في خاتمة الفصول
نريد أن نورد في هذا الفصل أن كل واحد من الموجودات يعشق الخير المطلق عشقًا غريزيًّا، وأن الخير المطلق متجلٍّ لها لذاته، إلا إن قبولها لتجليه واتصالها به على التفاوت، وأن غاية القُربى منه هو قبول تجليه على الحقيقة، أعني على آكد ما في الإمكان، وهو المعنى الذي تسميه الصوفية «الاتحاد»، وأنه لجوده عاشق أن يُنال تجليه، وأن وجود الأشياء تجليه.
فنقول لمَّا كان في كل واحد من الموجودات عشق غريزي لكماله؛ وإنما ذلك لأن كماله معنًى به تحصل له خيريته، فبين أن المعنى الذي به تحصل للشيء خيريته حيث ما توجد وكيف ما توجد أوجب أن يكون ذلك الشيء معشوقًا لمستفيد الخيرية، ثم لا يوجد شيء أولى بذلك من العلة الأولى في جميع الأشياء، فهو إذن معشوق لجميع الأشياء، وكون أكثر الأشياء غير عارف به لا ينفي وجود عشقه الغريزي فيها — كما لا يوجب ذلك بقاء العشق الغريزي — في هذه الأشياء لكمالاتها، والخير الأول بذاته ظاهر متجلٍّ لجميع الموجودات، ولو كان ذاته محتجبًا عن جميع الموجودات بذاته غير متجلٍّ لها لما عُرِفَ، ولا نِيلَ منه، ولو كان ذلك في ذاته بتأثير الغير؛ لوجب أن يكون في ذاته المتعالية عن قبول تأثير الغير وذلك خلف، بل ذاته بذاته متجلٍّ، ولأجل قصور بعض الذوات عن قبول تجليها يحتجب، فبالحقيقة لا حجاب إلا في المحجوبين، والحجاب هو القصور والضعف والنقص.
وليس تجليه إلا حقيقة ذاته، إذ لا متجلي بذاته في ذاته إلا هو، وإنه كما أوضحه الإلهيون فذاته كريمٌ متجلٍّ؛ ولذلك ربما سماه الفلاسفة صورة للعقل، فأول قابل لتجليه هو الملك الإلهي الموسوم بالعقل الكلي فإنه بجوهره ينال تجليه كجوهر الصورة الواقعة في المرآة لمُتَجلَّى الشخص الذي هي مثاله، وقريب من هذا المعنى ما قيل إن العقل فعال مثاله، فاحترز أن تقول مثله، وذلك هو الواجب الحق، فإن كل منفعل عن سبب غريب فإنما ينفعل بتوسط مثال واقع من العلل فيه وبالعكس، وكل منفعل إنما ينفعل في قابل الانفعال عنه بتوسط مثال يقع منه فيه، وذلك بيِّن بالاستقراء، فإن الحرارة النارية إنما تفعل في جرم من الأجرام بأن تضع فيه مثاله وهو السخونة، وكذلك سائر القوى من الكيفيات، والنفس الناطقة إنما تفعل في نفس ناطقة مثلها بأن تضع فيها مثالها، وهو الصورة المعقولة، والسيف إنما يقطع بأن يضع في المنفعل عنه مثاله وهو شكله، والمِسَنُّ إنما يحدد السكين بأن يضع في جوانب حده مثال ما ماسَّه وهو استواء الأجزاء وملاستها.
ولقائل أن يقول: إن الشمس تسخِّن وتسوِّد من غير أن تكون السخونة والسواد مثالها، لكنَّا نجيب عن ذلك بأن نقول: إنَّا لم نقل إن كل أثر حصل في متأثر من مؤثر، أن ذلك الأثر موجود في المؤثر، فإنه مثالٌ من المؤثر في المتأثر، لكنا نقول: إن تأثير المؤثر القريب إلى المتأثر في المتأثر يكون بتوسط مثال ما يقع منه فيه، وكذلك الحال في الشمس، فإنها تفعل في منفعلها القريب بوضع مثالها فيه وهو الضوء، ويحدث من حصول الضوء فيها السخونة، فيسخِّن المنفعل عنها منفعلًا آخر عنه، بأن يضع فيه مثاله أيضًا وهو السخونة أيضًا، فيسخِّن بحصول السخونة ويسود، هذا من جهة الاستقراء، فأما من جهة البرهان الكلي فليس هذا موضعه.
ونرجع فنقول: إن العقل الفعَّال يقبل التجلي بغير وسط، وهو بإدراكه لذاته ولسائر المعقولات فيه عن ذاته بالفعل والثبات، وذلك أن الأشياء التي تتصور المعقولات بلا روية واستعانة بحس أو تخيل إنما تعقل الأمور المتأخرة بالمتقدمة والمعلولات بالعلل والردية بالشريفة، ثم تناله النفوس الإلهية بلا توسط أيضًا عند النيل، وإن كان بتوسط إعانة العقل الفعال عند الإخراج من القوة إلى الفعل وإعطائه القوة على التصور، وإمساك المتصور والطمأنينة إليه، ثم تنالها القوة الحيوانية ثم النباتية ثم الطبيعية، وكل واحد مما يناله يسوقه ما ناله منه إلى التشبه به بطاقته، فإن الأجرام الطبيعية إنما تتحرك حركاتها الطبيعية تشبهًا به في أفعاله على بعض الأحوال — أعني عند حصولها في المواضع غير الطبيعية — وإن لم يكن يتشبه به في مبادئ هذه الغاية وهي الحركة، وكذلك الجواهر الحيوانية والنباتية إنما تفعل أفاعيلها الخاصة بها تشبهًا به في غاياتها، فهو إبقاء نوع أو شخص وإظهار قوة ومقدرة وفائدة، وما ضاهاها، وإن لم تتشبه به في مبدأ هذه الغايات كالجماع وكالتغذي، وكذلك النفوس البشرية إنما تفعل أفاعيلها العقلية وأعمالها الخيرية تشبهًا به في غاياتها هي كونها عاقلة عادلة، وإن لم يكن يتشبه به في مبادئ هذه الغايات كالعلم وما شاكله، والنفوس الإلهية الملكية إنما تتحرك تحريكاتها وتفعل أفاعيلها تشبهًا به أيضًا في استبقاء الكون والفساد والحرث والنسل.
والعلة في كون القوى الحيوانية والنباتية والطبيعية والبشرية متشبهة بها في غايات أفاعيلها دون مباديها؛ لأن مباديها إنما هي أحوال استعدادية قوية، والخير المطلق متنزه عن مخالطة الأحوال الاستعدادية القوية، وغاياتها كمالات فعلية، والعلة الأولى هي الموصوف بالكمال الفعلي المطلق، فجاز أن تتشبه به في الكمالات الغائية، وامتنع أن تتشبه بها في الاستعدادات، وأما النفوس الملكية فإنها فائزة في الصور ذاتها بالتشبه به فوزًا أبديًّا عريًّا عن القوة، إذ هي عاقلة له بها، وعاشقة له بما تعقله منه أبدًا، ومتشبهة بما تعشقه منه أبدًا، وولوعها بإدراكه وتصوره الذين هما أفضل إدراك وتصور يكاد يشغلها عن إدراك ذواتها، وتصور ما سواه من المعقولات، إلا إن معرفته بالحقيقة تعود بمعرفة سائر الموجودات، فكأنها تتصوره بالقصد الأول، وتتصور سواه تبعًا، وإذ كان لولا تجلي الخير المطلق لما نيل منه، ولو لم ينل منه لم يكن وجود، فلولا تجليه لم يكن وجود، فتجليه علة كل وجود، وإذن هو بوجوده عاشق لوجود معلولاته، فهو عاشق لنيل تجليه، وإذ معشوق الأفضل لفضله هو الأفضل فإذن معشوقه الحقيقي في أن يُنال تجليه هو حقيقة نيل نيله النفوس المتألهة له؛ ولذلك قد يجوز أن يقال إنها معشوقاته، وإليه يرجع ما رُوي في الأخبار أن الله تعالى يقول: «إن العبد إذا كان كذا كذا عَشِقني وعشقتُه»، وإذ الحكمة لا تجوز إهمال ما هو فاضل في وجوده بوجه ما، وإن لم يكن في غاية العقلية، فإذن الخير المطلق قد يعشق بحكمته أن يُنال منه نيلًا، وإن لم يبلغ كمال الدرجة منه، فإذن الملك الأعظم رضاه لمن يتشبه به، والملوكُ الفانيةُ سخطها على من يتشبه بها؛ لأن ما يُرام التشبه من الملك الأعظم لا يؤتَى على غايته، وما يرام من التشبه من الملوك الفانية قد يؤتى على مبلغه.
وإذا بلغنا هذا المبلغ فلنختم الرسالة، والحمد لله واهب القوة على حمده حمدًا كما هو أهله، وصلواته على نبينا وعلى سائر أنبيائه أجمعين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.