في ذكر عشق النفس الحيوانية
لا شك أن كل واحد من قوى النفس الحيوانية يختص بتصرف يحثها عليه عشق غريزي، وإلا لما كان وجودها في البدن الحيواني إلا معدودًا في جملة المعطلات، إن لم يكن لها نفورٌ طبيعي مبدؤه بغضة غريزية، وتوقان غريزي مبدؤه عشق غريزي، وذلك ظاهر في كل واحد من أقسامها، أما في الجزء الحاس منها خارجًا فلإلفها بعض المحسوسات دون بعض، واستكراهه بعضها دون بعض، ولولا ذلك لتساوت العوارض الحسية على الحيوانات، ولما تصونت عن مباشرة المُضِرات لها، ولتعطلت القوة الحسية في حقيقتها، وأما الجزء الحاس باطنًا فلاطمئنانه إلى الراحة إلى التخيلات المروحة وما ضاهاها إذا وجدت، وتشوقه إليها إذا فقدت، وأما في الجزء الغضبي فلنزاعه إلى الانتقام والتغلب والفرار من الذل والاستكانة وما ضارع ذلك.
وأما في الجزء الشهواني فلتقدم أمامه مقدمة ينتفع بها بذاتها، وفيما يُبنى عليه القول في الفصول، وهو أن العشق ينشعب قسمين؛ أحدهما: طبيعيٌّ وحامله لا ينتهي بذاته دون غرضه بحال من الأحوال، ما لم يصادمه دونه قاسرٌ خارجي كالحجر، فإنه لا يمكن أبدًا أن يقصر عن تحصيل غايته وهو الاتصال بموضعه الطبيعي والسكون فيه من ذاته، اللهم إلا من جهة عارض قهري، وكالقوة المغذية وسائر القوى النباتية، فإنها لا تزال مزاولة لجلب الغذاء ولتلحيمه بالبدن ما لم يصدها عنه مانع غريب، والثاني: عشق اختياري وحامله قد يعرض بذاته عن معشوق لتخيل استضرار بعارض أمامه يُربي قدر ضرره على نفع المعشوق، مثل الحمار، فإنه إذا لاح له شخصُ ذئبٍ متوجهًا نحوه أقصرَ عن قضمِ الشعير وأمعنَ في الهرب لتخيلِه أن ما يتصل به من ضررِ العارضِ أرجحُ من منفعة المُعْرَض عنه، ثم قد يكون المعشوق الواحد لعاشقين أحدهما طبيعي العشق والثاني اختياري، مثل الغرض بالتوليد إذا تدبر إضافةً إلى القوة المولدة النباتية وإلى القوة الشهوانية الحيوانية.
فإذا تحقق هذا فنقول: إن القوة الشهوانية من الحيوان أظهر الموجودات عند الجمهور لاستطباع العشق، فلا حاجة بنا إلى إظهار ذلك، وليس معشوقه في عامة الحيوان غير الناطق إلا معشوق القوى النباتية بعينها، إلا إن العشق للقوة النباتية لا تصدر عنه الأفاعيل، إلا بنوع طبيعي وبنوع أدنى وأدون، وعشق القوة الحيوانية إنما يصدر عنه بالاختيار وبنوع أعلى وأفضل وبأخذ ألطف وأحسن، حتى إن بعض الحيوان قد يستعين في ذلك بالقوة الحسية ما يوهم العامة أن ذلك العشق خاص بها، وهو عند التحقيق خاص بالشهوانية، فإن وُجد للحسية فيها شركة تتوسط، وقد توافق القوة البهيمية الشهوانية النباتية في الغرض بأن يكون حصوله لا بقصد اختياري يأتيه، وإن وُجد في صدور الفعل بينهما اختلاف في الاختيار، وسبيله مثل توليد المثل، فإن الحيوان الغير الناطق وإن تحرك بطبعه العشقي المتغرز فيه من العناية الإلهية تحرُّكًا اختياريًّا يتأدى به إلى توليد المثل، فلن يكون الغاية منها مقصودة لذاتها؛ لأن هذا الضرب من العشق غايته نفع نوعي، أعني بهذا أن العناية الإلهية لما اقتضت استبقاء الحرث والنسل وامتنع المراد من مدة البقاء في الشخص الكائن؛ لضرورة تعقب الفساد في موضع الكائن وحيا، أوجبت الحكمة صرف الغاية إلى استبقائها إلى الأنواع والأجناس، وطبع في كل واحد من أشخاص المعني به شوقًا إلى تأثير ملازمة توليد المثل، وهيأ لذلك فيه آلات موافقة، ثم الحيوان الغير الناطق لانحطاطه عن مرتبة الفوز بالقوة النطقية التي بها يوقف على حقيقة الكليات، يسعد بإدراك الغرض الخاص بالأمور الكلية، فلذلك صارت فيها قوتها الشهوانية تشاكل القوة النباتية في التزامه إلى هذا الغرض.
وتقرير هذا الفصل والفصل الذي تقدم نافعٌ في كثير مما سنأتي على إثباته في هذه الرسالة.