فارس بلا رأس
عاد حيدرة إلى باماكو في بداية شهر مايو ليجد العاصمة في حالةٍ من الفوضى. تنحَّى الضابط الذي كان قد قاد الانقلاب في العاصمة، النقيب أمادو «بولي» سانوجو، بعدما واجه عقوبات اقتصادية قاسية فرضتها دول غرب أفريقيا المجاورة، وتألفت الحكومة في ذلك الوقت من تحالفٍ غير مستقر بين مؤيديه ورئيس مدني مؤقت. في غضون شهر كانت البلاد قد فقدت قائدها المنتخب ونصف أراضيها، وقُطِعَت المساعدات الأجنبية التي كانت تعتمد عليها، وسُحِب الدبلوماسيون وأُغلِقَت السفارات أو تُرِكَت بموظفين أساسيين. وعلى حد تعبير منظمة العفو الدولية، كانت مالي في خضم «كارثة دولية كبرى.»
في الرابع والعشرين من أبريل كان مدير جديد قد تولَّى رئاسة معهد أحمد بابا. كان عبد القادر إدريسا معيجا رجلًا عنيدًا قوي البنية، ولم يكن من الممكن أن يبدأ وظيفته الجديدة في وقتٍ أسوأ من ذلك. كان سلفه قد سلَّمه وثيقةً مثنيةَ الحافة في حافظة بلاستيكية فيها قائمة بأصول المؤسسة، ولكن الله وحده كان يعلم كم بقي منها. كان مقر عمله في تمبكتو يُستخدَم ثكنةً للجهاديين، وكان موظفوه قد لاذوا بالفرار، ولم يكن معه أي أموال، حيث كان أحد القرارات الموضوعية القليلة للحكومة منذ الانقلاب هو إيقاف الإنفاق بالكامل على الشمال. كان يوجد أيضًا تهديد فعلي للمخطوطات التي كانت مهمته حمايتها. إذن ماذا كان بوسعه أن يفعل؟
بدأ بتجميع مبلغ أربعمائة دولار شهريًّا بصعوبة لاستئجار غرفتين فوق متجر سمك ودجاج تتفشى فيه الجرذان في ضاحية كالابان كورا في جنوب باماكو. من هناك، سيحاول أن يتوصل إلى كيفية دفع مرتبات موظفيه، وكيفية البقاء على اتصال مع القليلين الذين بقوا في تمبكتو. كان على اتصال دوري بعبد القادر حيدرة في الفترة التي سبقت بدء وظيفته الجديدة — في الواقع، كان حيدرة هو الذي أخبره بأن المنصب سيُعرَض عليه — وحينئذٍ اقترح التمبكتي أن يعقدا اجتماعًا.
سأله معيجا: «مع مَن؟»
«مع إسماعيل ديادي حيدرة. سأتصل به.»
وحيث إن معيجا كان الوحيد الذي لديه مكتب في باماكو، اتفق الرجال الثلاثة على أن يتقابلوا هناك. وبعد وقتٍ قصير كان المسئولون عن أشهر مجموعات مخطوطات في تمبكتو، الذين كان بوسعهم أن يزعموا فيما بينهم أنهم يتحكمون في حوالي ٩٠ ألف وثيقة من وثائق المدينة، يلتقون بصفةٍ شبه يومية. تذكر عبد القادر حيدرة قائلًا: «اجتمعنا، وتكلمنا عن المخطوطات، وتحدثنا عما كان يتعين علينا فعله للحصول على مساعدة.»
في هذه الاجتماعات كان رجال المكتبات يتشاركون أي معلومات كان بوسعهم أن يستقوها من الأشخاص الذين كانوا على اتصال بهم في الشمال. اعتقدوا أن الخطر الأعظم على المخطوطات في هذه المرحلة كان من العصابات ولصوص الحركة الوطنية لتحرير أزواد.
طيلة شهر، كانت منظمة اليونسكو تُصدِر تصريحات دورية عن التهديد الذي كان يشكله المتمردون على تراث تمبكتو. في منتصف شهر أبريل كانت المنظمة قد حذَّرت من أن انتقال الجهاديين إلى مبنى أحمد بابا الجديد كان سببًا ﻟ «انزعاج شديد»؛ لأنه كان يحتوي على وثائقَ يرجع تاريخها إلى حقبة تمبكتو المجيدة بين القرنين الثاني عشر والخامس عشر؛ قالت المديرة العامة للمنظمة إيرينا بوكوفا: «لا بد من الحفاظ على هذا التراث.» ثم أضافت: «لقد احتشد مواطنو تمبكتو من أجل حماية هذه الوثائق القديمة، وأنا أحيي شجاعتهم وتفانيهم. ولكنهم يحتاجون إلى مساعدتنا.» وناشدت أن تُتَّخذ إجراءات متضافرة من الفصائل المالية المتناحرة، وحكومات الدول المجاورة، والإنتربول، ومنظمات الجمارك، وسوق الأعمال الفنية، وجامعي التحف الفنية للحيلولة دون خسارة هذه الكنوز، التي مثَّلت أهمية كبيرة للبشرية جمعاء.
بينما أعربت منظمة اليونسكو عن قلقها، كانت غرائز رجال المكتبات تقول إن عليهم أن يفعلوا العكس، وكان القرار الأول الذي اتخذوه أن يحاولوا إبقاء المخطوطات بعيدًا عن نظر الرأي العام. سنحت لحيدرة فرصة أن يحاول إسكات المنظمة التابعة للأمم المتحدة في الثامن عشر من مايو، عندما حطَّ وفد للطوارئ في باماكو من أجل أول اجتماع كبير مع الحكومة المالية منذ بداية الأزمة. دُعي حيدرة إلى مؤتمرٍ في وزارة الثقافة مع المسئولين الذين عملوا على التراث المالي، وذهب ومعه أجندته الخاصة. عندما طُلِب منه أن يقدِّم تقريرًا عن حالة المخطوطات، قال للسياسيين، والمسئولين، والصحفيين الذين كانوا حاضرين إنه على الرغم من أنه كان قد عاد حالًا من تمبكتو فإنه لم يكن بوسعه أن يقول أي شيء عن مجموعات المخطوطات. سُئل عن السبب في ذلك. أجاب قائلًا إن السبب هو أن المخطوطات كانت الأشياء الأكثر هشاشة في التراث الثقافي للمدينة، وإنه يجب ألا تُذْكَر في الإذاعة أو التليفزيون. ناقش المسئولون المسألة باقتضاب، ثم وقفت وزيرة الثقافة، ديالو فاديما توريه وطلبت من الصحفيين ألا ينشروا أو يبثوا أي شيء قيل عن المخطوطات. وقالت: «يجب أن تُغْفِلوا كل شيء تسمعونه.»
مضى حيدرة، راضيًا، يشرح ما تمَّ حتى ذلك الحين، وأخبرهم أن كثيرًا من المجموعات قد نُقِلَت إلى بيوت الناس، حيث كانت آمنةً بما يكفي في الوقت الراهن. كانت المساعدة الوحيدة التي احتاج إليها حقًّا في هذه المرحلة هي ألا تُذكَر المخطوطات في وسائل الإعلام. وقال: «هذا كل شيء.» كانت رسالة رجال المكتبات قد وصلت إلى الصحافة وإلى أكبر كيان مدافع عن التراث العالمي، وستُنقَل إلى الآخرين. قال إسماعيل: «في اجتماعاتنا الكثيرة ناقشنا بالتفصيل استراتيجيات الاتصال هذه.» ثم أضاف: «طلبنا من هيئاتٍ معينة ألا تتحدث كثيرًا بشأن المخطوطات في الصحف أو في التليفزيون أو الإذاعة.»
بعد أن أصبح التعتيم الإعلامي قائمًا، انتقل رجال المكتبات لمناقشة أمور مهمة أخرى. كان يوجد أملٌ ضئيل في أن الموقف سيتحسن؛ وفي الواقع، تعيَّن عليهم أن يفترضوا أنه سيسوء. ماذا سيفعلون إذن؟ كان معيجا يتساءل عن كيفية إيصال مخطوطات المعهد إلى بر الأمان منذ أن تولَّى منصبه الجديد، والآن ناقش الرجال الثلاثة الفكرة صراحةً.
لم يعتقد حيدرة في البداية أن إجلاء المخطوطات كان هو السبيل الصحيح. كان شحن عشرات الآلاف من الوثائق الهشة إلى خارج تمبكتو تحت أنظار المحتلين وعبر الصحراء الخطرة أمرًا يحمل مخاطرَ كبيرة، ليس فقط على الوثائق. كان عدد حالات الضرب والتشويه في الشمال يتزايد يوميًّا، وكذلك حالات الاغتصاب والقتل التي كان يرتكبها مسلحون من مجموعاتٍ مختلفة؛ فبنهاية شهر أبريل كانت إقامة شريعة أنصار الدين قد أدَّت إلى حالات إعدام بإجراءات موجزة، وعقوبات جلد، وبتر للأعضاء، بل قطع أذن امرأة لارتدائها تنورة قصيرة. ماذا كان سيفعل هؤلاء الناس إذن في شخصٍ قُبِض عليه وهو ينقل المخطوطات؟ ثم كانت توجد مسألة المال: كانت تذكرة الذهاب بوسائل النقل العام من وإلى باماكو تتكلف ٢٥ ألف فرنك غرب أفريقي، أو ما يوازي حوالي أربعين دولارًا. أخذًا في الاعتبار عدد الشحنات، والمبالغ الإضافية التي سيلزم إنفاقها على القائمين على النقل والرشاوى الضرورية للشرطة ورجال الجمارك، كان من شأن الإجلاء الكامل للمخطوطات أن يكون باهظ الثمن.
تذكر حيدرة قائلًا: «قلنا إننا يجب أن ننتظر.» ثم أضاف: «لم نكن نظن أن إجلاء المخطوطات كان فكرة جيدة في ذلك الوقت. كان ثمَّة الكثير من التوتر، وإن بدأنا، لم نكن نظن أن الأمر سينجح. قلنا إنه كان من الضروري أن نترك الأشياء على ما هي عليه في الوقت الحالي، لبعض الوقت.»
ومع ذلك، بدءوا بالفعل في الأعمال التحضيرية.
كانت توجد شخصية رابعة في باماكو كانت تلتقي بين آنٍ وآخر مع حيدرة، وهي امرأة أمريكية تُدعى ستيفاني دياكيتي. كانت دياكيتي محامية، حسبما قالت لاحقًا، وخبيرة مدربة في حفظ الكتب، وكانت تدير منظمة استشارات تنموية باسم «دي إنترناشيونال». كانت في الخمسينيات من عمرها، وذات شعر أشقر رمادي، ومفعمة بالنشاط، وكانت دولية حقًّا. كانت تمتلك منازلَ في سياتل وباماكو، وعلى الرغم من أن مهارتها اللغوية كانت تعني أنها كان بوسعها أن تسب بعنف باللغتين البامبارية والإنجليزية، كانت بارعةً جدًّا في النقاش المتعلق بالاستشارات، الذي يمكن أن تخرج منها فيه عباراتٌ مثل «التدوير في استخدام أجهزة الاتصال والبرامج» و«تيسير الاستثمار» دون أي صعوبة. كانت هي وحيدرة قد التقيا لأول مرة في أواخر تسعينيات القرن الماضي، عندما كانت تسافر في أرجاء منطقة تمبكتو تُقَيِّم مشروعًا لتعليم الفتيات، ونشأت بينهما صداقة دائمة، ولكن صاخبة، بسبب المخطوطات. (كان أزواجهما — فقد كان له زوجتان؛ وكان لها زوج مالي الجنسية — يحبون أن يطلقوا عليهما «الثنائي الرهيب»، حسبما قالت لاحقًا.) كان هو المالك لمجموعة مخطوطات مهمة، بينما كانت تمتلك هي صلات بعالم التنمية الدولية، وكانت جيدة في عملية بدء المؤسسات. كانا قد حوَّلا «سافاما»، المنظمة غير الحكومية التي أنشأها حيدرة لحماية مستقبل تراث المدينة المكتوب، إلى مؤسسة يمكن للجهات المانحة الدولية أن تعمل معها.
صاغت دياكيتي نداءً وأرسلته إلى كل المؤسسات الثقافية الكبرى التي لديها في سجل جهات الاتصال، بينما قام رجال المكتبات بجولة في السفارات لمحاولة الحصول على دعم مالي. في مرحلةٍ ما، كان حيدرة مقتنعًا بأنهم يحظون بمساندة جنوب أفريقيا؛ وقيل له إنهم لم يكن عليهم سوى أن يُعِدُّوا خطابًا يطلبون فيه المساعدة ويوقعونه بالاشتراك مع رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في مالي. تذكر حيدرة قائلًا: «في الخطاب، طلبنا من إخوتنا المسلمين في جنوب أفريقيا أن يهبوا إلى عوننا، أو أن يأتوا معنا إلى تمبكتو لنرى كيف سنضطلع بالأمور.» أرسلوا الخطاب، وكل يوم كانوا ينتظرون أخبارًا سارة، ولكن لم يأتهم رد أبدًا، وتدريجيًّا أدركوا أن المساندة الجنوب أفريقية لن تتجسد على أرض الواقع. قال حيدرة: «كنا محبطين جدًّا.» ثم أضاف: «كان الأمل الوحيد الذي لدينا، وكان قد ضاع.»
استمروا في الاتصال بآخرين — سفارات، ومؤسسات، ومنظمات غير حكومية — لكن لم يرغب أحد في أن يضطلع بهذه المهمة الجريئة والمحفوفة بمخاطرة سياسية. تذكَّر معيجا: «قالت منظمة اليونسكو إن التهريب لم يكن يتلاءم مع نطاق صلاحيتها.» ثم أردف: «قالوا إنهم لن يدخلوا في تلك اللعبة.»
•••
في الشمال، كان الجهاديون يعزِّزون من إحكام قبضتهم على تمبكتو. وفي الأسبوع الأخير من أبريل، شاهد المرشد السياحي العاطل عن العمل باستوس موجة نشاط في بنك التضامن المالي (بي إم إس) الخاوي على الناحية الأخرى من الشارع قبالة منزله. من موقع المراقبة الممتاز من حديقة سطح منزله، رأى مجموعة من الجهاديين تصل في شاحنة مكدسة بمراتبَ وأغطيةِ أسِرَّة كانوا قد أخذوها من فندق لا بالميراي الفاخر، الذي كان فيما مضى مكانًا مفضلًا لنجوم الغناء الشعبي الذين كانوا يأتون أحيانًا إلى تمبكتو. دخلوا البنك المنهوب، وتفقدوا المكان، ونظفوه، وانتقلوا إليه بكلِّ ما كان معهم من أثاث.
أمضى باستوس، الذي لم يكن لديه في الوقت الحاضر ما يفعله سوى الاعتناء بحديقته المشرفة على النهر، معظم العام التالي يشاهد الأنشطة اليومية لجيرانه في المبنى المقابل عبر الشارع. كان معظم مَن يعيشون فيه من جنود المشاة، ورجال الشرطة، وموظفي الجمارك، والحرَّاس. اختار القادة الإقامة في مكانٍ آخر، لكنهم تعاملوا مع مبنى بنك التضامن المالي باعتباره مكتبًا. كان أبو زيد، «الزعيم الكبير»، يصل كل صباح في الساعة الثامنة، ومعه بندقيته الكلاشينكوف معلَّقة على كتفه وهاتف أقمار صناعية في جيبه، في سيارةٍ يقودها شاب قيل لباستوس إنه ابنه. لم يرتدِ أبو زيد سوى ثلاثة أطقم من الملابس أثناء مدة الاحتلال كلها، حسبما قال باستوس، ولكنه كان يحمل مبالغَ ماليةً ضخمة: «رأيت الطريقة التي كان ينفق بها المال. كان المال لديهم بلا قيمة.» كان يوجد مقصف في مبنى بنك التضامن المالي، وكل صباح كان أبو زيد يتحدَّث مع الطاهي حول قائمة الطعام قبل أن يعطي ملاحظاتٍ كانت كافية له ليشتري ما احتاجه من السوق. مما أثار حفيظة باستوس أن الطاهي كان كثيرًا ما يأتي إليه ويأخذ توابل وأوانيَ من مطبخه. لم يكن بوسع باستوس أن يرفض؛ إذ قال: «فهمت عقليتهم.» ثم أضاف: «إن رفضتَ، سيظنون أنك ضدهم، وستصبح عدوهم. لذا من الأفضل ألا تقول شيئًا.»
كل يوم كان باستوس يراقب أبو زيد يغادر مبنى بنك التضامن المالي في حوالي الثالثة بعد الظهر، وكل مساء كان يشاهد المزيد من صغار المقاتلين يسيرون عبر السقف إلى مبنى مبيت ملاصق. أصبح بإمكانه أن يتعرف على هؤلاء الرجال جيدًا، وعرف من لهجاتهم أنهم أتوا من كل أنحاء العالم الإسلامي. بعدما كان نبأ احتلال تمبكتو قد انتشر، كان الجهاديون من كل الجنسيات قد أتوا إلى المدينة. كان كثيرون منهم جزائريين، ولكن كان يوجد أيضًا باكستانيون، وصوماليون، ومغاربة، وتونسيون، بل إنه كان يوجد رجل فرنسي، هو جيل لو جوين. كان لو جوين قد أمضى ثلاثين عامًا في الأسطول التجاري قبل أن ينتقل إلى الصحراء، معتنقًا الإسلام، ومتسمِّيًا بالاسم الجهادي الحركي عبد الجليل.
كان يوجد ماليون وسط الجهاديين أيضًا، وكان كثيرون منهم قد تحوَّلوا إلى جهاديين على يد الدعاة المتطرفين الذين كانوا يأتون إلى تمبكتو طيلة عقود. وبحسب محمد «حامو» ديديو، وهو باحث تمبكتي معاصر، كان الدعاة قد وصلوا في قوافل يبلغ عددها أربعين، وأقاموا في مساجدِ المدينة. في البداية كانوا موضع ترحيب. بل إن الناس كانوا يستمعون إلى فلسفتهم وينخرطون معهم في نقاشات دينية. كانوا يُدعَون الوهابيين، نسبةً إلى رجل الدين المتشدد من القرن الثامن عشر محمد بن عبد الوهاب؛ أو السلفيين، نسبةً إلى السلف، وهم الأجيال الثلاثة الأولى من المسلمين، الذين قال عنهم النبي: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.» اعتقد الوهابيون السلفيون أن الإيمان النقي للأيام الأولى للإسلام قد لوَّثته البدع الدينية والتأثيرات الأجنبية، وأنه كان يتعين التخلُّص منها حتى يعود المسلمون إلى حالتهم الأولى المباركة. ولكن بمرور الوقت، سئم التمبكتيون بقدر كبير من الانتقاد والتعالي، وزادت شكوكهم في وسائل هؤلاء الدعاة. تساءلوا: مَن الذي كان يموِّلهم؟ ومَن الذي يمكن أن يتحمل أن يقضي ثلاثة شهور بعيدًا عن زوجته وعائلته، يعظ في أفريقيا؟ وعندما بدءُوا يتكلمون في المساجد، كانت جماعات الناس تقوم واقفةً وتنصرف. لكن الزوار لم ييأسوا.
كان بعض السلفيين من المحليين. كان حماها ذو اللحية الحمراء من هؤلاء لكن الأكثر تطرُّفًا كان حامد موسى. كان موسى قد وُلِد في عائلة من الطوارق على مسافةٍ ليست ببعيدة من المدينة وعاش بعض الوقت في المملكة العربية السعودية قبل أن يعود إلى تمبكتو، عازمًا على تحويل المدينة إلى طريقته في التفكير. كان غير محبوب على الإطلاق — فحسبما تذكر أحد جيرانه: «كان روحًا مظلمة»؛ كان شخصًا عنصريًّا يعتقد أن السود ينبغي أن يكونوا عبيدًا وكان يهوى إذلالهم — ولكن كان بإمكانه الحصول على مبالغَ ماليةٍ كبيرة من أجل مشروعه الراديكالي، وعندما لم تَعُد مواعظه موضعَ ترحيب في مساجد المدينة، بنى مسجدًا خاصًّا به. أصبح مسجد موسى ملاذًا للراديكاليين والوعاظ الأجانب، وقرَّر المصلون العاديون الذين كانوا يعيشون في الجوار أنهم سيكونون أكثر أمنًا بتأديتهم للصلاة في البيت. ومن أجل أن يجتذبهم للعودة أعطاهم موسى وأصدقاؤه طعامًا ومالًا بشرط أن يأتوا للاستماع، ودُعي الأتباع الأكثر حرصًا إلى حضور معسكرات تطرُّف مدتها أسبوع في الأدغال.
كان آغ الحسيني هوكا، المعروف باسم «هوكا هوكا»، واحدًا من التمبكتيين الذين أصبحوا متطرفين بهذه الطريقة. كان رجلًا ذكيًّا، ومعلمًا في المدرسة الفرنسية العربية، وكان مَن رسَّخ إيمانه هو أخوه الكبير محمد عيسى، الذي كان ذا شخصية جادة وعلى معرفة عميقة بالقرآن. عندما كان وعَّاظ السلفيين يتكلمون، كان عيسى يقول لهوكا وللشباب أن يأخذوا حذرهم. كان يقول: «إنهم يحاولون خداعكم.» لكن عيسى مات في سن مبكرة، وبعد موته، وقع هوكا تحت تأثير موسى. وبدأ يحضر المعسكرات في الأدغال، وسرعان ما أصبح يعظ الناس في مسجد موسى. كان أحمد الفقي المهدي رجلًا محليًّا آخر أصبح من المتحولين إلى السلفية. ولاحقًا صار المهدي أول رجل تحكم عليه المحكمة الجنائية الدولية بتهمة التدمير الثقافي.
- حد السرقة: قطع اليد.
- حد الزنا: الرجم حتى الموت أو مائة جلدة.
- حد قذف المحصنات: ثمانين جلدة.
- حد شرب الخمر: ثمانين جلدة.
- حد الردة: القتل أو النفي.
- حد قطع الطريق: القتل.
بعد أيام عدة من وصول الجهاديين إلى البنك المقابل لمنزل باستوس، رأى أنهم قد وضعوا لوحة مكتوبًا عليها باللغة العربية «الشرطة الإسلامية». انتقلتْ إلى المبنى مجموعةٌ من الرجال المسلحين الذين كانوا يرتدون طبارد زرقاء مزينة بشارة عبارة عن بندقيتي كلاشينكوف متقاطعتين وبدءُوا دورياتٍ في أنحاء المدينة، مع أنهم كانوا حريصين في البداية على ألا يطبقوا القوانين الجديدة بصرامة مفرطة.
تذكَّر باستوس قائلًا: «كانوا ماكرين للغاية.»
•••
وخلال أبريل ودخولًا في مايو كان سكان تمبكتو بين شقَّي رحى المجموعتين المتمردتين المتناحرتين. كانت الحركة الوطنية لتحرير أزواد لا تزال تحتل الأطراف الجنوبية للمدينة، وكلما أرادوا إنجازَ شيءٍ ما، كانوا يذهبون إلى القادة المدنيين للمدينة، بينما كان الجهاديون يذهبون إلى المسئولين الدينيين في المجلس الإسلامي الأعلى، بقيادة الإمام الأكبر، عبد الرحمن بن السيوطي. لذلك كانت إدارة المدينة في حالةٍ من الفوضى وكان أهلها مشتَّتين. أحيانًا كانت القرارات تُتَّخَذ مرتين أو لا تُتَّخَذ على الإطلاق، وعندما كان يُقبَض على الناس في ظل القوانين الجديدة، لم يكن أحد يعرف إلى مَن يذهب ليدافع عن نفسه. مَن الذي من شأنه أن يتولَّى إدارة شحنات المساعدات الخيرية المرسلة إلى تمبكتو من الجنوب؟ مَن الذي من شأنه أن يتولى تنظيم ري الحقول، إذ كان موسم المطر يقترب؟
فعل كبراء تمبكتو — المدينة الديمقراطية إن كانت توجد مدينة هكذا — ما كانوا يفعلونه دومًا في أوقات الاضطراب؛ عقدوا اجتماعًا. أسفر الاجتماع عن تشكيل هيئة مدنية جديدة، هي لجنة الأزمة، التي تألفت من قادة أحياء تمبكتو الثمانية عشرة، واتخذوا من رئيس البلدية سيسيه رئيسًا لهم ونائب رئيس البلدية السابق ديادي نائبًا للرئيس. تقرَّر أن تجتمع لجنة الأزمة في مكتب رئيس البلدية مرتين أسبوعيًّا، وكإجراء احترازي حدَّد الكبراء غرضهم كتابةً وأرسلوه إلى الجهاديين للتصديق عليه.
بينما كانوا ينتظرون ردًّا، قرَّر الكبراء أن يناقشوا القضية الأكثر إلحاحًا، وهي قضية تنظيم ري الحقول. بثوا رسالةً على محطة الإذاعة المحلية يطلبون حضور كل المزارعين الذين عملوا في المناطق الزراعية الرئيسية إلى مبنى البلدية في صباح اليوم التالي. في الساعة التاسعة صباحًا، في اليوم التالي، بينما كان الناس يبدءُون في التجمُّع، توقَّفت سيارتان تابعتان للشرطة الإسلامية أمام المبنى وأمرت الناس بأن يتفرقوا. قرَّر أربعة أعضاء في لجنة الأزمة، وفي ذلك ديادي، أن يبقوا في ساحة المبنى، وبعد ثلاثين دقيقة عاد الجهاديون. لَقَّموا أسلحتهم وجهزوها للإطلاق ونزلوا من شاحنتيهم.
«ألم تسمعونا نقول إنه يتعين على الجميع أن يغادروا؟»
قال ديادي: «بلى.» ثم أردف: «لقد قلتم للناس أن يغادروا. ولقد غادروا.»
«وماذا تفعلون أنتم هنا؟»
قال ديادي: «نحن المسئولون.» ثم أضاف: «قلنا للناس أن يأتوا. والآن يتعيَّن علينا أن ننتظر لنخبر الناس الذين يأتون عن السبب في أنه لا يوجد أحدٌ هنا وسبب عدم وجود اجتماع. عندما ننتهي من إخبارهم سنذهب، ولكن لا يمكننا أن نذهب قبل ذلك. نحن ممثلو الناس.»
بعد أربعة أيام، تلقَّى ديادي مذكرة استدعاء للجنة الأزمة للمثول أمام الجهاديين. ذهبوا إلى مركز الشرطة، ومن هناك اقتيدوا بسيارة إلى مكتب السجل العقاري السابق، حيث كان أبو زيد يقيم في ذلك الوقت، وأُرشِدوا إلى منطقةِ إقامةٍ رحبةٍ جُهِّزَت بالسجاد والفُرُش للضيوف. وهناك وجدوا القيادة العليا للجهاديين بكامل هيئتها؛ آغ غالي ذو الوجه الطفولي، وأبو زيد الضئيل الحجم، وسندة ولد بوعمامة الناطق الرسمي الوسيم اللطيف، ومجموعة من ضباط آخرين من جنسيات مختلفة، بجوار كل واحد منهم بندقية كلاشينكوف. أثناء احتساء الشاي أوضح محتلو المدينة أنهم كانوا قد أجروا تحرياتٍ، وأنه يسعدهم قبول أن لجنة الأزمة كانت بالفعل تمثِّل أهل تمبكتو. كرَّروا شعار أنهم كانوا قد جاءوا ببساطة من أجل أن يكفلوا أن تعيش المدينة المقدسة تبعًا للتعاليم التي أوحى بها الله. وقالوا إنهم قريبًا سيعقدون في جاو مؤتمرًا سيُعلَن فيه عن إقامة جمهورية أزواد الإسلامية، ومن تلك اللحظة يجب أن يُفهَم أنه لم تكن توجد دولة في شمال مالي — لا حاكم مقاطعة، ولا محافظ معيَّن من قِبَل باماكو، ولا رئيس بلدية ولا دستور مالي — لا وجود إلا للشريعة. ينبغي أن تفهم اللجنة أهدافهم وتساعدهم في إرشاد المدينة إلى الطريق القويم، ولن ينفعهم أن يعبسوا أو يتشاجروا؛ لأن الله قد وهبهم وسيلةً لجعل الناس يفعلون ما يشاءُون. ومع ذلك كانوا يفضِّلون الإقناعَ على الإجبار، ولهذا السبب دُعي الكبراء اليوم.
تذكر ديادي: «من ذلك الوقت فصاعدًا كان يتعيَّن أن نعمل معًا.» ثم أردف: «وإذا شعرنا أن أمورًا لم تكن مناسبة، فعلينا أن نخبرهم، والعكس صحيح. كان التعاون قد بدأ بشكلٍ أو بآخر.»
ومع ذلك، كانت توجد بعض الموضوعات التي لن تتمكن اللجنة والجهاديون من مناقشتها. من هذه الموضوعات كان موضوع المخطوطات؛ إذ يتذكر رئيس البلدية سيسيه: «كان موضوعًا خطيرًا للغاية.» ثم أضاف: «كانت تلك مشكلة مخفاة.»
الموضوع الآخر كان مصير آثار التراث العالمي بالمدينة. كان الجهاديون يعتبرون ذلك أمرًا غير قابل للتفاوض.
•••
ذات مرة وصف أمادو همباطي با إمبراطورية أحمد لوبو المسلمة بأنها قامت على «أساس قديم من الأديان المحلية.» بحسب همباطي با، أنشأ هذا إطارًا اجتماعيًّا يمكن أن تعيش فيه الشعوب المختلفة جنبًا إلى جنب مع الحرص على الحفاظ على أعراقها وخصائصها المختلفة. في بداية القرن الحادي والعشرين، كان هذا الخليط من المعتقدات لا يزال موجودًا على ضفاف نهر النيجر. كانت مالي دولةً مليئةً بالمساجد، حيث كانت حياة الناس محكومةً بالأساس بمبادئ المذهب المالكي السُّني، ولكن كانت أيضًا دولةً كان فيها المرابطون يصنعون تمائم «جو جو» و«جريس جريس» لسائقي الشاحنات وربابنة القوارب لدرء الشر، والصحفيون يطلبون تعاويذَ لمساعدة ضيوفهم على أن يُفضوا بما لديهم. بعض هذه الممارسات كان دليلًا على وجود «الأساس القديم»؛ وبعض الممارسات الأخرى كان مظاهرَ للروحانية الصوفية التي كان لها منذ وقت طويل دور في الإسلام الأفريقي.
يعتقد الصوفيون، بوجه عام، أن الأحياء يمكن أن يصلوا إلى الاستنارة من خلال التكريس الداخلي لأنفسهم لله. ينشئ كبار قادة الصوفية علاقةً حميمة خاصة مع الذات الإلهية، وأحيانًا يُبَجَّلون باعتبارهم أولياء. ضمت الأضرحة في أنحاء تمبكتو رفات مئات من هؤلاء الأولياء، ومن شأن الناس أن يتبركوا بأقواهم وأشهرهم ليتشفعوا لهم في حياتهم. أُدرِج ستة عشر ضريحًا من هذه الأضرحة في قائمة اليونسكو لآثار التراث العالمي في عام ١٩٨٨، إلى جانب مساجد جينجربر، وسانكوري، وسيدي يحيى، وشكَّل الأولياء المدفونون فيها — وهم شخصيات تاريخية مثل العم الأكبر لأحمد بابا، وهو الشيخ سيدي محمود، قاضي تمبكتو العظيم في القرن السادس عشر، والشيخ ألفا موي، الذي قُتِل على يد القوات المغربية في عام ١٥٩٤ — متراسًا روحيًّا صان المدينة بطريقة معجزة. شرح إير مالي الكيفية التي كان يعمل بها هذا عمليًّا: «إذا نظرنا إلى مدينة تمبكتو، نجد أضرحةً عند أركانها الأربعة، وكل ولي يحتل ركنًا. هذا يعني أن لا شيء سيئ يمكن أن يدخل هناك، ولذلك فالمدينة آمنة. وحتى إن أُلقِيت قنبلة أو قذيفة، فتذكَّر أنها لن تسقط بداخل المدينة. بل ستسقط خارجها.» وبحسب سانيه شريفي ألفا، كان الدفاع الروحي قد أنقذ المدينة من وابلٍ من قذائف الهاون التي سقطت عليها أثناء تمرد الطوارق في عام ١٩٩٢، ولكنها لم تنفجر. وقال: «لا يوجد تفسير علمي للأمر.»
اعتبر الجهاديون كثيرًا من هذه المعتقدات، وفي ذلك تبجيل أولياء تمبكتو، «بدعًا» خطرة على شعائر السلف، أول وأطهر المسلمين. ومن أجل إعادة المدينة ودينها إلى الحالة النقية، كان لا بد من استئصال هذه البدع.
ومع ذلك، عندما نشب الصراع لم ينشب بسبب أحد الأولياء، وإنما بسبب جن.
في النصف الثاني من أبريل قيل إن شبحًا ظهر في المدينة، متسربلًا بثياب بيضاء، وقطعة طويلة من القطن ملفوفة حول وجهه بطريقة الطوارق، وكان راكبًا على حصان أبيض. كان هذا هو الفاروق، وهو الرمز التعويذي للمدينة، والذي حفظ المدينة طيلة قرون من الأرواح الشريرة والسلوك السيئ. كان يقال إن الفاروق يذرع المدينة جيئةً وذهابًا بعد حلول الظلام فارضًا نظامًا لحظر التجول يقوم على ثلاثة تعديات؛ ففي المرتين الأوليين اللتين كان يقبض فيهما على شبان يسيئون التصرف كان يرسلهم إلى البيت محذرًا إياهم، ولكن في المرة الثالثة كان يجعلهم يختفون للأبد. ذات مرة، منذ قرون، كان قد حاول أن يوبِّخ زوَّارًا مقدسين من بلدة جِني كانوا قد بقوا في المسجد لوقت متأخر، ومن شدة غضب إمام مسجد سانكوري حبس الفاروق سبعمائة عام في مياه نهر باني. وبعد ذلك، عاد الجني، واسترد مكانه الصحيح في قلب تمبكتو، وصار له نُصُبٌ خاصٌّ على جزيرة مرورية في ميدان الاستقلال.
ظن مامادو قاسي، وهو شاب مالي قيل إن والده كان مؤذِّنًا في باماكو، أن الفاروق صنم وثني زائف. عندما وصل إلى تمبكتو في أبريل من عام ٢٠١٢ للانضمام إلى الجهاد وأُخبِر عن الجني، قرَّر أن أفضل ما يفعله هو أن يهدم النُّصُب. قال: «تسلقته وهشَّمته أمام الجميع الذين قالوا لي إن هذا هو الجني الذي يحمي المدينة.» لم يتمكن من هدم النُّصُب كله — كانت القاعدة كبيرة ومصنوعة من خرسانة سميكة — لكنه تمكَّن من أن يُسقِط رأس الفارس وقدميه وقدمي جواده. قال لحشد الناس الذين تجمعوا ليشاهدوا: «انظروا، لا وجود لِجِنِّكُم!» ثم أضاف: «إن الله هو الذي يحمينا!»
وبدلًا من أن يقتنع الناس، أغضبهم العمل التجريبي الذي ارتكبه وأظهروا غضبهم بأن خرجوا في مسيرة إلى معسكر الجيش. فَرَّق الجهاديون المحتجين بإطلاق النار فوق رءوسهم.
لم يكن نُصُب الفاروق قديمًا ولا ذا قيمة خاصة، ولكنه كان رمزًا لشيءٍ أراد المحتلون استئصاله، وكان العمل التخريبي الذي اقترفه قاسي ذا أهمية كبيرة لأنه كان بمثابة استهلال للحرب المقبلة على أشباح تمبكتو.
بعد أسبوعين من استهداف نُصُب الجني هاجم الجهاديون شيئًا أثمنَ بكثير: ضريح الشيخ سيدي محمود. كان هذا الولي، الذي توفي في عام ١٥٤٨، عالمًا جليلًا من علماء تمبكتو، ومعروفًا بعلو شأنه. كان قبره، المصنوع من الحجارة والطين اللبِن، قد بُني على تلة منخفضة على موقع ردهة منزله، شمال المدينة. كان أتباعه مدفونين حوله، بحيث كان الآن في مركز مقبرة كبيرة، وكان الناس يذهبون إلى هناك على نحوٍ منتظم للتبرُّك.
في يوم الجمعة، الموافق الرابع من مايو، رأت مجموعةٌ من الجهاديين المتعبدين وقالت لهم إن ما يفعلونه محرَّم وينبغي عليهم أن «يطلبوا العون من الله مباشرةً دون وسيط» وليس من شخص ميت. بعد ذلك بدءُوا يهاجمون المقبرة، ويحطمون باب الضريح ويقتلعون نوافذه، ويحرقون الستار الأبيض الذي يفصل القبر عن مكان الصلاة ويحطمون العديد من شواهد القبور. قال أحد معاوني رئيس البلدية لأحد المراسلين في اليوم التالي إن الجهاديين كانوا قد توعدوا الناس بهدم أضرحة أخرى، وكذلك بعض المخطوطات. وقال: «إن تمبكتو مصدومة.»
تفاعل الخبراء الثقافيون حول مالي مع الأمر بمزيج من الغضب والحزن. قال البروفسيور بابا أكيب حيدرة، وهو خبير مخطوطات تمبكتي: «إنني أعاني والجميع يعانون بنفس الطريقة معي.» ثم أردف: «إنهم يعودون بنا إلى الوراء، إلى الوراء، هذا غير مقبول. إنهم يهاجمون قيمنا، وروحانياتنا، المتغلغلة في روح تمبكتو. يجب على اليونسكو أن تعمل على تعبئة الرأي العام الدولي. هذا ليس الإسلام، وستقع كارثة عظيمة إن لم يفعل أحدٌ شيئًا.» وبالنسبة للمخرج ووزير الثقافة المالي السابق شيخ عمر سيسوكو، كانت المقبرة تمثل «جزءًا من التراث الثقافي والروحي لتمبكتو، وللإنسانية بوجه عام»، والتعصب الذي تمثَّل في الهجوم عليها كان «مأساويًّا». أما الحكومة المالية فأدانت «حتى الرمق الأخير» ما وصفته بأنه «عمل حقير يهدم المبادئ الأساسية للإسلام، دين التسامح والاحترام.»
في الرابع عشر من مايو، أطلق المجتمع الثقافي بالمدينة — الفنانون، والمثقفون، والعاملون في المخطوطات — نداءَ استغاثة إلى الأمين العام للأمم المتحدة. نصَّ الإعلان على أن «الفوضى الشاملة وغياب القانون سائدان هنا في تمبكتو»، مضيفًا أنه كان «يوجد خطر جسيم يتمثل في تدمير كل ثرواتها.» إن كان التراث العالمي يعني شيئًا، فيجب على المجتمع الدولي أن يبادر بالتحرك الآن، لأن «تمبكتو على وشك أن تفقد روحها. إن تمبكتو مهددة بتخريب شائن. إن سفَّاحًا يضع سكينه الحاد على عنق تمبكتو.»
لم يتأثر الجهاديون بأيٍّ من ذلك. فقد كانوا ينفِّذون تعاليم الله. قال حماها ذو اللحية الحمراء موضحًا: «يجب ألا يتجاوز ارتفاع القبر مستوى الكاحل.» وأضاف: «إذا كان القبر أعلى من ذلك، يجب عليك أن تهدمه.»
•••
لرجال المكتبات الثلاثة في باماكو، كان تدنيس قبر سيدي محمود تطوُّرًا جديدًا مقلقًا. إلى أي مدًى سيصل هؤلاء الناس؟ وما الذي يعنيه هذا للمخطوطات؟ كما كان يعرف أي أحد أمضى وقتًا مع الوثائق، لم تكن محتوياتها قاصرةً على موضوعاتٍ يعتبرها الجهاديون مقبولة. على وجه التحديد، كانت فكرة الشفاعة — التي تعني أنه يمكن للمسلمين التوسُّل إلى أحد الأولياء ليتوسط إلى الله من أجل تحقيق مطالب خاصة — محلَّ نقاش واسع في المخطوطات، لكنَّ السلفيين كانوا يعتبرونها أمرًا محرَّمًا وملعونًا. فبحسب ما ذكر اللاجئون الذين خرجوا من المدينة، اعتبر محتلو المدينة أن بعض الكتب في معهد أحمد بابا «لا تتماشى مع الإسلام.»
أيضًا وصلت إلى رجال المكتبات أنباء بأن الجهاديين كانوا قد بدءُوا في الاعتراض على الاحتفال الديني الرئيسي في تمبكتو، وهو المولد النبوي. يحتفل المسلمون السُّنة في سائر أنحاء العالم الإسلامي بالمولد النبوي منذ القرن الثاني عشر، لكنَّ السلفيين لم يوافقوا عليه؛ فمن وجهة نظرهم، كان المولد النبوي بدعةً ارتقت بالنبي إلى درجةٍ قريبة من الألوهية. كان هذا موضع قلق كبير لرجال المكتبات؛ لأن احتفالات المولد النبوي في تمبكتو كانت تستند على «القصيدة العشرينية»، وهي قصيدة مجازية من عشرين بيتًا في مدح النبي. كان هذا النص التعبدي، الذي كتبه عبد الرحمن الفزازي في القرن الثالث عشر في قرطبة، قد جاء إلى تمبكتو من المغرب في القرن الخامس عشر ونُسِخ على نطاق واسع. أثناء الاستعداد للاحتفال، كانت القصيدة بكاملها تُقرأ أربع مرات؛ أولًا على مدى أربعين يومًا، ثم على مدى أسبوع، ثم على مدى ثلاثة أيام. وأخيرًا، كانت تُقرأ على مدى الليلة الأخيرة التي تسبق اليوم المقدَّس نفسه. وحيث إن هذا العمل كان موجودًا في الكثير من مجموعات المخطوطات، خشي حيدرة أن يجتذب انتباه محتلي المدينة إلى وثائقَ معيَّنة لم تكن ستعجبهم.
تذكر حيدرة قائلًا: «عُقِدَت لقاءات كثيرة في تمبكتو بين المحتلين والأعيان والمرابطين حول تنظيم المولد النبوي.» ثم أردف: «سمعنا أن المحتلين قالوا: «لا، لا، الاحتفال بالمولد النبوي حرام. كما أن المخطوطات التي تتحدث بشأنه ليست في الحقيقة مخطوطات جيدة.» سمعنا ذلك. وجعلَنا هذا نبدأ في التفكير. قلنا إن ذلك ربما يكون تهديدًا.»
بدأ أيضًا يسمع أنباءً عن أن المتمردين قد قبضوا على أشخاصٍ معهم مخطوطات في حقائبهم وأتلفوها. تذكَّر قائلًا: «وجدوا بعض المخطوطات وأحرقوها.» ثم أردف: «لم يكن بالأمر الجلل؛ إذ كانت مخطوطات قليلة، لكنهم أحرقوها.» تلاعبت هذه القصص بمخيلة حيدرة. إن كانوا قد أتلفوا بضعَ حُزَمٍ من المخطوطات، فماذا سيفعلون بمكتبة مليئة بها؟
قال حيدرة: «قلنا إن ذلك ليس جيدًا.» ثم أردف: «كنا نعرف أن الأمور تبدأ هكذا، شيئًا فشيئًا.»
بحسب ما قال معيجا، تبلورت هذه النُّذُر القليلة من المعلومات في هيئةِ قرارٍ اتُّخِذ في الأسبوع الأخير من مايو.
تذكر حيدرة قائلًا: «في أحد الأيام، قلت لمعيجا إنني أرى أننا يجب أن نجد حلًّا لنقل المخطوطات إلى باماكو. وقلت إن الآن هو الوقت المناسب.»