ثقالة أوراق الملك ليوبولد
على الرغم من أن بارت وشربونو كانا قد توصَّلا إلى أدلة واضحة على أن الناس عبر الصحراء كانوا قد أفرزوا حضارات ملمَّة بالقراءة والكتابة، فقد كانا يسبحان عكس تيار الفكر السائد في أواخر القرن التاسع عشر. وكانا سيغرقان قريبًا.
يتحتم علينا الظهور أمامهم [المتوحشين] وكأننا كائنات خارقة للطبيعة؛ يجب أن نبدو لهم كآلهة … ببعض الإرادة من جانبنا، نستطيع صنْع خيرٍ لا حدَّ له.
استندت رواية «قلب الظلام» على ما كان كونراد قد رآه بصفته القائد بالوكالة للسفينة البخارية «روا دي بيلج» (ملك البلجيك) في عام ١٨٩٠ في دولة الكونغو الحرة، الإقليم الذي حقَّق به ليوبولد الثاني ملك بلجيكا رغبته الطويلة الأمد في حكم مستعمرة. في الكونغو تحت سيطرة ليوبولد، كان من شأن جيش خاص، عُرِف باسم «القوة العامة»، أن يجعل الناس يجردون أرضهم من ثروتها الطبيعية، بالأساس المطاط والعاج، من أجل إثراء بروكسل. وإذا لم يفوا بالحصص المطلوبة منهم، كان الرجال يُقتَلون، وتُغتَصَب النساء، وتُقطَع أطراف الأطفال، وتُحرَق القرى. قُدِّر عدد مَن قُتِلوا في الإقليم نتيجة لحكم ليوبولد بعشرة ملايين، أو تقريبًا نصف عدد السكان.
مما لا شك فيه أن جوزيف بانكس كان سيُصاب بالذعر عندما يعلم بحجم وحشية الملك البلجيكي في وسط أفريقيا، لكنها كانت من نواحٍ كثيرة امتدادًا حتميًّا للنهج الذي كانت الرابطة الأفريقية قد بدأته؛ مثال متطرف لنمط كان يتكرَّر في الأراضي المكتشفة في كل مكان من الأمريكتين إلى أسترالاسيا والمنطقة القطبية الشمالية. كانت حقبة الاستكشاف قد انتهت؛ وحلَّت الآن حقبة الاستغلال. ولكن أولًا كان يتعين على القوى العظمى أن تستولي على الأقاليم الأفريقية، وفي أواخر القرن التاسع عشر كان ذلك هو ما فعلته بالضبط. في عام ١٨٧٠ كانت نسبة ١٠ بالمائة تقريبًا من القارة تحت سيطرة قوة استعمارية. بحلول عام ١٩١٤، لم تكن نسبة ١٠ بالمائة فقط كذلك.
كانت القوة الدافعة للإمبريالية الجديدة جزئيًّا مالية. في سبعينيات القرن التاسع عشر توقَّف نمو العديد من الدول الغربية؛ وكان من شأن أوضاعها الاقتصادية أن تظل راكدة لأكثر من عقدين. كانت ثمَّة حاجة إلى أسواق جديدة وموادَّ خام، وكانت أفريقيا تمتلك كليهما. تزامنت هذه الحتمية مع ذروة للعنصرية الأوروبية، عزَّزتها أعظم فجوة تكنولوجية شهدها التاريخ على الإطلاق بين العالم الصناعي وأفريقيا، وشجَّعت عليها نخبة مثقفة قام فكرها على تسلسلات هرمية للعِرق تطورت أثناء عصر التنوير. أما القلة الذين كانوا قد زاروا بالفعل أجزاءً من القارة أو درسوها، فكانت محاولتهم مقاومة هذا التحول الفكري مستحيلة. كان بارت قد رُفِض بسطحية من قِبَل الأكاديمية الملكية للعلوم في برلين لكونه «مغامرًا» وليس عالمًا؛ ولكن إلى أي حدٍّ يكمن قرار الأكاديمية في رفضها لروايته لمشاهداته في غرب السودان؟ كانت نظرة المؤسسة الألمانية إلى أفريقيا لا يزال يهيمن عليها تفكير جورج هيجل، الذي كان قد أعلن في أوائل القرن أنها «ليست جزءًا تاريخيًّا من العالم؛ فهي ليس فيها حركة أو تطور يمكن عرضهما.» رُفِضَت الأدلة الواضحة على وجود حضارة هناك، كتلك الموجودة في قرطاج أو مصر، باعتبارها ليست أفريقية على النحو السليم؛ فهي لم تكن «تنتمي إلى الروح الأفريقية.» كانت النتيجة أن «ما نفهمه على نحوٍ سليم من كلمة أفريقيا هو الروح التي لا تاريخ لها ولا تطور، التي لا تزال منغلقة في حالة الطبيعة المحضة … على عتبة تاريخ العالم.»
لم يكن هيجل أول ولا آخر مفكر أوروبي يُسقِط القارة وسكانها. في خمسينيات القرن التاسع عشر، كتب عالم الأجناس البشرية جوزيف آرثر جوبينو عمله المهم في علم العنصرية المزعوم، «التنوع الأخلاقي والفكري للأجناس»، الذي اشتمل على تسلسل هرمي عنصري كامل فيه البيض من ذوي الأصل الأوروبي في القمة وذوو البشرة الداكنة في القاع. كتب جوبينو أنه ربما يكون مستكشفون مثل بارك قد «منحوا بعض الزنوج شهادة بامتلاكهم لذكاء شديد»، ولكن كان من غير اللائق استخلاص استنتاجات علمية من لقاءات عرضية مع قلة من الأفراد ذوي الذكاء. كانت الهيئة العامة لجسم الأجناس السوداء دليلًا على دونية عرقهم؛ إذ كان لعظام الحوض لديهم «طابع حيواني» بدا وكأنه «ينبئ بمصيرهم»، بينما كانت جباههم «ضيقة ومنحسرة»، وهذه علامة على أنها كانت «أقل في القدرة على التفكير.»
في هذا الإقليم الهمجي [في وسط أفريقيا] … لا نجد أي آثار من الماضي؛ فلا توجد أي عمارة قديمة، ولا نحت، ولا حتى حجر محفور يثبت أن الهمجي الزنجي في يومنا هذا أدنى في المرتبة من سلفٍ بعيد … لذلك يجب أن نستنتج أن أجناس الإنسان التي تسكن الآن [هذا الإقليم] لم تتغير عن قبائل ما قبل التاريخ التي كانت تمثِّل السكان الأصليين.
كان من شأن هذه العقلية أن تستمر وصولًا إلى عمق القرن العشرين. في عام ١٩٢٣، سيكتب المؤرخ البريطاني الرائد إيه بي نيوتن أن «لم يكن لأفريقيا عمليًّا أي تاريخ قبل مجيء الأوروبيين … لأن التاريخ يبدأ فقط من الوقت الذي يعتاد فيه البشر الكتابة»، متجاهلًا تجاهُلًا تامًّا مجموعةَ الأدلة المتزايدة التي تثبت العكس. بعد ذلك بخمس سنوات، سيصادق ريجينالد كوبلاند، أستاذ كرسي بيت للتاريخ الاستعماري بجامعة أكسفورد، على ما ذكره نيوتن، مؤكدًا أنه حتى القرن التاسع عشر، كان القوام الرئيسي للأفارقة «قد ظل، لقرون لا تُحصى، غارقًا في البربرية … لقد ظلوا في حالة جمود، فلا تقدموا إلى الأمام ولا تراجعوا للوراء. لا يوجد مكان في العالم، عدا ربما في بعض المستنقعات المنتنة في أمريكا الجنوبية أو في بعض جزر المحيط الهادئ المنعزلة، كانت فيه الحياة البشرية بهذا الجمود. كان قلب أفريقيا بالكاد ينبض.»
كانت أفريقيا، المسلوبة من ماضيها وثقافتها، صفحةً بيضاء، فراغ يمكن أن تُفْرَض عليه المسيحية والحضارة. ومع اكتمال الأساس الفكري، كان يمكن أن يبدأ «التصارع على أفريقيا»، كما أسماه أحد كتاب الأعمدة في صحيفة «ذا تايمز» اللندنية. كان ليوبولد أحد المحرِّضين على عملية الاستيلاء على الأراضي هذه. يبدو الآن ليوبولد، الذي لم يكن سوى الملك الثاني لبلدٍ كان قد تأسس في عام ١٨٣٠، نوعًا ما على هيئة متطرف استعماري. كان قد ظل لعقود يبحث عن إقليم فيما وراء البحار ليستولي عليه. في عام ١٨٧١، قبل أربع سنوات من اعتلائه العرش، كان قد منح وزير مالية بلجيكا المناهض للإمبريالية ثقالةَ أوراقٍ مصنوعةً من قطعة من رخام الأكروبول منقوشًا عليها كلمات معناها «لا بد أن يكون لبلجيكا مستعمرة.» كان لديه ميل شديد للاستيلاء على جزيرة بورنيو وغينيا الجديدة. واستثمر في شركة قناة السويس ودرس خطوط السكك الحديدية البرازيلية. وأخيرًا عيَّن هنري مورتون ستانلي، المستكشف الذي قال عنه ريتشارد فرانسيس برتون ذات مرة: «إنه يطلق النار على الزنوج وكأنهم قرود»، ليُجري سرًّا فحصًا أوليًّا لحوض نهر الكونغو، وهو رقعة هائلة من الأرض تزيد مساحتها عن ثلاثين ضعف مساحة بلده. بنى ستانلي طرقًا وعقد تحالفات، بينما حاول ليوبولد أن يقنع القوى العظمى بأن تساند اقتراح أن تستحوذ الرابطة الدولية الأفريقية التي كان قد أسَّسها على الإقليم. وفي نوفمبر من عام ١٨٨٤، عقد أوتو فون بسمارك مؤتمرًا دبلوماسيًّا في برلين، لحل مسألة ليوبولد من ناحية، ولوضع القواعد الأساسية لعمليات ضم الأراضي التي كانت جارية بالفعل من ناحية أخرى.
تفاوض مندوبو الوفود لمدة ثلاثة شهور، بدون وجود أفريقي واحد على الطاولة. عندما افترقوا في السادس والعشرين من فبراير من عام ١٨٨٥، كان قد اعتُرِف بالرابطة الدولية الأفريقية التابعة لليوبولد باعتبارها الجهة الحاكمة لدولة الكونغو الحرة الجديدة، مما شَكَّل الإطار القانوني لاستيلائه على الإقليم، ووُضِعَت الخطوط العريضة لتقسيم أفريقيا. ونَصَّ المؤتمر على أنه من أجل أن تمتلك القوى الأوروبية أقاليمها بالكامل، كان يتعيَّن عليها أن تبدي «احتلالًا فعالًا»؛ بعبارة أخرى، كان يتعين أن يكون لها قوات على الأرض.
كانت تمبكتو لعقود على دراية بالتعديات الأوروبية. في عام ١٨٣٠، كان جيش من أربعة وثلاثين ألف جندي فرنسي قد استولوا على الجزائر من العثمانيين، وبحلول خمسينيات القرن التاسع عشر، بعد سلسلة من الحملات على حركات المقاومة المحلية، كانوا قد غزوا معظم الإقليم المحيط. كان مئات الآلاف من «المستوطنين» قد عبروا البحر المتوسط للاستقرار في شمال أفريقيا، وكان ينتشر في الساحل حينئذٍ بساتين الكروم، والمزارع، والعمارة الفرنسية. في تلك الأثناء، في غرب أفريقيا كانوا قد توغَّلوا في المناطق الداخلية انطلاقًا من قواعدهم الشديدة القِدَم في السنغال وخليج غينيا. كان التقدُّم الفرنسي هنا على هيئة مسألة ترقيع بقدر أكبر، يقودها غالبًا تجارٌ مستقلون أو ضباط جيش كان من شأنهم أن يستغلوا أي شجار لاستدعاء زوارق حربية أو كتائب عسكرية، وعندئذٍ كان القادة المحليون يُجبَرون على توقيع معاهدات التنازل عن الأراضي. شيئًا فشيئًا، كانت باريس قد بسطت سيطرتها على غينيا، وداهومي، وكوت ديفوار، وفولتا العليا، وأجزاء من وادي نهر النيجر.
وعلى الرغم من علم قادة تمبكتو بكل هذا، كانوا سيشعرون بالمفاجأة عندما يعرفون أنهم على وشك أن يصبحوا جزءًا من فرنسا.
•••
طيلة مائة عام، كانت القوة الدافعة للاستكشاف الأوروبي في تمبكتو ونهر النيجر هي جمعيات الاستكشاف، والجغرافيين، وحفنة من المستشرقين. لم تَعُد دراسة أفريقيا حينئذٍ تخصُّصًا جديرًا بالفكر الأكاديمي. لم تنشئ أي جامعة أوروبية كراسي أستاذية في تاريخ القارة أو لغاتها؛ فإذا لم يكن لأفريقيا حضارة، فما المغزى من إنشائها؟ كانت دراسة الماضي تعتمد على المواد المرجعية المكتوبة، وبما أن أفريقيا لم تكن تمتلك أيًّا من ذلك، فلم يكن يوجد ما يمكن البحث فيه. في العقود التالية، كان دور استكشاف ثقافة أفريقيا سيقع في المقام الأول على عاتق الجنود، والضباط الاستعماريين، والصحفيين.
أثارت أماكنُ قليلة في القارة حماسَ الجيل الجديد من الإمبرياليين الفرنسيين أكثر من تمبكتو. ولم تكن خيبة أمل كاييه سببًا في تثبيط الفضول الأوروبي بشأن المدينة، أو الاعتقاد بالثراء الجوهري للمنطقة. وجرت عدة محاولات فاشلة للوصول إليها في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر. في عام ١٨٨٤، شُيدت سفينة خصيصى من أجل أن تشق طريقها في نهر النيجر؛ وغرقت في جِني في عام ١٨٨٥، وانتُشِلَت، وانطلقت مجددًا في طريقها إلى تمبكتو في عام ١٨٨٦، عندما أُجبِرَت أخيرًا على التراجع بعد تعرضها لهجوم من مجموعة من الطوارق.
حتى عندما حاول رؤساؤهم في وزارة المستعمرات في باريس منْعَهم، كان من شأن كبار الضباط التوسعيين الساعين إلى ترقية أن يأخذوا على عاتقهم مهمة التوغل في عمق غرب أفريقيا. كان أكثر هؤلاء العسكريين عدوانية هو الكولونيل لوي أرشينار، قائد القوات الفرنسية في السودان من ١٨٨٨ إلى ١٨٩٣. في هذا الوقت كانت منطقة النيجر الوسطى تحت سيطرة إمبراطورية التكرور الإسلامية. لَخَّص سلف أرشينار، جوزيف جالياني، المواقف الفرنسية تجاه سلطان التكرور، أحمدو سيكو، حيث ذكر أنه «يجب علينا أن ننظر إلى كل هؤلاء الزعماء باعتبارهم أشخاصًا يجب تدميرهم وجعلهم يختفون في القريب العاجل.» في أبريل من عام ١٨٩٠، شن أرشينار هجومًا غير مُبَرَّر على عاصمة التكرور في سيجو، التي سقطت دون مقاومة. وبينما كان رجاله ينقبون في ممتلكات أحمدو بحثًا عن ثروته الشهيرة (التي لم تكن بقدر ما أُشيع عنها)، وجدوا عددًا كبيرًا من المخطوطات. تكشف رواية أرشينار عن ذلك اليوم عن عدم وجود اهتمام بهذه الوثائق، ومع ذلك استُولِي عليها وشُحِنَت في أربعة صناديق. وظلت في مستودع إمدادات استعماري حتى نهاية عام ١٨٩٢، ثم أُعطيَت لمكتبة فرنسا الوطنية في باريس. وبقيت هناك، دون أن تمسَّها يد، لأعوام عديدة.
بعد سحق التكرور، استمر أرشينار في التوغل صوب تمبكتو، مخالفًا الأوامر المباشرة من رؤسائه في باريس. في أبريل من عام ١٨٩٣ استولى على جِني بعد قتال عنيف، وسقطت موبتي في وقتٍ لاحق من ذلك الشهر دون مقاومة، لكن تحولًا سياسيًّا رافضًا للتوسع العسكري كلَّف أرشينار أخيرًا منصبه. تولَّى الآن ضابطان فرنسيان متنافسان — المقدم أوجين بونييه والنقيب البحري هنري بواتو — الراية في هذا السباق الجديد إلى تمبكتو، في عصيان لأوامر صريحة من بديل أرشينار، الذي كان في طريقه قادمًا من فرنسا. كان بواتو هو المتقدم من البداية؛ فبعد أن أخذ زورقين حربيين وفرقة من الجنود مبحرًا مع مجرى النهر، دخل تمبكتو في السادس عشر من ديسمبر من عام ١٨٩٣. أما بونييه الغاضب، الذي كان طوال حياته يطمح إلى غزو المدينة، فوصل بعد ذلك بشهر إلى المنطقة مع رتل من القوات الاستعمارية. وبالقرب من جوندام، تعرَّض الرتل لهجوم ليلًا من الطوارق، وذُبِح بونييه، وعشرة من ضباطه، ومترجم، وضابطا صف أوروبيان، وثمانية وستون جنديًّا سنغاليًّا. كان يتعين حينئذٍ إعادة الاستيلاء على المدينة ومعاقبة الطوارق، وهما مهمتان أنجزهما بكفاءة الميجور جوزيف جوفر، الذي تقدَّم على امتداد الضفة اليسرى لنهر النيجر من سيجو، وقتل مائة من الطوارق، واستولى على ألف وخمسمائة رأس من ماشيتهم. نال جوفر ترقية عن عمله، ولم تكن تلك هي المرة الأخيرة؛ ففي عام ١٩١٤ أصبح القائد العام للقوات الفرنسية في الجبهة الغربية.
أثار الاستيلاء على تمبكتو وإحجام الضباط الفرنسيين في غرب السودان عن إطاعة الأوامر غضبًا شديدًا في باريس، حيث كانت الحكومة منقسمةً بين فصائل موالية للجيش وأخرى موالية للمدنيين. ومع ذلك كان الاحتلال أمرًا واقعًا. ووافقت عليه وزارة المستعمرات بشرطين: الأول، أن يمكن الحفاظ عليه من دون مخاطرة؛ والثاني، ألَّا يُكبِّد الحكومة أي تكلفة إضافية.
•••
كان فيليكس دوبوا ابن طاهٍ معروفٍ أمضى عشرين عامًا يطهو للقيصر. أثبتت صلات أبيه بين ذوي المراتب العليا في المجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر نفعها لفيليكس عندما بدأ مسيرته المهنية صحفيًّا، لكن مغامراته في عالم الأدب كانت أكثر قيمة؛ كتب والد دوبوا سلسلة موسوعية من كتب الطهي الأكثر مبيعًا، وأبقت عائدات حقوق التأليف، من وصفات لأطباق مثل أمخاخ الأغنام في صوص الريمولاد ولحم قدم العجل «بالطريقة الجنيفية»، فيليكسَ واقفًا على قدميه ماديًّا كلما كان دخله الآخر يوشك أن ينضب. بحلول عام ١٨٩٤، في الثانية والثلاثين من عمره، أصبح فيليكس مراسلًا أجنبيًّا معترفًا به، بعد أن كتب تقارير صحفية غنية بالتنوع لصحف باريس من فيينا وبرلين، ومن حملة هنري بروسلار فيدرب الاستكشافية إلى فوتاجلون. كان من الطبيعي جدًّا، عندما وصلت أخبار غزو تمبكتو إلى أوروبا، أن يلجأ إليه رئيس تحرير صحيفة «لو فيجارو» الباريسية ليعطيه تقريرًا إخباريًّا من هذه الجوهرة الجديدة الغريبة في تاج فرنسا.
رسا المراسل في داكار في أغسطس من عام ١٨٩٤ وبعد استكشاف الساحل، بدأ يشق طريقه شرقًا. لم يَعُد الطريق إلى تمبكتو يحمل الأخطار التي كان قد واجهها بارك وكاييه؛ ارتحل دوبوا مخترقًا الداخل الأفريقي تحت حماية السلطة الفرنسية، على طرق إمدادات أُنشئت من أجل القوات المسلحة وحتى على السكة الحديدية الجديدة التي كانت قد بُنيَت بين داكار وسان لوي. توقف في جِني، حيث أثار حماسه أن يعثر على مخطوطات، من بينها نسخة كاملة من كتاب «تاريخ السودان»، والتي نسخها، وعمارة سودانية مذهلة. أقنعه هذان الاكتشافان بأن حضارة سونجاي، التي أظهرت هذا «الذكاء والعلم»، لا بد أنها أتت من مصر القديمة. من جِني شقَّ طريقه شمالًا في النهر، عازمًا، كما كتب لاحقًا، على أن «يميط تمامًا اللثام الذي أخفى السودان عنَّا لزمن طويل جدًّا.» ارتحل الأميال القليلة الأخيرة من كابارا في حراسة مسلحة، وعندما ارتفع المسار الرملي إلى قمة كثيب رملي، وقعت عيناه لأول مرة على هدفه، الذي بدا له على صورة «سماء شاسعة وبراقة، وامتداد شاسع وبراق من الأرض، والمعالم الكبيرة للمدينة تُوَحِّد الاثنين. إنها صورة ظلية قاتمة، ضخمة، وطويلة، صورة تنم عن العظمة والضخامة — هكذا ظهرت «ملكة السودان.»»
كان من الواضح أن سرًّا كان يحوم حول تمبكتو الغامضة. كانت لديَّ العينان اللتان أبصرتا ذلك؛ وأخيرًا استعدت صورة المدينة العظيمة، تمبكتو الغنية التي تحاكت عنها الأساطير.
كان الصحفي قد عثر على سبْقه الصحفي.
لم تكن تمبكتو نواة السودان الفكرية الكبرى فحسب … كانت أيضًا واحدةً من أعظم المراكز العلمية للإسلام نفسه؛ إذ كانت جامعتها الشقيقة الصغرى لجامعات القاهرة، وقرطبة، وفاس، ودمشق. لا تدع لنا مجموعتها من المخطوطات القديمة مجالًا للشك في هذه النقطة، وهي تسمح لنا بأن نعيد بناء هذا الجانب من ماضيها بأدق تفاصيله.
وكتب أنه على النقيض من جامعي الكتب الأوروبيين البخلاء في العصر الحالي، كان علماء تمبكتو الواسعو المعرفة يجدون متعةً حقيقية في مشاركة أثمن مخطوطاتهم مع الآخرين؛ كانوا ديدانَ كتب «بأفضل ما تعنيه الكلمة.» تخيَّل دوبوا هؤلاء العلماء وهم يفتشون بشغف عن مجلدات لم تكن بحوزتهم ويصنعون نسخًا عندما يكونون أفقر من أن يشتروا ما أرادوا. بهذه الطريقة زادوا مجموعاتهم من الكتب إلى ما بين سبعمائة وألفي مجلد. كان من بينها أعمال في الشعر والخيال، ومؤلفات «من نوع غريب على الأدب العربي»، من بينها أعمال العالِمَين الشهيرَين الحريري والحمداني. وجد نسخة من «كتاب تحفة الألباب ونخبة الإعجاب»، وهو عبارة عن مجموعة من الأسفار والأساطير ألَّفه أبو حامد الغرناطي في الموصل في القرن الثاني عشر. كتب دوبوا: «كانت الأعمال التاريخية والجغرافية من المغرب، وتونس، ومصر معروفة في تمبكتو، وكانت العلوم الخالصة متمثلة في كتب عن الفلك والطب.» باختصار، يمكن القول إن مكتبات تمبكتو كانت تشتمل تقريبًا على مجمل الأعمال المكتوبة بالعربية.
وذكر أن الجانب الأعظم من مجموعات تمبكتو كان «غير مثيرٍ لاهتمامنا تمامًا»؛ لأنه كان يتألَّف من دراسات فقهية وشرعية ونصوص إسلامية جادة، لكنَّ جزءًا ضئيلًا من مجموعات تمبكتو الأدبية كان «في غاية الأهمية»؛ إذ كان يحتوي على «تلك الأعمال التاريخية التي ألقت قدرًا كبيرًا من الضوء على الماضي المجهول لهذه المناطق الشاسعة.» كان من أهم هذه الأعمال كتاب «تاريخ السودان»، لكنه وجد أيضًا كُتُبَ تاريخٍ أخرى: «ديوان الملوك في سلاطين السودان» مجهول المؤلِّف، الذي وصف تاريخ المدينة من عام ١٥٩١ وما بعده، و«تذكرة النسيان في أخبار ملوك السودان»، وهو عبارة عن إعادة ترتيب لكتاب «ديوان الملوك» على هيئة قاموس تراجم. ولكن كانت كتب المدينة كلها ذات قيمة كبيرة جدًّا حتى إن دوبوا لم يتمكَّن من شراء كتاب واحد.
لم يكن أعظم اكتشاف أدبي لدوبوا عبارة عن مخطوطة على الإطلاق، وإنما مجرد شائعة. أخبره أحدهم عن كتاب دعاه «تاريخ الفتَّاش»، وهو «تأريخ لممالك جاناطا [غانا]، وسونجوي [سونجاي]، وتمبكتو، منذ نشأتها وحتى عام ١٥٥٤»، الذي كتبه العالم محمود كعت. كان من شأن العثور على هذه الوثيقة أن يكون ذا قيمة لا تُقدَّر بثمن، ولكن مع أنه سأل الكثير من الناس في تمبكتو، لم يَطَّلِع إلَّا على شذرات من هذا الكتاب. كان جميع الناس في المدينة يعرفونه، ولكن لم يُقرَّ أي واحد بأنه يمتلكه. كان، كما استنتج، «كتاب السودان الشبح.»
لم يكن كتاب «الفتَّاش» مشتهرًا على الإطلاق ككتب تاريخ السودان الأخرى لأنه تناول أحوال الكثير من الشعوب والكثير من الناس. أظهر الكتاب أن العائلات، التي ازدادت ثراءً ونفوذًا منذئذٍ، وزعماء البلدان المختلفة، كانوا من أصول متواضعة، وأنهم أحيانًا كانوا نسلَ عبيد. لهذا السبب تسبَّب الكتاب في قدْر عظيم من الإزعاج للكثير من الناس، واشترى أصحاب الشأن أولئك كل النسخ التي استطاعوا الحصول عليها وأتلفوها.
كان من بين أولئك الذين قيل إن الكتاب أزعجهم الشيخ أحمد لوبو، مؤسس إمبراطورية ماسينا الفولانية، الذي كان قد أمر بقتل لينج في عام ١٨٢٨. كان لوبو قد نَصَّب نفسه الخليفة الثاني عشر، آخر خلفاء النبي محمد، والذي كان قد تنبأ بمجيئه. لكن كتاب «الفتَّاش»، الذي كُتِب قبل تأسيس إمبراطورية لوبو بقرون، أغفل ذكره في قائمة النبوءات التي وردت فيه. تفكَّر دوبوا متسائلًا: هل من المحتمل أن يكون الفولاني قد أتلف نسخ كتاب «الفتَّاش» لمنع الكتاب من فضح كذبة لوبو؟
أخبر سنسريف دوبوا بأن المخطوطة الأصلية من كتاب «الفتَّاش» قد فُقِدَت في ملابسات غير معتادة. كانت قد ورثته إحدى عماته الكبريات، التي عاشت في قرية تيندرما مسقط رأس كعت، على بُعد ستين ميلًا جنوب غرب تمبكتو. ولكي تحافظ على الكتاب المثير للجدل، وضعته في صندوق خشبي ودفنته تحت ربوة صغيرة بالقرب من منزلها. كانت امرأة مشهورة وذكية ولديها موهبة في الحديث، وكثيرًا ما كان الناس يأتون لزيارتها، وأحيانًا يسألونها عمَّا كان تحت الربوة. كانت تجيب دومًا بنفس الطريقة. كانت تقول: «إن [محمود كعت]، أخي الجليل، هو المدفون هناك»، وعندئذٍ كان أصدقاؤها لا يُغفِلون أبدًا أن يتمتموا بدعاء قصير له على الربوة؛ لأن كعت كان يشتهر بالتقوى والحكمة.
في نهاية المطاف أصبحت على علاقة طيبة برجل من الفولاني وأخبرته بسرِّ ما كان مدفونًا تحت الأرض. هُرع الرجل على الفور إلى لوبو ليخبره بشأن النسخة الكاملة من كتاب «الفتَّاش»، وبعد ذلك بفترة وجيزة أرسل السلطان رجاله ليستخرجوا الوثيقة الثمينة. وبينما كانوا عائدين في النهر إلى العاصمة، «انقلب زورق حامل الكتاب الذي لا يُقدَّر بثمن.» واختفت المخطوطة في مياه نهر النيجر وضاعت من العالم إلى الأبد.
•••
سرعان ما أضفت توصيفات دوبوا للعصر الذهبي لتمبكتو الحيوية على صفحات صحيفتي «لو فيجارو» و«لاليستراسيون»، مصحوبة بصور للبلد الذي كان قد ارتحل عبره. نُشِر السرد الكامل لرحلته على هيئة كتاب في فرنسا في عام ١٨٩٧. صِيغ كتاب «تمبكتو الغامضة» بحِرَفية لتلبية شهية العامة للأدب الاستعماري، مستحضرًا رؤية رائعة عن أرض أوروبية حديثة العهد. على يد دوبوا، تحررت المدينة من طريقة كاييه الفاضحة للزيف ومن ملاحظات بارت القاسية واستعادت مكانتها الشعرية المرتفعة. معيدًا صياغة الاستعارة التي استُخدِمَت ذات يوم على يد منافس وارينجتون في طرابلس، البارون روسو، حوَّل دوبوا تمبكتو إلى أنثى مثيرة تنتظر أن «يُماط عنها النقاب.» كان من شأن المؤلف أن يعري بجرأة «ملكة السودان» داكنة البشرة أمام أعين جمهوره، وكان من شأن لمحات العجائب الكامنة أن تسلب لب القارئ. وحقق الكتاب نجاحًا ساحقًا.
وهبَ دوبوا كتاب «تاريخ السودان» الذي كان قد جلبه من جِني للمكتبة الوطنية الفرنسية، حيث انضم إلى المجلدات البالغ عددها ٥١٨ مجلدًا التي كان أرشينار قد نهبها من سيجو، وفي ذلك نسخة أخرى من كتاب «تاريخ السودان». أُرسلَت كلتا النسختين في ذلك الوقت إلى المستشرق البارز أوكتاف هودا في مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس. مستعينَين بالمخطوطتين، بدأ هودا ومعاونه إدمون بينوا في تجميع نسخة عربية من الكتاب التاريخي، ونشراها في عام ١٨٩٨. وفي عام ١٩٠٠ أُصدِرَت ترجمة فرنسية، مدعومة بوصول مخطوطة ثالثة اكتشفها المستكشف لوي توتين. كان من شأن هذا العمل، جنبًا إلى جنب مع كتاب دوبوا، أن يبعثا حياة جديدة في أسطورة تمبكتو الذهبية.
ومما يبعث على السخرية أن مروِّج أسطورة تمبكتو الجديدة اعتقد بلا خجل بتفوق جنسه. كان دوبوا قد كتب عن حملة جوفر التأديبية ضد الطوارق، على سبيل المثال، أنه «يظل ضروريًّا من آنٍ لآخر أن نُظهِر لهم أن هيمنتهم الشريرة إلى زوال، وأنهم قد وجدوا سيدهم.» ومع ذلك، فمن وجهة نظر المؤرخين الاستعماريين، كان من الممكن في نفس الوقت الإشادة بالإمبراطورية والتعجب من منجزات شعبها الذي أُخضِع مؤخرًا. ولإضفاء الشرعية على احتلال القارة، كانت الثقافة الأفريقية قد قُلِّصَت إلى العدم؛ والآن بعد أن صارت في قبضة الأوروبيين، بدا من الممكن الإفصاح عن عجائبها على نحوٍ آمن. وبالفعل، من وجهة نظر دوبوا، لم يكن بوسع تمبكتو أن تزدهر مجددًا إلا تحت الاحتلال الفرنسي. فكتب في واحدة من فقراته الطنَّانة الكثيرة: «أتصور المدينة وقد صارت مركزًا للحضارة والعلوم الأوروبية، كما كانت في السابق مركزًا للثقافة الإسلامية.» ثم أضاف: «سوف تمتد مجددًا سمعة علمائها من بحيرة تشاد إلى جبال كونج وضفاف الأطلنطي، وسوف تعود تمبكتو مرة أخرى ملكة السودان الغنية والمثقفة التي يبشر الآن منظرها من بعيد على نحوٍ خادع بأنها كذلك.»
كان من شأن كُتَّاب استعماريين آخرين، حريصين على إظهار إنجازات البلدان المحتلة حديثًا، أن يسيروا على خطى دوبوا. من بين هؤلاء كانت فلورا شو المثيرة للفضول، المعروفة أيضًا باسم الليدي لوجارد. وُلِدَت شو في عائلة عسكرية في وولويتش، جنوب شرق لندن، ولم تتلقَّ تعليمًا رسميًّا، مع أنها أمضت جانبًا كبيرًا من طفولتها في القراءة في مكتبة الأكاديمية العسكرية الملكية. وعندما كانت في السابعة عشرة من عمرها أصبح الناقد جون راسكن راعيًا لها، وشجَّعها على الكتابة، وأصبحت مؤلفة ناجحة إلى حدٍّ ما. ومع ذلك، كان المجال الذي كان من شأنها أن تتفوق فيه هو الصحافة: أصبحت أول امرأة تنضم إلى الطاقم الدائم لصحيفة «ذا تايمز» وفي عام ١٨٩٣ عُيِّنَت محررة استعمارية بها. كانت صديقة وداعمة لسيسل رودس، بل إنها حتى صاغت مصطلح «نيجيريا» في مقالة في صحيفة «ذا تايمز» في عام ١٨٩٧. وبحسب ما ذكر أحد معاصريها، كانت «شابة جميلة، مهندمة، نابغة، مستقيمة، على أعلى قدر من البراعة، لديها القدرة على بذل جهد هائل في العمل، صلبة للغاية، وتتكلم وكأنها أحد قادة صحيفة «ذا تايمز».» في عام ١٩٠٢ تزوَّجت من المفوض السامي البريطاني في شمال نيجيريا، فريدريك لوجارد، وبعد ثلاثة أعوام نشرت كتابًا عن تاريخ غرب أفريقيا، هو كتاب «تابعة استوائية»، الذي جمعت فيه مجموعة هائلة من المواد المرجعية، من ضمنها كتاب «تاريخ السودان» الذي وصفته بأنه «كنز».
كانت مهمة شو التي اختارت لنفسها القيام بها في كتابها هي توضيح طبيعة المنطقة للقارئ الغربي وشرح مباهجه. وللقيام بذلك، أجرت كثيرًا مقارناتٍ جدلية بين تاريخ سونجاي والخبرات التي قد يفهمها قراؤها. وهكذا كان سجن إقليم أسكيا يؤدي «غرضًا مشابهًا لذلك الذي كان يؤديه برج لندن»، بينما في ظل حكم خلفاء أسكيا الأكبر، «كانت حفلات الموسيقى، التي تقدم مغنِّين من كلا الجنسين، محل ارتياد من الكثيرين.» في كثير من النواحي، كانت إمبراطورية سونجاي متقدمة إلى حدٍّ بعيد عن أوروبا المعاصرة: فكتبت أنه كان يوجد جراحو عيون مشهورون ممن كان بمقدورهم إجراء عمليات مياه بيضاء، وكان يوجد معرفة كافية بعلم الفلك حتى إن «ظهور المذنبات، الذي كان أمرًا مدهشًا لأوروبا في العصور الوسطى، كان يُلاحَظ أيضًا بهدوء، باعتباره مسألةً محلَّ اهتمام علمي، في تمبكتو.» لكن أعظم إنجاز لشعب سونجاي كان «جامعة تمبكتو»، المؤسسة التي كان دوبوا قد استحضرها من أبحاثه فيما يتعلق بالمدارس الإسلامية حول مسجد سانكوري. بحسب ما ذكرت شو، كانت الجامعة قد جعلت تمبكتو «مركزًا حضاريًّا نَشِطًا جدًّا»، أثناء العصور الوسطى السودانية.
جهَّز ألفي سفينة، منها ألفٌ لنفسه وللرجال الذين أخذهم معه، وألفٌ للمياه والزاد. تركني لأنوب عنه وأبحر في المحيط الأطلنطي مع رجاله. كانت تلك هي آخر مرة نراه فيها هو وكل أولئك الذين كانوا معه، وهكذا صرت أنا ملكًا.
يصعب على المرء ألا يستحضر في الوصف [الذي قدَّمه ابن بطوطة]، ببعض التفصيل، ممارسات مشابهة وَرَّثَها التيزكوكان إلى الأزتيك، الذين كانوا، في نفس خط العرض تقريبًا في القارة الأمريكية في نفس هذا الوقت، في منتصف القرن الرابع عشر، ينجحون في اتخاذ موقعهم على الهضبة المكسيكية.
اشتملت المصادفات الأخرى على عادات في كلا البلدين كان يُتَوَقَّع فيها من الأشخاص الذين يُستدعون إلى البلاط أن يغيِّروا ما يلبسونه ويرتدون ثيابًا رثة، بينما تتماثل العادة السودانية المتمثلة في أن يحثو المرء التراب على رأسه قبل أن يخاطب الإمبراطور مع ركوع الأزتيك للمس الأرض باليد اليمنى. ومع ذلك كان من أهم الأدلة التي ساقتها شو أمر لون بشرة الجنسين: «يجدر أن نتذكر أن الأزتيك، رغم أنهم ليسوا زنوجًا، كانوا جنسًا ذا بشرة داكنة أو نحاسية اللون، على ما يبدو من قبيل اللون الذي يصفه بارت بأنه لون «الأجناس الحمراء» التي في السودان.» بحسب شو، إن لون البشرة هذا كان قد نتج عن اختلاط «فحولة العربي» مع «الطبيعة اللطيفة للسوداني الأسود»، الذي أنتح جنسًا متفوقًا جينيًّا. وأضافت: «نتيجة لتصادم واندماج هاتين القوتين، بلغت الحضارة السوداء أعظم درجة وصلت إليها على الإطلاق في أفريقيا الحديثة.»
على الرغم من غياب أي دليل ملموس، فستظل حكاية الحملة البحرية المالية في القرن الرابع عشر إلى أمريكا تُذكَر على أنها حقيقة في بعض الدوائر بعد ذلك بقرن.
بحلول أوائل القرن العشرين، كانت أسطورة تمبكتو الثرية ذات الأسقف الذهبية قد نُبِذَت منذ وقت طويل، ولكن كان قد حلَّ محلها فكرة كون تمبكتو مدينة جامعية مستنيرة ترفِّه فيها فرق الموسيقى عن الأباطرة ويرسم فيها علماء الفلك مسارات المذنبات في نفس الوقت الذي كانت فيه أوروبا تجاهد للخروج من عصور الظلام. كان لهذه الأسطورة أساسٌ أكثر مما كان للأسطورة القديمة، ولكنها كانت لا تزال مبالغة صارخة، قصة كُتِبَت لتناسب الحاجة الجديدة إلى الغرابة المثيرة. يبدو أن تمبكتو كانت تعكس لكل واحد من الرحَّالة الذين وصلوا إليها شيئًا مما أرادوا أن يجدوه فيها. اكتشف لينج الرومانسي نهايته المتسمة بالعظمة. ووجد كاييه، المغامر متواضع الحال، مدينة بسيطة. وكشف بارت، العالِم، عالمًا من المعلومات الجديدة. وتوصَّل دوبوا، الصحفي، إلى انفراده الحصري، بعدما أماط اللثام عن الماضي الخفي للمنطقة.
فالأمر الغامض لا يمثِّل شيئًا إذا لم يكن ملزمًا.