حمَّى المخطوطات
بعد اكتشاف كتب تأريخ تمبكتو وترجمتها، بدأت قصة المدينة الأسطورية تختفي في النصف الأخير من القرن العشرين. ومع أنه كان لا يزال من السهل أن تجد أكاديميين يكتبون عن الحملات الاستكشافية المالية إلى أمريكا، أو عن الخمسة والعشرين ألف طالب الذين كانوا يدرسون بجامعة تمبكتو أثناء العصور الوسطى السودانية، فإن مجموعة قليلة، ولكنها كانت آخذة في التزايد، من المتخصصين في الدراسات الأفريقية كانت تفتت شيئًا فشيئًا الأساطير أملًا في إخراج حقيقة موضوعية. ففي نهاية الأمر كان التاريخ رائعًا بما يكفي، ولا يتطلب المزيد من التنميق. ما كان متبقيًا — «القصة الشائعة»، الرواية المألوفة لقصة تمبكتو والسونجاي — كان يستند على كتب سرد الوقائع التاريخية وعلى قوائم ملوك سونجاي التي أوردتها، من سلالة زا إلى الأسكيين عبر سُني علي كولون وخلفائه. هذه التفاصيل كانت حقائق، وهو ما كان من الممكن للمؤرخين أن يتفقوا عليه إلى حدٍّ بعيد.
قرب نهاية عام ١٩٦٧، نظَّمت منظمة اليونسكو ملتقًى للخبراء حول مخطوطات غرب أفريقيا في تمبكتو، في دولة مالي المستقلة حديثًا. من بين الضيوف كان الرجل الذي سيُعرَف بعميد خبراء مخطوطات تمبكتو، وهو جون هنويك. أوصى الملتقى — وهو ما كان من وجهة نظر هنويك «أكثر قليلًا من مجرد أمل خادع» — بإقامة معهد أبحاث في تمبكتو لجمع وحفظ التراث الإسلامي للمنطقة. بل إنه اقتُرِح اسم له: مركز أحمد بابا. في غضون عشر سنوات، كان هذا المعهد قد تأسَّس، وهو ما كان بمنزلة مفاجأة لهنويك. كانت مالي الآن تمتلك برنامجها المعترف به دوليًّا والمكرَّس للبحث في ماضي المنطقة من خلال وثائقها.
بحلول عام ١٩٩٢، عندما عاد هنويك للتفتيش عن نسخٍ من كتاب «تاريخ السودان» من أجل ترجمة إنجليزية جديدة كان بصدد إعدادها، كان المعهد قد أحرز المزيد من التقدم: كان الآن يفتخر بأنه يضم إدارة لترميم المخطوطات وقسمًا يمكن فيه تحويل الأعمال إلى ميكروفيش. وكان يمتلك أيضًا عددًا متزايدًا من الوثائق — أكثر من ٦٣٠٠ وثيقة — بالإضافة إلى مكتبة صغيرة للأعمال المطبوعة. كتب هنويك أنه يجد أن «من الصعب إعطاء صورة منصفة عن ثراء المجموعة.» كان معظم العناصر لمؤلفين محليين ويندرج تحت تصنيفين واسعين: عناصر ذات طابع «أدبي»، وتشمل الدراسات الدينية، وكتب تسجيل الوقائع التاريخية، والقصائد؛ وعناصر ذات طابع «وثائقي» وتشمل خطابات، ووثائق قانونية، ومخطوطات متعلقة باستئجار منازل، وجداول ميراث، وملكية أراضٍ، وما إلى ذلك.
من ضمن الأعمال الأدبية، قال هنويك إنه توجد نسختان لكلٍّ من كتابي «تاريخ السودان» و«تاريخ الفتَّاش». كان يوجد أيضًا كتب لتاريخ أزواد وشعب البربر، ولتاريخ بلدة تادمكة التجارية القديمة. كان يوجد قواميس تراجم، بالإضافة إلى تأريخ للحروب بين الطوارق والفرنسيين؛ ونسخة من كتاب التأريخ «ديوان الملوك» مجهول المؤلف الذي كان دوبوا قد عثر عليه. اشتملت الدراسات الدينية البارزة على أعمال لعائلة فقهاء كونتا الذين كانوا قد فعلوا الكثير لمساعدة لينج وبارت، ومن ضمنهم سيدي المختار، وسيدي محمد، وسيدي أحمد البكاي. كان يوجد أعمال لأحمد بابا نفسه ولأعضاء آخرين من عائلة آقيت ذائعة الصيت. ثم كانت توجد مجموعة كاملة من المخطوطات في تصنيف هنويك الثاني، وهو العناصر ذات الطابع «الوثائقي».
في هذا الوقت، كان طاقم عمل مركز أحمد بابا يضم الشاب عبد القادر حيدرة، الذي ذكر هنويك أنه كان لديه «صلات جيدة بالكثير من العائلات في المدينة.» ومع ذلك كان العنصر الأهم في تطور المركز الذي كان في مهده هو مديره، محمود زوبر. كان زوبر شخصية نادرة المثال، حتى في أواخر القرن العشرين: كان عالمًا ماليًّا معترفًا به من قِبَل الأوساط الأكاديمية الدولية. كان يتقن لغات الفولاني، والسونجاي، والتماشق، والعربية، والفرنسية، وكان لديه معرفة عميقة بتاريخ وثقافة منطقة النيجر الوسطى، وكان قد حصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون عن بحثه في حياة أحمد بابا.
تحت قيادة زوبر، تزايدت شهرة مركز أحمد بابا خلال تسعينيات القرن العشرين، كما تزايدت أيضًا مجموعته. في تلك الأثناء، قام حيدرة بمحاولاته الأولى للنهوض بالمكتبات الخاصة. وقرب نهاية العقد، تلقَّت حظوظ تمبكتو دفعةً كبيرةً بزيارة ضيف مميَّز للغاية: هنري لويس جيتس الابن. كان جيتس، الرئيس البارز لقسم الدراسات الأفريقية والأفريقية الأمريكية بجامعة هارفرد، قد أتى إلى مالي لعمل فيلم لسلسلة وثائقية من إنتاج شبكة «بي بي إس» التليفزيونية بعنوان «عجائب العالم الأفريقي». وعلى العكس من الرجال البيض الذين كانوا قد استكشفوا تمبكتو في الماضي، تناول جيتس الموضوع من المنظور المختلف اختلافًا كبيرًا لشخص من نسل العبيد. كانت زيارته بالتأكيد مشحونة سياسيًّا؛ ففي الفيلم، الذي عُرِض لأول مرة عام ١٩٩٩، صرَّح بأنه «بصفتي أمريكيًّا من أصول أفريقية، أعرف شعور أن يُسرَق تاريخك منك.»
رافق سيدي علي وِلد، المرشد الذي يتحدث اللغة الإنجليزية، جيتس في جولة إلى مسجد سانكوري، واصطُحِب جيتس لمقابلة حيدرة ورؤية كتبه. في هذه الأيام التي سبقت بناء مكتبة مَما حيدرة التذكارية، كانت المجموعة محفوظة في غرفة تخزين مزدحمة بصناديق معدنية قديمة، وكانت المجلدات مغطاةً بطبقة رقيقة من التراب والرمل. أُصيب جيتس بذهول؛ فهنا كان يوجد آلاف المخطوطات، قليل منها مغلف بالجلد، والبعض الآخر كان مجرد أكوام من المطويات السائبة الملفوفة معًا بحرص، وبعضها يحتوي على نقوش ذهبية ورسوم توضيحية قدَّر أنها تساوي آلاف الدولارات في دُور المزادات الرئيسية في العالم. واعتقد أنها إن تُرجِمَت فقد تعيد كتابة تاريخ أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى برُمَّته.
بينما كنت واقفًا في «مكتبة» حيدرة … تخيلت الشعور الذي شعر به راعي الغنم وهو ممسك في يده بمخطوطات البحر الميت، شاعرًا ربما بعظمة اكتشافه، ولكنه عاجز عن كشف أسراره. هنا، في «بوابة الصحراء»، على حافة طريق الصحراء الكبرى الرملي العظيم الذي تسلكه الجِمال، حيث يلتقي عالمان مختلفان طيلة ألف عام، أمسكت في يدي بما قد يكون آخر بقايا الإنجاز الفكري لعالَم أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
في نفس الوقت بالضبط الذي قال فيه الأوروبيون إن أفارقة جنوب الصحراء الكبرى يفتقرون إلى القدرة الفكرية على القراءة أو الكتابة، كان هذا المكان، الذي تأسَّس تقريبًا في نفس وقت تأسيس جامعة باريس وجامعة بولونيا … وقبل تأسيس جامعتي المحبوبة هارفرد بثلاثمائة وإحدى عشرة سنة كاملة … يزخر بخمسة وعشرين ألف طالب وعالم اجتمعوا من كل أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وشمال أفريقيا وأتوا إلى هنا لأن هذا المكان كان مركز التعلُّم العظيم في أفريقيا.
قال جيتس إن هذا كان «كافيًا لجعلي أبكي.»
على الرغم من أن سرد جيتس عن تمبكتو كرَّر العديد من الأخطاء التي ارتكبها المؤرخون الاستعماريون، فقد كان من شأنه أن يغيِّر ديناميكيات تجارة المخطوطات تغييرًا جذريًّا. فها هو رجل أسود، «أمريكي» أسود، أستاذ بارز له كرسي في جامعة هارفرد، يذرف الدمع بسبب اكتشافه الشخصي لدليل مكتوب على الماضي الفكري لأفريقيا، الدليل على مهزلة قرون من العنصرية الأوروبية. لماذا لم يكن يعرف بالأمر؟ ولماذا لم يكن العالم يعرف؟ لدى عودته إلى الولايات المتحدة، بدأ جيتس في حشد الدعم المالي لحيدرة، والذي أتى في صورة منحة من مؤسسة أندرو دبليو ميلون. وبعد سنوات من محاولة التمبكتي لتجميع القليل من التمويل من أجل مشروعه المتمثل في المكتبات الخاصة، بدأت الأموال أخيرًا تتدفَّق إليه. وسرعان ما أصبحت المدينة الفقيرة بؤرة ازدهار في مجال المخطوطات: حفَّزت مبالغ التمويل المتزايدة — التي تبرعت بها منظمة اليونسكو، ومؤسسة فورد، والنرويج، ولوكسمبورج، والولايات المتحدة — الناسَ على جلب المزيد من الوثائق من القرى المحيطة بتمبكتو، بينما بدأت مدن مالية أخرى، مثل جِني وسيجو، في مشاريع المخطوطات الخاصة بها. رحَّب مالكو المخطوطات بالأموال، ولكن كان للازدهار جانبٌ أكثر قتامة: أصبحت المكتبات تُقَيَّم، ليس بجودة كتبها فحسب، وإنما أيضًا بأعدادها؛ أخذت الأرقام المزعومة تتصاعد أعلى فأعلى، وتضخمت المجموعات عن طريق الشراء العشوائي. ووجدت المكتبات الخاصة والعامة نفسها يتبارى بعضها مع بعض في إطار تدافعها من أجل الحصول على التمويل. أفصح طلب منحة منظمة سافاما، المكتوب في العقد الأول من القرن الحالي، عن ذلك: كان مركز أحمد بابا قد تمكَّن من جمع عشرين ألف مخطوطة أو نحو ذلك، لكن هذا كان «صغيرًا للغاية مقارنة بمئات الآلاف (ربما حتى الملايين) من المخطوطات المملوكة لأفراد.»
لم يكن جيتس هو الرجل الوحيد الذي كان لديه طموحات سياسية فيما يتعلق بالمخطوطات. في نوفمبر من عام ٢٠٠١، جاء الرئيس الجنوب أفريقي تابو إيمبيكي إلى تمبكتو بصحبة نظيره المالي، الرئيس ألفا عمر كوناري، وهو في الأصل مؤرخ. أُطلِع إيمبيكي على مساحة العرض الضيقة في مبنى أحمد بابا في شارع شيمنيتز، والتي كانت تحتوي فقط على خزانتين زجاجيتين صغيرتين، قبل أن يُصطَحَب إلى ورشة ترميم مليئة بمعدات صدئة عفا عليها الزمن. وبينما كان الرئيس الجنوب أفريقي يستمع إلى شرحٍ عن تاريخ محتويات المخطوطات، أدرك الفرصة التي أمامه.
لم يكن قد مرَّ سوى أحد عشر عامًا فقط على قيام نيلسون مانديلا ﺑ «مسيرته نحو الحرية»، وسبعة أعوام فقط على انتخابه رئيسًا وأُعلِن أن الفصل العنصري البغيض قد صار شيئًا من الماضي. كان إيمبيكي، باعتباره خلفًا لمانديلا، يضغط بشدة لتحرير القارة من التفكير العنصري الذي ينتمي إلى الماضي. أدرك أن الأدلة الموجودة في مركز أحمد بابا يمكن استخدامها لإعادة توجيه الحياة الفكرية للقارة بعيدًا عن تفضيلها المتحيز للندن وباريس، العاصمتين الاستعماريتين القديمتين، ويمكن أن تساعد في صياغة هوية محلية للقارة.
عند عودته إلى جنوب أفريقيا، بادر إيمبيكي إلى بدء مشروع عملاق كانت مهمته استغلال المخطوطات. على مدى العقد التالي، كانت ملايين الدولارات من الأموال الجنوب أفريقية ستُضَخ من أجل البناء، وصيانة المخطوطات، والبرامج البحثية في مالي وجنوب أفريقيا لتطوير ما وصفه شاميل جيبي، رئيس مشروع مخطوطات تمبكتو في جامعة كيب تاون، بأنه «تراث أدبي تعرَّض للتقليل من شأنه إلى حدٍّ كبير ومن المحتمل أن يكون رمزًا لتراث قاري أوسع نطاقًا من الإبداع والتقليد المكتوب على وجه التحديد.» في عام ٢٠٠٩، افتُتِح مبنى مركز أحمد بابا الجديد، المصمم على يد معماريين جنوب أفريقيين، والذي تكلف ٨٫٣٦ مليون دولار، بجوار مسجد سانكوري، متضمنًا خدمات ترميم المخطوطات وتصنيفها ورقمنتها.
مع تدفُّق الأموال إلى تمبكتو، ووصول أرقامها إلى مستويات مذهلة، كان من المؤكد أنه لن يمضي وقت طويل قبل أن تقدِّم الوثائق اكتشافات ذات أهمية تاريخية. ولكن التقدم كان بطيئًا على هذه الجبهة. في عام ١٩٩٩، بدا أن هنويك كان على وشك أن يتوصَّل لكشف مهم عندما أُطلِع على كنز دفين من الوثائق في مكتبة فوندو كاتي كان يبدو أنه يحتوي على مواد مرجعية أصلية لكتاب «تاريخ الفتَّاش»، مكتوبة على هوامش نصوص أخرى. كانت هذه الوثائق تمثِّل، بحسب ما قيل لمراسل صحيفة «شيكاجو تريبيون» في عام ٢٠٠١، المعادل الأفريقي للوثائق الأنجلو ساكسونية، وهو ما كان من شأنه أن يغيِّر الآراء التي كانت تحظى بالقبول منذ وقت طويل عن التاريخ الأفريقي. إلا أن هنويك كان قد أُصيب بسكتة دماغية في عام ٢٠٠٠، وتوقف البحث في الوثائق. في الواقع، عندما قُلِبَت الأمور رأسًا على عقب فيما يتعلق بالتاريخ السوداني، لم يكن ذلك على الإطلاق بسبب اكتشافات جديدة في المخطوطات. في العقد الأول من القرن الحالي، أتت أهم الاكتشافات المتعلقة بحقبة سونجاي من مصدر مختلف تمامًا؛ ألا وهو، النقوش العربية من العصور الوسطى المكتوبة على شواهد القبور في المنطقة.
كان الرجل الذي فكَّ رموز هذا الدليل المتعلق بالكتابات المنقوشة هو طبيب بشري برازيلي تحوَّل إلى منقِّب في التاريخ يُدعى باولو فرناندو دي مورايس فارياس. كان فارياس قد عاش وعمل سنوات عديدة في غرب أفريقيا وتنامى لديه شغفٌ بهذه الكتابات التي يرجع تاريخها إلى قرون عديدة. ماذا كانت تعني؟ أي ثقافات أنتجتها؟ أمضى فارياس ثلاثين عامًا في اكتشاف ذلك. ظهر عمله الأعظم «نقوش العصور الوسطى العربية من جمهورية مالي»، في عام ٢٠٠٣، بعد أربعة أعوام من نشر هنويك لترجمته الإنجليزية الجديدة البارزة لكتاب «تاريخ السودان». كان من شأن النتائج أن تشكِّل تحديًا لأسس التأريخ الشائع القبول عن تمبكتو وإمبراطورية السونجاي الذي كان قد بدأ باكتشاف بارت لكتاب «تاريخ السودان» في عام ١٨٥٣.
بما أن الكتابات المنقوشة، التي كان قد أُعيد اكتشافها في القرن العشرين، كانت ترجع إلى ذلك العصر، لذا كانت أقدم مصادر الكتابة في المنطقة وأكثرها موثوقية، إذ كانت تسبق كتب التأريخ بمئات السنين. ومع ذلك فقد تعرضت للتجاهل إلى حدٍّ ما لأنها لم تكن تتوافق مع التأريخ المذكور في كتابَي «تاريخ السودان» و«تاريخ الفتَّاش». كان الأكاديميون قد تفاعلوا معها بنوع من «فورات الحماس» التي استتبعها «عدم يقين مُعَطِّل»، بحسب ما كتب فارياس؛ إذ لم يكن لديهم أي فكرة عن كيفية ربطها بالمصادر الوثائقية المعروفة: لم تتطابق التواريخ، ولا أسماء السلالات الحاكمة، ولا الحكام. كان يمكن فقط لشخص بمعرفة وتفاني فارياس أن يفهمها ويكتشف الكيفية التي يمكن أن تتوافق بها مع الكتب التاريخية.
ما بدأ البرازيلي يدركه هو أن كتب التاريخ على الرغم مع كونها مصدرًا قيِّمًا، فإن أجزاءً كبيرة منها لم تكن دقيقة تاريخيًّا على الإطلاق: في الواقع، كان مؤلفوها قد صاغوا سردًا لتاريخ سونجاي من أجل المهمة السياسية المتمثلة في إعادة توحيد الناس الذين عاشوا في منحنى نهر النيجر بعد الغزو. كان الغزو المغربي قد حوَّل الأسكيين إلى ملوكٍ أشبه بالدمى وأدَّى إلى تقليص الامتياز الذي كان يتمتع به سكان المدن المتعلمون في ظل حكمهم، بينما كان سماسرة السلطة الجدد في منطقة سونجاي لا يزالون يصارعون من أجل الحصول على الشرعية. وبحسب ما برهن فارياس، فإن كتب التاريخ كانت لذلك مُصمَّمة على هيئة شكل من أشكال «إدارة الكوارث»، وهو شكل جديد من الأدب يهدف إلى التوفيق بين النخب وتمكينهم من المضي قدمًا معًا. لقد كانت مؤلَّفة بطريقة جعلت قصة السونجاي تظهر على صورة «سرد فريد ومحكم»، لكن هذا كان مصطنعًا؛ إذ اختُصِرَت فترات نفوذ القوى الأجنبية مثل مالي وبُسِطت فترة حكم ملوك سونجاي إلى الوراء وكذلك إلى الأمام عبر الزمن. هذه النسخة المعدلة من الأحداث ذات الطابع القومي المنتمي إلى السونجاي استبعدت من قوائم الملوك سلالاتٍ حاكمة كاملة، مثل سلالة تحمل لقب «ملك»، كان بعضها يسبق سلالة زا، وعلى الأقل ست حاكمات نساء حملن لقب «ملكة» وشكَّلن سلسلة ملكية مستقلة.
للمساعدة في ملء الفجوات في تاريخ سونجاي، اقتبس مؤلفو كتابي «تاريخ السودان» و«تاريخ الفتَّاش» من أساطير سابقة لثقافات أخرى. أُخِذَت قصة علي كولون، على سبيل المثال، من تراث الطوارق، ومن المحتمل أنه لم يكن شخصية حقيقية، شأنه في ذلك شأن زا الأيمن، الملك الأسطوري الذي قتل الإله-السمكة.
بحسب ما كتب فارياس، كان يوجد سببان وراء أن المؤرخين الأقدم لم يلاحظوا هذه الأخطاء. كان السبب الأول هو المصادفة القدرية التي جعلت بارت يعثر على كتاب «تاريخ السودان» وليس على دليل الكتابات المنقوشة. وبعد أن اطَّلع المؤرخون على كتب التاريخ بكل تفاصيلها النابضة بالحياة، كانوا مترددين في قبول الأدلة التي تعارضت معها. كان السبب الثاني، بحسب فارياس، نتاجًا للثقافة العنصرية في أواخر القرن التاسع عشر. كان المستشرقون الفرنسيون قد اعتبروا أحمد بابا مثالًا لفقهاء تمبكتو بسبب كتابته العربية النثرية الجميلة، بينما نُسِب إلى مؤلفي كتابَي «تاريخ السودان» و«تاريخ الفتَّاش» فحسب، الذين كتبوا أعمالهم في فترة لاحقة وبلغة عربية ركيكة، فضل قدرتهم على النقل الأمين لاكتشافات أسلافهم الألمع.
من وجهة نظر فارياس، لم تجعل هذه الاكتشافات كتب التأريخ عن تمبكتو غير ذات صلة. ليس الأمر كذلك على الإطلاق. لقد كانت أكثر تطورًا وتعقيدًا مما اعتقد أي أحد. فبتجميلها للتاريخ بهذه الطريقة، كانت قد شكَّلت أكثر كتابة مبدعة خرجت في أي وقت من المدينة. وخلص إلى ما يلي: «يجب علينا أن نعتمد اعتمادًا أقل على عمليات إعادة البناء التي قدَّمتها كتب التأريخ للماضي القديم، وأن نتعلم في الوقت نفسه احترام مهارات المؤرخين بصفتهم حرفيين في كتابة النصوص وعملاء أيديولوجيين.»
لذا حتى في بداية القرن الحادي والعشرين، في الوقت الذي يمكن فيه القول إن الكثير من اللبنات الأساسية لتاريخ العالم قد ترسَّخت، كان ماضي غرب أفريقيا محلَّ مراجعة وتنقيح جاد. أظهر فارياس، مرة أخرى، أن ما كان يُعتقَد لزمن طويل عن تمبكتو كان خطأً.