عملاء سريون
تذكَّر شيخ ديوارا أين كان بالضبط عندما بدأ الجهاديون هدمهم الشامل لقبور تمبكتو. كان ذلك في وقتٍ مبكر من صباح يوم السبت، الموافق الثلاثين من يونيو، وكان المصور الصحفي مسافرًا ليحضر اجتماعًا للجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو في سان بطرسبرج. كان قد ذهب إلى تمبكتو ليصوِّر قبر سيدي محمود الذي كان قد تعرَّض للتدنيس، وكانت منظمة اليونسكو قد دعته حتى يعرض على اللجنة اللقطات التي كان قد صوَّرها كدليل على ما قد حدث. ولكن كان قد حدث خطأ فيما يتعلق بنقل حقائبه، ولم يلحق برحلته المنتظرة، ولذا عَلِق في الدار البيضاء. وفي الساعة السابعة صباحًا، رنَّ جرس هاتفه المحمول.
كان الصوت في الطرف الآخر من المكالمة هو صوت مقاتل شاب بتنظيم القاعدة كان ديوارا قد تعرَّف عليه في تمبكتو. كانا قد صارا صديقين بعد أن التقط الصحفي بضع صور له متخذًا أوضاعًا ببندقيته.
قال له المقاتل: «أظن أنهم سيهدمون الأضرحة.» ثم أضاف: «لقد كانوا يتحدثون عن الأمر حَالًا.» قال إن مجموعة من الجهاديين كانت قد ذهبت إلى متجر الأدوات المعدنية في سوق تمبكتو لشراء المعاول والمعازق التي كانوا يحتاجون إليها، «ثم سيذهبون ويفعلون ما انتووا فعله.»
أصيب ديوارا بحيرة شديدة. أنبأته غرائزه بأن يسرع عائدًا إلى مالي، ولكن الرحلة التالية التي يمكنه أن يطير بها إلى باماكو كانت بعد أربعة أيام. كتب قصةً خبريةً سريعة لوكالة رويترز، ثم عاد للاتصال بصديقه المقاتل الشاب. لم يكن الهدم قد بدأ بعد.
قال المقاتل: «عندما نصل إلى هناك بالقرب من المقابر، لن أتمكَّن من التحدُّث إليك.» سأله عن إمكانية إرسال رسالة نصية. ردَّ بالنفي، إذ لم يكن يعرف الكتابة. ألحَّ ديوارا قائلًا إن ذلك ليس مهمًّا؛ إذ يمكن أن يرسل رسالة فارغة، ما داما يعرفان أنها إشارة إلى أن الهجمات على الأضرحة قد بدأت. ووافق الجهادي على ذلك.
بعد ذلك بوقت قصير، تلقَّى ديوارا رسالة فارغة.
لم يكن محضَ صدفة أن الهدم بدأ في الأسبوع الذي كانت الجلسة السادسة والثلاثين للجنة التراث العالمي تنعقد فيه في سان بطرسبرج. كان التوتر بين الحركة الوطنية لتحرير أزواد وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي آخذًا في التصاعد منذ شهور، وفي يوم الأربعاء، الموافق السابع والعشرين من يونيو، في جاو، تحوَّل أخيرًا إلى تبادل مفتوح لإطلاق النار. وانتهى بهروب الأمين العام للحركة الوطنية لتحرير أزواد، بلال آغ الشريف، من مقر القيادة الخاص به، بينما جُرَّت جثة أحد كبار قادة الحركة، وهو منشق عن الجيش المالي، يُدعى العقيد بونا آغ طيب، عبر الشوارع خلف شاحنة صغيرة. أتْبَع تنظيم القاعدة هذا الانتصار بإصدار أوامر إلى المنتمين إلى الحركة الوطنية لتحرير أزواد بترك قاعدتهم في مطار تمبكتو قبل الساعة الخامسة من عصر اليوم التالي. بخضوعٍ امتثل أفرادُ الحركة للأمر، تاركين الجهاديين ليصبحوا السلطة الوحيدة في شمال مالي. تذكر شيخ المدينة جانسكي: «من تلك اللحظة صارت مملكتهم.»
اجتمع الموفدون في اجتماع اليونسكو في قصر توريد، وهو قصر فخم من القرن الثامن عشر بُني من أجل جريجوري بوتيمكين، عشيق إمبراطورة روسيا، كاترين العظيمة، ويطل على نهر نيفا. كان عملهم في الأساس هو إدارة قائمتين. أولاهما هي قائمة التراث العالمي، التي تتألَّف من ألفٍ من أثمن كنوز العالم؛ وتشمل آثارًا، ومواقعَ أثرية، وظواهرَ طبيعية اعتُبِرَت ذات «قيمة عالمية بارزة». والثانية، وهي قائمة التراث العالمي المعرض للخطر، كانت مجموعة فرعية من القائمة الأولى وتضم تلك المواقع المهددة بالتدمير، أو بكوارث طبيعية، أو بحروب. ارتأت الهيئة التابعة للأمم المتحدة أنه كان ثمَّة ضرورة «لعمليات كبرى» لحماية هذه المواقع، وطُلِب تقديم المساعدة لإنجاز ذلك.
وكان الأمر الأكثر مدعاة للأسف هو توقيت اجتماع اللجنة؛ فقد اتُّخِذ القرار في يوم الخميس، الموافق الثامن والعشرين من يونيو، وهو نفس اليوم الذي أجبر فيه الجهاديون، وهم لا يزالون مزهوين بعد انتصارهم في جاو، الحركة الوطنية لتحرير أزواد على الانسحاب من تمبكتو. في صباح اليوم التالي، في اليوم المقدس عند المسلمين، ذهبوا إلى مساجد المدينة للتنديد بمذهب أولياء تمبكتو. وفي صباح اليوم الذي تلا ذلك، تلقى ديوارا مكالمته الهاتفية في الدار البيضاء.
تلقى أحمد الفقي المهدي، قائد الشرطة الإسلامية الذي ينتمي إلى قرية قريبة، أمرًا بالقيام بعملية الهدم. بدأ في الطرف الشمالي للمدينة، في أباراجو، بضريح سيدي محمود. كانوا بالفعل قد هاجموا قبر هذا الولي الشهير، والآن كانوا ينهون ما بدءُوه. كان القبر على هيئة بناء شبيه بالصندوق مصنوع من تربة مدكوكة وحجارة، وكان مبنيًّا على تلٍّ بجوار شجرة، ومحاطًا بقبور مريدي هذا الولي، الذين قيل إن عددهم ١٦٧ مريدًا. كانت بقعةً هادئةً، مكانًا كان الناس يأتون إليه يوميًّا للدعاء، والتبرك، وطلب العون والمدد من الولي. في الساعة الثامنة صباحًا، أحاط نحو مائة من الجهاديين بالقبر وبدءوا في الهجوم عليه، وهم يصيحون «الله أكبر!» مستخدمين المعازق والمعاول والعتلات والمطارق التي كانوا قد اشتروها من متجر الأدوات المعدنية. أُبعِد المتفرجون بواسطة بنادق آلية مصوبة في اتجاههم. تذكر جانسكي قائلًا: «لم يُسمَح لأي أحد بالاقتراب.»
لم يكن القبر مبنيًّا ليحتمل أي نوع من الاعتداء. وسرعان ما تمكَّن الرجال من نقب أحد الحوائط بعتلة وأحالوه إلى أنقاض. شرح جهادي ذو عمامة سوداء أمام الكاميرا الأسباب التي دعته إلى هدم الضريح. وقال: «توجد قاعدة شرعية تقول إن القبر يجب ألا يزيد ارتفاعه عن بضعة سنتيمترات فوق سطح الأرض.» ثم أضاف: «كما أنه لا يجوز تعظيم أحد إلا الله. لذلك السبب إننا نهدم هذا القبر.» وعندما انتهوا، كان البناء قد صار كومة من التراب والحجارة والقطع الخشبية. بعد ذلك انتقل فريق الهدم إلى قبر الشيخ محمد محمود الأرواني في نفس المقبرة.
قال المتحدث باسم الجهاديين سندة ولد بوعمامة: «كلنا مسلمون.» ثم أردف: «ما اليونسكو هذه؟» كانت هذه هي مجرد البداية لعملية هدم كل الأضرحة الموجودة بالمدينة؛ «اليوم، سيهدم أنصار الدين كل الأضرحة في المدينة. كلها، دون استثناء.» وصف حماها ذو اللحية الحمراء أولئك الذين كانوا يتعبدون عند الأضرحة بأنهم «يقودهم الشيطان»؛ وقال لأحد المراسلين: «إن الصلاة على القبور والتبرك بها هما من الأمور المحرمة في الإسلام.» وأضاف: «إن جماعة أنصار الدين تظهر لبقية العالم، وبخاصة الدول الغربية، أنه سواء شاءُوا أم أبوا، لن نسمح للجيل الجديد بالاعتقاد في الأضرحة … بغض النظر عما تقوله الأمم المتحدة، أو اليونسكو، أو المحكمة الجنائية الدولية، أو الإيكواس [المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا]. نحن لا نعرف تلك المنظمات. الشيء الوحيد الذي نعترف به هو حكم الله، الشريعة. الشريعة هي التزام إلهي. لا يحق للناس أن يختاروا أن تعجبهم أو لا.»
في حوالي الساعة العاشرة صباحًا تحرَّك الرجال الذين يحملون المعازق والمعاول شرقًا، إلى مقبرة سيدي المختار الكونتي، حيث كان بارت قد شهد البكاي يتفاوض مع إخوته منذ ١٥٨ عامًا مضت. هدموا المزيد من الأضرحة هناك، وفي ذلك ضريح الشيخ نفسه، وصرَّح المهدي: «سنمحو من فوق ظهر أرضنا كلَّ ما لا ينتمي إليها.» وفي عصر ذلك اليوم، تحرَّكت جماعة المهدي جنوبًا إلى مقبرة ألفا موي، حيث ظلوا يعملون حتى الغروب.
صرخ بعض السكان وهم يشاهدون أقدس بقاعهم تتعرَّض للتحطيم؛ بينما لم ينبس آخرون ببنت شفة، غير مستوعبين لما يحدث. في تلك الليلة، نامت المدينة عند الغسق. تذكر إير مالي قائلًا: «كان الجميع منهكين.» ثم أردف: «شعرت وكأن أيام تمبكتو قد وَلَّت.»
استمر الهياج في اليوم التالي، مع هدم ثلاثة أضرحة أخرى في جينجربر. استشعر إير مالي وجود نهج في اعتدائهم؛ إذ كانوا يهاجمون المقابر على أطراف المدينة، التي كانت تمثِّل أحجار الزاوية لدفاعاتها الروحية. وفي اليوم الثالث، اختار الجهاديون هدفًا جديدًا. في جدارٍ على الجانب الغربي من مسجد سيدي يحيى، تحت عتبةٍ عليا مثلثة، كان يوجد باب خشبي بهي منقوش على طراز تمبكتي تقليدي بأشغال معدنية زخرفية. بحسب اعتقاد محلي، كان من المفترض أن يظل مغلقًا حتى نهاية الزمان. أوضح الإمام الأكبر عبد الرحمن بن السيوطي: «كانت رمزية باب مسجد سيدي يحيى بسيطة جدًّا وهي أنه يوجد أناس قالوا إنه عندما تفتح الباب، فهذه هي نهاية العالم.» لم يكن للأمر علاقة بالسحر أو بالشرك؛ مجرد أسطورة كانت قد اختُرِعَت لغرض عملي. وأضاف: «حكى القدماء القصة للأطفال الصغار ليمنعوهم من الاقتراب من الباب؛ لأن الجدار خلفه لم يكن صلبًا جدًّا وكان ثمَّة خطر أن ينهار على الناس. اعتقد الناس أن عليك تركه وشأنه. كانت هذه طريقة لإبقاء الناس آمنين.»
رأى السلفيون الأمر على أنه بدعة. قال ابن السيوطي: «كانت عقليتهم تقضي بأن يتَحدَّوا ذلك.» ثم أردف: «أرادوا أن يبرهنوا أن الأمر لم يكن صحيحًا، مع أن الجميع بالطبع كانوا يعرفون أنه لم يكن صحيحًا. كان ببساطة شيئًا يُقال للأطفال لإخافتهم.»
في صباح يوم الإثنين أقبلت مجموعة من الرجال المسلحين الذين يلبسون العمائم على المسجد. بدءوا أولًا بسحب العتبة العليا وإخراجها، والتي خرجت بسهولة. شكَّلت ضلفتا الباب مشكلةً أكبر؛ إذ تعيَّن على الرجال أن يبذلوا مجهودًا مضنيًا، مقتلعين إياها من التربة التي جففتها الشمس والتي كانت تثبتهما في مكانهما. خرج جهادي ذو عمامة سوداء من المهمة وهو يفرك عنقه، ويعلم أن كاميرا الفيديو تصوره. قال: «الله أكبر»، وأضاف بسخرية: «والآن يحل وقت نهاية العالم.»
بدأ أناس يبكون وسط الحشد الصغير من التمبكتيين الذين تجمعوا ليشاهدوا ما يحدث.
حتى بعد مرور عامين، كانت هذه اللحظة عصيبةً على الإمام الأكبر. قال بصوت مرهق: «عندما كانت الأضرحة تُهْدَم، كانت تلك هي اللحظة التي انهارت فيها الروح المعنوية.» ثم أردف: «ربما كانوا يعتبرون أن هذا هو الإسلام. تقول الأحاديث النبوية إن الناس قرب نهاية الزمان سيفترقون على ثلاث وسبعين فرقة، وفرقة واحدة فقط ستكون على الحق. نحن نشهد ذلك. كل يوم تسمع عن فرقة جديدة تظهر، وتعلن عن نفسها. من وجهة نظرهم، وفي أنفسهم، يعتبرون أن هذه الأمور هي الحق. إن الناس الآن في حيرة من أمرهم.»
وجَّه كثيرون اللوم إلى لجنة التراث العالمي. قال إير مالي: «لو لم تقل منظمة اليونسكو ما قالته، ما كان الجهاديون سيمسون التراث الثقافي بسوء.» ثم أضاف: «نظرًا لما قررته منظمة اليونسكو تعيَّن أن يهاجموا ما كانوا قد نسوا أن يهاجموه.»
بعدئذٍ كتبت لجنة الأزمة إلى الأشخاص الذين كانت على اتصال بهم في باماكو، تطلب منهم أن يتوقفوا عن شجب مسلك الجهاديين، بينما اعتبر رجال المكتبات في باماكو الأمر دافعًا إضافيًّا لمحاولة جعل الناس يلتزمون الصمت. قال حيدرة: «في كل مرة كانت منظمة اليونسكو تأتي على ذكر المخطوطات، كنت أتصل بهم وأقول لهم، لا، يجب ألَّا تتحدثوا عن المخطوطات.»
في اليوم التالي لهدم الأضرحة استقبل حيدرة مكالمة من مسئول كبير من مسئولي اليونسكو في باريس. قال المسئول إن مهمة المنظمة هي العمل من أجل التراث العالمي، وعندما يكون في خطر، فإنهم ملزمون بالتحرك. فلماذا يتصل بهم حيدرة في كل مرة يتكلمون ويطلب منهم أن يلتزموا الصمت؟
قال حيدرة: «قلت له إننا في خضم شيء شديد الأهمية، وإن واصلتم التحدث إلى وسائل الإعلام عن المخطوطات، سيصبح الناس هناك على دراية بما نفعله.» ثم أردف: «في اليوم التالي اتصل مجددًا وقال لي: «حسنًا، سنعقد اتفاقًا بيننا. سأتصل بك كل يوم، وستطلعني على ما يحدث.» ووافقت على ذلك.»
من تلك اللحظة، كان من شأن المسئول أن يتصل كل صباح، وكان حيدرة يطلعه على المستجدات. تذكر حيدرة قائلًا: «دارت بيننا محادثات كثيرة بعد ذلك.» ثم أضاف: «لقد فهموا.»
فهم ديوارا شيئًا أيضًا؛ وهو أن هياج الجهاديين كان يعني أنهم قد توقفوا عن استمالة أهل المدينة. كانوا قد تخلَّوا عن التظاهر وكُشفوا الآن حقيقتهم كما كانوا بالفعل. قال: «كانوا قد دخلوا مرحلة جديدة من الاحتلال، مرحلة حاسمة.» ثم أردف: «فهمت عندئذٍ أنه ستحدث عمليات بتر للأعضاء، وجَلد، وكل ما كان سيحدث بعد ذلك.»
•••
أتى فيض الغضب الذي انهمر على الجهاديين من كل أنحاء وأرجاء العالم. صرَّحت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بأنَّ هدم الأضرحة يُعَد جريمةَ حرب، وأن لمكتبها سلطة التحقيق فيها. وأصدر قادة ست دول غرب أفريقية بيانًا يحثون فيه المحكمة الجنائية الدولية على أن تتخذ إجراءات ودعوا مالي إلى أن تطلب من الأمم المتحدة أن تتدخل عسكريًّا في مواجهة المجموعات في شمال مالي. كما أن وزارة خارجية الولايات المتحدة «أدانت بشدة» هدم الأضرحة، بينما وصفته روسيا بأنه عمل «بربري» لا يمكن «إلا أن يثير السخط.» أما فرنسا فاعتبرته عملًا «غير مقبول» و«تعديًا ممنهجًا على الأماكن المقدسة»، التي كانت لقرون جزءًا من روح المدينة الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. وبناءً على طلب من باريس، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإجماع القرار رقم ٢٠٥٦، الذي دعا إلى فرض عقوبات على الجهاديين المسئولين عن تلك الأعمال وأدان «تدنيس وتخريب وتدمير مواقع مقدسة وذات أهمية تاريخية وثقافية» في المدينة.
في جنوب مالي كان رد الفعل عدائيًّا بنفس القدر. في الرابع من يوليو، خرج أئمة المسلمين في باماكو في مسيرة ضد الإسلاميين في الشمال. وكان من الشعارات المكتوبة على اللافتات التي حملوها «لا للإسلام المستورد، نعم لإسلام أجدادنا»، بينما أوضح أحد المتظاهرين أن «تمبكتو قد تأسست على الإسلام النقي، الذي يحترم الناس، جميع الناس.» ودعت وزيرة الثقافة، ديالو فاديما توريه، الأمم المتحدة إلى «اتخاذ خطوات ملموسة لوقف هذه الجرائم التي تُرتكب بحق التراث الثقافي لشعبي.» وحتى الحركة الوطنية لتحرير أزواد دعت، جديًّا، إلى التدخل الدولي، مطالبةً «الولايات المتحدة، وفرنسا، وكل البلدان الأخرى التي تريد الوقوف في مواجهة جماعات أنصار الدين، وبوكو حرام، والقاعدة التي تحتل الآن تمبكتو، وجاو وكيدال، أن تساعدنا على قتلهم وأن تساعد الناس في تلك المدن.»
غير أن فورة الغضب غير المتوقعة على الإطلاق أتت من مخبأ زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، عبد المالك دروكدال، الذي ربما كان في جبال القبائل في شرق الجزائر العاصمة.
بمناسبة بداية شهر رمضان المعظم في العشرين من يوليو، وضع الأمير ومستشاروه اللمسات الأخيرة على مذكرة من ثمانين صفحة بعنوان «توجيهات عامة بخصوص المشروع الإسلامي الجهادي بأزواد» وأرسلها إلى القادة التابعين له في مالي. لم يكن من شأن العالم أن يَطَّلِع على نطاقٍ واسع على صفحات هذه الوثيقة الداخلية إلا في العام التالي، عندما عثر عليها مراسلون كانوا ينبشون الركام والورقيات التي كان محتلو تمبكتو قد تركوها وراءهم. كانت الوثيقة منظمة بعناية، مع انتقادات تسبقها وتليها ملاحظات إيجابية عن الفرصة العظيمة «للمولود الصغير» المتمثل في مشروع أزواد الإسلامية. اشتملت الوثيقة في أجزاءٍ منها على نوعٍ من كلام الأعمال الذي قد يجده المرء في تقرير لإحدى الشركات؛ إذ ورد مرات عديدة ذكر «الأطراف الخارجية صاحبة المصلحة» وتحذيرات من «الوضوح الشديد على الساحة السياسية والعسكرية الحالية»، علاوةً على مخاوفَ بشأن وصمة القاعدة. كان جوهر المذكرة واضحًا: وهو أن فرع الصحراء الكبرى لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي كان يمكنه إفساد هذا المشروع الجهادي برُمَّته.
كتب دروكدال أنه ربما لا تكون القوى الكبرى في وضعٍ يسمح لها باستخدام القوة بسبب إنهاك جيوشها والأزمة المالية العالمية الجارية، لكنها مع ذلك ستحاول أن تعيق إقامة دولة أزواد الإسلامية. وأضاف أنه من المحتمل، بل من المؤكد، أن تقوم بنوعٍ ما من التدخل العسكري أو تمارس ضغطًا من خلال فرض حظر اقتصادي وسياسي وعسكري شامل، وعند هذه المرحلة سيُجبَر تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على التقهقر إلى قواعده في الصحراء. ومع الأخذ في الاعتبار أن القاعدة كانت تمثل استفزازًا للغرب، كان من الأهميةِ بمكانٍ التخفي. كتب دروكدال ناصحًا: «يسعكم في ذلك السكوت والتظاهر بأنكم حركة «داخلية» لها قضاياها واهتماماتها الخاصة.» ثم أضاف: «التدخل الخارجي سيزداد تأكده وسيتم التسريع به كلما تفردنا [تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي] بالحكومة وبرزت هيمنتنا عليها بشكل واضح جدًّا.»
يجب عليهم أيضًا أن يتجنبوا الإقدام على مخاطرات. كانت السرعة التي يتحرك بها القادة المحليون لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في مواجهة إسلام المنطقة تمثِّل خطأً كبيرًا. ذكر دروكدال في فقرة تنطوي على انتقادٍ لاذع: «ومن السياسات الخاطئة التي نراكم قد وقعتم فيها: التسرُّع في تطبيق الشريعة وعدم مراعاة التدرُّج الضروري في بيئةٍ يغلب عليها الجهل بأحكام الدين وعلى شعوبٍ غُيِّبَت عنها أحكام هذه الشريعة لقرون متتالية من الزمن.» لقد أثبتت التجارب السابقة أن تطبيق الشريعة بهذه الطريقة «سيؤدي حتمًا إلى نفرة الناس من الدين وبغضهم للمجاهدين.» وهو ما من شأنه أن يؤدي، بالتالي، إلى فشل «تجربتنا.»
اشتملت الأمثلة المحددة على هذا التسرع، التي أمرهم هو والمجلس الحاكم لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي بألَّا يكرروها، على هدم الأضرحة وتطبيق الحدود. وفيما يتعلق بقرار هدم الأضرحة، كتب: «إن تمكُّننا الآن غيرُ مكتمل، والتدخُّل الخارجي قادم، والناس حديثو عهد بالفتح … فالمفاسد المترتبة على هذا الفعل ليست هينة ولن يُغفَر لنا إن واصلنا على هذا النحو.» لكن «الخطأ الجسيم» الذي وقعوا فيه كان الخلاف مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد، التي كانت شريكًا ضروريًّا في النضال من أجل تحقيق أهداف تنظيم القاعدة، حتى وإن لم تبدُ نصيرًا طبيعيًّا. شعر دروكدال بالقنوط لنقض الاتفاقات مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد ومع حركة التمرد العربية. كتب أنه ينبغي استخدام هذه الجماعات لبناء الدولة والدفاع عنها ضد التدخل الأجنبي. ورأى أن الاتفاق الذي كان قد وُضِع بين الحركة الوطنية لتحرير أزواد والقاعدة كان «فتحًا» عظيمًا تخطَّى كلَّ ما كان يأمله تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من حركةٍ من المفترض أن لها نزعاتٍ علمانية.
إجمالًا، بينما كان ينبغي أن تقدم القاعدة مواردها لدولة أزواد، لم يكن من مصلحتها ولا في وسعها أن تحكم الإقليم في حين أن هدفها الأساسي كان الجهاد العالمي. لذلك كان ينبغي عليها أن تبقى في خلفية المشهد، مقدمةً الدعم لحكومة من أزواد بقيادة إياد آغ غالي وجماعة أنصار الدين، لكنها تشمل ممثلين لكل الطوائف في الشمال — الحركة الوطنية لتحرير أزواد، والعرب، والسونجاي، والفولاني — وأن تركِّز طاقاتها على المشهد الأشمل.
واختتم قائلًا: «وفي الختام فإن هذه التوجيهات والتصور العام هي مما نراه الأسلوب الأمثل لتجنب أخطاء الماضي الذي ذقنا مرارته ونتمنى عدم تكراره.»
إلى مَن كانت مذكرة دروكدال موجهة؟ بالتأكيد ليس إلى أبي زيد، المقرَّب من دروكدال والذي أدَّت عمليات الخطف التي قام بها إلى رفع مكانة التنظيم وزيادة احتياطاته النقدية بدرجةٍ كبيرة. الاحتمال الأكبر أنها كانت موجَّهة إلى مختار بلمختار، القائد الأعور الذي قاد القتال مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد في جاو. كان من شأن بلمختار أن ينفصل بعد قليل عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي انفصالًا تامًّا ويؤسس كتيبة الموقعين بالدم المنافِسة، وأن يكتب إلى الزعيم العالمي للقاعدة، أيمن الظواهري، يخبره أن دروكدال كان منفصلًا انفصالًا عميقًا عن واقع الأمور والأحداث الجارية. وبالنظر إلى أن الجهاديين كانوا بالفعل قد جرُّوا جثة العقيد بونا آغ طيب عبر شوارع جاو وأجبروا الأمين العام للحركة الوطنية لتحرير أزواد على الفرار من مقر عملياته، فقد كانت وجهة نظره مقبولة؛ فبالتأكيد كان وقت رأب الصدع في العلاقات مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد قد ولَّى منذ زمنٍ بعيد.
أيًّا كان رأي قادة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي جنوب الصحراء الكبرى في كلمات الأمير، فقد كان تأثيرها ضعيفًا. تحرَّك قادة تمبكتو الجدد بسرعةٍ أكبرَ حتى من ذي قبل، عالقين في مسارهم، ومتولين إدارة إقليم حيث كان أمر تسيير الأمور يمثِّل تحديًا صعبًا.
•••
أما رجال المكتبات في باماكو فكانوا يرون أن الحاجة إلى إجلاء المخطوطات تزداد إلحاحًا. أمضى حيدرة أيامه في حلقة مفرغة من لقاءات جمْع تبرعات غير مثمرة. لقد طاف من جديد على السفارات، واتصل ﺑ «أصدقاء مالي» (قال حيدرة: «إن لمالي أصدقاء كثيرين») ليرى إن كان أي شيء قد تغيَّر، لكن هذه الاتصالات أسفرت عن نفس الرد مرارًا وتكرارًا: تذكر قائلًا: «كان الرد: «لا، لا، لا، لا يمكننا أن نفعل أي شيء مثل ذلك».» وأردف: «ثم كانوا يضيفون: إن ذلك يمثل التراث القومي لمالي، ونحن أصدقاء مالي، وإن شرع بلدنا في أن يساعدك في فعل ذلك، فستبدأ مالي في اتهامنا. لا يمكننا أن نتورط في ذلك.» بدا له أن معارفه الذين كان يتصل بهم لم يعودوا يتحدثون معه بنفس نبرة الاحترام التي كانوا يتحدثون بها في السابق. وأخيرًا، أوضح له أحد «الأصدقاء» أن الشركاء الدوليين لم يكن لديهم ثقةٌ فيما كان يجري في البلاد، ولذلك ما كانوا سينفقون أموالًا هناك. شعر حيدرة بأنه قد خُدِع.
قال: «فهمت أمورًا كثيرة.» ثم أضاف: «ذَكَّرَني هذا بلقاءات كثيرة اجتمعت فيها مع أشخاص آخرين. لم يكونوا صريحين معنا.»
جرَّب رجال المكتبات مسلكًا جديدًا، فحددوا مواعيدَ مع كبار الشخصيات في الحكومة المالية ممن كانوا مسئولين عن التراث. بدءُوا بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، الإدارة الحكومية المسئولة عن معهد أحمد بابا. قال لهم حيدرة إن مخطوطات تمبكتو معرضة للخطر، لكن رجال المكتبات لم يكن لديهم الوسائل لإنقاذها. سألهم: «ما الذي ستفعلونه لمساعدتنا؟»
قال له الأمين العام للإدارة: «الحال الذي أراك عليه اليوم يجعلني أعرف أنك جاد.» ثم أردف: «ولكنني سأخبرك ببعض الأمور. لا يمكننا أن نساعدكم سياسيًّا، ولا ماديًّا، بأي طريقة. الأمر الوحيد الذي يمكنني أن أقوله لك هو أنه يجب عليك أن تفعل كل ما بوسعك أن تفعله في هذا الشأن. نحن نساندك.»
بعد ذلك ذهبوا إلى وزارة الثقافة، التي كانت تشرف على مجموعات المخطوطات الخاصة. قال حيدرة نفس الكلام وتلقَّى نفس الإجابة. تذكر أنه قيل له إن عليه أن يفعل ما في وسعه، وإنهم يساندونه. قال حيدرة: «قلت لهم إنني سأحاول، ولكنني أردت أن يكونوا على دراية بالأمر؛ لأنه إن حدثت مشكلات فسيتعين عليهم مساعدتي.» ووافقه المسئولون.
بمساندة الوزارتين، اتصل حيدرة بجهات اتصاله في الخارج. كان له صديق في جنيف، وطلب منه هذا الصديق أن يأتي إلى سويسرا، بل إنه دفع له ثمن تذكرة طائرته. أمضى حيدرة عدة أيام هناك، والتقى بأشخاصٍ ممن كانوا يتعاملون مع التراث العالمي، ومن ضمنهم بعضٌ ممن كانوا قد عملوا على إنقاذ المخطوطات في العراق وأفغانستان. قالوا له إنه ينبغي أن يبدأ العملية في القريب العاجل، ولكن أن يأخذ الأمر برويةٍ وحذر. وحتى إن تمكَّن من تهريب مخطوطة واحدة من المدينة كل يوم، كان من شأن هذا أن يكون أمرًا يستحق العناء. أعطته امرأة نصيحة كان من شأنها أن تعلق في ذهنه. تذكر قائلًا: «قالت يجب عليك ألَّا تخسر أي شخص يبدأ في العمل معك.» وأردف: «ثم أضافت: يجب عليك أن تبقيهم دومًا سعداء، حتى وإن لم يكن يهمك هذا، حتى إن أقدموا على حسابات خاطئة. قالت لي هذا ثلاث مرات.»
عاد من سويسرا وفي ذهنه أفكارٌ كثيرة، ولكن كان لا يزال ينقصه المال.
في ذلك الوقت أراد إسماعيل هو الآخر أن يسافر. بالنسبة إلى رجل كان يحب أن يمضي ساعة كل صباح ومساء في السير في الصحراء المفتوحة حول تمبكتو، كانت باماكو خانقة. كانت القرية التي كان مونجو بارك قد مرَّ بها في عام ١٧٩٦ عبارة الآن عن مدينة يزيد تعداد سكانها عن مليوني نسمة، أضف إلى ذلك الآلاف الذين كانوا يَصلون من الشمال كل أسبوع. كانت بيوتها المبنية بالقوالب الأسمنتية تمتد لمسافة عشرين ميلًا؛ وشوارعها وجسورها مزدحمة بالسيارات التي لا تتوقف عن إطلاق النفير وإخراج عادم بنِّي في الهواء الرطب. كان مما يزيد من إحساس إسماعيل بالاختناق التوتر السياسي الذي كان يمتد في بعض الأحيان متحولًا إلى قتالٍ بالأسلحة النارية في الشوارع، واشتمل ذلك على محاولة انقلاب مضاد أقدم عليها حرس الرئيس المخلوع أسفرت عن أربعة عشر قتيلًا.
قال: «لم يكن الحال جيدًا في باماكو.»
وإذ كان قد أُبعِد عن تمبكتو، وقد خُبِّئت مخطوطات مكتبته فوندو كاتي، لم يكن لديه الكثير مما يربطه بمالي وبأزمتها. قرَّر أن يعود إلى وطنه الثاني، الأندلس.
تفهَّم رجال المكتبات الآخرون الأمر. قال حيدرة: «ما حدث أن صديقنا إسماعيل أصابه التعب.» ثم أضاف: «قال: «حسنًا. سأترككم تتابعون الأمر.»»
قال معيجا: «كانت حقيقة الأمر أننا بينما كنا نبحث عن حلول، لم يكن لدى إسماعيل أي مشكلة.» ثم أردف: «كان معنا ليعطينا أفكارًا. وبحلول الوقت الذي اتخذنا فيه القرار بالتدخل، كان قد غادر إلى إسبانيا. كان قد كفل التأمين لمخطوطاته قبل الذهاب، ثم غادر.»
ولم يرجع إسماعيل.
•••
بحلول شهر يوليو كان القاضي هو الآخر في باماكو. كان باحث معهد أحمد بابا ذو الابتسامة المريحة والعينين الناعستين قد غادر تمبكتو مع أسرته في أواخر شهر أبريل. وبعد رحلةٍ مرعبةٍ بالحافلة دامت قرابة أسبوع، وصلوا إلى سيجو، حيث وجد منزلًا رخيصًا واستأجره. لكن لم يكن يوجد ما يفعله هناك، ومع عدم وجود مورد للمال، قرَّر هو وفطومة في يونيو أنه ينبغي أن يذهب إلى باماكو. كل يوم كان القاضي يذهب ليطلب عملًا في المكاتب الصغيرة في كالابان كورا التي كان المدير، معيجا، قد استأجرها. وحتى هنا، لم يوجد الكثير من العمل؛ فالمواد الوحيدة التي كان المعهد يملكها كانت بضع وثائق رقمية كانت قد أُحضِرَت جنوبًا على محركات أقراص صلبة، بالإضافة إلى عدة مئات من المخطوطات كان معيجا قد حصل عليها في باماكو.
ولكن، في الثالث والعشرين من يوليو، دعا معيجا القاضي إلى الدخول. كان ثمَّة أمرٌ صعب للغاية احتاج أن يطلبه منه، ولكن تعيَّن عليه أن يكون كتومًا جدًّا.
قال القاضي: «لا مشكلة.» ثم أردف: «إن كان بوسعي القيام به، فلا مشكلة. سأحاول.»
قَصَّ عليه المدير بعضًا مما كان حيدرة قد علمه في رحلته إلى سويسرا؛ كيف عانت مكتبات المخطوطات من خسائرَ كارثيةٍ أثناء حرب العراق، وكيف دُمِّرَت مكتبات أخرى في السودان وليبيا. قال معيجا إن مخطوطات المعهد هي الأخرى كانت عرضة الآن لخطر أن تُتلَف؛ إن لم يفعلها الإسلاميون، كان ثمَّة احتمالٌ قوي أن يُقْدِم أفراد الحركة الوطنية لتحرير أزواد على ذلك.
واختتم حديثه قائلًا: «ما أريد منك أن تفعله هو أن تُخرِج المخطوطات من المكتبات في تمبكتو.»
قال القاضي: «لا مشكلة.»
كان معتادًا من القاضي أن يجيب بطريقة هادئة، بل حتى باردة، وكان ذلك هو السبب الذي دعا معيجا إلى أن يسأله. كان المدير لا يزال جديدًا في وظيفته، لكنه كان قد استطلع آراء قدامى الموظفين في تمبكتو عمَّن يمكن الوثوق به للاضطلاع بمهمة خاصة وحساسة، وكان اسم القاضي هو الأول في القائمة. كان سيرافقه «عميلان سريان» آخران. كان الأول هو عبد الله سديدي، الذي كان معروفًا عنه هو الآخر أنه يتحلَّى برباطة الجأش. كان الثالث شخصًا لم يكن أيٌّ منهما يعرفه جيدًا، لكنه كان سيكون من الأهمية بمكان لأنه كان مدير مكتبة أحمد بابا؛ بويا حيدرة.
طلب معيجا من القاضي أن يتصل بالاثنين الآخرين؛ ثم وضع الخطة.
كانت الخطة تقضي بأن يشق هؤلاء «العملاء» طريقهم إلى تمبكتو، حيث كانوا سيتصلون بأبا تراوري، حارس المبنى القديم في شارع شيمنيتز، ويطلبون منه أن يسمح لهم بدخول المستودع في الخلف. هناك كانوا سيحزمون بضع مئات من المخطوطات — كان سيتعين عليهم أن يتخذوا القرارات بأنفسهم بشأن أي مخطوطات سينتقون، لكنه كان يفضِّل أن ينتقوا المخطوطات الأقل قيمة، أو تلك التي كان يوجد منها نسخ متعددة، تحسُّبًا لأن تُفقَد — ويحضروها إلى باماكو. كان ينبغي أن يتجنبوا السفر عائدين معًا؛ لأنه إن قُبِض على أحدهم، يمكن أن يفقدوا كل شيء. كان ينبغي أيضًا على كل عميل أن يختلق رواية ملفقةً تحسُّبًا لأن يتعرض للاستيقاف. (كانت رواية القاضي الملفقة أنه كان قد طلب إجازة من المعهد ليزور شقيقه، الذي كان لا يزال يقطن في تمبكتو.) قال معيجا إن الأمر الأخير هو أنه يجب ألَّا يخبروا أي أحد، ولا حتى أقرب أقربائهم، بالمكان الذي كانوا ذاهبين إليه ولا بما كانوا يخططون لفعله هناك.
قال: «أعرف أن الناس في تمبكتو وجاو لا يكفون عن الثرثرة، ولكن أريد منكم أن تكونوا متحفظين فيما تتلفظون به.»
لم يكن المدير يملك أيَّ مال للمهمة إذ كان تمويله لا يزال مجمَّدًا؛ لذا دفع مقابل رحلتهم من أمواله الخاصة. أخذهم بالسيارة إلى البنك الذي كان في نفس الشارع وسحب مبلغًا كبيرًا، وأعطى لكل عميل منهم ١٠٠ ألف فرنك وسط أفريقي (ما يعادل ١٧٠ دولارًا أمريكيًّا). بعد ذلك طلب منهم أن يعودوا إلى البيت ويحزموا حقائبهم.
في الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم التالي، حمل العملاء حقائبهم إلى ملتقى الطرق الدائري الخاص بسوجولون، الذي تنتصب فيه منحوتة لجاموس ماء، وركبوا حافلةً متجهةً إلى موبتي.
•••
كان السفر في مالي صعبًا في أهدأ الأوقات. كانت السيارات بطيئة، وزنبركاتها مكسورة، ومقاعدها غير مريحة وإطاراتها منحولة على نحو خطر، ومع أن حرفيي ميكانيكا السيارات كانوا يأتون بالعجائب، كانت الأعطال تحدث في كل رحلة تقريبًا. كان يوجد ٣٤٠٠ ميل فقط من الطرق المرصوفة في بلدٍ تعادل مساحته ضعف مساحة فرنسا، وكانت الشاحنات الكبيرة وعربات الفان تتنافس عليها مع السيارات المسرعة، والعربات التي تجرها الحمير المثقلة بحمولة فوق طاقتها، والمارة، وركَّاب الدراجات الهوائية، متفاديةً الحافلات المعطلة وجثث الحيوانات. وعلى الرغم من قلة الطرق في البلاد، كان احتمال أن يقضي المالي نحبه في حادث سيارة أعلى بسبع مرات من احتمال وفاة البريطاني، وأكثر قليلًا من ضِعف احتمال وفاة الأمريكي لنفس السبب.
ازداد التوتر في الرحلة سوءًا بسبب مهمة العملاء. كان دخول منطقة الجهاديين وحده مخاطرةً كافية؛ وكم كان من الأسوأ أن تسافر بقصدٍ غيرِ مشروع، مهما كان نبيلًا، كان يمكن أن يؤدي إلى السجن، أو قطع اليد، أو القتل. في الطريق إلى الشمال، اختبر الرجال نقاط التفتيش التي كان سيتعين عليهم عبورها ومعهم حمولتهم في الطريق إلى الجنوب. عند دوينتزا، حيث انحرف مسارهم عن الطريق المرصوف، رأوا أول جهاديين. تذكر القاضي قائلًا: «كانوا في كل مكان.» كانت توجد نقاط تفتيش إضافية على مسافة مائة ميل شمالًا، عند بامبارا ماوندي، وجنوب النهر مباشرةً. في كل توقُّف كان عليهم أن يُظهِروا هوياتهم ويجيبوا على أسئلة الجهاديين. مَن أنت؟ إلى أين أنت ذاهب؟ ما سبب مجيئك؟
عندما بلغوا محطة عبارات نهر النيجر قبالة كوريومي، كان قد مضى عليهم في سفرهم ستٌّ وثلاثون ساعة. كان وقت الغسق، ولم يكن مسموحًا لهم أن يدخلوا تمبكتو بعد حلول الظلام؛ لذا استعدوا لأن يناموا في العراء، على الضفة الجنوبية للنهر الفضي العظيم. لم يكونوا وحدهم؛ إذ كان بويا، الذي كان ذا شخصية عصبية وضحكة عالية، قد تعرَّف على صديق وعلى الرغم مما كان معيجا قد قاله، لم يستطِع أن يمنع نفسه من الإفصاح عن السر الذي كان يثقله. قال لصديقه إنهم كانوا في مهمة، وربما سيحاولون أن يدخلوا أحد مباني معهد أحمد بابا. أصاب الذهول الصديق. كانت محاولةُ إتيانِ عملٍ كهذا بمثابة انتحار. وقبل أن يحاول أي منهم أن يوقفه، كان يجري مكالمة هاتفية ليناقش الأمر مع شقيقه، الذي وافقه على أنهم يجب ألَّا يحاولوا دخول المعهد تحت أي ظرف من الظروف؛ وحذَّرهم قائلًا: «إن دخلتم المبنى، فسيقتلكم الإسلاميون.»
لم تكن النصيحة هي التي ما أصاب القاضي وسديدي بالقلق بقدْر حقيقة أن أمر المهمة قد صار معلنًا.
تابع العملاء طريقهم. في الصباح عبروا النهر ومرُّوا عبر نقاط التفتيش النهائية، عند كوريومي وعند محطة توتال للوقود عند مدخل المدينة. بعد ذلك مضى سديدي والقاضي ليخلدا إلى الراحة في منزل القاضي في أباراجو، الذي كان شقيقه لا يزال مقيمًا فيه، وفي اليوم التالي ذهبا إلى أحد الزملاء، وهو أبو بكرين معيجا، الذي كان يقطن مع أسرته بالقرب من مسجد سيدي يحيى، ليخبراه بأنهما قد أُرسِلا لإخراج بعض المخطوطات من تمبكتو.
اتُّفِق على أن بويا، بصفته الأكبر سنًّا، ينبغي أن يذهب الآن لمقابلة الحارس العجوز أبا وحفيده حاسيني ويخبرهما بأمر المهمة. بعد المغادرة بقليل، اتصل بويا ليقول إنه كان قد تحدَّث معهما وإنه لم تكن ثمَّة مشكلة؛ لذا سار القاضي وسديدي عبر الأزقة الرملية إلى شارع شيمنيتز. قادهم أبا إلى الساحة الصغيرة ذات الأشجار خلف المبنى وفتح الباب المؤدي إلى المستودع، الذي كان عبارة عن غرفة ذات حوائط بيضاء كانت تضم المخطوطات، التي كانت كل مخطوطة منها موضوعةً بعناية في صندوقها غير الحمضي، حيث كانت مخزنة في خزائن خشبية. كان العملاء قد جاءوا مزودين بعدد من أشولة الأرز من فئة عشرة كيلوجرامات، وأخرجوا المخطوطات من الصناديق وعبَّئُوها بحرص في الأشولة.
كانوا جميعًا متوترين، وبخاصة بويا؛ الذي يتذكر ذلك قائلًا: «في اليوم الأول كنا خائفين للغاية لأنها كانت المرة الأولى التي نفعل فيها ذلك.» ثم أضاف: «كنا مرتعبين حقًّا، ولكن ما الذي يمكننا فعله؟ لم يكن الأمر يخلو من المخاطرة!» تسبَّب سديدي في مشكلة إضافية؛ إذ كان لديه حساسية من الغبار، والذي كان في كل مكان، وظلت تنتابه نوبات سعال لا يمكن السيطرة عليها.
سارعوا بملء الأجولة، ثم خرج واحد منهم إلى الطريق لينادي حمَّالًا معه عربة جر يدوية ليحمل المخطوطات إلى منزل أبي بكرين معيجا قبالة مسجد سيدي يحيى. وهناك وضعوا قائمة بما كانوا قد أخذوه من المخطوطات. حسب تقدير القاضي كان معهم حوالي ثمانمائة وثيقة. تمكَّنوا من العثور على خزانة من الفولاذ، ولكن سرعان ما امتلأت — كانت بعض المجلدات الملفوفة بالجلد ضخمة، وتحتوي على خمسمائة أو حتى ستمائة صفحة — لذا وضعوا بقية المخطوطات في حقيبتي ظهر ضخمتين، ثم قسَّموا الأغراض بينهم. أخذ كلٌّ من بويا وسديدي حقيبة ظهر، بينما أخذ القاضي الخزانة بالإضافة إلى مخطوطتين كبيرتين لم يستطِع أن يدخلهما في الخزانة.
كانت الخطة تقضي بأن يسافر كل عميل إلى الجنوب على نحوٍ منفصل، لكن الآن فضَّل القاضي وسديدي ألا يدعا بويا يذهب بمفرده. تذكر معيجا قائلًا: «عندما لاحظا أن بويا بدأ يعطي معلومات عن المهمة، قالا إنهما إن تركاه يذهب بمفرده، قد يفصح عن معلومات أكثر من اللازم وقد تفشل المهمة.» تطوَّع سديدي أن يغادر أولًا. كان من شأنه أن يهاتفهما عندما يكون قد نجح في المرور من نقاط التفتيش؛ ثم يمكن للقاضي وبويا أن يغادرا معًا.
مرَّ القاضي بيوم حافل بالتوتر في انتظار مكالمة سديدي. عندما جاءت المكالمة أخيرًا، قال سديدي إنه في سيفاري وإنه لم تحدث أية مشكلة. الأشخاص الوحيدون الذين أرادوا أن يفتشوا حقيبة ظهره كانوا رجال الدرك المالي، لكنه قال لهم إنه كان يحمل مخطوطاتٍ مِلْكًا للدولة وتركوه يمر. عندئذٍ انطلق القاضي وبويا في طريقهما. على عكس الحركة الوطنية لتحرير أزواد، لم يكن الجهاديون مهتمين بالحقائب، ومر الاثنان من نقاط التفتيش دون مشاكل. لم يُطلَب من المسافرين أن يفتحوا كل حقائبهم إلا بعد تخطي سيفاري، في المنطقة الحكومية.
تذكَّر القاضي: «كانت الشرطة تفتش كل مكان في الحافلة.» ثم أضاف: «أنزلوا كلَّ شيء وفتَّشوا في كل الأغراض.» راقب جنديًّا وهو يفتش في متاعه، حتى وصل أخيرًا إلى الخزانة المليئة بالمخطوطات. قبل أن يتمكَّن من فتحها تقدَّم القاضي ومعه خطاب كان معيجا قد كتبه موضحًا أنه كان مسافرًا في مهمة تابعة للدولة.
قال الجندي: «أنا لست هنا من أجل أن أنظر في مهمتك.» ثم أضاف: «أنا هنا لأفتش الحقائب.»
لم يكن أمام القاضي من اختيار سوى أن يطلعه على محتويات الخزانة. اتسعت عينا الجندي دهشةً. وصاح متعجبًا: «آه، إنها مخطوطات!»
كانت تلك لحظة حرجة، لكن القاضي ظل هادئًا، وإذ لم يكن يحمل أي شيء غير قانوني، أغلق الجندي الصندوق الفولاذي ببساطة. وقال إن كل شيء على ما يُرام، وإن بوسعهما أن يعودا ليركبا الحافلة.
بلغا باماكو في الساعات الأولى من المساء، واتصل القاضي بمعيجا ليُعْلِمه. في اليوم التالي أحضر المخطوطات إلى المكتب الذي كان يعلو متجر السمك والدجاج وأخبر المدير بما حدث.
عندما سمع حيدرة عن الشائعات التي كانت تُتناقَل في تمبكتو، لم يسرَّه ذلك. تذكَّر قائلًا: «قلت: «حسنًا، سنغيِّر الاستراتيجية».» ثم أضاف: «قلت لهم من جديد كيف سيجري الأمر.»
•••
ما إن مرَّ أسبوع على عودة القاضي من تمبكتو، حتى كان يتوجَّه صوب الشمال من جديد، لكن هذه المرة بمفرده. كان سديدي قد استُبعِد من عملية الإجلاء الثانية هذه بسبب الحساسية التي كان يعاني منها، بينما كان بويا يشكِّل خطرًا أمنيًّا. كان معيجا قد ذَكَّر القاضي بألَّا يتحدث مع أي أحد آخر عن مهمته، وبخاصة أفراد أسرته. كل ما استطاع الباحث قوله لزوجته في سيجو هو أنه كان يتعيَّن عليه أن يرحل مجددًا لبضعة أيام.
في موبتي وجد سيارة دفع رباعي مُتَّجِهة إلى تمبكتو، فركب فيها مع أحد مساعدي رئيس البلدية وعدة أشخاص آخرين. بلغوا الضفة الجنوبية للنهر قبل حلول الليل مباشرةً، لكن العبَّارة كانت قد توقفت عن العمل في المساء؛ لذا نادَوا زورق صيد، فحملهم إلى الضفة الأخرى، ثم أقنعوا سائق سيارة لاند روفر أن يأخذهم معه الأميال التسعة الأخيرة إلى تمبكتو. عند نقطة التفتيش بجوار محطة وقود توتال، اقترب من السيارة مجاهدٌ شابٌّ معه بندقية، ويرتدي صدرية، ويضع عمامة على الطريقة الأفغانية. اعتقد القاضي أنه كان باكستانيًّا.
كان مساعد رئيس البلدية قلقًا — ما الذي سيحدث إن اكتشفوا هويته؟ — لكن الجهادي الشاب لم يطلب حتى أن يطلع على هوياتهم. كان شاغله الوحيد هو المرأة المسنة التي كانت جالسةً مع الرجال في المقاعد الخلفية.
استولت الدهشة على القاضي، الذي كان مسلمًا متعلمًا ومتدينًا. قال له إنها امرأة مسنة. وكان ابنها يرافقها. ولا يوجد ما يمنع في الإسلام أن يسافر الرجال والنساء معًا.
صاح المقاتل الشاب: «أنت تكذب!» ثم أضاف: «لقد تعمَّدتم وضع المرأة وسطكم! عليكم أن تخرجوا من السيارة. اخرجوا!»
هُرع الركَّاب إلى تنفيذ ما قاله الرجل المسلح، وبسرعة جعل السائق المرأة تتبادل مقعدها مع رجل كان يجلس في المقعد الأمامي. كانت لا تزال جالسة بجوار رجل، وهو السائق، لكن الجهادي كان راضيًا لأن الأمور قد عادت لنصابها الصحيح بحسب فكره السلفي، وأشار إلى اللاند روفر بأن تمضي في طريقها.
كان الظلام قد حلَّ عندما وصل القاضي إلى منزله في أباراجو. اتصل هاتفيًّا بأبي بكرين ليخبره بأنه قد عاد، ثم ذهب ليخلد إلى الراحة، وفي الصباح التالي ذهبا معًا إلى المبنى القديم، حيث التقيا بأبا وحاسيني مجددًا. اتصلوا بمعيجا من هناك: أراد المدير أن يشرح المهمة الجديدة بنفسه للحارس. في عصر ذلك اليوم، شرعوا في مهمتهم، التي سرعان ما أصبحت أمرًا روتينيًّا.
كان القاضي سيغادر منزله قبل وقت الظهيرة لأداء صلاة الضحى في مسجد في السوق. ثم، مع ارتفاع حرارة الجو وعودة الناس إلى بيوتهم لتناول الطعام وأخذ قسط من الراحة، مضى في طريقه إلى شارع شيمنيتز، وجلب معه دزينة أو نحو ذلك من أشولة الأرز. أدخله حاسيني إلى المستودع. وهناك عملا معًا، فكان القاضي يأخذ الصناديق من فوق الأرفف ويمررها واحدًا تلو الآخر إلى حاسيني، الذي كان يضعها على الطاولة ويفتحها بينما يسجِّل القاضي الرقم الفهرسي لكل مخطوطة. في المهمة الأولى كانوا قد سجَّلوا العناوين أيضًا، لكن لأن حاسيني لم يكن يقرأ العربية، كانا الآن يسجلَّان الأرقام فقط. نقلا المخطوطات من الصناديق ليوفرا مساحةً في الخزائن، وفتح حاسيني كل شوال بينما كان القاضي يملؤه بحرص. وفيما عدا بضع وثائق علمية كان القاضي قد تعرَّف عليها، لم يعرف بالضبط ماهية المخطوطات؛ فقد كان يأخذ ما استطاع أخذه فحسب.
ظلا يعملان حتى الساعة الرابعة بعد الظهر، وتوقَّفا عن العمل عندما بدأت المدينة تصحو ثانيةً، ثم بقي القاضي مع حاسيني وأبا في منزلهما في مجمع المكتبة حتى الغسق. عندما كان الليل قد حلَّ، خرج أحدهم إلى الشارع لينادي حمَّالًا معه عربة جر يدوية، فجاء بها الحمَّال إلى المدخل الخلفي وحمَّلها بالأشولة. عندما أصبحوا مستعدين للتحرك، سار أبا في الشارع الرئيسي ليتحقق من أن الطريق كان آمنًا. بإشارة منه، تحرَّك الرجال؛ إذ سار حاسيني أمام الحمَّال الذي كان يجر العربة، والقاضي في الخلف، وساروا مسافة نصف ميل إلى منزل أبي بكرين. حرصوا على اختيار حمَّال مختلف في كل ليلة حتى لا ينتاب أحدًا ارتيابٌ زائد، وساروا في الأزقة الخلفية قدْر الإمكان لتجنُّب دوريات الجهاديين.
في اليوم الثاني أضافوا وردية مسائية. كان العمل في الليل أصعبَ — كان انقطاع الكهرباء متكررًا، وتعيَّن على أبا أن يمسك بكشاف ضوئي — لذا لم يتمكنوا من أن يلتزموا بذلك وقتًا طويلًا، لكن المخطوطات كانت تتكدَّس سريعًا في المنزل المقابل لمسجد سيدي يحيى.
بعد ذلك اتصل أبو بكرين بمعيجا، الذي أعطاهم رقم تاجر كان حيدرة يعرفه، وكان هذا التاجر سيجلب المخطوطات جنوبًا. أحضر التاجر عشر خزائن، وطلب منهم أن يملئُوها ويأخذوها إلى مبنًى معيَّن في حي بيلافاراندي القريب. بعد ذلك نقل القاضي وأبو بكرين الوثائق إلى الخزائن. عندما كانت واحدة تمتلئ، كانا يُحكمان غلقها بقُفْل عند كل طرف من الطرفين واحتفظ القاضي بالمفاتيح في جيبه. جرَّا الخزائن على عجلاتها، واحدة تلو الأخرى، إلى منزل التاجر، ولم يكونا ينقلان أكثرَ من اثنتين أو ثلاث في اليوم وفي أوقات مختلفة، ليتجنبا أن يلاحظهما أحد. وشُحِنَت الخزائن من هناك إلى الجنوب في الشاحنات التي كانت لا تزال تطوي الصحراء، منتقلةً على طريق التجارة من تمبكتو إلى باماكو. حتى في وقت الحرب، استمرت الناقلات في العمل؛ لأن الجهاديين احتاجوا إلى تجارة المدينة وإلى واردات الغذاء. بحسب معيجا، كان المحتلون يثقون في التاجر؛ إذ قال: «كان الإسلاميون يثقون فيه، وانتهز الفرصة لإخراج أشياء دون أن يزعجه أحد.»
نُقِلَت المخطوطات جنوبًا تحت أكوام من منتجات تمبكتو، علاوة على صناديق كوكاكولا وفانتا والبضائع المستوردة الأخرى التي كانت تُشحَن من الجزائر وموريتانيا. قال حيدرة: «في بعض الأحيان كانت الشاحنات تحمل خزانتين، وأحيانًا أربعًا.» ثم أردف: «أحيانًا كانت توجد شاحنتان وفي كل شاحنة كانت توجد خمس خزائن، أو ثلاث شاحنات وبها ثلاث خزائن. كانت تلك هي الطريقة التي تابعنا بها العمل.» في بعض الأحيان كان أحد الأشخاص التابعين لحيدرة يرافق الشحنات، ولكن في أوقات أخرى كانت تُنقَل بمفردها، «في حماية الله»، على حدِّ قول القاضي.
عندما كانت المخطوطات تصل إلى بوست دي نيامانا، نقطة التفتيش الجمركية الضخمة عند طرف باماكو، كان السائق أو الناقل يتصل ليخبر رجال المكتبات بأنه قد وصل، وكان معيجا أو حيدرة يذهب لملاقاته، وأيضًا، إن دعت الحاجة، لتسهيل مروره وإنهاء الإجراءات الروتينية. تذكر حيدرة: «كنت آخذ سيارتي لألتقي به هناك عند مدخل باماكو.» ثم أردف: «عادةً ما كان يوجد تأخير هناك وكنت أدفع الكثير من المال. وكانت هذه مشكلة كبيرة.» بعد ذلك كانت الخزائن تُؤخذ إلى مكتب معهد أحمد بابا في كالابان كورا. أحيانًا كان معيجا يأخذها بنفسه في سيارته، ولكن إن كان آتيًا عددٌ كبيرٌ منها، كان يستأجر واحدة من حافلات سوتراما الأجرة الصغيرة المطلية باللون الأخضر التي تنقل الركاب في جميع أنحاء باماكو.
مع تقدُّم العملية، بدأ التوتر ينال من القاضي. أصبح يرتاب في الأطفال الذين كانوا يلعبون حول منزله. ماذا لو أخبروا أحدًا بتحركاته؟ بدأ يغادر قبل الفجر، قبل أن يخرج الأطفال، وينتظر في منزل التاجر في بيلافاراندي حتى الساعة الثانية بعد الظهر قبل أن يبدأ العمل. كان قلقًا أيضًا من أن أبا بكرين كان يقطن في منزلٍ قريبٍ جدًّا من السوق؛ وكان الطريق المار أمام منزله مزدحمًا دومًا بالحركة المرورية والناس والدوريات. كان من المستحيل إخفاء الخزائن عند نقلها إلى منزل التاجر، وكان الناس يحدقون فيها. إن سُئل، كان القاضي يخبرهم أنها كانت فحسب تحتوي على سلع سوقية، لكنه خشي من أن القصة الملفقة تفقد مصداقيتها. ماذا إن طلب منه أحدٌ ما أن يفتح خزانة؟ فكَّر في نفسه: «ربما كانوا يعرفون أننا نخطط لشيءٍ ما.» ثم أضاف: «ربما كان من شأنهم أن يتفقدوا منزل أبي بكرين، وعندئذٍ ستكون ثمَّة مشكلة كبيرة.»
قال لمعيجا إنه يعتقد أن الناس بدءُوا يرتابون في الأمر. ارتأى المدير أن وجهة نظره مقبولة. تذكر قائلًا: «رأى الناس عددًا كبيرًا جدًّا من مرات الذهاب والإياب، وتساءلوا عما يحدث.» لذا عندما كانوا قد وضعوا عشر خزائن ممتلئة في منزل التاجر، قال له معيجا إنه قد فعل ما يكفي. سافر القاضي عائدًا في منتصف شهر أغسطس، ووصل إلى باماكو في الثالث والعشرين من الشهر، بعد خمسة عشر يومًا من مغادرته.
في الرحلة الأولى كان العملاء الثلاثة قد نقلوا نحو ألف مخطوطة. وبعد عملٍ شاقٍّ مدةَ أسبوع، بمعاونة حاسيني، وأبا، وأبي بكرين، كان القاضي قد نقل حينئذٍ حوالي ثمانية آلاف مخطوطة أخرى. تقريبًا كان ثلثا المجموعة التي كانت مخزنةً في المبنى القديم لا يزالان باقيين.
بعد فترة وجيزة من عودة القاضي للاستقرار في باماكو، اتصل به معيجا مجددًا. قال له: «الآن عليك أن تذهب لتحضرها كلها.»
•••
ذهب حيدرة إلى المكتب لمقابلة معيجا قبل عملية الإجلاء الثالثة. أراد أن يتحدث إلى القاضي، ليطمئنه إلى أن ما كان يفعله الصواب. تذكَّر القاضي: «قال لي إنني لا ينبغي أن أخاف، وقال إنها كانت مهمة من شأنها أن تكون مفيدة لنا على المدى الطويل، ولكن كان يتعيَّن القيام بها كما لو أنها ليست بالأمر المهم.» ثم أردف: «شجعني وهدَّأ من روعي.»
كان ارتياب القاضي كبيرًا لدرجة أنه لم يخبر أبا بكرين بأمر رحلته الأخيرة. كان يعمل ليلًا فقط، مع أبا وحاسيني، وأسرع من ذي قبل. قرَّر أن أشولة عشرة كيلوجرامات كانت صغيرة للغاية؛ لذا أحضر نحو عشرين شوالًا من أشولة مائة كيلوجرام. عبَّئُوا هذه الأشولة بكميات كبيرة، وأغلقوها بأن خاطوها بعد أن كانت قد امتلأت. لم يحاولوا حتى أن يحصوا المخطوطات الآن؛ كانوا في عجلة كبيرة من أمرهم، حتى إن كل ما استطاعوا فعله هو أن حاولوا ألا يجعلوا الصفحات المنفصلة تختلط بعضها ببعض. كانوا يعملون طويلًا حتى الليل، إلى أن يصيبهم الإرهاق، ثم كانوا ينقلون الأشولة على عربة اليد والعربة التي يجرها الحمار مباشرةً إلى المنزل في بيلافاراندي. وهناك كانوا يغلقون الباب، ويُخرِجون المخطوطات من الأشولة، ويعودون بالأشولة الفارغة إلى المستودع. في الصباح، كان القاضي يعمل بمفرده في وضع الوثائق في الخزائن. عندما كان أحد الصناديق الفولاذية يمتلئ، كان ينقله إلى غرفة أخرى في المنزل؛ وكان التاجر يأخذه من هناك ويضعه في الشاحنات. في منتصف النهار كان القاضي يذهب إلى البيت ليخلد إلى الراحة، ثم يتوجَّه عائدًا إلى المعهد بعد حلول الظلام ليبدأ وردية جديدة.
بعد عشرة أيام شاقة، صارت غرفة المحفوظات في المعهد فارغة، وشعر القاضي بأن جبلًا من المتاعب قد انزاح من فوق كاهليه. وبينما كان يغادر المبنى للمرة الأخيرة، التقى مصادفةً بسديدي، زميله الذي كان قد رافقه في الرحلة الأولى. فوجئ صديقه عندما رآه قد عاد، دون أن يخبره، إلى تمبكتو. سأله: «ماذا تفعل هنا؟ لقد ظننت أنك في باماكو!»
حتى في هذه اللحظة، وهو يتحدث إلى صديق وعميل رفيق، لم يتخلَّ القاضي عن حذره. قال لسديدي إنه كان قد أُرسِل إلى جورما راروس، البلدة الكبيرة المجاورة على النهر، وإنه كان في المعهد من أجل أن يُلقي التحية على أبا. ثم قال: «لقد كنت أقوم بزيارة عابرة فحسب.»
غادر القاضي تمبكتو في منتصف شهر سبتمبر، بعد أن نقل المجموعة، التي تبلغ نحو ٢٤ ألف وثيقة، بأكملها من المبنى القديم.
•••
كانت العملية قد أُجريت في سرية كبيرة، لكن معيجا شعر بأنه يتعيَّن عليه الآن أن يخبر بعضًا من زملائه بما قد تم. أحد هؤلاء الأشخاص كان عبد الله سيسيه، أكبر موظفي المعهد الذين بقوا في تمبكتو. عندما كان معيجا قد تولَّى منصبه الجديد، كان قد عهد بالمخطوطات إلى سيسيه، وطلب منه أن يتأكد من ألَّا يُنقَل أي شيء. بعد يومين من اكتمال عملية الإجلاء اتصل به معيجا ليخبره أن المجموعة التي كانت في شارع شيمنيتز قد نُقِلَت بكاملها إلى باماكو. تذكَّر معيجا: «كنَّا قد أجلينا كل المخطوطات التي كانت في المبنى القديم تحت ناظريه، ولم يكن حتى على علم بذلك!»
أيضًا كان على معيجا أن يبلغ الموظفين العموميين في وزارة التعليم العالي، التي كانت تتولى مسئولية الإشراف على معهد أحمد بابا. في نهاية الأمر، لم يكن قد مرَّ على وجوده في الوظيفة إلا خمسة شهور، وكان الآن هو وحيدرة قد نقلا سرًّا الجزء الأكبر من المجموعة التابعة للدولة مسافةَ ستمائة ميل إلى الجنوب الغربي، إلى مكتبه الجديد في كالابان كورا.
قرَّر أن يقيم حفل استقبال مفاجئ، وصفه حيدرة بأنه «حفل كوكتيل صغير»، ودعا مجموعةً منتقاةً من الوزارة، تشمل المستشار الفني المسئول مسئوليةً خاصة عن معهد أحمد بابا، إدريسا دياكيتي، وعددًا قليلًا من معاونيه. لم يوجِّه الدعوة إلى الوزير؛ لأنه لم يرغب في أن يكون الحفل حدثًا رفيعَ المستوى؛ إذ كانوا لا يزالون بحاجة إلى إبقاء عملياتهم سرية.
أُدخِل رجال الوزارة غرفةً مملؤة بأنواع الخزائن الفولاذية التي كانت تُستَخدَم لشحن الأغراض في كل أنحاء مالي. تذكر حيدرة: «كان من الواضح أنهم لم يكونوا يعرفون على الإطلاق أننا كنا قد بدأنا شيئًا ما.» عندما فتح معيجا الصناديق، تراجع الرجال مذهولين. تذكَّر معيجا: «قالوا: «ماذا! ما هذا؟»» ثم أضاف: «كان وقْع المفاجأة عليهم كبيرًا جدًّا، كبيرًا جدًّا.»
منذ اعتداء الجهاديين على أضرحة أولياء تمبكتو، كان الوزراء يخشون أن يحدث شيء مماثل لتراث المدينة المكتوب. قال دياكيتي: «كنَّا نشعر بالقلق من أن يقع هجوم على المخطوطات»، لذا عندما فُتِحَت الخزائن ورأى ما قد أُنجِز، ارتأى أنه أمر «رائع»، وجهد «محمود.» انهمرت الأسئلة. كيف تمكَّنوا من إمرارها عبر كل نقاط التفتيش؟ كيف حتى واتتهم فكرة تهريبها جنوبًا؟ لم يعترض دياكيتي على قرار إبقاء العملية سرية. قال: «كان من الضروري أن يكون هذا الأمر سريًّا؛ لذا لم يبلغوا السلطات المسئولة.» في نفس الوقت، وجد فكرة وجود المخطوطات مؤقتًا في خزائن «مخيفة»، وعرف أنه كان لا يزال ثمَّة الكثير من العمل الذي يتعين إنجازه. قال: «كان يتعين علينا أن نجد وسيلةً لمنعها من أن تكون كلها متركزة في نفس المكان؛ لأن ذلك كان أيضًا يمثِّل خطرًا على المخطوطات.» كان جوُّ باماكو الرطب يمثِّل أيضًا تهديدًا. وأردف: «كان يتعين علينا أن نحسن الظروف التي كانت مودعة فيها. كان ثمَّة الكثير من علامات الاستفهام.»
ومع ذلك، إجمالًا، كان رجال الوزارة في غاية السعادة. تحدثوا عن تقديم ميداليات إلى معيجا وحيدرة. قال حيدرة: «لا، لا، لا.» إذن، ما الأمر الآخر الذي يمكنهم فعله من أجله؟
قال حيدرة: «إن المخطوطات بحوزتنا، ولكن ما أطلبه منكم هو أنه يجب ألا تتحدثوا بشأن الأمر؛ لأن مخطوطاتنا ما زالت هناك.» كان يشير إلى المجموعات الخاصة، التي كانت تشكِّل، على حدِّ قوله، ٨٥ بالمائة من العدد الكلي للوثائق في المدينة. وتلك كانت لا تزال في خطر. قال: «سرعان ما سنبدأ إجلاءها.» ثم أردف: «إن الأمر لم ينتهِ بعدُ. لذا أفضلُ هدية يمكنكم تقديمها لي ألا تتكلموا عن الأمر.»
ووافقه رجال الحكومة على ذلك.
•••
كان ثمَّة عاقبتان غريبتان فيما يتعلق بعملية تهريب مخطوطات معهد أحمد بابا جنوبًا. كانت الأولى أن معيجا دُعي إلى مكتب وزير التعليم العالي، الذي وبَّخه على ما فعله. سأله الوزير: «مَن الذي أعطاك الأمر بنقل المخطوطات؟» أوضح له معيجا أنه في الأوقات التي كانوا يمرون بها كان قد قرَّر ألا ينتظر موافقةً من أحد، وعندئذٍ قال له الوزير بفظاظة إنه يجب إطلاعه على أي شيء كان يحدث ثم صرفه.
قال معيجا: «الناس دومًا يفترضون الأسوأ.»
كانت العاقبة الثانية أن العلاقات بين رجال المكتبات بدأت في التدهور.
في بداية شهر سبتمبر، كان حيدرة قد سافر إلى دبي ليوضح ما لديه من مشكلات لجمعة الماجد، وهو أحد رجالات العمل الخيري المخضرمين ويدير مركزًا للحفاظ على المخطوطات العربية وكان قد مَوَّل مشروعاتٍ سابقة في تمبكتو. أوضح حيدرة أنهم قد أُجبِروا على نقل الوثائق إلى منازل الناس، حيث كانت محفوظة الآن في ظروف سيئة في صناديق خشبية أو فولاذية، وأن مسلك الجهاديين كان يمثِّل تهديدًا متزايدًا. طلب منه الماجد ألا يؤجل مسألة نقل المخطوطات من تمبكتو بل أن ينقلها بأي طريقة يتسنى له بها ذلك. وقال: «سأساعدك على الفور.» ثم أردف: «يجب أن تبدأ العمل على هذا من اليوم.» وبعد ذلك أرسل إلى حيدرة ٣٠ ألف دولار ليجعله يبدأ.
شعر معيجا بأنه قد استُبعِد من هذه المعاملة المالية. تذكر مدير معهد أحمد بابا: «قال لي: «ما إن يصبح المال هنا، فسأعطيك جزءًا ستستخدمه في إخراج المخطوطات».» ثم أضاف: «ولكن — وهذه أمور ليس من الجيد قولها — كنت أعرف أنه كان قد حصل على المال وصار بحوزته بالفعل. وكان قد اتصل بالفعل بباعةٍ وتجارٍ كانوا بالفعل قد اشتروا خزائن وصناديق للمخطوطات في تمبكتو. كان يعرف أنني كنت قد قَدِمت حالًا [إلى الوظيفة]، ولم أكن أملك المال، واستغل ذلك.»
توقَّع معيجا أن يتلقى بيانًا ماليًّا تفصيليًّا للمبالغ التي كان حيدرة قد جمعها ومقدار ما يمكنهما إنفاقه، وأن يحدث نقاش بينهما حول حجم الحصة المخصصة لمخطوطات أحمد بابا. لكن حيدرة لم يقدِّم أيًّا من هذه المعلومات. قال معيجا: «كنت مصدومًا لسببين.» ثم أردف: «أولًا، عندما بدأنا الاجتماعات في مكتبي، قلنا إننا سندير الأمر معًا، حتى النهاية. لكن عندما حصل على المال، لم يكن الحال كذلك. ثانيًا، لو أنني كنت أعرف أنه حصل على المال، ما كنت سأدفع مقابل الأشياء من مالي الخاص.»
لاحقًا، أكد حيدرة أنه لم يَعِد معيجا مطلقًا بأيٍّ من الأموال التي جمعها — قال: «لم نتحدث عن هذا الأمر مطلقًا» — وأنه على أي حال هو، وليس معيجا، مَن كانت الحكومة قد خَوَّلَته في أمر إجلاء المخطوطات.
بحلول شهر سبتمبر، كان تحالف رجال المكتبات الثلاثة الذين كانوا قد بدءُوا في الاجتماع في مايو قد انهار. كان من شأن حيدرة أن يتابع عملية إجلائه لمخطوطاته المملوكة ملكية خاصة له دون مساعدة معيجا.
قال معيجا: «لقد أبعدني عن الأمر.»