بابا تمبكتو
في صباح يوم الحادي والثلاثين من مارس من عام ١٨٥٠، غطَّى ضباب كثيف غرب ليبيا، وهو أمر نادرًا ما كان يحدث، منذرًا باحتمال سقوط أمطار. كان الربيع مطيرًا، وبينما كان هاينريش بارت وزميله البروسي أدولف أوفرويج ينتظران قائد حملتهما في مكان اللقاء جنوب طرابلس، فوجئا باخضرار الصحراء، التي بدت مثل مرج؛ إذ كانت مليئة بحقول الذرة، والعشب، وقطعان الأغنام، ومجموعة وافرة من زهور برية زرقاء. عندما بدأ المطر يهطل، وصلت جماعة جيمس ريتشاردسون، وراقب بارت بتشكُّك بينما بدأ خَدَمه ينصبون خيمةً بحجم مستشفى ميداني. هطل المطر بغزارة طيلة الأربع والعشرين ساعة التالية مما جعلهم يؤجلون خططهم للرحيل، لكن مع أن بارت كان محبطًا، فإنه لم يوثِّق هذا في يومياته. كان أخيرًا على وشك أن ينطلق في الرحلة التي ستميزه، رحلة ملحمية مدتها خمسة أعوام من شأنها أن تحل لغز قلب أفريقيا الذهبي المفقود.
كان قلة من الرجال مؤهلين جدًّا لمهمة كهذه بقدر ما كان بارت مؤهلًا للاستكشاف. صورته صورة بطباعة الليثوجراف في هيئة شاب متشكك، له شارب متصل بلحيته وظهْر مستقيم بصرامة. كان مَن غَرس فيه تلك الصرامة هما والديه، يوهان وتشارلوت بارت من هامبورج، اللذين كانا لوثريين ربَّيا أولادهما تبعًا للمبادئ الصارمة للأخلاق، والواجب، والمثابرة. كان هاينريش الابن الثالث من أربعة أبناء، وقد وُلد في عام ١٨٢١، وأُرسِل في عمر الحادية عشرة إلى أكاديمية يوهانيم المرموقة، حيث كان له قلة من الأصدقاء وأظهر ما وصفه أحد معاصريه بأنه «انطواء أرستقراطي.» ومع ذلك كان تلميذًا مفعمًا بالتصميم والحيوية، وكان يشغل وقت فراغه في قراءة تاريخ وجغرافيا الإغريق والرومان باللغتين اليونانية واللاتينية. وفي أيام مراهقته، معتقدًا أنه كان ضعيفًا من الناحية البدنية، اتبع نظامًا من التدريبات والاستحمام بماء بارد، حتى في الشتاء، من أجل تقوية جسده.
استغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن أتمكَّن من إذابة الجليد الذي كان يحيط بقلبه ومن التعرُّف على أعماق شخصيته. في خطابه الأول لي، كتب: «إن جعلت أختي تعيسة، فسأرديك قتيلًا»، وهو ما كان واضحًا بما يكفي.
تحت هذه القشرة الخارجية كان يوجد رجل يحتاج إلى أن تكون ثمَّة حاجة إليه؛ فقد كتب ذات مرة أن هدفه الوحيد هو أن «أكون «نافعًا» للبشر، وأن أشجعهم على التنوير المشترك، وأن أغذي أرواحهم وأمنحهم القوة.» من المؤسف أن رواية بارت عن رحلته في شمال أفريقيا كانت مخيبة لآمال البشرية. كتب ناقد بمجلة «أثينيوم» عن كتابه «رحلات على شواطئ البحر المتوسط القرطاجية والقورينية» أنه «عينة محيرة أكثر … من بعض من أسوأ أخطاء النثر الألماني التي نادرًا ما وقعت في طريقنا»، وأُلغيت الخطط المتعلقة بكتابة مجلَّدٍ ثانٍ. الأمر الذي كان أكثر إيلامًا حتى من الانتقادات المهنية التي تلقَّاها في هذا الوقت كان الرفض الذي تلقَّاه لعرضٍ بالزواج. كتب شوبرت، دون أن يسجل اسم المرأة: «كانت التجربة بمثابة لطمة شديدة لكبرياء بارت.» ثم أضاف: «دام خوفه المرير من العلاقات العاطفية وقتًا طويلًا بعد ذلك، وحتى في الأعوام اللاحقة لم يستطِع أن يُرغِم نفسه على الزواج.»
ليس ذلك مهمًّا. سيوظف بارت شغفه في البلدان الأجنبية، حيث كان دومًا يبدو أكثر ارتياحًا.
في عام ١٨٤٩، عثر على فرصته، في حملة جيمس ريتشاردسون الاستكشافية البريطانية إلى المناطق الداخلية الأفريقية. كان ريتشاردسون البروتستانتي قد انضم إلى جمعية مناهضة العبودية في بريطانيا والخارج عند تأسيسها في عام ١٨٣٩ ونشأ لديه اهتمام خاص بالجانب المتعلق بالتجارة التي كانت تعبر الصحراء الكبرى. وفي عام ١٨٤٥، قادته رحلاته إلى واحة غات، في فزان، ولدى عودته طرح فكرة القيام بحملة استكشافية إلى بحيرة تشاد على وزير الخارجية، اللورد بامرستن، بهدف الاستعاضة عن تجارة الرقيق بالسلع المصنعة البريطانية. ووافق بامرستن على ذلك. ولأن ريتشاردسون لم يكن خبيرًا في الملاحظات الجغرافية، فقد لجأ إلى معارفه من البروسيين ليرشحوا له عالمًا، وبناءً على توصية من ريتر استخدم بارت وأوفرويج. كان من شأنهم أن يسافروا على نفقة بريطانيا فيما أطلق عليه ريتشاردسون «رحلة استكشاف وعمل خيري إلى وسط أفريقيا عن طريق الصحراء الكبرى».
على غير العادة، وربما على نحوٍ منذرٍ بالشؤم، وضع الثلاثة عقدًا قبل مغادرتهم ليحددوا أدوارهم. كان من شأن ريتشاردسون، بصفته القائد، أن يقرِّر اختيار الطريق ووسيلة التقدم، ولكنه كان ملزمًا أيضًا بأن يعاونهما في عملهما العلمي. وإذا وصلوا إلى بحيرة تشاد على قيد الحياة، فسيعود، تاركًا للرجلين الألمانيين أي أدوات يحتاجان إليها للقيام بملاحظاتهما.
كان التوتر بين بارت وقائده واضحًا منذ البداية. كانت الجملة التي سيختار بارت، بعد أعوام، أن يفتتح بها سرده للرحلة في خمسة مجلدات هي: «كان السيد ريتشاردسون في باريس ينتظر المراسلات بينما كنت أنا والسيد أوفرويج قد وصلنا إلى تونس»؛ وبعد ستة أسابيع أخرى وصل ريتشاردسون المرتبك إلى طرابلس. استغل بارت الوقت في أن يأخذ أوفرويج في جولة كبيرة إلى المناطق الساحلية، وهو انحراف اعتبره البريطاني دلالة على «تهور أوروبي». وبعد وصول ريتشاردسون، زادت حالات التأخير أكثر؛ إذ انتظر أن تُشحَن كميات هائلة من المعدات من مالطا. وكان أكبر سبب للتأخير هو القارب. فعلى الرغم من أن الأميال الألف والخمسمائة الأولى من طريق الحملة الاستكشافية كانت ستُقطع عبر الصحراء، كان عليهم أن يحملوا قاربَ تجديف ثقيلًا كانوا يأملون أن يستخدموه يومًا ما في معاينة بحيرة تشاد. واحتاجوا أيضًا إلى بحَّار لتشغيله؛ وكان ريتشاردسون قد عيَّن قريبًا له لهذه المهمة، لكنه كان صعب المراس حتى إنه أُعيد إلى الديار عندما كانوا في منتصف الطريق وسط الصحراء.
هذا النوع من الأخطاء الفادحة كان أمرًا معتادًا من ريتشاردسون، بحسب القنصل البريطاني في طرابلس، جي دبليو كرو، الذي أعرب لوزارة الخارجية عن دهشته الشديدة من أن يُختار رجل كهذا لقيادة حملة استكشافية إلى المناطق الداخلية: «أخشى أن يؤدي سوء إدارته الشديدة إلى إضعاف السمعة التي تتمتع بها حتى الآن الأمة الإنجليزية في وسط أفريقيا.»
بينما رتَّب ريتشاردسون عملية نشر القارب إلى قِطَع يمكن أن تُحمَل على ثمانية جمال كبيرة، انطلق البروسيان النافدا الصبر جنوبًا، بعدما وعداه بأن ينتظراه بعد أربعين ميلًا في وادي المجينين. وأخيرًا، في صباح يوم الثاني من أبريل من عام ١٨٥٠؛ وإذ كان الجو صحوًا، كانت الحملة تستعد للرحيل. كان من شأن المشهد الذي تقع عليه عينا زائر الوادي أن يكون جديرًا بسيرك بارنوم وبيلي.
امتلأ مجرى النهر الجاف باثنين وستين جملًا، بينما اشتبك حولها عشرات من قادة الجمال، والخدم، والتابعين في عراك وجدال. كان ريتشاردسون قد وظَّف ترجمانًا سكِّيرًا يُسمَّى يوسف موكني، الذي كان ابنًا لحاكمٍ سابقٍ لفزان، والذي كان قد أُجبِر على توقيع عقد بالامتناع عن شرب الخمر، واثنين من الإنكشارية العرب اللذين أمضيا الأسابيع الأولى في التهديد بأن يقتل أحدهما الآخر. بعد ذلك أتت حفنةٌ من العبيد المعتوقين، العائدين مع عائلاتهم من تونس إلى وطنهم في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ومرابط من فزان. كان الشخصان الأكثر جدارةً بالملاحظة من الجميع هما تابعان وصفهما ريتشاردسون بأنهما «رفيقان مجنونان»، واللذان تشكَّك في أن الهدف الوحيد من وجودهما كان التهكم على الحملة. كان لدى أحد هذين الرجلين، والذي زعم أنه يحمل لقب شريف من نسل النبي، «عادة كريهة تتمثل في التهديد بقطع عنق الجميع». وما إن وصل حتى أثار استياء القافلة ببدء المشاحنات وإخبار الآخرين بأنه سيطعنهم أو يطلق عليهم النار. «ولكنه كان يتملقنا نحن الأوروبيين»، بحسب ما ذكر ريتشاردسون، «بينما كان معه سكين ضخم يخفيه تحت ثيابه جاهزًا للهجوم.» كانت مجموعة من الدبلوماسيين والمغتربين قد أتت أيضًا إلى الوادي لتودعهم: القنصل الأمريكي، السيد جينز؛ ونائب القنصل البريطاني، السيد ريد؛ وفريدريك وارينجتون، وزوج أخت ألكسندر جوردون لينج وصديق بارت، وهو رجل وصفه البروسي بأنه «ربما يكون أروع مثال على الأوروبيين المستعربين».
ما إن أُعيد «الرفيقان المجنونان» إلى طرابلس، وأحدهما، وهو الشريف، تحت الحراسة، انطلقت الحملة الاستكشافية. ركب وارينجتون معهم الأيام القليلة الأولى حتى مدينة غريان التي تقع على قمة جبل. أقاموا مخيمًا وسط شجيرات الأكاسيا وراقبوا المخروط البركاني لجبل تكوت بينما كانت قصعة كبيرة من الكسكسي تُحَضَّر لوارينجتون. وفي صباح اليوم التالي، الخامس من أبريل، راقبهم وهم يغادرون صوب الأفق الجنوبي، مثلما راقب والده ألكسندر جوردون لينج يرحل منذ خمسة وعشرين عامًا.
كتب بارت بعد عدة أعوام: «افترقنا عن السيد وارينجتون، وكنت الوحيد من الرحَّالة الثلاثة الذي سوف يراه مجددًا.»
•••
اتضح أن ريتشاردسون ضعيف في القيادة بقدر ما توقَّع الجميع، وكانت رحلتهم عبر الصحراء تماثل في تعرجها تقريبًا رحلة لينج. كانت القافلة مستنزفةً على يد مرشديها ومطاردةً من قِبَل قراصنة الطوارق. وبحلول شهر سبتمبر من عام ١٨٥٠، عندما وصلوا إلى الأمان في تنتالوس في جبال آير، كان الإرهاق قد بلغ بريتشاردسون مبلغه. وبينما انطلق بارت في حملة استكشافية فرعية إلى أغاديس، حيث سمع عن وجود إمبراطورية سونجاي السودانية العظيمة، استراح ريتشاردسون في خيمته. لم يستطِع أن يحتمل حرارة الجو، وحاول واهنًا أن يرجع إلى طرابلس لكنه لم يتمكَّن من العثور على مرشد. ومات في شهر مارس في العام التالي دون أي مقاومة. عندئذٍ تولَّى بارت مسئولية الحملة، وأجرى بالاشتراك مع زميله البروسي مَسْحًا شاملًا لبحيرة تشاد، لكن نوبات متكررة من الحمى دمرت صحة أوفرويج، وبحلول أواخر شهر سبتمبر من عام ١٨٥٢ مات هو الآخر. دفنه بارت في قبرٍ على ضفة البحيرة، بجوار القارب.
اغتمَّ بارت بشدة لوفاة أوفرويج. وكتب في يومياته: «وهكذا مات صديقي ورفيقي الوحيد، في العام الثلاثين من عمره، وهو في ريعان شبابه.» عندئذٍ شعر أن بحيرة تشاد «لا تُطاق»، ولم يكن أمامه سوى أن يفعل أمرًا واحدًا، وهو أن يمضي قُدُمًا. ترك بامرستن أمر وجهة الحملة المستقبلية بالكامل لسلطته التقديرية، وكتب له أنه سيكون «راضيًا تمامًا» بمسار غربي إن اختار بارت هذا، وكان ذلك هو ما فعله المستكشف حينئذٍ. كتب: «عزمت على أن أنطلق بأسرع ما يمكن في رحلتي صوب نهر النيجر، إلى بلاد جديدة وأناس جدد.» وفي الخامس والعشرين من نوفمبر، شرع في المضي على الطريق الخطر إلى تمبكتو، متنكِّرًا في هيئة مسلم، كما فعل كاييه من قبل. ادَّعى أن اسمه «عبد الكريم»، وأنه سوري يتكلم التركية كان مسافرًا إلى المدينة ومعه كُتُب لشيخ تمبكتو، وهو رجل يُدعى أحمد البكاي كان بارت قد سمع به في أسفاره.
كان الطريق غربًا رحلةً شاقةً، في «مناطقَ تكاد تكون مجهولة، ولم تطأها قدم أوروبية من قبل»، واستلزمت عبورَ ممالكَ كثيرةٍ علاوةً على تضاريسَ جعلتها الأمطار خطرة. ومع ذلك، وقبل أن يصل إلى المدينة بوقت طويل، بدأ بارت يكتشف اكتشافاتٍ بالغة الأهمية فيما يتعلق بتاريخ سونجاي، وهو موضوعٌ كان افتتان المستكشف به يتزايد.
في أبريل من عام ١٨٥٣، تقريبًا في منتصف طريق رحلته الممتدة لمسافة ١٥٠٠ ميل إلى تمبكتو، وصل إلى وورنو في صُكُتُو، حيث التقى برجل متعلم يُدعى عبد القادر دان تافا، والذي كان مُلِمًّا «إلمامًا كاملًا في ذهنه»، على حد قول بارت، بقدْر كبير من تاريخ السلالات الحاكمة في سونجاي، وهي معلومات كانت «بالغة الأهمية» في تبصير المستكشف بماضي المنطقة. كان الأكثر إثارة، مع ذلك، هو أن هذا الرجل أخبره بوجود سجل تاريخي كبير لإمبراطورية سونجاي، كتبه، بحسب قوله، العلامة أحمد بابا.
منحتني نظرةً جديدةً تمامًا فيما يتعلق بتاريخ مناطق المسار الأوسط لنهر النيجر، الذي كنت متوجِّهًا إليها، مثيرةً في داخلي اهتمامًا أكثر حيويةً بكثير مما كان لديَّ في السابق بمملكة وجدتُ منصوصًا هنا، بخطوط عريضة واضحة ومتميزة جدًّا، النفوذ العظيم الذي كانت تتمتع به، في الأزمنة الماضية.
نسخ بارت من سجل الوقائع التاريخية بقدر ما أتاح الوقت، مركزًا على البيانات التاريخية، لكنه لم يستطِع أن يستوعب ما كان يقرؤه استيعابًا صحيحًا قبل أن يتابع المضي في طريقه صوب تمبكتو.
في العشرين من يونيو، في ساي، ابتهج برؤية نهر النيجر للمرة الأولى، الذي كتب عنه أنه «مجرًى مائي مهيب غير متقطع» يبلغ عرضه نحو سبعمائة ياردة. انساب النهر العظيم في اتجاه الجنوب والجنوب الغربي بتيار معتدل بسرعة ثلاثة أميال في الساعة تقريبًا. عبرت جماعته الصغيرة في قاربين مصنوعين من جذوع شجر مفرغة مربوط بعضها إلى البعض، وكان بارت «ممتلئًا بالسرور عندما كنت طافيًا على مياه هذا المجرى الذائع الصيت، الذي كانت تكلفة استكشافه التضحيةَ بالكثير من الأرواح النبيلة.» وسرعان ما عاد يشق طريقه بصعوبة غربًا من جديد، على طولِ دروبٍ كان المطر قد حوَّلها إلى بِرَك، وعبر أنهارٍ تفيض بالمياه على نحوٍ خطر. أصابت عدوى دودة غينيا واحدًا من خَدَمه، واخترق البعوض والذباب القارص ملابسهم وجعله محمومًا، لكن في أواخر شهر أغسطس وصل إلى ساريامو، في الدلتا الداخلية، حيث تمكَّن من استئجار قارب نهري ليأخذه إلى قرب وجهته. وبينما كان البحارة يعملون، كانوا يُنشِدون أغنية عن مآثر حاكمٍ بارز لسوناجاي، هو أسكيا العظيم.
في الخامس من سبتمبر كان بارت قد وصل إلى كابارا وماضيًا حينئذٍ على خُطى ذلك «الرحالة الفرنسي الجدير بالتقدير جدًّا»، رينيه كاييه. وانزعج عندما علِم هناك أن الشيخ البكاي، الرجل الذي كان يعتمد عليه في أن يوفِّر له الحماية، لم يكن في تمبكتو. فأرسل مرشده ليسبقه إلى المدينة ليطلب الحماية من شقيق الشيخ، سيدي العواتي، ومر بيوم مشحون بالتوتر، تعرَّض فيه لمضايقة الطوارق، منتظرًا جوابًا. كان قد شعر بأنه يتعين عليه أن يخبر العواتي سرًّا أنه مسيحي، وأن يقول إنه كان تحت حماية سلطان إسطنبول. وأخيرًا، في منتصف الليل تقريبًا، وصل العواتي. كان متشككًا وطلب أن يرى خطاب حماية العثمانيين لبارت، وهي وثيقة كان المستكشف قد طلبها من وزارة الخارجية لكنها لم تصل أبدًا. شعر بارت بالإحراج لأنه لم يكن معه دليل مكتوب على ادعائه، وهو ما جعله في موقف خطر، لكن العواتي وافق مع ذلك على حمايته.
في الساعة العاشرة من صباح يوم السابع من سبتمبر من عام ١٨٥٣، انطلق بارت وجماعته شمالًا على الدرب السيئ السمعة الذي يبلغ طوله ثمانية أميال. وقبل نقطة منتصف الطريق المشتهرة بجرائم القتل، أبصر حشدًا من الناس آتين من المدينة لتحية زائرهم المهم، عبد الكريم. مدركًا أنه يتعين عليه مواجهة الموقف أو أن يخاطر بأن يتعرض للقتل، تقدم إلى الأمام، وفي يده بندقية، ليتلقى تحياتهم الكثيرة. كادت هويته المزيفة تنكشف على يد رجلٍ خاطبه باللغة التركية، التي كان بارت قد نسيها، لكنه سار متخطيًا الحشد ليتجنب المزيد من الأسئلة ويلوذ بالأمان في المدينة. سار عبر الشوارع والأزقة الضيقة إلى حي سانيه جونجو «العامر بالسكان والغنى»، حيث قُدِّم له منزل قبالة منزل الشيخ البكاي.
وهناك، أصيب بنوبة شديدة من الحمى وانهار.
•••
كانت تمبكتو مكانًا يشكِّل التواجد فيه خطورةً على رجل مسيحي في عام ١٨٥٣ تمامًا كما كان عليه الحال في منتصف عشرينيات القرن التاسع عشر. كانت لا تزال تحت سيطرة إمبراطورية ماسينا الفولانية، التي كان يحكمها آنذاك حفيد لوبو الشاب أحمد الثالث، مع أنه كان قد بدأ يفقد سيطرته على المدينة لصالح الطوارق. كان الشيخ البكاي، الحاكم الروحي والسياسي للمدينة، يمارس توازنًا دقيقًا، بحيث كان يناور مجموعةً بالأخرى من أجل أن يحافظ على درجةٍ من الاستقلال؛ وكان قد وضع نظامًا يضم قاضيين شرعيِّين للفصل في المنازعات بين الفولانيين والطوارق، لكنه كان سلامًا غير مستقر، وكانت المدينة مليئة بعملاء ينتظرون اللحظة المناسبة لينقضوا وينالوا رضا أحمد الثالث. كان من شأن هذا الجو المحموم أن يُبقي بارت في تمبكتو قرابة العام.
وبعد أن طرح بارت عنه تنكُّره، أمضى المستكشف أسابيعه الثلاثة الأولى في المدينة متحصنًا داخل المنزل، مقتنعًا بأن العواتي كان يتآمر مع مرشده الخائن لسرقته قبل مقتله المحتوم، ولكن في الساعة الثالثة من فجر يوم السادس والعشرين من شهر سبتمبر سمع الموسيقى تصدح خارج نافذته؛ إذ كانت مجموعة من النساء تحتفل بوصول البكاي. كان حماس بارت لظهور الرجل الذي كانت سلامته تعتمد عليه قد جعله يصاب بنوبة جديدة من الحمى، ولم يتمكن من أن يزوره في اليوم التالي لتحيته والتعبير عن احترامه، لكن الشيخ، مُظهِرًا أخلاقه الحميدة المشهورة، أرسل رسالةً يرجو فيها من المستكشف أن يستريح، مقدمًا له هدية عبارة عن ثورين، وغنمتين، ووعاءَين من الزبد وحملي جمل من الأرز والذرة، مع تحذيرٍ بألَّا يأكل أي شيء إلا ما كان آتيًا من منزله. كانت هذه بداية ميمونة للعلاقة بين المستكشف والرجل الذي سيُطلِق عليه فيما بعدُ «صديقي» و«نصيري»، والذي سيُشَبِّه نفوذه بنفوذ قداسة البابا. لم تحظَ أي شخصية في سرد بارت الهائل لحملته — لا أوفرويج، ولا حتى حكام ولايات وسط أفريقيا التي زارها — بالإعجاب الذي أغدقه المستكشف على البكاي، الذي كان أول علَّامة من تمبكتو يكون بينه وبين شخص أوروبي تواصل مطول وموثق.
سرعان ما وجَّه المسدس … الذي أهديته له، دفة حديثنا إلى موضوع تفوُّق الأوروبيين في مهارة التصنيع … وأحد الأسئلة الأُوَلِ التي طرحها عليَّ مضيِّفي كان عمَّا إذا كان صحيحًا، كما أخبر [الميجور لينج] والده، سيدي [محمد]، أثناء إقامته في أزواد، أن عاصمة الإمبراطورية البريطانية كان تضم مليوني شخص.
عبَّر البكاي عن «إعجابه بقوة الميجور الجسدية، وكذلك بشخصيته التي تنطوي على النبل والفروسية»، لكن عندما استفسر بارت عن أوراق لينج، قيل له إنها لم تَعُد موجودة، ومع ذلك كان الشيخ على علمٍ بأن لينج كان قد رسم خريطةً للجزء الشمالي من الصحراء بكامله أثناء إقامته في أزواد.
يمكنني أن أؤكد، بثقة كاملة، أن تلك الكتب القليلة التي أخذها الكابتن الاسكتلندي الهُمام [كلابرتون] إلى وسط أفريقيا كان تأثيرها في استمالة أصحاب السلطة في أفريقيا إلى شخصية الأوروبيين أكبرَ من أغلى هدية قُدِّمَت لهم على الإطلاق.
كان الشيخ في جزء من اليوم يقرأ ويتلو على تلاميذه فصولًا من أحاديث البخاري، بينما يُسَمِّع ابنه الشاب بصوت مرتفع درسه من القرآن، وفي المساء كان التلاميذ يتلون بطريقةٍ جميلة، حتى ساعة متأخرة من الليل، العديدَ من سور القرآن الكريم. لم يكن يوجد أي شيء أكثر جاذبية لي من سماع هذه الآيات الجميلة تُتلى من هذه الأصوات الجهورية في هذا البلد الصحراوي المفتوح.
لم يكن البكاي مجرَّد فقيه ورجل دين؛ إذ كان قوةً سياسية في المنطقة استخدم نفوذه لصالح تمبكتو. في بعض الأحيان كان يحل نزاعاتٍ بين عشائرَ متناحرة، أو يحاول أن يعيد فتحَ طرقِ تجارةٍ كانت القبائل قد أغلقتها، أو يخطِّط لتحرير المدينة من الطاغية الذي كان يسيطر عليها، أحمد الثالث. كان وجود بارت يمثِّل صداعًا سياسيًّا ضخمًا للبكاي، لكنه صداع يبدو أن الشيخ كان يستمتع به. طوال ثمانية شهور كان يناور بمهارة لإدخال المستكشف إلى المدينة وإخراجه منها، مستدعيًا حلفاءه لحماية بارت عندما كانت الضرورة تستدعي ذلك. كان دون شك مدفوعًا بالندم لما كان قد جرى للينج وبالأمل في أن بريطانيا يمكن أن تكون حليفًا له في مواجهة الفرنسيين، الذين كانوا بالفعل يشنون توغلات عسكرية عدوانية في الصحراء الكبرى، لكن السبب الرئيسي الذي كان يدعوه إلى حماية المسيحي، بحسب بارت، كان أن يُظْهِر للفولانيين مَن الذي كان يحكم تمبكتو.
إن لي وسط قبيلة فولان طائفة من الرجال في الأرض ممن يسارعون ويهبون للدفاع عن دين الله. إن دين الله، عز وجل، أحبُّ إليهم من بيوتهم وأهليهم وأنفسهم. متى رأوا كفرًا وعصيانًا لربهم، قاوموه، وابتعدوا عن كل شخص أثيم ضال. ولي بعض من رجال الله في الأرض، وأيضًا من الملائكة، على هيئة جيش مؤازر ومنتشر … هو الله، والله أكبر! وهو يضاعف عونه ضد كل ظالم عنيف ومتجاوِز.
أرسلت بطانة أحمد العديد من المبعوثين الآخرين إلى تمبكتو لمحاولة أسر بارت، لكن الفولانيين كانوا ضعفاء جدًّا هناك، وكان البكاي مدافعًا لا يلين. وفي مساء أحد الأيام، عندما كان التهديد على بارت كبيرًا على نحوٍ استثنائي، ذهب المستكشف الألماني إلى منزل البكاي قرب منتصف الليل وهناك «وجدت الرجل التقي بنفسه، متسلحًا ببندقية ذات ماسورتين.» أمضى الليل في صحبة البكاي ورجاله، في انتظار هجومٍ لم يأتِ أبدًا. وبغية تمضية الوقت، أخذ الشيخ، جالسًا على مسطبة مرتفعة من الطوب اللَّبِن كانت تشغل ركنًا من البهو، «يُسلي الجمْع الذي كان قد أخذه النعاس بقصص عن الأنبياء، وبخاصة موسى ومحمد، وعن الانتصارات التي أحرزها سالف الذكر، في بداية دعوته، على خصومه الكُثُر.»
•••
على الرغم من أن بارت لم يكن يغادر منزله كثيرًا، فقد تمكَّن من وقت لآخر من التجول في المدينة، وأثناء إقامته الممتدة كان بمقدوره أن يجري أكثر الملاحظات الأوروبية شمولًا حتى ذلك الوقت عن الحياة في تمبكتو. لم تتعارض ملاحظاته مع النتائج التي كان قد توصل إليها كاييه، الذي كان قد زار المدينة مدة ثلاثة عشر يومًا فقط وكانت هويته المزيفة عائقًا أمامه، ولكن مع معرفة البروسي الأكبر بالمنطقة، وبصلاته وموارده الأفضل بكثير، صوَّر تمبكتو من منظور مختلف.
رسم بارت مخططًا أرضيًّا مفصلًا، وسجَّل عليه أحياء المدينة المختلفة ووصف طبيعةَ كلٍّ منها. كانت أهم مباني المدينة هي مساجدها الثلاثة الكبيرة، وترك مسجد جينجربر المهيب على وجه الخصوص انطباعًا دائمًا في نفسه. كانت دفاعات تمبكتو — وفي ذلك جدار «يبدو أنه لم يكن أبدًا ذا ضخامة كبيرة» — قد دُمِّرَت أثناء الغزو الفولاني في عام ١٨٢٦، بحسب ما كتب بارت. وأحصى بارت ٩٨٠ منزلًا من الطوب اللَّبِن وبضع مئات من الأكواخ، وهو ما قاده إلى أن يُقَدِّر أن المدينة كانت تضم سكانًا دائمين بلغ تعدادهم في ذلك الوقت حوالي ١٣ ألفًا، ولكن أثناء موسم التجارة، من نوفمبر إلى يناير، كانت تزيد بمقدار ٥٠٠٠ إلى ١٠٠٠٠ شخص، وربما كانت في وقتٍ مضى في ضِعف حجمها، ممتدةً ألف ياردة أخرى شمالًا لتشمل ضريح سيدي محمود، الذي كان الآن في الصحراء.
كانت أضرحة تمبكتو تلعب دورًا خاصًّا في الحياة الروحية للناس. عندما توفيت والدة زوجة البكاي، ذهب الشيخ ليصلي على روحها في ضريح سيدي المختار، في الجانب الشرقي من المدينة. كان هذا مؤشرًا على التبجيل الذي كانت تحظى به النساء، كما أورد بارت، مضيفًا: «يوجد … العديد من النساء اللواتي اشتهرن من أجل القداسة التي كانت عليها حياتهن، بل يوجد حتى مَن كن واضعات لمسالك دينية ذات قبول، وسط قبيلة كونتا.» لاحقًا، شهد دورًا آخر للرجل التقي؛ وهو دور المُصالِح. كان البكاي، وإخوته، وأبناء حارس بارت «يسعون إلى التوصل إلى تفاهم ودي فيما بينهم»، واندهش المستكشف عندما قيل له إن هذا سيجري في «المقبرة المعظمة الواقعة على بُعد بضع مئات من الياردات شرق المدينة، حيث كان سيدي مختار مدفونًا.» عاين بارت ضريح سيدي المختار عن قرب ووجد أنه كان عبارة عن «حجرة فسيحة من الطين اللَّبِن، محاطة بالعديد من المقابر الأصغر لأشخاصٍ كانوا راغبين في أن يضعوا أنفسهم في حماية روح هذا الرجل التقي، حتى في العالم الآخر.»
أما تصوير بارت للحياة الاقتصادية للمدينة التاريخية فلا يمكن أن يكون هناك ما هو أفضل منه. كانت المنطقة الأكثر ثراءً هي تلك التي كان مقيمًا فيها، وهي حي سانيه جونجو، حيث كانت أغلى المنازل مملوكة للتجار. كانت السلع الوحيدة التي تُصَنَّع في تمبكتو هي المصنوعات الجلدية ومنتجات الحدادة، حسبما أورد، وكان ثراء المدينة معتمدًا على التجارة الأجنبية، التي وجدت أن هذه البقعة هي «الموقع المفضَّل للتبادل التجاري.» كانت البضائع تتدفق إلى المدينة من ثلاثة طرق تجارية كبرى؛ طريقين كانا يجتازان الصحراء، واحد إلى المغرب والآخر إلى غدامس، في ليبيا؛ والثالث كان يمضي إلى جهة الجنوب الغربي في النهر. في يوم عيد الميلاد المجيد من عام ١٨٥٣، شهد بارت فيضان مياه نهر النيجر يصل حتى تمبكتو، مجتاحًا الجانبين الجنوبي والجنوبي الغربي من المدينة، وذكر أن «القوارب الصغيرة وصلت إلى مسافة قريبة جدًّا من المدينة.» كان الذهب، الذي كان يُستَخرَج من مناجم بامبوك الشهيرة، في غرب مالي الحالية، هو المادة الخام المتبادلة الرئيسية، على الرغم من أن قيمةَ ما كان يُستَخرَج منه في هذا الوقت لم تكن تتجاوز ٢٠ ألف جنيه إسترليني في العام. كان يُجلَب إلى المدينة على هيئة حلقات، لكن لا بد أنه كان يُتَبادل في شكل تبر أيضًا. كان وزن مثقال الذهب في تمبكتو يعادل أربعًا وعشرين حبة من شجرة الخروب، وكانت قيمته تعادل ثلاثة أو أربعة آلاف صَدَفة.
كانت السلعة الرئيسية الأخرى في تمبكتو هي المِلح، الذي كان يُجْلَب من المناجم في تَوْدِنِّي. كان المِلح هنا يتشكل في خمس طبقات، وكان لكل طبقة قيمة مختلفة، وكان يُستَخرَج على هيئة ألواح يصل وزنها إلى خمسة وستين رطلًا. كانت قيمة اللوح المتوسط الحجم تعادل من ثلاثة إلى ستة آلاف صَدَفة، وكان أعلى سعر يُدفَع قُرب فصل الربيع، عندما تصبح القوافل شحيحة بسبب الذباب الماص للدم الذي كان يتفشَّى في المنطقة. كان الملح يُقايَض بالأساس مقابل القماش المُصَنَّع في كانو، التابعة لخلافة صكتو. كانت كانو منتِجًا كبيرًا للمنسوجات حتى إن بارت أطلق عليها «مانشستر أفريقيا.» كانت ثالث أغلى سلعة هي جوزة الكولا، وهي سلعة كمالية كان يوجد منها العديد من الأصناف المختلفة. بقدر ما استطاع التأكد، لم يكن العبيد يُصَدَّرون ﺑ «كمية كبيرة». كانت المنتجات الزراعية الرئيسية في السوق هي الأرز، والذرة البيضاء، والذرة الرفيعة، علاوة على الزبدة النباتية، التي كانت تُستَخدَم للطبخ والإضاءة. كما حدث مع كاييه، وجد بارت هو الآخر بضائعَ أوروبية، تشمل القماش، والمرايا، وأدوات المائدة، والتبغ، وسيوفًا مصنوعة في ألمانيا، كانت تُستَورَد عبر الصحراء. رأى بارت قماشًا قطنيًّا أبيضَ مطبوعًا عليه اسم شركة في مانشستر بحروف عربية، وأورد أن «كل أدوات المائدة في تمبكتو هي صناعة إنجليزية.»
مدركًا أن المدينة لم تَعُد كما كانت فيما مضى، استخلص بارت أنه كان أمام أوروبا فرصةٌ هائلة لإنعاش التجارة التي كانت في السابق تُنَشِّط هذه المنطقة من العالم. في نهاية المطاف، كانت تمبكتو لا تزال «ذات أهمية تجارية قصوى»، كونها كانت تقع بين نهر غرب أفريقيا العظيم والشمال.
أثناء إقامته الممتدة، عاد بارت أيضًا إلى دراسته لمخطوطة «تاريخ السودان» التي كان قد وجدها في جاندو. في الخامس عشر من ديسمبر، من عام ١٨٥٣، أرسل ملاحظاته، عبر قافلة، إلى البروفيسور إميل روديجر في الجمعية الشرقية الألمانية في ليبزيج. كتب أن هذا التسجيل للوقائع التاريخية قد أُتِم، على ما يبدو، على يد العالم أحمد بابا فيما بين عامي ١٦٥٣ و١٦٥٤، وكان يُلقي «ضوءًا غير متوقع على الإطلاق» على تاريخ المنطقة الذي كان مُهمَلًا تمامًا، بينما جعلت روايته فيما يتعلق بإمبراطور سونجاي وصفَ ليون الأفريقي يبدو «أجوفَ وفارغًا». كان ضيق الوقت يعني أنه قد أُجبِر على إغفال عددٍ لا نهائي من التفاصيل — «من الطبيعي أن الرحالة في هذه المناطق لا يملك الطمأنينة التي يتمتع بها الباحث في غرفة مكتبه»، بحسب ما ذكر بارت — لكن لم يكن لديه شك في أن شخصًا ما سيجلب نسخةً كاملةً من الكتاب إلى أوروبا في المستقبل القريب.
كتب إلى روديجر يقول له: «لعلك سمعت بالفعل من مصادرَ أخرى عن الظروف التي مررت بها في هذه المدينة الغريبة.» ثم أردف: «إنها ليست سارةً على الإطلاق، لكن الرب الرحيم سيحفظ حياتي ويقودني إلى الديار، سعيدًا ودون أن يمسني أذًى، لأبسط من أجل مجده ما بدأته هنا.»
تمكَّن بارت أخيرًا من مغادرة تمبكتو في ربيع عام ١٨٥٤. رافقه البكاي إلى جاو، المدينة التي كانت يومًا ما العاصمة البديعة لإمبراطورية سونجاي، والتي وجدها بارت حينئذٍ مخيبةً للآمال. وهناك، في الثامن من يوليو، افترقا بعضهما عن بعض. كتب بارت: «مع أني شعرت بصدقٍ بالتعلق بنصيري، لم يسعني إلا أن أشعر بالرضا العظيم عن كوني قد تمكَّنت أخيرًا من أن أعود أدراجي إلى الوطن.»
•••
عندما علمت الحكومة البريطانية بوفاة ريتشاردسون كانت قد عينت مساعدًا جديدًا لبارت، وهو شاب ألماني يُدعى إدوارد فوجل، والذي كان قد انطلق من طرابلس في صيف عام ١٨٥٣ ومعه تعليمات بالعثور على المستكشف. وبعد عام، أُبلِغ فوجل بأن بارت قد مات على مسافة مائة ميل من صكتو، وكتب إلى القنصل في طرابلس لينقل له الأخبار السيئة. أُحيلت الرسالة إلى وزارة الخارجية، وأُبلِغ إخوة بارت ووالداه في هامبورج بذلك. وكتب بارت إنهم «شعروا بأبلغ مشاعر الحزن والأسى»، وأقاموا جنازة دفنوا فيها كل متعلقات المستكشف؛ إذ لم يكن ثمَّة جثمان ليدفنوه.
في الأول من ديسمبر من عام ١٨٥٤، كان بارت مسافرًا صوب كوكاوا، عاصمة بورنو، عبر غابات ممتدة في ظروف قاسية، عندما التقى بمصدر البلاغ الكاذب. أبصر مجموعةً صغيرة تتقدم نحوه، يقودها رجل «ذو ملامح غريبة؛ شاب ذو بشرة فاتحة جدًّا، ويلبس ثوبًا سودانيًّا [لباس بسيط من القماش] مثل الذي كنت أرتديه، ويضع عمامة بيضاء ملفوفة لفات كثيرة حول رأسه.» تعرَّف بارت على واحد من المسافرين إذ كان خادمه مادي، الذي كان قد تركه ليحرس منزلًا كان قد اتخذه في كوكاوا منذ عامين. قال مادي للشاب ذي البشرة الشاحبة إن هذا هو «عبد الكريم»، وعندئذٍ هرول الغريب مسرعًا نحوه.
لم يسبِّب لي خبر نقص الإمدادات المالية الكثير من الدهشة بقدر النبأ الذي تلقيته منه بأنه لم يكن معه زجاجة نبيذ واحدة؛ لأنني، إذ كنت لم أشرب قطرةً واحدةً من أي شراب منبه عدا القهوة لأكثر من ثلاثة أعوام … كنت أشعر باشتياق لا يُوصَف لعصير العنب، الذي علمتني تجربتي السابقة فائدته.
كان الأمر قد استغرق من فوجل ثمانية عشر شهرًا للعثور على بارت. وبعد ساعتين، قرَّر الاثنان أن يفترقا بعضهما عن بعض، ليواصل فوجل رحلته إلى زيندر، ويعود بارت إلى كوكاوا.
كتب بارت: «أسرعت لكي ألحق بجماعتي.»