فراغ واسع وممتد
بدأ السعي من أجل استكشاف تمبكتو، كما كانت تلك الأمور تبدأ في بعض الأحيان، في غرفةٍ تعلو حانةً لندنية.
في التاسع من يونيو من عام ١٧٨٨، اجتمعت مجموعةٌ من تسعة رجال من أصحاب النفوذ في حانة سانت ألبان، والتي تقع على مقربة شديدة من مقر الملك الرسمي في قصر سانت جيمس، وجلسوا ليناقشوا مستقبل الاستكشاف. ضمَّ هذا الاجتماع لنادي السبت الحصري — لم يبدُ مهمًّا أن ذلك اليوم كان الاثنين — وزيرَ خارجيةٍ سابقًا، وحاكمًا عامًّا مستقبليًّا للهند، ولوردًا من لوردات الحاشية الملكية، إلى جانب قلةٍ قليلة من فرسان المنطقة. ثمانية من أعضاء النادي البالغ عددهم اثني عشر رجلًا كانوا أعضاءً في البرلمان؛ وستة كانوا زملاء لمؤسسة النخبة العلمية المتمثلة في الجمعية الملكية. وكان واحدٌ منهم — وهو صاحب الدور الرئيسي في تجميع العناصر الرئيسية الفاعلة — يشغل منصب رئيس الجمعية الملكية، وهو السير جوزيف بانكس.
كان بانكس في ذلك الوقت في الخامسة والأربعين من عمره، وكان مدمنًا لمعاقرة الخمر، ومائلًا إلى البدانة. وعلى خلاف سلفه الشهير، إسحاق نيوتن، كان شخصية محبوبة؛ إذ وصفه جيمس بوزويل بأنه «ضخم كالفيل، وهادئ ولطيف جدًّا»، وكان يسمح للمرء بأن «يركب على ظهره أو أن يلعب بخرطومه.» كان قد تلقَّى تعليمه في مدرسة هارو وكلية إيتون، حيث اكتشف أن لديه كراهيةً للأدب الكلاسيكي وحبًّا لعلم النبات، وبعد فترة وجيزة من تركه جامعةَ أكسفورد كان قد انطلق في مغامرته العلمية الأولى، مسافرًا بصفته عالمَ تاريخٍ طبيعي على فرقاطة تابعة للبحرية الملكية متجهة إلى نيوفاوندلاند ولابرادور. ومع ذلك، كانت هذه مجرد بروفة للرحلة التي كانت ستجعله مرموقًا؛ رحلة جيمس كوك الأولى للطواف حول العالم. عاد في عام ١٧٧١ من تلك الرحلة التي استغرقت ثلاثة أعوام بثلاثين ألف عينة نباتية مذهلة وبشهرة تخطَّت حتى شهرة كوك. ثم أصبح صديقًا مقربًا من الملك جورج الثالث، مطورًا حدائقه النباتية الملكية في كيو إلى مركز رئيسي للأبحاث، وببلوغه الخامسة والثلاثين من عمره كان يتولَّى قيادة أهم مؤسسة علمية في العالم، وهي الجمعية الملكية. وظل في منصب رئيس الجمعية طيلة العقود الأربعة التالية، مُنشِئًا شبكةً من الأصدقاء والمعارف اشتملت على أبرز الفلاسفة الطبيعيين في ذلك العصر — بنجامين فرانكلين، وكارل لينيوس — إلى جانب مفكِّرين مبدعين ورجال دولة بدءًا من توماس بين وحتى هنري كريستوف، ملك هاييتي. ومن منزله في ٣٢ ميدان سوهو بعث بآلاف الرسائل مانحًا الرعايةَ والنصيحةَ للمشاريع التي أشعلت حماسه. وكم كان لديه من الحماس!
على مشارف نهاية عصر التنوير، اتُّخِذَت خطوات عملاقة في كل مجال من مجالات السعي الإنساني، من الجغرافيا والموسيقى إلى تربية الحيوانات وزراعة نبات الرَّاوَنْد. كان عصر ثورة في السياسة — ففي عام ١٧٨٣، كانت أمريكا قد نالت الاستقلال عن أحد الأنظمة الملكية؛ وفي عام ١٧٨٩، تخلصت فرنسا من نظامٍ ملكي آخر — وفي العلم أيضًا. كانت إسهامات بانكس في العلم هائلة. فقد ساند ويليام روي، مؤسس هيئة المساحة البريطانية؛ وويليام سميث، مبتكر أول خريطة جيولوجية؛ وويليام هيرشل، أول شخص في التاريخ يكتشف كوكبًا في النظام الشمسي، وهو كوكب أورانوس. ومن مقعده في مجلس الزراعة ومجلس خطوط الطول، ساعد في تحديث إنتاج الحبوب والملاحة، بينما بصفته عضوًا في مجلس أمناء المتحف البريطاني وَضَع مجموعاتٍ شكلَّت أساس متحف التاريخ الطبيعي والمكتبة البريطانية. واستحوذت المغامرات فيما وراء البحار بوجهٍ خاصٍّ على اهتمام بانكس؛ إذ كان وراء المهمة المشئومة للسفينة «باونتي» التابعة للبحرية الملكية لاستزراع نباتات فاكهة الخبز من تاهيتي لإطعام العبيد في منطقة الكاريبي، وشجَّع إقامة مستعمرة عقابية في أستراليا. وفقط في يناير من عام ١٧٨٨، كان أول أسطول يحمل مُدانين قد وصل إلى شاطئٍ كان يومًا ما قد بحث فيه عن أنواع نباتات جديدة، وهو الشاطئ الذي كان كوك قد منحه اسمَ خليج بوتاني.
في صيف عام ١٧٨٨، كان بانكس ورفاقه على وشك أن يولوا اهتمامهم إلى وجهة جديدة. كانت أفريقيا في ذلك الوقت قارة غامضة للجغرافيا الغربية، وكان بانكس غير اعتيادي في كونه قد وطئها بقدمه، عندما ألقت سفينة كوك «إنديفور» مرساتها في خليج كيب تاون في عام ١٧٧١. ربما يكون المستكشفون قد عبروا الدائرة القطبية الجنوبية، لكن ما كانوا يعرفونه عن أفريقيا القريبة كان هزلًا، كما أوضحت مقطوعة ساخرة قصيرة وضعها الكاتب الساخر جوناثان سويفت قبل ذلك بنصف قرن:
كان الاهتمام بهذه القارة المهملة قد أشعل فتيله في منتصف سبعينيات القرن الثامن عشر جيمس بروس، وهو إقطاعي اسكتلندي كان قد شرع في استكشاف منابع النيل وانتهى به الحال إلى العيش في إثيوبيا لعامين. كتب هوراس والبول في عام ١٧٧٤: «إن أفريقيا حقًّا قد صارت صرعةً جديدة.» وأضاف: «لقد عاد للتو من هناك سيدٌ يُدعى بروس، والذي عاش ثلاثة أعوام في بلاط إمبراطورية الحبشة، وأفطر كل صباح مع وصيفات الشرف على ظهور ثيران حية.» وأورد والبول بحقدٍ أنه، نتيجةً لذلك، كانت مآثر بانكس «منسية تمامًا.»
إن كانت أفريقيا حقًّا صرعةً جديدةً في لندن، فقد كانت أيضًا موضوعَ أزمةٍ أخلاقية وشيكة ستُشكِّل سياسة بريطانيا الخارجية طيلة النصف القرن التالي. بحلول أواخر القرن الثامن عشر، كانت التجارة على سواحل غينيا — التي كانت قد عُرِفَت كذلك بسبب سلعها الرئيسية من عاج، وذهب، وعبيد، وحبوب — قد أصبحت ركيزةً أساسية في الاقتصاد البريطاني. وفي النصف القرن الذي سبق عام ١٧٧٢، كانت التجارة الأفريقية قد ازدادت بمقدار سبعة أمثال، وصولًا إلى مليون جنيه إسترليني تقريبًا في العام. في ذلك العام كتب تاجر إنجليزي مجهول يقول: «كم هي هائلة أهمية تجارتنا مع أفريقيا، التي تمثِّل القاعدة والأساس الأولين من بين البقية الباقية كلها؛ الزنبرك الرئيسي في الآلة والذي يجعل كل ترس يتحرك!» كان قدْر كبير من التجارة يتم في البشر؛ فكان القباطنة البحريون الذين يتخذون مقارَّ لهم في لندن، وليفربول، وبريستول يقايضون البنادق المصنوعة في برمنجهام والقماش المصنوع في شرق إنجلترا بالعبيد، الذين كانوا يُرسَلون بالسفن إلى مزارع التبغ والسكر في الهند الغربية التي أبقت على الاقتصاد البريطاني قائمًا. وفي ستينيات القرن الثامن عشر حملت السفن البريطانية اثنين وأربعين ألف عبد في العام عبر المحيط الأطلنطي، وهو شيء لم تفعله أي أمة أوروبية أخرى.
ومع ذلك كانت بريطانيا قد بدأت تشعر بوخز الضمير، عندما حدث تواصل لأول مرة بين الناس وضحايا العبودية. كان يوجد عشرة آلاف رجل أسود يعملون خَدَمًا في المنازل في إنجلترا في عام ١٧٧٠، وبحلول ثمانينيات القرن الثامن عشر ظهر فيضٌ صغيرٌ من الكتب الرائجة التي أظهرت شرور هذه التجارة، من بينها كتاب «القصة المثيرة لحياة أولوداه إيكوِانو»، الذي أصبح نصًّا كلاسيكيًّا لنشطاء طائفة الكويكر المناهضين للعبودية الذين أسَّسوا فيما بعدُ حركة التحرير من العبودية. ومن منظور أعضاء نادي السبت مثل هنري بوفوي، انطوى إيجاد سلع أفريقية بديلة على إمكانيةِ وضْعِ حدٍّ لتجارة الرقيق. واشتمَّ آخرون، من بينهم بانكس، رائحةَ فرص تجارية جديدة يمكن أن تكون جيدة لبريطانيا.
من بين غايات الاستقصاء التي تسترعي اهتمامنا بأقصى قدْر، ربما لا يوجد شيء يستثير بقدْرٍ كبيرٍ الفضولَ المستمر، من الطفولة إلى الشيخوخة؛ شيء يرغب المتعلم وغير المتعلم بنفس القدر في استكشافه، مثل طبيعة وتاريخ تلك الأجزاء من العالم، التي، بقدر علمنا، لم تُستَكْشَف إلى حدِّ الآن.
أضاف بوفوي أنه بفضل نجاح الملاحة البحرية البريطانية، ورحلات كوك على وجه التحديد، «لم يبقَ شيء جدير بالبحث بحرًا باستثناء القطبين نفسهما.» يكمن مستقبل الاستكشاف الآن في البر؛ فقد ظل ما لا يقل عن ثلث سطح اليابسة الصالح للسكنى مجهولًا، وفي ذلك حيزٌ كبيرٌ من آسيا وأمريكا، وتقريبًا كل أفريقيا. بفضل جهود جورج فورستر، وهو موظف في شركة الهند الشرقية كان قد سافر من البنغال إلى إنجلترا عبْر أفغانستان، وفارس، وروسيا، كان مرجحًا للدراية بأجزاء آسيا أن «تتقدم نحو الكمال.» في الوقت نفسه كان من الممكن الاعتماد على تجَّار الفراء من مونتريال في التعامل مع مشكلة غرب كندا. لكن كان الداخل الأفريقي لا يزال «فراغًا ممتدًا عريضًا فحسب» كان الجغرافيون قد اقتفوا فيه، بيدٍ مترددة، «أسماءً قليلةً لأنهارٍ غير مستكشَفة وأمم غامضة.»
رغبةً منهم في انتشال العصر الحالي من تهمة الجهل، التي، من نواحٍ أخرى، لا يتسم بها إلا قليلًا، وضع بضعة أفراد، على قناعة شديدة بنفع وفائدة توسيع نطاق دعم المعرفة البشرية، خطةً لإنشاءِ رابطةٍ لتشجيع اكتشاف الأجزاء الداخلية من أفريقيا.
سرعان ما اتُّفِق على قواعد الرابطة: اتُّفِق على رسمِ اشتراكٍ بقيمة خمسة جنيهات في العام، واختيرت لجنةٌ من خمسة أفراد. كان بانكس هو أمين الصندوق وبوفوي هو السكرتير، بينما عُيِّن اللورد رودان، وأسقف لانداف، والمحامي أندرو ستيوارت أعضاءً مساعدين. ستكون مهمة هؤلاء الرجال هي تعيين «مبعوثين جغرافيين» ليضطلعوا برحلات الاستكشاف الأولى.
كان السؤال المتبقي إذن هو إلى أين، في تلك المساحة المجهولة من الأرض، ينبغي إرسالهم.
•••
تِم-بُك-تو. إن معنى هذه المقاطع الثلاثة القصيرة محلُّ خلاف. هل تشير إلى «جدار» أو «بئر» بُكتو، وهي أَمة عاشت في هذا المكان الشهير، الذي يوجد على بُعد خمسة أميال وراء المنحنى الواقع في أقصى شمال نهر النيجر؟ أم أنها تشير إلى سونجاي، التي تعني «معسكر المرأة ذات السُّرة الكبيرة»؟ أم هل تدل ببساطة على مكانٍ منخفضٍ، مختفٍ وسط الكثبان الرملية؟ توجد نظريات كثيرة، ومنطوقات كثيرة، وتَهْجيات كثيرة لهذه الكلمة، التي وصفها بروس تشاتوين بأنها «صيغة شعائرية، إذا ما سُمِعَت مرة واحدة لا تُنسى أبدًا.» ما يبدو واضحًا هو أن مستوطَنةً أُقيمت هناك حوالي عام ١١٠٠، وتنامت لتصبح مدينة ذات تأثير بفضل موقعها عند ملتقى أكبر صحراء حارة في العالم وأطول أنهار غرب أفريقيا.
تنبسط الصحراء الكبرى على مساحة ٣٫٦ ملايين ميل مربع تلفحها الشمس، وتمتد من المحيط الأطلنطي إلى البحر الأحمر ومن البحر المتوسط إلى الساحل الأفريقي. وهي تغطي من سطح الأرض ما يزيد عن الولايات المتحدة أو الصين، أو قارة أستراليا. وهي حسب المخيلة الشائعة تتألف من محيطٍ من الكثبان الرملية، ومع أن هذه البحار من الرمال موجودة بالفعل، فإنها تمثِّل أقلَّ من سدس المساحة الكاملة. ويطلق الطوارق على الصحراء الكبرى اسم «تيناريوين»، ويعني «الصحارى»، بالجمع، ليعكس طبائعها المختلفة الكثيرة. فتوجد جبال شاهقة ارتفاعها ١١٠٠٠ قدم ومسطحات ملحية بحجم بحيرة أونتاريو حيث يمكن للرمال المتحركة أن تبتلع سيارة. وفي الغالب، توجد مئات الآلاف من الأميال المربعة من الصخر المسطح العاري.
منذ ستة آلاف عام مضت، كانت الصحراء الكبرى خضراء؛ كانت تجوبها الأفيال، والزراف، وحيوانات وحيد القرن التي كانت تشرب من بحيراتها وتأكل من نباتاتها. أما الآن فقدرٌ كبيرٌ منها لا يرى المطر لفترات تمتد لسنوات في المرة الواحدة. عندما ينزل المطر، تظهر سيول ماء هادرة تحفر خنادق عميقة في الأرض قبل أن تختفي بعد لحظات. وهذه الصحراء وفق بعض التقديرات أشد الأماكن حرارةً على سطح الأرض، حيث يمكن لدرجات الحرارة في الظل أن تصل إلى ١٤٠ درجة، لكن في ليالي الشتاء، بدون دِثار غطاء السُّحب، والتربة، والحياة النباتية، يمكن للصحراء أن تتجمد مكتسية بالصقيع. وفوق هذه المساحة الجرداء، تشكِّل الطبقات المتصادمة من الهواء الساخن والبارد رياحًا عنيفة تهب باستمرار لفترات تمتد إلى خمسين يومًا في المرة الواحدة، مثيرةً غبارًا خانقًا يحجب الشمس ومستحثةً أعاصيرَ رملية دوامية تقتل الحيوانات وتقتلع الأشجار من جذورها.
إذا كانت الصحراء تمقت الحياة، فعلى حافتها الجنوبية الغربية تلتقي بالقوة الحيوية لغرب أفريقيا، المتمثلة في مسطح مائي يطلق عليه السكان المحليون اسم جوليبا، أي «النهر العظيم» أو «نهر الأنهار»، والذي يعرفه بقية العالم باسم «نهر النيجر». يبدأ نهر النيجر من مسيل صغير على ارتفاع ٢٨٠٠ قدم في مرتفعات فوتاجلون في غينيا، أحد أكثر الأماكن غزارةً في هطول الأمطار على وجه الأرض. فوتاجلون هو مصدر ثلاثة مجارٍ مائية عظيمة في غرب أفريقيا، والاثنان الآخران هما نهر جامبيا ونهر السنغال. يُطلَق اسم كل نهر من هذين النهرين على بلد، ولكن نهر النيجر العظيم يمنح اسمه لبلدين. إذا ما اتخذ هذا النهر الطريق الأقصر إلى المحيط الأطلنطي، فإنه سيصبح سيلًا جارفًا منحدرًا بطول ١٥٠ ميلًا؛ بدلًا من ذلك إنه يتحرك بثقة في الاتجاه الخاطئ، شاردًا جهة الشمال الشرقي لينزلق بطريقة عجائبية وسط كثبان الصحراء في التقوس العظيم لمنحنى النيجر قبل أن يصب، على بُعد ٢٦٠٠ ميل من منبعه، في خليج بنين.
يتبدد ماء نهر النيجر، قرابة ثلث مسار رحلته الطويلة، في دلتا داخلية منبسطة بطول ٣٠٠ ميل. من الجو يبدو هذا مثل جدول مائي يتضاءل وهو يمر على امتداد شاطئ: يتفرع الماء إلى عشرات من القنوات والجداول الضحلة. يتبخر ثلثا تياره هنا، وبحلول نهاية موسم الجفاف تنضب الحياة في مسالكَ شاسعةٍ من مجرى النهر. في شهر يوليو، عندما يسقط المطر مجددًا وتتدفق كميات هائلة من الماء في اتجاه مجرى النهر، تمتلئ القنوات والبحيرات الجافة وتزدهر الحياة من جديد. تتدفق الحشائش العائمة ونباتات الأرز البري؛ ويفقس بيض السمك والحشرات؛ وتأتي طيور أبو قردان وأبو ملعقة، منضمةً إلى أفراس النهر، والتماسيح، وخراف البحر. يسوق رعاة الماشية حيواناتهم إلى الحشائش التي نمت على امتداد حافة النهر؛ ويحصد الفلاحون الأرز، والذرة البيضاء والرفيعة.
تقع تمبكتو عند نهاية مصب الدلتا، وعند الجزء الواقع أقصى شمال منحنى النهر. وهي تقع عند ملتقى طرق التجارة النهرية وطرق القوافل الصحراوية: فحسب القول المأثور القديم، هي الملتقى «لكل مَن يسافرون بالجمال أو بقوارب الكانو.»
مثلما منحت الفيضانات السنوية لنهر النيل الحياة لممالك مصر القديمة، احتضنت دلتا نهر النيجر الداخلية الخصبة حضاراتها. حتى في الأزمنة القديمة، تسرَّبت أنباء عن هذه الأراضي إلى أوروبا. ففي القرن الخامس قبل الميلاد، أشار هيرودوت إلى وجود نهر في الطرف البعيد من الصحراء يعج بالتماسيح، وتوجد مدينة على ضفافه يسكنها سَحَرةٌ سود. وصف بلينيوس الأكبر، فيما كتب بعد ذلك بخمسة قرون، قبائلَ متوحشة عاشت هناك، ومنها الأيجيباني، الذين كانوا «نصف رجال، ونصف وحوش»؛ والتروجلودايت، الذين لم يكن بوسعهم الكلام إلا بإصدار ضوضاء كصرير الخفافيش؛ والبليميون، الذين كانوا «بلا رءوس، وكانت أفواههم وعيونهم في موضع صدورهم.» بقي ذِكرُ البشرِ المشوَّهي الخلقة موجودًا حتى العصور الوسطى: أظهرت خريطة مابا موندي هيرفورد، التي وُضِعَت حوالي عام ١٣٠٠، البليميين وكذلك التروجلودايت في أفريقيا، بينما بالغ مؤرخون لاحقون في وصف أفارقة بلينيوس فجعلوهم أناسًا بعينٍ واحدة في منتصف جباههم، أو بقدمٍ عملاقة واحدة كانت كبيرة بما يكفي لأن تحميهم من الشمس.
في القرن السابع، قطعت الجيوشُ المسلمة، التي انطلقت غربًا تجتاح الساحل الجنوبي للبحر المتوسط إلى المحيط الأطلنطي، طريقَ أوروبا المسيحية لأفريقيا، وطيلةَ ألفٍ ومائتي عام قلَّت المعلومات الآتية مما وراء الصحراء الكبرى متحولةً إلى أصداء كانت تتسرب آتيةً عن طريق التجار الذين كانوا يجتازون الصحراء. غالبًا ما كانت تلك المعلومات خيالية — وصلت أنباء عديدة في العصور الوسطى إلى أوروبا عن نملٍ عملاقٍ يحصد الذهب من قيعان الأنهار الأفريقية — لكن كان ثمَّة أساس للأقاويل المتداولة عن ثراء الإقليم. قبل الاستعمار الإسباني للأمريكتين، كان ثلثا كل الذهب الذي يُتدَاوَل في منطقة البحر المتوسط يأتي من السودان. روى الجغرافي المسلم الإدريسي، في القرن الثاني عشر، أن ملك غانا القديمة كان ثريًّا جدًّا حتى إنه كان يمتلك «لبنة من ذهب وزنها ثلاثون رطلًا من ذهب، تبرة واحدة خلقها الله خلقة تامة من غير أن تُسْبك في نارٍ ولا تُطرَق بآلة»، بينما في القرن الرابع عشر، أرَّخ ابن بطوطة — أحد أكثر الناس ترحالًا في التاريخ — مآثرَ الإمبراطور المالي موسى الأول. إن هذا الإمبراطور — الذي في بعض الأحيان يُعرَف باسم مانسا موسى، ويعني «الملك موسى» — كان يُقال عنه إنه حَجَّ إلى مكة في عام ١٣٢٤ مع حاشيةٍ من ستين ألف جندي، وخمسمائة عبد، وطنٍّ من الذهب للنفقات، وأنه كان معطاءً بشدة حتى إنه تسبَّب في هبوط سعر المعدن النفيس في القاهرة لمدة جيل.
ظهرت تمبكتو لأول مرة في الجغرافيا الأوروبية بعد ذلك بخمسين عامًا، في الأطلس الكتالوني، وهو خريطة للعالم المعروف ظهرت عام ١٣٧٥ أعدَّها رسام الخرائط المايوركي أبراهام كريسكيس من أجل ملك إسبانيا. كانت التهجية التي استُخدِمَت لاسم المدينة هي «تينبوتش»، ومن البداية كانت مقترنةً بالثراء، حيث إن كريسكيس رَسَمَ موسى بجوارها، ممسكًا بصولجان ذهبي ضخم وبكتلة ذهب كبيرة وعلى رأسه تاجٌ ذهبي ثقيل. بدت الأنباء اللاحقة وكأنها تؤكد معلومات كريسكيس: ففي عام ١٤٥٤، وصل مستكشف فينيسي، يعمل لحساب الأمير البرتغالي هنري الملاح، إلى ودان، وهي واحة تجارية إلى الجنوب من طرابلس، وعاد جالبًا معه سردًا يوضِّح كيف أن قوافل الجمال تأخذ الملح الصخري إلى «تانبوتو» ثم إلى «ميلي، إمبراطورية السود»، حيث قويضت مقابل كميات كبيرة من الذهب. ومع ذلك، لم تُنشَر رواية مستقاة من شاهد عيان عن تمبكتو إلا في القرن السادس عشر، مؤكِدةً الأسطورة الذهبية.
كان اسم الرحالة هو الحسن بن محمد الوزان الزياتي. هناك معلومات قليلة متاحة عن سيرته الذاتية، ولكن يُعتَقَد أنه وُلِد في غرناطة وانتقل عندما كان شابًّا إلى فاس، حيث تلقَّى تعليمًا جيدًا. وفي وقتٍ ما بين عامي ١٥٠٦ و١٥١٠، في السابعة عشرة من عمره، قيل إنه رافق أحد أعمامه في مهمة دبلوماسية إلى السودان وزار تمبكتو. وبعد عقدٍ من الزمن، أُسِر على يد قراصنة مسيحيين أخذوه إلى روما، وهناك حرَّره البابا ليون العاشر وتحوَّل إلى المسيحية، متخذًا اسم يوهانيس ليون دي ميديشي، الذي أصبح فيما بعدُ ليون الأفريقي. استقرَّ ليون في إيطاليا وكتبَ عدة كتب، ولكن كتابه «وصف أفريقيا»، بسرده للحياة في السودان، هو الذي قوبل بأكبر قدْر من الحماس؛ إذ قيل إنه قد اكتشف عالمًا جديدًا على الأوروبيين، مثلما كان كولومبوس قد فعل باكتشاف أمريكا.
عندما يذهب الملك من مدينةٍ إلى أخرى مع حاشيته، يركب جملًا، وتُساق الخيل أمامه بأيدي السُّيَّاس. وإذا دعت الضرورة إلى القتال، يعقل السُّيَّاس الإبل، ويمتطي جميع الجنود الجياد. وعندما يريد أي شخص أن يخاطب الملك، يجثو بين يديه ويأخذ حفنة من التراب ويحثوها على رأسه وكتفيه.
في تمبكتو يوجد عدد كبير من القضاة، وعلماء الدين، والشيوخ، الذين يُدْفَع إليهم جميعًا راتبٌ حسنٌ من الملك، الذي يُجِلُّ كثيرًا المثقفين. وتُباع كتبٌ مخطوطةٌ كثيرةٌ آتية من بلاد البربر. وتُدِرُّ تلك المبيعات أرباحًا تفوق أيَّ بضائعَ أخرى.
تُرْجِم عمل ليون على نطاقٍ واسع. نُشِرَت نسخة باللغة الإنجليزية في عام ١٦٠٠ وأدَّت إلى موجةٍ من الاهتمام بأفريقيا: فقد كانت مصدرًا محتملًا لمسرحية شكسبير «عطيل»، وقد كان من شأن وصفها لثراء منطقة جنوب الصحراء الكبرى أن شجَّع المغامرين الإنجليز في ملاحقتهم للبرتغاليين أن يقطعوا شوطًا أطول على ساحل غينيا. في عام ١٦٢٠، وصلت حملة استكشافية بقيادة السيد الإنجليزي ريتشارد جوبسون إلى تيندا، على نهر جامبيا؛ وهناك أخبره تاجر أفريقي عن مدينةٍ أبعدَ في اتجاه منبع النهر تُسمى تُمبوكوندا، والتي يوجد فيها «منازل مكسوة بالذهب.» أُعيد نشر رواية جوبسون لحملته في عام ١٦٢٥ على يدِ جامع المقتطفات الأدبية صامويل بورتشاس، الذي حثَّ مواطنيه على استكشاف القارة الأفريقية. أورد بورتشاس: «إن أغنى مناجم الذهب في العالم موجودة في أفريقيا، ولا يسعني إلا أن أتعجب من أن كثيرين أرسلوا كثيرين، وأنفقوا الكثير في رحلاتٍ أبعدَ إلى الشرق والغرب وتجاهلوا أفريقيا في المنتصف.»
بحلول أواخر القرن الثامن عشر، كانت أسطورة تمبكتو الذهبية قد استقرت في المخيلة الأوروبية. وكانت هذه بمثابة المغناطيس الذي من شأنه أن يجتذب الأوروبيين إلى قلب غرب أفريقيا.
لم يهدر مجلس الرابطة الأفريقية وقتًا. بعد أربعة أيام من الاجتماع في حانة سانت ألبان، اجتمع أعضاؤه في منزل بانكس في ميدان سوهو ليناقشوا أمر إرسال أول مستكشف «بأقصى سرعة» بحثًا عن اكتشافات جديدة. وعلى حدِّ قول أحد رجال الدولة الأفارقة في القرن العشرين، فإنه لم يكن يهم كثيرًا أنه «لم يكن يوجد ما يُكتشَف؛ فقد كنَّا موجودين هنا طوال الوقت.»
•••
ما نوع الشخصية التي من شأنها أن تغادر من فورها إلى المجاهل الشاسعة لخرائط الرابطة الأفريقية؟ مَن كان شجاعًا، أو يائسًا، أو مغرورًا بما يكفي لأن يجازف بالاستكشاف، وأن يغامر بحياته — ولقد كان ما يغامر به دومًا هو «حياته هو» — في أرضٍ كانت ملامحها الرئيسية مجهولة، فضلًا عن طبيعة سكانها، ووحوشها، وطقسها وأمراضها؟ أيُّ مكافأة يمكن أن تغري رجلًا على أن يتجوَّل على غير هدًى وسط قبائل البليميين والتروجلودايت، دون أن يكون متسلحًا إلا بمسدس ومظلة وأشياء قليلة أخرى؟ إن أي رجل أوروبي جيد الاطلاع طُلِب منه في عام ١٧٨٨ أن يرتحل إلى المناطق الداخلية للقارة كان لا بد أن يعتبر الرحلة بمثابةِ حكمٍ بالإعدام، كما كان حالها وأن يبقى بالديار. ولكنَّ مستكشفي الرابطة الأفريقية لم يكونوا على اطِّلاعٍ جيد. وكان ذلك، من نواحٍ كثيرة، هو بيت القصيد.
لم تكن الحواجز الجغرافية مستعصية. نعم، كانت المسالك عبر الصحراء تعجُّ بالهياكل العظمية للدواب والعبيد على حدٍّ سواء، ولكن الصحراء الكبرى، التي كانت تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ محيطًا، كانت تتقاطع فيها طرق التجارة وكانت تجتازها القوافل طيلة قرون. في المناطق الاستوائية، كان يمكن للأمطار الغزيرة الجارفة أن تعوق حركة المستكشف، لكن لم تكن توجد سلاسلُ جبالٍ منيعة من قبيل تلك التي في آسيا، ولا غابات يستحيل اختراقها مثل تلك التي في حوض الأمازون. ويمكن للرحَّالة أن يتحرك من قريةٍ إلى أخرى عبر شبكة من الدروب والمسالك المعروفة.
الأمر الذي كان يمكن أن يكون أكثر خطورة هو الاستقبال الذي كان من المرجَّح أن يلاقيه المستكشف المسيحي. بعد قرون من الصراع الديني، عرف المسلمون في شمال أفريقيا أن الأوروبيين كانوا يريدون تجارتهم وأرضهم، بينما كان الرحَّالة غير المسلمين بمثابة هدية لرجال القبائل الصحراوية الذين كانوا يبحثون عن مصادرَ مشروعةٍ للسرقة. فحسبما أورد التاجر، الذي كان يتخذ من السنغال مستقرًّا، أنطوان برونو دي بومجورج في عام ١٧٨٩: «من المستحيل أن يكون المرء على معرفة بالمناطق الداخلية البعيدة للبلد، لأن … الرجل الأبيض الذي سيمتلك الشجاعة الكافية لأن يُقْدِم على رحلةٍ كهذه ستُقطَع رقبته قبل أن يصل إليها.»
أدَّى المرض إلى جعل غرب أفريقيا المكان الأكثر فتكًا في العالم بالأوروبيين. في أوائل القرن التاسع عشر كان يمكن توقُّع أن يلقى ما يقارب نصف أي سرية جنود متمركزة على الساحل الغربي الأفريقي، الذي أصبح معروفًا بأنه «مقبرة الرجل الأبيض»، حتفَهم في غضون عام. وكانت المناطق الداخلية تشتهر بأنها أكثر فتكًا: فكانت بعثات التجارة في المناطق الداخلية، التي كان من شأنها أن تعني موتًا شبه مؤكد للأوروبي، تُوكَل من الباطن لتجارٍ أفريقيي المولد.
كان يُتفاخَر في الإقليم بتلك البيئة الغنية بالطفيليات المخترقة للجلد، والفيروسات، والبكتريا، والحشرات التي ما كان بوسع أي مستكشف أن ينجوَ منها. اشتملت تلك الأشياء على دودة غينيا، التي كانت يرقاتها تدخل الجسم عن طريق مياه الشرب، ثم تنتقل إلى النسيج الذي يوجد تحت جلد الضحية، حيث كانت تنمو، على مدى عدة أشهر، حتى يصل طولها إلى ثلاثة أقدام. وإذا نجا العائل من هذا العذاب، كانت تظهر في أسفل الساق بعد عامٍ بثورٌ مليئةٌ بالصديد ومؤلمة بشدة، ثم تنفتق إذ تشق الديدان العملاقة طريقها خروجًا منها. في الوقت نفسه، كانت ذبابة التسي تسي الماصَّة للدماء تحمل داء النوم، الذي كانت أعراضه الأولية من حمى وفقدان للوزن تؤدي إلى حدوث تغيرات في الشخصية وحالة من النوم القهري مع انتقال المرض إلى المخ، ليُقتَل العائل بعد عدة أعوام فحسب. ويمكن لحالات العدوى المعوية مثل الدوسنتاريا الأميبية أن تكون مميتة أيضًا.
ومع ذلك فإن أخطر مرض بفارقٍ ما كان الملاريا. الشكل الأكثر شيوعًا من هذا الطفيل في غرب أفريقيا، المعروف باسم «المتصورة المنجلية»، هو أيضًا الأشد فتكًا: إنه ما زال يقتل مئات الآلاف من البشر سنويًّا. تترعرع البعوضة التي تحمله حول البشر، ويمكن ليرقاتها أن تنمو في بركةٍ صغيرة بصغر أثر قدم حيوان. وما إن تُحقَن كائنات الملاريا الدقيقة في الجسم، حتى تدخل في مجرى الدم وتُحْمَل إلى الكبد، حيث تنمو داخل الخلايا التي تنفجر بعد ثمانية إلى اثني عشر يومًا، لتنطلق عشرات الآلاف من الذرية، التي تبدأ بعد ذلك في اجتياح خلايا الدم الحمراء للعائل وتلتهمها من الداخل. وعندما تنهار كل خلية، تنتقل الطفيليات إلى خلايا أخرى، حتى يتعرض دم العائل للتكسُّر على نطاق هائل. يبدأ الضحايا في تقيؤ عصارة المرارة، ويكتسب جلدهم، وأظافرهم، وعيونهم لونًا أصفر. وأخيرًا، يتحول لون برازهم وبولهم إلى اللون الأسود، وحينئذٍ لا يكون الموت عنهم ببعيد.
في عام ١٧٨٨، لم تكن الملاريا ولا الناقل الحشري لها مفهومَين: كان المرض يُعزى إلى الهواء الفاسد، أو «الميازما». ومع أن لحاء شجرة الكينا كان علاجًا معروفًا، فلم يكن يُستخدم بطريقة فعَّالة ولم تُستخلص منه مادة الكينين حتى عام ١٨٢٠. كان سكان غرب أفريقيا يمتلكون على الأقل بعض المقاومة نتيجة لتعرضهم للمرض في الطفولة؛ أما الأوروبيون فلم يكن لديهم أي مقاومة له.
كحال مستكشفيهم، لم يكن أعضاء الرابطة الأفريقية الوليدة في لندن إلى حدٍّ كبير على درايةٍ بهذه الأخطار. كان مكوث جيمس بروس المؤقت في إثيوبيا قد أثبت أن الترحال إلى أفريقيا لم يكن من اللازم أن يكون مميتًا، بينما كان كوك وآخرون قد أظهروا أن العالم كان منفتحًا أمام النوع الصحيح من الاستكشاف الحَذِر: فلماذا يجب أن يكون الترحال في أفريقيا أصعبَ مِن، مثلًا، الإبحار في الحيد المرجاني العظيم؟ لِرجلٍ ذي شخصية من النوع الصحيح، وذي تكوين مناسب، وينعم بالإيمان والحظ الجيد، كان أيُّ شيء ممكنًا بالتأكيد.
لم يكن ينقصهم المتطوعون. ففي غضون أيام من اجتماعهم الأول، كان أعضاء مجلس الرابطة الأفريقية قد عثروا على متطوعَين اثنين مناسبَين للغاية.
كان سيمون لوكاس، ابن تاجر الخمور اللندني، قد أُرسِل إلى قادس وهو صبي ليتعلم مهنته، لكنه تعرَّض للأسر على يد عصابة من قراصنة البربر، تُسمَّى قراصنة سلا، والتي باعته عبدًا للبلاط الإمبراطوري للمغرب. وظل هناك مدة ثلاثة أعوام، وبعد إطلاق سراحه عاد ليعمل دبلوماسيًّا بريطانيًّا لمدة ستة عشر عامًا، قبل أن يعود أخيرًا في عام ١٧٨٥ إلى إنجلترا، حيث عُيِّن ترجمانًا شرقيًّا في بلاط سانت جيمس. وعرض خدماته على الرابطة الأفريقية بشرط أن يحصل له مجلس الرابطة على إجازة مدفوعة الأجر طوال مدة مهمته.
كان لوكاس مريضًا في يونيو من عام ١٧٨٨؛ لذا أصبحت الانطلاقة الأولى على عاتق متطوع الرابطة الثاني، الأمريكي جون ليديارد البالغ من العمر سبعة وثلاثين عامًا. كان ليديارد هو الآخر ذا مؤهلات عالية، وإن كان بطريقة مختلفة جدًّا. يبدو أن كلَّ مَن التقى بهذا الرجل ذي البنية الجسدية الرائعة كان ينبهر بنظرته الثابتة وطلعته البهية. كان، حسبما أورد بوفوي، «رجلًا غير عادي»، والذي «بدا أنه شعر منذ شبابه برغبةٍ لا تُقهَر في أن يَطَّلِع على المجهول، أو على أقاليم العالم غير المكتشفة على نحوٍ كامل.»
كان ليديارد قد نشأ في هارتفورد، بولاية كونيتيكت، وأظهر ولعًا مبكِّرًا بالمغامرة بالهروب من كلية دارتموث حديثة التأسيس والتجديف بزورق كانو طوله أربعين قدمًا مسافة ١٥٠ ميلًا في نهر كونيتيكت. بعد ذلك ترك دارتموث بلا رجعة، وانضم إلى تاجرٍ يتاجر عبر المحيط الأطلنطي الذي أخذه معه إلى أوروبا، حيث عَمِل بحَّارًا، في عام ١٧٧٥، من أجل أن يحظى بفرصةِ تقديم نفسه للقبطان كوك. أخذ كوك ليديارد معه في رحلته الثالثة والأخيرة، والتي أثناءها، حسبما يُزعَم أحيانًا، أصبح ليديارد أول حالة موثَّقة لأمريكي أوروبي يضع وشمًا. وبعد عودته، ترك البحرية الملكية لكيلا يقاتل بلده في صفوفها، واستقر ليكتب كتابًا يسرد فيه رحلة الإبحار حول العالم وأصبح هذا الكتاب من الكتب الأكثر مبيعًا.
أذهلني ما يتمتع به من رجولةٍ، وصدرٍ عريض، وطلعةٍ بهية، وعينين لا تهدآن. بسطتُ خريطة أفريقيا أمامه، وقلت له، وأنا أرسم خطًّا من القاهرة إلى سنار، ومن هناك غربًا في خط العرض والاتجاه المفترَض إلى نهر النيجر، أن ذلك هو الطريق، الذي كنت أتوق إلى أن تُستَكشَف أفريقيا عبره، إن أمكن ذلك. فقال إنه يعتبر نفسه محظوظًا على نحوٍ استثنائي أن تُعْهَد إليه هذه المغامرة.
ربما كان من شأن متعهد آخر للاستكشاف، في عصرٍ آخر، أن يسأل إن كان الرحَّالة، الذي كان قد عاد حالًا في أسمالٍ بالية من رحلةٍ دامت عامين، وقطع فيها ٧٠٠٠ ميل، مستعدًّا لمهمةٍ من شأنها، إن سار كل شيء على ما يُرام، أن تدوم ثلاثة أعوام أخرى. كان مطلوبًا من ليديارد أن يسافر من مرسيليا إلى القاهرة، ومكة، ثم إلى النوبة، وأن يعبر الصحراء بطولها، وأن يعثر على نهر النيجر، وأن يشق طريقه عائدًا. كان هذا يعني أن يقطع على الأقل ١٢٥٠٠ ميل، معظمها برًّا، عبرَ بعضٍ من أكثر المناطق عدائيةً على وجه الأرض. لكن بوفوي لم يساوره أي تردُّد. وسأل المرشح للقيام بالرحلة: متى سيكون بوسعه أن ينطلق في رحلته؟
أجاب ليديارد: «صباح الغد.»
في الواقع، منحته الرابطة عدةَ أيامٍ أخرى. وغادر لندن في الثلاثين من يونيو، من عام ١٧٨٨، قائلًا لبوفوي إنه «معتاد على الشدائد» والشرور التي «يصعب تحمُّلها»، لكنها لم تُعِقْهُ أبدًا عن تحقيق هدفه. وقال لبانكس: «إن كُتبَت لي الحياة، فسوف أؤدي، بإخلاص، وإلى أقصى حدٍّ ممكن، التزامي نحو الرابطة؛ وإن هلكت وأنا أحاول، فإن شرفي سوف يظل في مأمن؛ لأن الموت ينقض كل التعهدات.»
•••
وصف ريتشارد فرانسيس برتون، فيما كتب بعد ستين عامًا، لحظة الانطلاق في رحلة الاستكشاف الأفريقي بأنها واحدة من أسعد اللحظات في الحياة البشرية: «عندما يطرح الإنسان بجهد جهيد عن نفسه أغلال العادة، وأثقال الرتابة، وعباءة الاهتمامات الكثيرة واستعباد الوطن، يشعر مجددًا بالسعادة. يتدفق الدم بسرعة تدفقه في الطفولة.» بالمثل كان ليديارد منتشيًا بانطلاقته. فقد كتب لأمه يقول: «حقًّا إنه مكتوب أنه ما أبعد طرق الرب عن الاستقصاء وأحكامه عن الفحص.» وأضاف: «هل الرب عظيم هكذا؟ إنه أيضًا صالح. وأنا مثالٌ على هذا. لقد جعلت العالم يرتجف تحت قدمَيَّ، واستهزأت بالخوف، وسخرت من الخطر. وعبر ملايين من الهمج الشرسين، وفوق الصحارى القاحلة، والشمال القارس، والجليد الدائم، والبحار العاتية، مررت دون أن يصيبني أذًى. كم هو صالح إلهي! كم لديَّ من موضوعاتٍ ثرية للتمجيد والحب والتوقير!»
حلوة هي الأغنيات عن مصر على الورق … من ذا الذي لا يأسر لبَّه أشجار الصمغ، والبَلَسان، والبلح، والتين، والرمان، والجوز، والجميز، دون أن يتذكر أن وسط هذه الأشياء غبارًا، وقيظًا، ورياحًا خانقة، وبقًّا، وبعوضًا، وعناكبَ، وذبابًا، وجُذَامًا، وحمَّى، وعمًى يكاد يكون عامًّا؟
أمضى ثلاثة شهور في القاهرة، يُعِدُّ العُدَّة لتقمُّص دور مسافر مسلم يرتدي «اللباس التركي المعتاد» ومعرفة ما يستطيع عن الطريق الذي سيسلكه. تخلَّى عن خطته للذهاب إلى مكة وبدلًا من ذلك بدأ يستقصي الطريق غربًا عبر سِنَّار، وهي سلطنة في شمال دولة السودان المعاصرة. كان أكبر مصدر لمعلوماته هو سوق العبيد. كان عشرون ألف عبد سيُرسَلون إلى مصر في ذلك العام، حسبما قيل له، ومن هؤلاء الناس بدأ يحظى بفكرةٍ عن مدى رحلته والخطر الذي سيجابهه فيها. اكتشف أن «قافلةً تمضي من هنا [القاهرة] إلى فزان، وهي ما يقولون إنها رحلةٌ تستغرق خمسين يومًا؛ ومن فزان إلى تمبكتو، وهي ما يقولون إنها رحلةٌ تستغرق تسعين يومًا. تسافر القوافل حوالي عشرين ميلًا في اليوم، وهو ما يجعل المسافة على الطريق من هنا إلى فزان ألف ميل؛ ومن فزان إلى تمبكتو ألفًا وثمانمائة ميل. معروف أن المسافة من هنا إلى سنار ستمائة ميل.» إن كان سيظل بعافيته ولن يتعرض لأذًى وسيسافر دون توقُّف — وهي ثلاثة افتراضات هائلة — ستستغرق رحلته على الأقل ستة شهور حتى يصل إلى تمبكتو.
أمضيت وقتي هنا على نحوٍ غيرِ مقبول … أؤكد لك أنه حتى فضولك وحبك للعصور القديمة لن يبقيك في مصر ثلاثة شهور … من القاهرة سأسافر في اتجاه الجنوب الغربي، حوالي ثلاثمائة فرسخ، إلى ملكٍ أسود. بعد ذلك سيتركني المرشدون الحاليون لمصيري. فيما وراء ذلك، أظن أنني سأمضي وحدي … لن أنساك؛ بالتأكيد، سوف تكون تعزية لي أن أفكِّر فيك في لحظاتي الأخيرة. كن سعيدًا.
لم يصل ليديارد أبدًا إلى الملك الأسود. كان لا يزال في القاهرة عندما أصابته «علة صفراء»، ربما كانت تقلُّصات في المعدة ناتجة عن الدوسنتاريا أو تسمم غذائي، في وقتٍ لاحق في ذلك الشهر. لم يؤدِّ المرض إلى موته، ولكن العلاج الذي تلقَّاه فعل: أخذ العلاج التقليدي الذي كان عبارة عن حمض الكبريتيك، لكنه استهلك منه قدْرًا كبيرًا لدرجة أنه أدَّى إلى «آلام حرقة شديدة» كانت منذرة بأن تكون قاتلة. حاول أن يعالج هذه الأعراض بالطرطرات المقيء، وهو ملح بوتاسيوم كان الغرض منه أن يسبب التقيؤ، لكنه بدلًا من ذلك جعل حالته أسوأ. سجَّل كاتب سيرته جاريد سباركس: «كل شيء كان بلا طائل.» وأضاف: «استُدعي أمهر طبيب في القاهرة لنجدته ولكن دون جدوى.» وبعد ثلاثة أيام، توفي ليديارد.
أعقب ذلك مراسلات بين بانكس، وبوفوي، وجيفرسون، وأحد معارف بانكس، وهو توماس بين. أخبر رجال الرابطة الأفريقية توماس بين بأن القافلة التي انتوى ليديارد السفر معها كانت قد تعرَّضت للتأخير باستمرار، وفي النهاية دُفِع ليديارد إلى الدخول «في حالة من الغضب العنيف مع مرشديه مما أدَّى إلى حدوث اختلال في شيء ما في جسمه.» وبعد أعوام عدة، ذكر بانكس متأملًا أنهم كانوا غير محظوظين في هذه المهمة الأولى، «إذ إنها فشلت بوفاة رحالتنا ليديارد، الذي بدا أن صحته لدى مغادرته إنجلترا كانت واعدة بحياة مديدة، وأن من شأن قوة جسده أن تتغلب على عناء الترحال … فقد سبق أن اختُبِرَت على أتم وجه.»
في رثاء له، ذكر بوفوي أن ليديارد كان «مغامرًا على نحوٍ يفوق مفهوم الرجال العاديين، ومع ذلك كان حريصًا ومتأنيَّ التفكير، ومنتبهًا إلى جميع الاحتياطات.» كتب بوفوي أنه بدا «وكأن الطبيعة قد شكَّلته لتحقيق إنجازات جريئة وخطرة.» ومع ذلك، كان مستحيلًا إخفاء الحقيقة؛ فلقد مات بالمصادفة أول رحَّالة للرابطة الأفريقية، بألم شديد، دون أن يصل إلى أبعدَ من القاهرة.