخية للقرون الإسلامية الأولى شكلًا يشبه المصادر التاريخية «الحقيقية» — باتباعها تسلسلًا زمنيًّا، واتصافها بالاتساق الداخلي إلى حد كبير، وكونها تزخر بالأسماء والتواريخ والأماكن والأحداث مرجَّحة الحدوث (فالروايات المنقولة عن حياة محمَّد تخلو من العناصر التي تبدو في ظاهرها زائفة بدرجة تفوق توقعاتنا) — فإنها عرضة لنفس الاعتراضات المثارة ضد الأحاديث، وهي أيضًا وثيقة الارتباط بعضها ببعض في قضايا تتعلق مباشرة بالمعتقدات والممارسات الإسلامية إلى حد أنه لا يمكن اعتبارها شيئًا آخر غير أنها أدب ديني. ومن ثم لا يمكن إعادة بناء التاريخ الإسلامي الأول على أساس هذه المصادر.
يختلف وانسبرو عن مؤلفي كتاب «الهاجرية» في استجابتهم لهذه المشكلة. رأى وانسبرو أننا لا نستطيع معرفة كيفية ظهور الإسلام وتطوره في القرنين السابع والثامن. ويطرح كل عمل من أعماله هذه النقطة عن طريق التركيز على مجموعة مختلفة من المصادر؛ فكتابه «دراسات قرآنية» يبحث في القرآن والأعمال التفسيرية الأولى، بينما يهتم كتاب «البيئة الطائفية» بالموروث التاريخي الإسلامي المبكر. ويرصد الكتاب الثاني العديد من الصور المجازية في السيرة النبوية — على نحو ما بيَّنا أعلاه — ويذكر أن الإسلام ظهر عندما سعى العرب الفاتحون لتمييز أنفسهم عن مسيحيي ويهود البلاد التي فتحوها. يطرح الكتاب الأول عددًا من الأسئلة عن القرآن نفسه: لماذا يحتوي القرآن على آيات متعارضة وأجزاء متطابقة؟ ولماذا — على غرار ما ذكرنا عن الأحاديث — لم يُستشهد بالآيات القرآنية دليلًا في الخلافات الفقهية الأولى التي ترتبط بها بوضوح؟ ولماذا لم يظهر تفسير القرآن إلا بعد مرور قرن أو نحو ذلك على تجميع القرآن في صورته التقليدية؟ (يرفض معظم الباحثين المعاصرين أن ينسبوا إلى مسلمي القرن الثامن الأعمال التفسيرية التي تحمل أسماءهم.) وردًّا على هذه الأسئلة وغيرها، رأى وانسبرو إجابة واحدة مقنعة، وهي أنه لم تكن هناك نسخة تامة من القرآن قبل نهاية القرن الثامن ومطلع القرن التاسع. بوجه عام، قال إنه مثلما ظهرت الفنون والإدارة والثقافة الأدبية الإسلامية تدريجيًّا على مدار قرون من الاتصال بين الفاتحين العرب وشعوب الشرق الأدنى الذين فُتحت بلادهم، لا بد وأن الإسلام بوصفه دينًا قد تطور تدريجيًّا هو الآخر.
خلص مؤلفا كتاب «الهاجرية» أيضًا إلى أن الإسلام والقرآن كما نعرفهما ليسا كما عرفهما مسلمو القرنين السابع والثامن. وافترضا — اعتمادًا على المصادر غير الإسلامية عن تلك الفترة — أن مكة ليست المقدس الأصلي للإسلام؛ وأن الفتوحات الأولى حدثت قبل ظهور الإسلام كدين مميز عن أحد أشكال اليهودية؛ وأن «الإسلام» و«المسلمين» بناءً على ذلك لم يكونا المسميين الأصليين للدين وأتباعه. بدلًا من ذلك، كان المسلمون معروفين بكلمة مشتقة من الجذر السامي (ﻫ ج ر) الذي كان يشير إلى كلٍّ من الهجرة متمثلة في الخروج من شبه الجزيرة العربية إلى الأرض المقدسة (بدلًا من الفرار من مكة إلى المدينة)، وإلى انحدار العرب من هاجر أم إسماعيل. لم يلقَ كتابا وانسبرو أو كتاب «الهاجرية» قبولًا واسع النطاق؛ لأن الحجج التي ساقها المؤلفون محل خلاف (وفي بعض النقاط يمكن تفنيدها في الحال على ضوء أدلة جديدة مثل نسخ القرآن اليمنية)، ولأن المناهج المعاصرة تجاه التاريخ الإسلامي تشكلت بفعل مجموعة فريدة للغاية من الاهتمامات والاعتبارات قد تثني عن السعي وراء حجج مؤكدة عن التاريخ الإسلامي المبكر كما سنرى الآن.