الأهمية الدينية للتاريخ الإسلامي
يقول إدموند بيرك (الذي توفي عام ١٧٩٧): «من لا يعرفون التاريخ مقدَّرٌ لهم أن يكرروه»؛ فهل هذا صحيح؟ قد لا يوافق الجميع على ذلك؛ فربما يقول أنصار الفلسفة التشاؤمية إنه ليس مقدَّرًا لمعظم الناس أن يفعلوا أي شيء ذا أهمية، ناهيك عن تكرار التاريخ (ومن المستبعد أن يُشكِّل الانتباه في فصل تدريس التاريخ فارقًا). علاوةً على ذلك، فإن الفكرة القائلة إن تكرار التاريخ نوع من العقاب على الجهل هي فكرة تفتقر إلى المنطقية في المجتمعات الإسلامية. والواقع أن هناك أجزاء كبيرة من التاريخ لها أهمية مباشرة وحاسمة فيما يتعلق بممارسة الإسلام، والتاريخ الإسلامي بوجه عام لعب (ولا يزال يلعب) أدوارًا سياسية مهمة للمسلمين ولمن يتعاملون معهم. لهذه الأسباب، سعى المسلمون على مر القرون إلى تعلم التاريخ الإسلامي حتى يكرروه، أو على الأقل ليستقوا من تفاصيله التوجيه العملي أو فوائد أخرى. وسوف نتطرق إلى الأهمية السياسية للتاريخ الإسلامي في الفصل التالي، بينما نركز فيما يلي على أهميته الدينية.
الأميَّة التاريخية شائعة للغاية في كثير من دول العالم الغربي؛ فقد كشفت دراسة حديثة أن «ثلثي خريجي المدارس الثانوية [الأمريكية] لا يستطيعون تحديد نصف القرن الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية، وثلث آخر لا يستطيعون التعرف على توماس جيفرسون، بينما يعتقد ٦٥ بالمائة منهم أن ستونوول جاكسون كان عازف جيتار في فرقة فانكاديليك الموسيقية». بالمثل، يُرى الشباب الأمريكي (وغير الأمريكي) المثالي يرتدون أحيانًا أساور منقوش عليها عبارة «لنجعل الفقر تاريخًا»؛ وهو هدف رائع تمامًا فيما عدا أنه يعكس فهمًا شائعًا بأن التاريخ مقلب نفايات تُلقَى فيه الأشياء غير المرغوب فيها وليس كنزًا يمكن العثور فيه على أشياء مرغوب فيها.
فئة أخرى من الشباب الأمريكي يظهرون وعيهم بأهمية الماضي لهم عن طريق ارتداء نوع مختلف من الأساور أحدها يحمل الحروف الأولى من عبارة (ماذا كان المسيح سيفعل؟) والهدف من هذه الأساور تذكير من يرتدونها باتباع تعاليم المسيح حينما تواجههم أزمات أخلاقية. وليس غريبًا أن معظم المسلمين لا يريدون أن يعرفوا ماذا كان المسيح سيفعل؛ والأشد غرابة أنهم لا يريدون أن يعرفوا ماذا كان محمَّد سيفعل، بل يريد المسلمون أن يعرفوا ماذا فعل محمَّد، وهو ما جعلهم يبتكرون مصطلح «السنة»، وهو مصطلح يشمل أيضًا الأفعال والأقوال المسجلة لبعض الشخصيات النموذجية الأخرى من العصور الإسلامية الأولى. ظاهريًّا، ثمة تشابه بين «السنَّة» ومفهوم «محاكاة المسيح» (الذي اقتُبست منه فكرة الأساور المشار إليها سلفًا)؛ ففي كلتا الحالتين يُعتقد أن لسلوك إحدى الشخصيات الرئيسية في أحد الأديان تأثيرًا على سلوك المؤمنين المعاصرين. لكن عند التمحيص يظهر فارق مهم بين المفهومين؛ إذ تعتمد «السنة» اعتمادًا كاملًا على المعرفة التاريخية، فإن كنا لا نستطيع إعادة بناء حياة محمد وليس لدينا سجل لأقواله، نكون قد ضللنا الطريق. على النقيض لا يعتمد مفهوم «محاكاة المسيح» على التاريخ؛ فكل ما يطلبه منا أن نتبع إنجيل الحب الذي جاء به المسيح، وأن نكون صالحين بوجه عام. (وفي نسخته الأصلية التي ظهرت في القرن الخامس عشر، شجع هذا المفهوم أيضًا ممارسات زاهدة لم يعد يبتغيها معظم الشباب المسيحي.)
يسعى المسلمون إلى التمثُّل بمحمَّد لأسباب ثلاثة. أولًا، يخبرهم القرآن مرارًا وتكرارًا وبطرق مختلفة أن يفعلوا ذلك (مع أنه لم يذكرها صراحة؛ والآية ٢١ من سورة الأحزاب هي الأقرب، وحتى هذه الآية أبعد ما تكون عن التصريح). ثانيًا، ثمة اعتقاد بأن الله أوحى بمعنى آيات القرآن إلى محمد مثلما أوحى إليه بالآيات نفسها؛ وعندئذ يُنظر إلى أفعاله على أنها انعكاس لكل ما أراده الله للبشر دون أن يُذكر صراحة، أو أنها التفسير القاطع لهذه الآيات. وأخيرًا، ما إن وصل الموروث الإسلامي إلى اعتبار محمد معصومًا من الخطأ حتى ظهرت عقيدة تقول إنه لا بد من اتباع سنَّة محمد. وقد رأينا أن هذه الأفكار مرتبطة بالشافعي؛ وعلى هذا النحو فإنها لم تكن ملزِمة قبل القرن التاسع. جدير أن نضع في الاعتبار أن ما صدر عن محمَّد من أقوال وأفعال من المرجح أن تكون له أهمية كبرى منذ البداية، كما هو الحال مع المؤسسين الآخرين للأديان والأمم الكبرى. لقد رفع الثوريون العباسيون في منتصف القرن الثامن شعار «نطالب بالعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه»؛ وهو شعار غامض على نحو بارع افترض مع ذلك أن سلوك محمد يحتل مرتبة عليا لدى الناس. يشمل نطاق سنة محمَّد أفعال هؤلاء الذين عرفوا محمدًا حق المعرفة والذين من المفترض أنهم تمثلوا به أيضًا، وكذلك أجيال المسلمين اللاحقة مباشرة، وجميعهم يُعرفون باسم السلف [الصالح]. ويمكن أن يكون السلف نماذج مثالية للأجيال اللاحقة، لكن سنة محمَّد وحدها هي التي تشكِّل الشريعة (مرة أخرى، منذ القرن التاسع).
في القرون الأخيرة، ظهرت مشكلتان أمام المسلمين الذين يتوقون إلى الالتزام الصارم بالسنة. أولًا، وكما رأينا، أدى تنوع الممارسة الناجم عن انتشار الإسلام بين شعوب ذات خلفيات ثقافية ودينية مختلفة إلى اندماج معتقدات وطقوس داخل الإسلام تتشابه قليلًا مع السنة، والأهم أنها أوجدت ما يعتبره السلفيون تنوعًا دينيًّا لا يحتمل بين المسلمين. ثانيًا، أسفرت الظروف التاريخية المتغيرة — والحداثة على وجه الخصوص — عن ظهور مواقف ليس لها إجابة واضحة في السنة، كما هو مدوَّن في الأحاديث والسيرة والمصادر التقليدية الأخرى. سعى السلفيون — في صورتيهما الإسلامية والمعاصرة (ولكل نوع منهما فروعه الخاصة) — إلى حل هذه المشكلات عن طريق الاسترشاد بالإسلام الذي كان يُمارس في عهد السلف الصالح. يرى الإسلاميون أن أيًّا ما كان يُفعل أو لا يُفعل آنذاك ينبغي أن يُفعل أو لا يُفعل الآن. أما المعاصرون فيتبعون من جانبهم مبادئ مختلفة؛ فهم يرون أن الله ودينه يتصفان بالعدل والرحمة في الأساس؛ وأن أيًّا ما فرضه في القرن السابع — من خلال القرآن والسنة — يتصف حتمًا بالعدل والرحمة. لكن الأزمان تتغير، وبعض تفاصيل السنة — وإن كانت مقبولة تمامًا أثناء الوحي — أقل قبولًا هذه الأيام؛ ولهذا السبب لا بد من إعادة قراءة هذه الأحداث في ضوء الظروف المعاصرة. يؤمن المعاصرون بالمساواة بين البشر، والديمقراطية، وحقوق الإنسان تمامًا مثلما يؤمنون بالقرآن والسنة. ومن ثم، لا بد أن يتوافق القرآن والسنة مع مبادئ المساواة بين البشر، والديمقراطية، وحقوق الإنسان. ولهذا يلجأ المعاصرون إلى التاريخ الإسلامي — وتحديدًا السيرة والوقائع التاريخية المتعلقة بالسلف لا إلى الأحاديث الأكثر حسمًا بوجه عام — لكي يثبتوا أن هذه المفاهيم كانت جزءًا من الإسلام منذ البداية. ويرد الإسلاميون على ذلك بأن القرآن والسنة هما اللذان يُعرِّفان «العدالة» وليس العكس.
بعبارة أخرى، يرغب كل من الإسلاميين والمعاصرين في معرفة التاريخ الإسلامي المبكر ليكرروه. كونهم يختلفون حول كيفية قراءة التاريخ الإسلامي — إما قراءة حرفية (في حالة الإسلاميين) أو قراءة كل واقعة ضمن سياقها التاريخي — يوضح مدى أهمية التاريخ وتفاصيله للمسلمين [من أهل السنة]. فمعظم المسلمين يوجدون في مكان ما بين المجموعتين، ويتبعون السنَّة حسبما فسَّرها العلماء الثقات على مر القرون. وتنعكس مركزية السنة لدى المسلمين المعاصرين في جدول برامج «قناة الإسلام» التي تبث إرسالها من لندن والتي تبث عروضًا تليفزيونية مثل برنامج «السنة هي الأفضل» الذي «يهدف إلى تثقيف وتعليم المشاهدين المسلمين أهمية اتباع سنة نبيِّنا محمَّد»؛ وبرنامج «النبلاء» الذي يستكشف «حياة صحابة النبي محمد النبلاء … وهم جيل تألق في ورعه وشجاعته ومآثره الدنيوية».
الوهَّابية
مع أن شبه الجزيرة العربية هي مهد الإسلام، فإنه بدءًا من منتصف القرن الثامن — حينما قمع الخليفة العباسي إحدى الثورات التي انطلقت من الحجاز — تعرضت هذه المنطقة للتهميش سياسيًّا طيلة ألف سنة؛ وهو ما منح النفوذ الديني للحكام الإمبراطوريين من الشمال الغربي أو الشمال الشرقي الذين لم يفكروا قط في التمركز هناك. استعادت شبه الجزيرة العربية الشهرة السياسية في عهد محمد بن عبد الوهاب (الذي توفي عام ١٧٩٢) وأتباعه الذين اشتهروا (بين معارضيهم) باسم «الوهابيين»؛ بينما هم أنفسهم كان يفضلون مصطلح «الموحدين» بسبب تعريفهم المتشدد للتوحيد. والحركة الوهابية هي التعبير الأكثر تأثيرًا عن السلفية ذات الطابع الإسلامي، وذلك لدورها في تشكيل (أو حسبما يقول البعض: «إيجاد») الإسلام السياسي المعاصر، ونشر الأفكار السلفية على أوسع نطاق في العالم الإسلامي.
أكد محمد بن عبد الوهاب من موطنه في إقليم نجد في شبه الجزيرة العربية على تعارض الممارسات الدينية الشائعة — مثل زيارة أضرحة الأولياء وقبورهم، والتمسك الأعمى بطقوس ومعتقدات لا أساس لها في القرآن أو السنة — مع التوحيد الحق، وأعلن أن من لا تتوافر فيهم معاييره الدينية كفار. وبوصف المسلمين غير الوهابيين كفارًا، فإنهم كانوا أهلًا لشن الجهاد عليهم، وكانت أضرحة الأولياء وقبورهم التي يتشفع بها هؤلاء عند الله عرضة للهدم. على انفراد، يمكن اقتفاء أثر هذه الأفكار لدى خوارج القرنين السابع والثامن، ومرابطي الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، والموحدين، وكتابات علماء القرن الرابع عشر مثل ابن تيمية (الذي توفي عام ١٣٢٨) وتلميذه ابن القيم الجوزية (الذي توفي عام ١٣٥٠). وهكذا تكوَّن إنجاز ابن عبد الوهاب — مثله مثل معظم المصلحين الآخرين في التاريخ — من ابتكار شيء جديد من أفكار قديمة.
في منتصف القرن الثامن عشر، انحاز الوهابيون لمحمد بن سعود حاكم إحدى المدن القريبة، وعلى مدار القرن ونصف القرن التاليين حاربت الأسرة السعودية من أجل بسط نفوذها ونشر الإسلام الوهابي في أنحاء شبه الجزيرة العربية. جاءت المقاومة من السكان المحليين الذين فزعوا من الأساليب العنيفة وعدم احترام الأماكن المقدسة، ومن السلاطين العثمانيين الذين أرسلوا قوات مصرية لمحاربة الحركة محققين في كثير من الأحيان انتصارات ساحقة عليهم. وفي القرن التاسع عشر تعرضت الدولة السعودية الوهابية للضعف أيضًا بسبب صراعات داخلية على الإمامة (إلى جانب قضايا أخرى). وعلى الرغم من ذلك فإن التفنيدات العديدة للمذهب الوهابي التي ظهرت في جميع أجزاء العالم الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر تشهد على تأثير الأيديولوجية الوهابية. ومع بداية القرن العشرين شهد المصير السياسي للحركة تحسنًا أيضًا؛ إذ استطاعت الدولة السعودية الوهابية في ظل قيادة الإمام (ثم «السلطان» ثم «الملك») عبد العزيز آل سعود (الذي حكم البلاد من عام ١٩٠٢ حتى ١٩٥٣) السيطرة على معظم أجزاء شبه الجزيرة العربية، وتأسيس المملكة العربية السعودية عام ١٩٣٢. وعندما اكتُشفت كميات كبيرة من البترول في أراضي المملكة عام ١٩٣٨، ضمن الإسلام الوهابي السبل التي يمكنه بها نشر رسالته على نطاق أوسع من أي صورة أخرى للإسلام. فيومًا بعد يوم، تنتشر المساجد والمدارس والمواد التعليمية الوهابية أينما وُجد المسلمون.
هدأت حدة التطبيق الصارم للمذهب الوهابي بفعل الظروف المدنية المرتبطة بحكم دولة مركَّبة، وما قد يراه أعداء النظام الحاكم أنه فساد ناجم عن الثراء الهائل المفاجئ، وتدفق أعداد كبيرة من المهاجرين (الاقتصاديين في الغالب) من مجتمعات إسلامية أخرى يختلف إسلامهم عن الإسلام الوهابي. هذه التهدئة (العرضية) التي شهدتها السلوكيات الوهابية مهدت الطريق أمام تعاون سعودي وثيق مع مجموعات كان محمد بن عبد الوهاب سيعتبرها «كافرة» مثل الإخوة السلفية؛ وهي علاقة جعلت السعوديين الداعم المالي الأكثر سخاءً للإخوة منذ الخمسينيات من القرن العشرين. بزغ نجم أسامة بن لادن من وسط المصفوفة الوهابية السلفية، مع أن الطبيعة المحددة لعلاقته بالوهابية تظل موضع خلاف. قد تساهم الوهابية أيضًا في فهمنا للفجوة التي تفصل حاليًّا المجتمعات الإسلامية عن المجتمعات الغربية المسيحية-اليهودية (لكن عليك انتظار خاتمة الكتاب لتعرف كيف).
بوجه عام، تشكَّل المذهب الشيعي أيضًا بفعل التاريخ، ولكن بطرق مختلفة وبقدر مختلف. فبدءًا من القرن التاسع وحتى نهاية القرن الثامن عشر، مال الشيعة الاثنا عشرية إلى التصوف بينما سعى شيعة آخرون (وأشهرهم الإسماعيليون) وراء النفوذ السياسي باسم الأئمة الأحياء. أما هذه الأيام فالشيعة الاثنا عشرية المتمركزون في جمهورية إيران الإسلامية هم الذين يمثلون الفاعلية الشيعية (لاحظ السيف الذي يتوسط العلم الإيراني، وأنهم تولوا الحكم عن طريق ثورة اندلعت عام ١٩٧٩)، بينما الإسماعيليون هم الأكثر تصوفًا في الغالب.
هذا التغير في موقف الشيعة الاثني عشرية تجاه النفوذ السياسي يرتبط بمواقف الشيعة من التاريخ الإسلامي المبكر. لقد حاز العلماء الشيعة في أواخر القرن السابع عشر في ظل غياب حكام أقوياء في الأراضي الصفوية قدرًا كبيرًا من النفوذ فيما يتعلق بشئون الدولة. ومع سقوط الصفويين في القرن الثامن عشر، نشب جدال بين فرعين من الشيعة؛ رأى «الإخباريون» أنه حتى عودة الإمام الثاني عشر يتعين على المسلمين اتباع القرآن والسنة التي تشتمل في نظرهم على سوابق حددها محمد وأئمة الشيعة المعترف بهم (حسبما ورد في أحاديث الشيعة). ومن ثم فهم يرون أن التاريخ الذي يصف أقوال السلطات الشيعية وأفعالها (السلف الشيعة) له علاقة مباشرة بممارسة الإسلام. أما خصومهم فكانوا الأصوليين الذين قالوا إن ممارسات الشيعة الحالية لا بد أن تعتمد على اجتهاد كبار العلماء. ومع نهاية القرن الثامن عشر، فاز «الأصوليون» في هذا الجدال، والشيعة الأصولية هي المسئولة عن قيام الثورة الإيرانية في نواحٍ عدة؛ فانتشار المجتهدين أدى إلى إيجاد تسلسل هرمي لرجال الدين على رأسه آيات الله العظمى الذين كان من بينهم آية الله الخميني، أشهر رموز الثورة. ويقول البيان غير الرسمي للثورة — وهو كتاب للخميني بعنوان «الحكومة الإسلامية: ولاية الفقيه» — إنه من أجل ضمان ممارسة المسلمين الإسلام الحق، لا بد أن يعيشوا في ولاية إسلامية يحكمها فقيه مجتهد بارز. وبعد نجاح الثورة، صار آية الله الخميني أول هؤلاء الحكام.
إن الاعتماد على المجتهدين الأحياء يقلل بالضرورة من تأثير السنة على الإسلام الشيعي، فضلًا عن أن الفهم العام بين الشيعة بأن مسار التاريخ قد تعرض للتضليل منذ أن جرى تخطي عليٍّ في مسألة الخلافة بعد وفاة محمد، قد قلل من دور التاريخ الإسلامي في تحديد الممارسات الشيعية. رغم ذلك، ثمة طريقتان ارتبط فيهما المذهب الشيعي والتاريخ من أجل إيجاد ممارسات خاصة بالإسلام الشيعي دون غيره، وهما: التعزية، والعمليات الاستشهادية.
يعتقد جميع الشيعة أن الحسين — الابن الثاني لعلي — كان الإمام الثالث في خلافة محمد (يسبقه علي وابنه الأكبر الحسن). وعندما وصل الأمويون إلى الحكم عام ٦٦١، ازداد وضوحًا أنه من المستبعد أن يتولى الحسين الحكم بوصفه إمامًا. وفي عام ٦٨٠ قاد الحسين وأتباعه ثورة ضد الخليفة الأموي يزيد، لكنهم تعرضوا للقمع الوحشي في كربلاء في يوم العاشر من أول شهور التقويم الإسلامي الذي كان حتى ذلك الحين يوم صيام تطوعي (وهو يوافق يوم الغفران اليهودي الذي يحتفل به اليهود أيضًا في اليوم العاشر من الشهر الأول). ولإحياء ذكرى استشهاد الحسين على يد يزيد، ميَّز الشيعة هذه الذكرى السنوية بإقامة طقوس «التعزية» التي يعاد فيها تجسيد معاناة الحسين ومقتله. والتعزية طقس شهير وشائع في المجتمعات الشيعية، ويتيح للسكان المحليين فرصة التفكر في أمور أخلاقية ودينية، وفي بعض الحالات توجيه النقد المقنع إلى السلطات عن طريق ذكر بياناتهم السياسية التي لا تلقى رواجًا على لسان يزيد أثناء التجسيد. ومن ثم، فإن واقعة في القرن السابع من التاريخ أمدَّت المذهب الشيعي بواحد من أكثر طقوسه تميزًا.
يختلف كثير من الشيعة في الرأي مع ذلك، ويرتبط استشهاد الحسين (ومعظم الأئمة الاثني عشر الآخرين) بإحساس الشيعة بأنهم كانوا ضحايا كما أسلفنا القول ليمدهم ذلك بموروث يغض الطرف عن مثل هذه الممارسات. وليس من قبيل الصدفة أن الجماعة الأكثر اشتهارًا بشن الهجمات الانتحارية في التاريخ الإسلامي كانت الشيعة (الحشاشون الإسماعيليون)، وليس من قبيل الصدفة أيضًا أن الهجمات الانتحارية في العصر الحديث انطلقت على يد حزب الله الشيعي (الذي وقعت أولى «عملياته الاستشهادية» في بيروت عام ١٩٨٣). أسهمت فعالية هذه الوسيلة الزهيدة التي لا تحتاج تقنيات عالية في شن الحروب في لفت انتباه الإسلاميين السنة إليها، فتبناها بعضهم منذ ذلك الحين ولكن في تردد. ولا يزال جواز العمليات الاستشهادية محل جدل محتدم بين أولي الأمر من أهل السنة.
ألهمت وقائع من السير الذاتية للنبي والسلف (والأئمة لدى الشيعة) سلوك المسلمين ذوي التوجه الديني، حتى وإن لم يُستعَن بها بوصفها جزءًا من الشريعة. فمولد الإسلام — على سبيل المثال — كان مثالًا نموذجيًّا للثائرين الدينيين على مدار التاريخ الإسلامي. لذا أفتى الخوارج بوجوب الرحيل من الأراضي الخاضعة لحكم غير شرعي (أي حكم يتزعمه غير الخوارج)، وهو رحيل وصفوه باسم «الهجرة» سيرًا على نهج النبي عندما هاجر من مكة الوثنية إلى المدينة. نفذت الثورتان العباسية والفاطمية «هجرات» خاصة بهما؛ فالعباسيون غادروا «المركز» إلى خراسان، ليعودوا إلى المركز مرة أخرى ويلحقوا الهزيمة بأعدائهم (مثلما فعل محمَّد)، بينما هاجر الفاطميون إلى اليمن وشمال أفريقيا قبل العودة شرقًا إلى مصر غزاةً يحالفهم النصر. والأكثر لفتًا للنظر أولئك المصلحون والناشطون السياسيون المسلمون (عادةً في أفريقيا) الذين صاغوا حركاتهم على نهج وثيق الصلة بحياة النبي. فقد قاد عثمان دان فوديو (١٧٥٤–١٨١٧) أتباعه من موطنهم (هجرة) وشنوا جهادًا في البلد المعروفة حديثًا باسم نيجيريا ضد أهل البلاد المسلمين في بلاد الهوسا الذين عُدَّت ممارستهم للإسلام غير مقبولة (بسبب استيعابها طقوسًا شاعت قبل ظهور الإسلام). حثَّ عثمان أتباعه على الجهاد مستعينًا بمقطع شعري مقفَّى (راجع القرآن الذي يضم في الأغلب نثرًا مقفَّى)، وأُطلق على من خلفوه اسم «الخلفاء». ومهدي السودان الذي عاش في نهاية القرن التاسع عشر مثال آخر على هذا الأمر؛ فقد باشر الهجرة هو الآخر، وأُطلق على مؤيديه اسم «الأنصار» (الاسم الذي أُطلق على مؤيدي محمَّد في المدينة)، وجاء بعده هو الآخر «خليفة».
يجب على العرب والمسلمين حيثما كانوا أن يقاطعوا كل الشركات المنحازة للصهاينة … إن المقاطعة سلاح فعال من أسلحة الحرب قديمًا وحديثًا. وقد استخدمه المشركون في العهد المكي في محاربة النبي ﷺ وأصحابه، فآذاهم إيذاءً بليغًا حتى أكلوا أوراق الشجر. كما استخدمه بعض الصحابة في محاربة المشركين في العهد المدني.
لا يعني رد القرضاوي أن المقاطعة جزء إلزامي من السنَّة، بل يقول إنها أثبتت فاعليتها تاريخيًّا. المغزى هنا أن التاريخ الذي يستند إليه هو من سيرة النبي، لأنها المرجع الأول لأولي الأمر السنة الذين يبحثون عن إجابات تقليدية لأسئلة معاصرة، ولأن لها صدًى واسع النطاق. على نحو مماثل، حينما سعى الإسلامي البارز سيد قطب إلى نزع الشرعية من أولي الأمر المسلمين والمجتمعات الإسلامية في زمنه، أشار إليها بأنها تمثل «الجاهلية»، في إشارة متعمدة إلى العصر الذي انطلقت منه رسالة محمد وبزغ منه نجم الإسلام.
في بعض هذه الحالات، يصعب التمييز بين الأهمية «الدينية» و«السياسية» للتاريخ الإسلامي، لأن أي أهمية سياسية نتجت عن حياة محمد والسلف ترتبط ارتباطًا مباشرًا بمكانتهم الدينية بين شعوب متدينة. لكن هناك وسائل يمكن استغلال التاريخ الإسلامي من خلالها على يد أناس ذوي مؤهلات دينية قليلة أو ذرائع للتأثير على المسلمين الذين لا يكترثون لأمر الدين (أو من ليسوا مسلمين من الأساس) مثلما سنرى الآن.