محرقة الكتب
في يوم الأحد، الموافق العشرين من يناير، انسلَّ المصور الصحفي شيخ ديوارا عبر نقطة تفتيش الجيش المالي جنوب دوينتزا ودفع مالًا لشاب معه درَّاجة بخارية ليأخذه عبر الخطوط الأمامية. كان قد أمضى يومه كله في السفر وتصوير لقطات الفيديو. كان الآن وقت الغسق واحتاج إلى تناول الطعام؛ لذا عندما وصل إلى المدينة دخل مقهًى وطلب بعض الطعام. حذَّره مالك المقهى قائلًا إنَّ عليه أن يلتزم الحذر؛ فالجهاديون الذين كانوا لا يزالون يحتلون المدينة كانوا مرتبكين وغاضبين وكانوا قد أطلقوا النار مؤخرًا على أحد المدنيين.
بعد ذلك بثوانٍ، بحسب ما تذكر ديوارا، انقلب الحي رأسًا على عقب بفعل انفجار هائل. قال: «سبق لي أن رأيت زلازل وانهيارات أرضية، ولكن ذلك لا يفوق هذا.» كل مَن كان واقفًا سقط أرضًا بفعل قوة موجة الصدمة، ولمدة خمس دقائق لم يكن ديوارا يسمع أي شيء سوى ضجيج أبيض. بدت دوينتزا نفسها وكأن «كل شيء فيها مشوَّش.» بينما كان الناس يجاهدون ليعودوا للوقوف على أقدامهم، استطاع أن يرى مركبات جهاديين تتسابق خارجةً من المدينة بسرعات بدت مستحيلة، وأنوارها مطفأة. وعندما لم يَدُر محرك إحدى مركباتهم الثمينة، تخلَّوا ببساطة عنها.
بينما كان ديوارا لا يزال في حالة دوار، شاهد رجلًا يلتقط عبوة لبن مجفف كانت قد سقطت من إحدى الشاحنات وهي تغادر مسرعةً. خطر لمجموعة من المدنيين أنَّها ستكون فكرة جيدة أن يذهبوا إلى المدرسة التي كان الجهاديون يستخدمونها قاعدةً لهم ليروا ما تركوه. فركبوا درَّاجاتهم البخارية واتَّجهوا بها صوب المبنى، ولكن بينما كانوا يقتربون منه سقطت قنبلة ثانية. قال ديوارا: «بووم! أقسم إنه كان أعلى صوتًا من الأول.» لاذ الناس بالفرار، تاركين درَّاجاتهم البخارية. رفضوا أن يعودوا من أجل إحضارها، حتى في اليوم التالي.
تذكَّر أهل تمبكتو أيام الحملة الفرنسية الجوية هذه باعتبارها الأيام الأكثر رعبًا في سائر أيام الاحتلال. تذكَّر إير مالي قائلًا: «كان الأمر مريعًا.» حتى عندما سقطت القنابل بعيدًا، كان بوسع الناس أن يشعروا بأن الأرض تهتز، وأحيانًا كانت تنهار أجزاء من بيوت المدينة الهشة المبنية بالتربة المدكوكة. كان الأمر أفضل قليلًا عندما لم تكن الطائرات تقصف؛ إذ كان يمكن سماعها تصرخ في السماء كل ليلة. تضمنت الأهداف مقر قوة الدرك، وقصر القذَّافي، الذي كان يضم عشر غرف نوم، وأربعة عشر حمَّامًا، الذي كان يوجد خارج المدينة والذي كان أبو زيد قد استخدمه مقرًّا له. تحوَّل المبنى إلى أنقاض، وتناثرت المتعلقات الشخصية وأوراق المراسلات فوق العشب، وفي ذلك فاتورة كهرباء موجَّهة إلى «السيد القذَّافي.»
بينما كانت الطائرات تُرعِب أهل المدينة، كان لها تأثير مماثل على المحتلين. في النهار كان الجهاديون يركنون مركباتهم تحت الأشجار القليلة المتناثرة ليحاولوا إخفاءها عن السماء، وعندما كانوا يسمعون صوت طائرة نفاثة كانوا يفتحون مصاحفهم ويبدءُون في القراءة منها. بدءُوا أيضًا يأخذون أُسَرَهم خارج المدينة، حيث كانوا يجلونهم ليلًا في قوافل. أخبروا السكان العرب بأن يغادروا أيضًا، وتذكر إير مالي قائلًا: «قالوا: «إن لم تغادروا سيقتلونكم جميعًا. في خلال ثلاثة أيام أو أربعة ستكونون كلكم صرعى في تمبكتو.»»
في هذه الأيام، صارت العلاقات بين الجهاديين والسكَّان أكثر توترًا من أي وقت مضى. حاول المحتلون تنظيم مسيرات ضد الضربات الجوية ليستخدموها في مقاطع فيديو دعائية، ولكن لم يأتِ أحدٌ عدا مقاتليهم وقلة من الجالية العربية. ومع ذلك كان الأمر الأكثر إثارة للسخط أن بعض المدنيين لم يستطيعوا احتواء فرحتهم بتقدُّم القوات الفرنسية وكانوا قد بدءُوا يسخرون علانيةً من الجهاديين. في الفجر، كان من شأنهم أن يستيقظوا ليجدوا أن عَلَم مالي قد رُفِع فوق مبانٍ مدنية ليلًا، وبعد استعادة كونا في الثامن عشر من يناير، كان يمكن سماع أطفال الشوارع وهم يُجرون بصوتٍ عالٍ مكالمات هاتفية تخيلية مع جنود حكوميين.
كان من شأنهم أن يقولوا: «مرحبًا، كونا؟» ثم يضيفون: «كونا! ما الأخبار؟ هل كل شيء يجري على ما يُرام هناك؟ حسنًا، جيد جدًّا، جيد جدًّا!»
وصل الأمر إلى حدِّ أن بعض منتهزي الفرص الشجعان أصبحوا ينهبون منازل المحتلين. وجد أحد قادة الجهاديين، والذي كان قد صادر بيت مدير محطات المياه والغابات، أنه بينما كان غائبًا كان شخصٌ ما قد سرق العديد من البنادق التي كان قد تركها في المنزل. أصابه سخط شديد. قال عبد الله سيسيه: «بحث الجهاديون في كل مكان عن الجاني.» ثم أردف: «وأخيرًا قبضوا على شابٍّ، قائلين إنه كان أحد أولئك الذين كانوا متورطين في الأمر. في تلك اللحظة كانوا غاضبين حقًّا من أهل المدينة؛ لأنهم عرفوا أن الناس ظنوا أنهم كانوا سيُطرَدون خارجها وكانوا يستغلون الفرصة.» عَذَّب الجهاديون المشتبه فيه لأيام، بحسب ما قال سيسيه، لكنهم لم يعثروا أبدًا على الأسلحة.
في يوم الثلاثاء، الموافق الثاني والعشرين من يناير، اتصل مفوض الشرطة الإسلامية، الذي كان في هذا الوقت رجلًا يُدعى حسن، بديادي وطلب منه أن يُحضِر لجنة الأزمة إلى مبنى المحافظة بعد الغسق مباشرةً من أجل اجتماع عاجل. تشكَّك أعضاء اللجنة الآخرون في الأمر. ماذا لو كان فخًّا؟ ماذا لو أن حسن كان ينوي أن يحتجزهم رهائن؟ شعر ديادي وستة آخرون بأنهم ملزمون بداعي الشرف بأن يذهبوا: «قلت إننا كنَّا نفعل هذا طيلة عشرة شهور؛ إننا تعهدنا بالتزامات وأن الطرفين احترما تلك الالتزامات حتى يومنا هذا.»
أُرسِلوا من مبنى المحافظة إلى مبنى البلدية، حيث فوجئ ديادي عندما وجد أن مجموعة من العرب كانت حاضرةً أيضًا. كان الجو متوترًا من البداية. بدأ حسن بتوجيه تحذير. كان الناس قد اقتحموا بيوت الجهاديين وسرقوا متعلقاتهم. وكانوا يسخرون منهم في الشوارع. يجب على لجنة الأزمة أن تحذِّر الناس من أن الشرطة الإسلامية لم يَعُد لديها وقت لإجراء اعتقالات، وأنهم إن خالفوا القانون من الآن فصاعدًا، وإن اقتربوا من منازل الجهاديين أو سرقوها، فسيقتلون رميًا بالرصاص. كانت مهمة اللجنة أن تجعل الناس على علمٍ بهذا. ما كاد ينتهي من كلامه حتى تولَّى تاجر عربي دفة الحديث وقال إنه كان قد سمع أن شباب المدينة كانوا يُحَضِّرون لنهب متاجرهم، وإنه ينبغي على اللجنة أن تحذِّر الناس من أن أصحاب المتاجر العرب كانوا مسلحين، وإن اقترب أي أحد منهم فسيُردى قتيلًا بالرصاص. أضاف أن أهل تمبكتو كانوا عنصريين تجاههم. لم يكونوا قد وقفوا جنبًا إلى جنب معهم، وكانوا حتى قد رفضوا أن يخرجوا في مسيرة ضد الضربات الجوية.
اشتاط ديادي غضبًا. وقال لحسن إنه لم يأتِ ليوجه تهديدات، ولم يكن يتوقع أن تُوَجَّه إليه تهديدات. وأضاف: «إذا أردت أن يكون الناس هادئين، فلا تسمح لهؤلاء الأشخاص أن يلقوا علينا محاضرات، أو أن يقولوا إننا لا نستطيع أن نمر بمتاجرهم. مَن هم ليطلبوا منا أن نخرج في مسيرة؟ هل ينبغي علينا أن نتبعهم فحسب كالخراف؟ نحن لسنا إسلاميين ولا نخرج في مسيرات مع الإسلاميين. وإن كان ذلك هو السبب في دعوتك لنا إلى هنا، فسوف نغادر.»
حاول حسن أن يهدِّئه، لكن ديادي وأعضاء اللجنة الآخرين غادروا بعد ذلك بقليل. كان هذا لقاءهم الأخير بالمحتلين. في اليوم التالي، أطلق الجهاديون النار على شابٍّ فأردوه قتيلًا. كان يُدعى مصطفى، وبحسب إحدى الروايات، كانت جريمته أنه هتف «تحيا فرنسا!»
تذكر ديادي: «لقد قتلوا طفلًا.» ثم أردف: «كان الطفل قد قفز فرحًا. أطلقوا عليه النار وأردوه قتيلًا.»
حاول قادة الجهاديين أن يُكَفِّروا عن ذلك. فقدَّموا أعذارهم إلى أسرته، قائلين إن الأمر كان غلطة، وأعطوا والد مصطفى مبلغًا من المال. لكن العلاقات استمرت في التدهور.
قال المرشد السياحي باستوس: «كانت تلك هي الأيام التي رأينا فيها وجههم الإرهابي.» ثم أضاف: «كنَّا كلنا كفارًا لأنهم طلبوا منَّا أن نخرج في مسيرة ضد الضربات الجوية وكان الجميع خائفين من الخروج. قالوا لنا: «إنكم تستحقون أن تذهبوا إلى الجحيم.»»
كما كان معارفُ حيدرة قد توقعوا، بدأ الجهاديون في تدمير الأشياء بعد ذلك. أحرقوا الشاحنات والآلات الزراعية. وأحرقوا محطة كهرباء المدينة. تذكر عبد الله سيسيه: «كل ما يمكنهم فعله لإلحاق الأذى بالمدينة، فعلوه قبل أن يغادروا.» دخلت تمبكتو حينئذٍ أشد مراحل التخريب أثناء الاحتلال. تذكر الإمام الأكبر: «كانت الأيام الأخيرة هي الأصعب.» ثم أردف: «كان الواقع شديد الوطأة جدًّا. كان الناس مصدومين بسبب إطلاق النار، وكان اللصوص في كل بقاع المدينة من وقت حلول الليل إلى شروق الشمس. لم يكن الناس يستطيعون الخروج. لزم الجميع بيوتهم. كانوا خائفين جدًّا لدرجة أنهم لم يتمكنوا من تناول الطعام.»
لم تكن توجد إنارة ولم تَعُد مضخات الماء الكهربائية، التي كانت تمبكتو تعتمد عليها، تعمل؛ لذا، كان على الناس أن يسحبوا المياه من الآبار القديمة يدويًّا. لكن تدمير شبكة الهاتف المحمول كان أكثر ما آلمهم. رأى باستوس الأمر يحدث؛ قال: «كنتُ هناك عند السنترال المركزي في مساء أحد الأيام.» ثم أضاف: «وكان ثمَّة رجل جاء ومعه بندقية كلاشينكوف. توقَّف أمام مجموعة منَّا وبدأ يطلق النار: بوب، بوب، بوب، بوب، بوب! فانفجر مقسم الهاتف.» وزَّع الجهاديون بينهم أجهزة ووكي توكي، لكن الاتصالات كانت قد انقطعت بين بقية الناس.
قال الإمام الأكبر: «لم تكن توجد هواتف، ولا اتصالات.» ثم أضاف: «لم نسمع أي أحد يتكلم عن تمبكتو. كان ذلك ما أصابنا بصدمة أكبر؛ لأن العالم قد تخلَّى عنَّا. لم يعرف أحد كيف كنَّا نعيش.»
كان الخبر الإيجابي الوحيد أنه تحت وطأة الضربات الجوية، كان آخر الجهاديين يغادرون. في يوم الأربعاء، الموافق الثالث والعشرين من يناير، رأى باستوس أبا زيد يسدِّد ما عليه لمجموعة من مقاتليه في الشارع. أخذوا معهم ما استطاعوا أخذه، وفي ذلك الدراجات البخارية، التي ربطوها في مؤخرة عرباتهم ذات الدفع الرباعي.
قال ديادي: «بدءُوا ينسحبون لأنهم فهموا أن القضية كانت خاسرة.»
•••
عند فجر يوم الخميس، الموافق الرابع والعشرين من يناير — يوم الاحتفال المحظور بالمولد النبوي — هُرع حارس مبنى معهد أحمد بابا الجديد في سانكوري إلى عبد الله سيسيه ليخبره بأن الجهاديين قد غادروا. تلى هذا الخبر نبأٌ ثانٍ: كان يبدو أن ثمَّة نارًا تضطرم بالداخل. هُرع سيسيه لينظر ورأى خيوطًا رفيعةً من الدخان الأبيض تنبعث من السقف المفتوح. كان يمكن أن يكون أي شيء يحترق؛ أسلاك كهربائية، أو أثاث، أو نار حطب معدة لتحضير الشاي. أو ربما كان آتيًا من مخطوطات تحترق.
كان سيسيه على علم بتحذير الجهاديين من أن أي أحد سيدخل مبانيهم سيُردى قتيلًا بالرصاص، لكن الحارس كان على يقين من أن المقاتلين كانوا قد ذهبوا، وباعتباره الرجل الكبير المسئول عن معهد أحمد بابا في تمبكتو، شعر بأن من واجبه أن يتحرَّى الأمر. دخل الرجلان من الباب الصغير على الجهة الغربية وسارا بحذر في واحد من الممرات الداخلية المبنية على طراز العمارة الساحلية السودانية على يد مهندس معماري جنوب أفريقي. كان المبنى هادئًا وباردًا، محميًّا من شمس الصحراء التي كانت تتسرب عبر حواجز من الحجارة المنحوتة باليد. قادهم الدخان إلى بقعةٍ خارج قاعة المؤتمرات. وبينما كان سيسيه والحارس يقتربان، شاهدا كومة من الرماد كانت قد دُفِعَت إلى الأعلى نحو عمود مربع. كانت كومات من صناديق المخطوطات المهملة، المصنفة بعناية بملصقات تحمل أرقامها المفهرسة، موضوعة في أحد الجوانب. كان الحطب المحترق لا يزال مشتعلًا. قال سيسيه إنه يبدو أن الجهاديين كانوا قد أفرغوا الصناديق، ثم أشعلوا النار في المحتويات.
بعد ذلك بأعوام، كان سيسيه لا يزال يجد صعوبة في استيعاب هذا الفعل. قال: «أن يصدق المرء أن هؤلاء الناس الذين قالوا إنهم مسلمون يمكن أن يأخذوا شيئًا كان إسلاميًّا ويشعلوا فيه النار؛ لم نظن أبدًا أن ذلك يمكن أن يحدث. كان أسوأ شيء يمكن أن يفعلوه بنا. أي شيء إلا ذلك.» تساءل، لماذا فعلوا هذا؟ وأضاف: «لم يكن لديهم أي دافع آخر سوى أن يتسببوا في أذًى لنا.» إن كانت المخطوطات بطريقةٍ ما مخالفة لأيديولوجيتهم، كانوا سيتلفونها عندما وصلوا. ولكنهم كانوا قد احتلوا المبنى مدة عشرة شهور وانتظروا حتى عشية مغادرتهم ليحرقوها. قال سيسيه: «لأنهم كانوا مهزومين، اضطروا لأن يغادروا.» ثم أردف: «كانوا يعرفون القيمة الدولية والعلمية للمخطوطات، وما تساويه؛ لذا تعيَّن عليهم أن يحرقوها.»
لم يبقَ هو ولا الحارس طويلًا، وهو ما كان من حسن حظهم لأن الجهاديين عادوا بعد ذلك بقليل. قال سيسيه: «لو كانوا قد وجدونا هناك، كانوا سيقضون علينا.»
عندما علم معيجا بما قد حدث، اعتبر ذلك بمنزلة فشل شخصي له. «جعل الله الأمر مسئوليتي، والآن المخطوطات قد أُحْرِقَت. المخطوطات التي يرجع تاريخها إلى قرون وقرون. لذا كان الأمر يمثِّل لي فشلًا. في الليلة التي علمت فيها بذلك، لم أستطِع النوم.»
شعر حيدرة هو الآخر بحزن شديد. قال: «في اليوم الذي أحرقوها فيه شعرت بإعياء شديد جدًّا.» ثم أردف: «كان الأمر كما لو أننا لم ننقذ أي شيء. كان ذلك هو مدى ما شعرت به من سوء.»