مناهج متضاربة
مع أن كثيرًا من مؤرخي الإسلام الغرب ليسوا مسلمين، قد يكون من الصعب تحديد ذلك من كتاباتهم عن القرون الأولى من التاريخ الإسلامي. وهذا يتناقض تناقضًا واضحًا مع حال مؤرخي اليهودية والمسيحية الذين يميلون إلى تبني موقف الغريب تجاه موضوعهم حينما يكتبون عنه في سياقات أكاديمية (على الرغم من كونهم هم أنفسهم يهودًا ومسيحيين في كثير من الأحيان). لِمَ الاختلاف؟ قبل تناول الإجابات، حريٌّ بنا أن نسلط الضوء على السؤال أولًا. تخبرنا الروايات القديمة عن ظهور الإسلام أنه في منطقة بعيدة ومعزولة من شبه الجزيرة العربية (الحجاز)، وفي مدينة وثنية لم تألف التوحيد (مكة)، بدأ رجل أمِّي يتلو آيات حافلة بإشارات إلى شخصيات مذكورة في الإنجيل، وأرسى أفكارًا توحيدية. إذا قبلنا هذا الملخص الأساسي — ومعظمنا يفعل — فكيف لنا أن نفسر معرفة محمد بهذه الأفكار؟ من وجهة نظر المسلمين ذوي التفكير التقليدي، الإجابة واضحة؛ وهي أن الله قد أوحى له — بواسطة أحد الملائكة — بهذه الآيات. والواقع أنه من الصعب أن تكون مسلمًا مؤمنًا بالمعنى التقليدي دون أن تقبل هذه الرواية. لكن بالمثل قد يرى وانسبرو أنه من الصعب قبول الخطوط العريضة لهذه القصة دون أن تكون مسلمًا (أو على الأقل دون أن تقبل أن لله يدًا في تلك الأحداث)، ولهذا السبب رأى وانسبرو أن الإسلام والقرآن تطورا في وقت لاحق وفي مكان آخر حيث كانت الأفكار اليهودية والمسيحية سائدة. حاول كتاب «الهاجرية» أن يعيد خلق ظروف هذا التطور الديني اللاحق. ومثلما أشرنا أعلاه، يكاد الجميع يتفقون على أن كلًّا من وانسبرو وكتاب «الهاجرية» مخطئان في بعض التفاصيل (مع أن النقد الموجَّه لكتاب «الهاجرية» يكاد يركز فحسب على الجزء الأول منه؛ ويبدو أن عددًا قليلًا من النقاد يدرك أن الجزأين الثاني والثالث يحتويان نقاطًا بارزة عن تطور الحضارة الإسلامية في سياقها في دول الشرق الأدنى ربما تستحق المزيد من التحقيق). ومع أن وانسبرو وكتاب «الهاجرية» لم يقدما إجابات مقنعة تمامًا عن الأسئلة المتعلقة بظهور الإسلام، فلماذا غُضَّ الطرف على وجه العموم عن الأسئلة نفسها؟
يرى باحثون كثيرون أن الحكم على هذه الكتب يكون على أساس استنتاجاتها، وإذا كانت الاستنتاجات مغلوطة، يكون كل ما يرتبط بهذه الأعمال مغلوطًا أيضًا. أما المتشككون، فيعوِّلون على المنهجية؛ إذ ربما تكون الإجابات المقترحة مغلوطة، لكن تظل الأسئلة بحاجة إلى إجابات (وبالأحرى إذا كانت الإجابات السابقة غير مُرضية). وهناك أدلة تشير إلى أنه توجد الآن اعتبارات تتخطى حدود النقاش والجدال الأكاديمي المعتاد. ربما لا يجب أن نفاجأ بأن «الهاجرية» لم تشتهر قط بوصفها مصطلحًا يشار به إلى «الإسلام»، لكن لماذا هُجر مصطلح «المحمدية» في النصف الثاني من القرن العشرين؟ حتى ذلك الحين، كانت الكلمة مقبولة تمامًا ومتماشية مع «الزرادشتية»، و«البوذية»، و«الكونفشيوسية»، والمصطلح الفارسي «الموسوية» إشارة إلى اليهود. ومع أن هذا الأمر قد يبدو شكليًّا وغير ذي صلة كبرى، فإنه يمتد إلى أسئلة أعم تتعلق بالتفرد الإسلامي. وبينما يبدأ مؤرخو الأديان الأخرى بالنماذج التاريخية ويقرءون المصادر الرئيسية في ضوئها، يبدأ الكثيرون من مؤرخي الإسلام بالمصادر الإسلامية ثم ينتقلون إلى تنظيمها؛ فيستبعدون المواد التي تتجلى عدم مصداقيتها (مثل الإشارات إلى المعجزات، والأرقام الصحيحة، وما شابه) ويتقبلون المادة الباقية دون تمحيص. لماذا يُعفى الإسلام — والتاريخ الإسلامي على وجه الخصوص — من قواعد التحقيق التاريخي المقرَّرة؟
إحدى إجابات هذا السؤال أن الإسلام ودراسة التاريخ الإسلامي حديثا العهد نسبيًّا. وحداثة الإسلام مقارنة باليهودية والمسيحية دفعت إرنست رينان (الذي توفي عام ١٨٩٢) إلى القول إن محمدًا «وُلد في وضَح التاريخ»، وهو ما عارضه معظم الباحثين (بمن فيهم الباحثون المسلمون فيما قبل العصر الحديث)، وتناقضه أيضًا الأدلة الواردة في الفصل السابق. تعد حداثة التاريخ الإسلامي تفسيرًا مقنِعًا للنزوع إلى تصديق الروايات التقليدية يقينًا، وهكذا فإن طبعة مهمة من كتاب «تاريخ الطبري» الجامع (الذي لا غنى عنه للتاريخ الإسلامي الأول) قد نُشرت أول مرة في نهاية القرن التاسع عشر، واكتملت الترجمة الكاملة لهذا العمل في نهاية القرن العشرين. فالكثير من الأعمال الخاصة بالتاريخ الإسلامي في نهايتي القرنين التاسع عشر والعشرين اشتمل على البحث عن المصادر الرئيسية، وتحريرها، وفك شفراتها، وإعداد تحليلات أساسية لمحتوياتها. أما القلة من الباحثين — أمثال يوليوس ڤلهاوزن (الذي توفي عام ١٩١٨) — الذين استطاعوا في هذه المرحلة المبكرة أن يحللوا التاريخ الإسلامي تحليلًا نقديًّا، فقد قدِموا إلى الدراسات الإسلامية من الدراسات الإنجيلية أو دراسات الشرق الأدنى بوجه عام، ولا يزال عملهم عن التاريخ الإسلامي المبكر ينزع إلى كونه أكثر تحفظًا من عملهم عن الثقافات الدينية الأخرى للشرق الأدنى.
إجابة أخرى أن الروايات الواردة عن صدر الإسلام كالمحفوظة في «تاريخ الطبري» يصعب تجاهلها للغاية في ظل ما تزخر به من أوصاف تفصيلية بالغة التفصيل للأشخاص والأحداث التي تثير اهتمام العلماء والدارسين. إن تجاهل الإجابات الجاهزة عن أسئلة محورية يشكل تحديًا بالغًا في ظل غياب البدائل المناسبة للروايات التقليدية. ومفهومٌ أن معظم الباحثين قد يفضلون قبول نسخة معيبة من التاريخ عن ألا تكون لديهم أي نسخة منه على الإطلاق. وما إن تُطرح الرواية التقليدية داخل الفصول المدرسية، يحدث الآتي: يصبح الطلاب الذين تعلموا هذه الرواية التقليدية عن التاريخ الإسلامي أنفسهم أساتذة ويخلِّدون الرواية والمنهج.
إجابة ثالثة هي أن الضغوط المجتمعية والسياسية قد أثنت المؤرخين المسلمين والغرب أيضًا — لأسباب مختلفة — عن التشكيك في الروايات التقليدية والمصادر الخاصة بظهور الإسلام وتطوره قديمًا. أحيانًا ينظر المسلمون إلى المؤرخين المسلمين الذين يثيرون الشكوك حول تراثهم على أنهم يستحقون اللوم أكثر ممن يفعل ذلك من مؤرخي الغرب. فمنذ أن اتهم المسلمون الأوائل اليهودَ والمسيحيين بالتشويه المتعمد لكتاب الله، كانت مثل هذه الأكاذيب المناهضة للإسلام متوقَّعة من الباحثين غير المسلمين. لكن يُعتقد أن الباحثين «المسلمين» ينبغي حقًّا أن يكونوا أكثر معرفة. لذا حينما ذكر سليمان بشير (الذي توفي عام ١٩٩١) أن الإسلام تطور تدريجيًّا — كحال الأديان الأخرى — ألقى به طلابه في جامعة نابلس (فلسطين) من نافذة بالطابق الثاني. ولأن الباحث المصري نصر حامد أبو زيد أشار إلى أن القرآن نص أدبي ولا بد من قراءته على هذا الأساس، اعتُبر مرتدًّا، وصدر حكم بالتفريق بينه وبين زوجته (فرَّا من مصر على إثره). وقبل نحو سبعين عامًا — في عام ١٩٢٦ — قال وزير التعليم والمفكر المصري البارز طه حسين (الذي توفي عام ١٩٧٣) إن الكثير من الشعر الجاهلي منحول، وهو ما جلب له اتهامًا بالردَّة هو الآخر (مع أن الفكرة لا تحمل سوى صلة طفيفة بالموروث الإسلامي). مما لا شك فيه أن مواقف التعصب الدراسي هذه نادرة للغاية، لكن مجرد وجود عدد قليل ذائع الصيت من هذه الأمثلة يمكن أن يكون له تأثير مروع على من يعيشون داخل العالم الإسلامي ممن كانوا سيجنحون — لولا وجود تلك الأمثلة — إلى تطبيق منهج الغرباء إزاء دراسة التراث.
كان الباحثون الغرب الذين درسوا التاريخ الإسلامي — خصوصًا منذ الحرب العالمية الثانية — منتبهين إلى حساسية المسلمين أيضًا. ويرتبط هذا بدرجة ما بالتوجهات الأكاديمية الحديثة التي نشأت في العلوم الاجتماعية، والتي تركز على أهمية فهم «تجربة المؤمن» قبل أي شيء. ويرتبط أيضًا بدرجة أخرى بمحاولات الباحثين المعاصرين تدارك الأخطاء التي وقعت فيها الأجيال السابقة من المستشرقين، وهو ما يأخذنا إلى كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد.
إدوارد سعيد وكتاب «الاستشراق»
في بداية الأربعينيات من القرن العشرين، قال ساطع الحصري (الذي توفي عام ١٩٦٧) — وهو مفكر سوري ومؤيد بارز للقومية العربية — إن الكتب الغربية عن التاريخ «العربي» «متحيزة و[مستخدَمة] كأدوات من قبل الاستعماريين الذين حاولوا دومًا بشتى السبل المتاحة لديهم أن يقمعوا أو يشوهوا الوعي التاريخي من أجل تخليد حكمهم». وهناك رأي ذو صلة ورد في كتاب «الاستشراق»، وهو عمل بالغ الأثر ساعد في إرساء قواعد الدراسات ما بعد الاستعمارية. ومع أن الكتاب يدور في الأساس عن الشرق كما ينعكس في الأعمال الأدبية، فإنه يركز أيضًا على السير المهنية لمستشرقين بعينهم (بدءًا من نحو عام ١٨٠٠ فصاعدًا)، وتدور نقاطه الرئيسية الثلاثة حول مجال الاستشراق نفسه. النقطة الأولى أن الاستشراق مال لكونه «جوهريًّا»، مفترضًا أن للعرب (والمسلمين بوجه عام، وإن كان سعيد مهتمًّا في الأساس بسكان الشرق الأدنى) طبيعة جوهرية ثابتة يمكن تحديدها ووصفها والتحكم فيها سياسيًّا. النقطة الثانية أن الاستشراق — وخصوصًا كما مارسه الباحثون البريطانيون والفرنسيون — كانت تحركه دوافع سياسية. إذا أمكن إظهار «طبيعة» المجتمعات العربية أو الإسلامية على أنها أقل شأنًا من مجتمعات الغرب، حينئذ يمكن تبرير الهيمنة السياسية الغربية على العرب والمسلمين. والنقطة الأخيرة أن هذه الانطباعات الخاطئة عن جوهر «الشرقيين» المتدني والحاجة إلى التفكير في الشرق على قدر ارتباطه بالغرب فحسب قد احتفظت بمكانها داخل مجال دراسة معيب ذاتي التخليد.
على الرغم من أن الكثير مما قاله سعيد لم يكن جديدًا في الأوساط الفكرية الغربية والعربية/الإسلامية، فإن كتابه جذب لهذه القضايا اهتمام جمهور أكبر من القراء اشتمل غالبًا على مفكرين من مجالات أخرى. أيضًا ساهم نشر الكتاب عام ١٩٧٨ في شهرته؛ إذ كانت هذه فترة دائمة التغير في حقول النظرية الأدبية التي ركزت على دور الثقافة في الهيمنة على عناصر المجتمع الضعيفة أو إخضاعها سياسيًّا (وفي هذا السياق تبرز على وجه التحديد نظريتا النسوية وما بعد الاستعمار). كان كتاب «الاستشراق» محل ثناء على نحو بارز في مجال الدراسات الثقافية، لكنه على الرغم من ذلك كان مثار جدل على نحو متوقع بين المستشرقين أنفسهم.
أبرزَ نقاد كتاب «الاستشراق» — والكثيرون منهم باحثون بارزون في التاريخ الإسلامي — عددًا من الأخطاء في الكتاب تطعن في صحة كلٍّ من تفاصيله وأطروحته الرئيسية. فقد أشيرَ مثلًا إلى أنه في القرن التاسع عشر وفي أوج الهيمنة الاستعمارية الأوروبية على العالم الإسلامي، لم يكن مجال الاستشراق خاضعًا لهيمنة باحثين بريطانيين أو فرنسيين، بل متحدثين للغة الألمانية من دول لم تتمتع بحكم مباشر على المسلمين في أي مكان. ذُكر أيضًا أن الكثيرين من المستشرقين البريطانيين والفرنسيين في ذلك الوقت لم يكونوا مؤيدين لسياسات بلادهم. ومن ثم كان إدوارد براون أستاذ اللغة الفارسية في جامعة كامبريدج — (الذي توفي عام ١٩٢٦) — ناقدًا صريحًا للمواقف والسياسات البريطانية تجاه المسلمين، وكانت جهوده وإنجازاته سببًا في تسمية أحد شوارع طهران باسمه اعترافًا بفضله (ولا يزال هناك تمثال شبيه به). ومن الاعتراضات الأخرى على كتاب «الاستشراق» أنه يتجاهل الإسهامات العديدة الحيوية التي قدمها المستشرقون لمجال الدراسات الإسلامية؛ فإنتاج طبعات نقدية للمخطوطات — على سبيل المثال لا الحصر — مهمة تخدم المسلمين أيضًا وليست عرضة سهلة للتحيزات السياسية. مع ذلك لا يمكن للباحثين الغرب المهتمين بالمجتمعات الإسلامية أن يتجاهلوا كتاب «الاستشراق»، وحتى منتقدي الكتاب يوافقون على أن تأثيره على مجال الدراسات الإسلامية كان هائلًا؛ ففي العقود الأخيرة، وجَّه الدراساتِ الإسلامية جهدٌ واعٍ للتعاطف مع المجتمعات الإسلامية — في الماضي والحاضر — وأيضًا احتراز من تقديم حجج تاريخية قد تسيء إلى المسلمين. ولم يكن من المتوقع أن تجد الأسئلة والأفكار المطروحة في كتابي وانسبرو وكتاب «الهاجرية» مكانًا راسخًا في مثل هذه البيئة الدراسية القاحلة.
حقيقة أنه ينبغي لأهل الغرب الدارسين للمجتمعات الإسلامية أن يتحلوا بالرقة والحساسية تجاه الشعوب الخاضعة لدراستهم هي محمودة (وبديهية) لا شك. رغم ذلك، فإنه من التبعات غير المتوقعة لتأثير كتاب «الاستشراق» أن محاولات التودد الواعية قد تقضي على النقاش الأكاديمي المفتوح والجاد؛ ومن ثم تحول دون اتخاذ الدراسات الإسلامية للموقف المهني الذي تتمتع به الفروع الأخرى من دراسات الشرق الأدنى. ويتساوى ذلك مع تبني وجهة نظر متعالية تجاه أحد الموروثات الدينية التاريخية التي تستحق أن تعامَل بالاحترام نفسه الذي تعامَل به موروثات شبيهة؛ فلا يمكن لأحد الباحثين في التاريخ الإنجيلي أن يقدم بحثًا أكاديميًّا عن الدقة التاريخية لقصة موسى الرضيع في سلَّة في نهر النيل، ثم يُتوقع أن يؤخذ على محمل الجد من قبل زملائه من الجمهور. على الرغم من ذلك وفي العديد من الحالات، يمكن لباحث في التاريخ الإسلامي أن يتحدث عن التفاصيل الأكثر تقليدية في سيرة محمد ويتلقى الابتسامات العذبة والثناء الرفيع. إن معاملة الدراسات الإسلامية بلين استثنائي تشير ضمنًا (حتى وإن كان دون وعي) إلى أن الإسلام لا ينبغي أن يتعرض للتحليل الصارم نفسه الذي خضعت له الديانات الأخرى، خشية ألا يكون صلدًا بما يكفي لتحمل الفحص الدقيق. والمفارقة أنه على الرغم من أن هذا المنهج في تناول الموروث الإسلامي «لطيف»، فإن افتراضاته المتعالية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنوع الاستشراق الذي انتقده إدوارد سعيد مع أن هذا المنهج غير النقدي يتبناه عادةً مؤيدو الحجج التي طرحها سعيد.
مارشال هودجسون وكتابه «مغامرة الإسلام»
هناك عدة طرق تنبأ بها هودجسون بانتقادات سعيد (وغريب أن كتاب «الاستشراق» لم يُشِر إلى كتاب هودجسون). على سبيل المثال، رفض هودجسون مرارًا وتكرارًا المناهج الجوهرية تجاه الإسلام، موضحًا أن «كل جيل يتخذ قراراته». علاوةً على ذلك، كان هودجسون منزعجًا للغاية من المناهج أوروبية التركيز تجاه التاريخ الإسلامي، حتى إنه شرع في تطهير الحقل من المفاهيم والمصطلحات المستعارة من التاريخ الأوروبي. ولهذا الغرض صاغ مجموعة من الألفاظ الجديدة كي تحل محل الألفاظ التي اعتبرها مثقلة بالمعاني الثقافية، أو معيبة شوَّهت دراسة المجتمعات الإسلامية. فمصطلح «الشرق الأوسط» الذي يضع أوروبا في مركز العالم أصبح «المنطقة الممتدة من النيل إلى نهر أوكسوس»، و«الثورة الصناعية» أصبحت «التحول الغربي العظيم». وصحيح أن حلوله قد تكون غير متقنة وتصنيفاته مبهمة، لكن وكما يشير العنوان الفرعي للكتاب، كان الضمير والدقة (وليس التنميق) القوتين الموجهتين لمنهج هودجسون تجاه التاريخ الإسلامي. ومع أن التدقيق الإملائي المتاح على أجهزة الكمبيوتر يرفض كل تعبيراته الجديدة، كان الباحثون أكثر تقبلًا لبعضها مثل مصطلح «إسلاماتية» في الإشارة لا إلى الإسلام بوصفه دينًا بل إلى «العقدة الثقافية والاجتماعية المرتبطة تاريخيًّا بالإسلام والمسلمين».
بسبب منهج هودجسون الحساس تجاه دراسة المجتمعات الإسلامية وجهده في وضع التاريخ الإسلامي ضمن الصورة الكبيرة للتاريخ العالمي، توصل ألبرت حوراني (الذي توفي عام ١٩٩٣) إلى أن «مارشال هودجسون أعطانا إطار عمل لفهمٍ ربما لا يقل قيمة عن سلفه الجليل ابن خلدون».
الطبري وابن خلدون
كيف نظر المؤرخون المسلمون أنفسهم إلى التاريخ الإسلامي؟ إن عقد مقارنة موجزة بين حياة وأعمال كل من الطبري (٨٣٨–٩٢٣) وابن خلدون (١٣٣٢–١٤٠٦) — أهم المؤرخين المسلمين في رأيي — تمدنا بإجابتين مختلفتين تمام الاختلاف لهذا السؤال. في كثير من النواحي، تطرق الاثنان إلى التاريخ الإسلامي من طرفين متعارضين؛ فكان الطبري شرقيًّا (إيراني من مدينة آمل الواقعة جنوب بحر قزوين)، بينما كان ابن خلدون غربيًّا (عربي أندلسي ولد فيما يعرف الآن باسم تونس). عاش الأول وعمل في أوج الحضارة الإسلامية العربية، بينما عاش الثاني في إحدى فترات ركودها (إذ فرت أسرته إلى شمال أفريقيا أثناء حروب الاسترداد). وبينما كان الطبري منعزلًا بوعي منه عن الأوساط الحكومية ومستقلًّا عن التأثير السياسي، قضى ابن خلدون الكثير من حياته في الكبَر مستغرقًا في الدسائس السياسية والخطط التي تخدم مصالحه الشخصية، وهو ما قرَّبه من أشخاص مثل بيدرو ملك قشتالة (الملقب بالقاسي) وتيمور.
ليس من المدهش إذن أن تكون للظروف المختلفة التي شكَّلت أعمالهما التاريخية تأثير على منهجيهما تجاه التاريخ. كالمتوقع، ضم الطبري في عمله روايات عن الأقاليم الشرقية أكثر اكتمالًا من مثيلاتها عن الأقاليم الغربية، والعكس صحيح في كتابات ابن خلدون. علاوةً على ذلك، بذل الطبري — بحكم كونه فارسيًّا — جهودًا مهمة نحو التوفيق بين الروايات الفارسية القديمة والمسيحية اليهودية عن تاريخ ما قبل الإسلام. أما ابن خلدون فلم يكترث من جانبه بهذه الأمور.
الأقل توقعًا أن نظرتيهما لمسار التاريخ وكذلك أسبابه ونتائجه كانتا مختلفتين اختلافًا جذريًّا. لو كان للطبري بطاقة عمل لكتب عليها على الأرجح أنه «فقيه» أو «عالم» أو شيء من هذا القبيل لا «مؤرخ». والواقع أن الطبري كان معروفًا في زمانه على أنه باحث ديني بارز، بل ويقال إنه أنشأ مدرسة للفكر الإسلامي خاصة به (المذهب الجريري)، وهو مشهور أيضًا بين المسلمين بتفسيره الزاخر للقرآن قدر شهرته بكتابه «تاريخ الطبري». وهكذا كانت رؤيته للتاريخ الإسلامي محكومة باهتمامات دينية. فهو يرى أن الله خلق العالم، وأنه بعد نحو ٧٠٠٠ عام (وفق توضيحه للعملية الحسابية في مقدمة كتابه) سيضع نهايته. التاريخ بيد الله، ومساره يتقدم بخطى ثابتة نحو نهاية الأزمان (وهي فكرة ذات أصول إيرانية وسامية).
على النقيض، نظر ابن خلدون للتاريخ على أنه نتاج عمليات ديناميكية معينة يمكن تحديدها، مثل التفاعل بين البربر المفعمين بفكرة التماسك القبلي (العصبية) والحضارات المستقرة التي تاخموها. تقول نظرية ابن خلدون عن التاريخ إن البربر سوف يتحدون من حين لآخر كي يغزوا الحضارات المجاورة ويصبحوا متحضرين هم أنفسهم؛ ليتعرضوا للغزو بعدها على يد دفعة جديدة من البربر حيث تتوالى العملية بلا توقف. ومن ثم، على عكس رواية الطبري الخطية اللاهوتية الخاضعة لتوجيه الله، نظر ابن خلدون إلى التاريخ على أنه عملية دورية خاضعة للقواعد والأنماط. وهذا هو المنهج الذي يتبناه المؤرخون وعلماء الاجتماع المعاصرون، وبقدر ما ينسب إلى ابن خلدون من وضع هذا المنهج، يمكن اعتباره مؤسس هذه المجالات الأكاديمية (وإن لم يكن هناك دليل على أن مؤسسيها اللاحقين يدينون بالفضل لابن خلدون). قال أرنولد جوزيف توينبي عن مقدمة ابن خلدون (المقدمة النظرية لعمل ابن خلدون التاريخي التي وردت هذه الملاحظات فيها) إنها «فلسفة تاريخ لا شك أنها العمل الأعظم من نوعه الذي يضعه أي عقل في أي زمان أو مكان». وكان رونالد ريجان أيضًا من المعجبين المؤكدين بابن خلدون.
لا تقتصر المناهج المتضاربة تجاه التاريخ الإسلامي على الدراسة الغربية الحديثة؛ فقديمًا نظر أهل السنة والشيعة إلى التاريخ من منظورين مختلفين تمامًا، وفي العصور الحديثة، لاقت التفسيرات «الإسلامية» و«المعاصرة» (أو «الإصلاحية») للتاريخ التأييد من قِبل أنصارها المسلمين. يرى معظم أهل السنة (على الأقل منذ القرن التاسع) أن التاريخ ليس أقل من تنفيذ لإرادة الله على الأرض؛ ومن ثم فالمسار الذي اتخذه التاريخ لا جدال فيه. أما الشيعة فيرون أن التاريخ الإسلامي قد قطعته سلسلة من الأخطاء الكارثية؛ إذ كان ينبغي لعليٍّ أن يخلف النبي، لكنه تعرض للتجاوز (وكانت السنوات الست التي قضاها خليفة قصيرة ومتأخرة للغاية)، ثم استُشهد مثلما حدث مع ابنه الحسين. وكان المفترض بالثورة العباسية أن تعيد الشيعة إلى الحكم، لكن زعماء الحركة غيروا آراءهم في آخر لحظة؛ وبعدها سعى الخليفة المأمون لتعيين إمام شيعي خليفةً له، لكن الأخير مات في ظروف غامضة (ومعظم الأئمة الاثني عشر — إن لم يكن جميعهم — تعرضوا إما للسجن أو القتل أو كليهما معًا). واستطاع البويهيون الشيعة الوصول إلى الحكم في بغداد، لكنهم اختاروا عندئذ الإبقاء على الخليفة العباسي على العرش. والفاطميون والصفويون طبقوا حكمًا شيعيًّا، لكنهم سرعان ما تخلوا عن معظم وعودهم الثورية. وفي معظم أجزاء العالم الإسلامي (والغربي) كانت الهيمنة لرواية أهل السنة عن التاريخ الإسلامي. وفي إيران الحديثة يجتمع الحنين الفارسي للأمجاد الاستعمارية الماضية مع إحساس الشيعة بالاضطهاد ليوجدا شعورًا قويًّا بالظلم التاريخي.
حتى داخل الدوائر السُّنية، ظهرت على مر القرون مناهج متضاربة تجاه التاريخ الإسلامي. يرى المنهج السني التقليدي أن إرادة الله تقف وراء الأحداث، وأن علينا الاستجابة للحقائق التي تشكلت في الفترة من عام ٦٠٠ إلى ٨٠٠ لا أن نوجد حقائق جديدة. وبدايةً من القرن الثامن عشر أيدت مجموعات ممن قد يطلق عليهم الآن اسم «الإسلاميين» — و«المعاصرين» بدايةً من القرن التاسع عشر — قراءات متعارضة للتاريخ الإسلامي (المبكر). يرى الإسلاميون أن مياه الإسلام تكدرت على مدار القرون بسبب تراكمات غير مرغوب فيها كتلك المرتبطة بالممارسات والمعتقدات الدينية الشائعة. من وجهة نظرهم، لا بد أن يعود المسلمون لمصادرهم الأولى (القرآن والحديث) ولا يتبعون سوى الضوابط الواردة فيهما. ويتفق المعاصرون في الرأي مع الإسلاميين بشأن المشكلة العامة، لكن يختلفون معهم في حلهم الحرفي لأنه — من وجهة نظر المعاصرين — يركز كثيرًا على تفاصيل التاريخ ولا يركز بدرجة كافية على الدروس العامة المستفادة من القرآن ومن محمد وأصحابه وخلفاؤه. يعترض المعاصرون على تركيز الإسلاميين على التفاصيل بدلًا من الصورة العامة؛ بينما يؤكد الإسلاميون على أن هذه التفاصيل هي من صنع الله وهو الذي أمرنا بالتركيز عليها.
المربك أن الإسلاميين والمعاصرين يعرفون باسم «السلفيين» (الذين يتبعون أسلاف المسلمين). وما يجمع بينهم هو اهتمامهم بقصة التاريخ الإسلامي المبكر واقتناعهم الأكيد بأنه ذو أهمية للمسلمين المعاصرين. والغريب أن ما يتفق فيه السلفيون — وخصوصًا الإسلاميين منهم — مع مستشرقي إدوارد سعيد هو الاعتقاد بأن ثمة إسلامًا أصليًّا أو جوهريًّا يرغب المستشرقون في وصفه (والتحكم فيه) بينما يرغب الإسلاميون في أن يعيدوه إلى سابق عهده. لكن لماذا تحتل أحداث وقعت على مدار ألف سنة ماضية أي أهمية عملية لأناس يعيشون في القرن الحادي والعشرين؟ هذا هو السؤال الذي سنتناوله في الفصل التالي.