الفصل الأول
كان الطريق على امتداده يؤدي إلى ما قد كان ذات يوم جدارًا تعلوه سكةٌ حديديةٌ. كانت حركة القطارات عليها قد توقفَّت منذ سنواتٍ عديدة. امتدَّت الغابة على جانبَي الجدار، وظلَّلته بأشجارها وآجامِها. كان الطريق ضيقًا بحيث لا يسَع سوى شخصٍ واحدٍ، ولم يكن ثمة أكثر من ممرٍّ للحيوانات البرية. وبين الحين والآخر، كانت تُرى قطعةٌ حديدية صَدِئة بين عفَن الغابة، معلِنةً أنَّ القضيب والعوارض ما تزال موجودة. في أحد الأماكن، انبثقت شجرةٌ طولها عشر بوصاتٍ عند إحدى الوصلات؛ فرفعَتْ طرف أحد القضبان حتى أصبح ظاهرًا بوضوح. وكان واضحًا أنَّ العارضة قد رُفِعت مع القضيب؛ إذ كانت مربوطة فيه بمسمار تثبيتٍ كان طويلًا بالدرجة التي تكفي لأنْ يَمتلئ قرارُها بالحصى وأوراق الأشجار المُتعفِّنة؛ ومِن ثمَّ، فقد اندفعت العارضة الخشبية المُفتَّتة المُتعفِّنة بمَيلٍ غريب. وبالرغم من قِدَم الطريق، فقد كان من الواضح أنه من النوع الأُحادي القضيب.
كان ثمة عجوزٌ وصبيٌّ يسافران على هذا الطريق. تحرَّكا ببطءٍ؛ إذ كان الرجل طاعنًا في السن ويعاني من درجةٍ من الشلل جعلت حركاته مُرتعشة، وكان يتَّكئ على عصاه بشدَّة. على رأسه قُبعة خشِنة من جِلد الماعز تحميه من الشمس، ومن تحتها انسدلَتْ خصلةٌ هزيلة من الشعر الأبيض المُبقَّع القذِر. وقد ظلَّل على عينَيه حاجبٌ للشمس صُنِع ببراعةٍ من ورقة شجر كبيرة، ومن تحته كان ينظُر إلى الطريق الذي تخطو فيه قدماه. أما لحيته التي كان من المُفترَض أن تكون بيضاء ناصعةً كالثلج، لكنها كانت تحمل علامات البِلى من الطقس والبُقَع من التخييم في العراء والتي كان يحملها شعرُه أيضًا، فقد تدلَّت حتى خصرِه تقريبًا على هيئة كتلةٍ ضخمة مُتشابكة. وعلى صدره وكتفَيه، تدلَّت قطعةٌ واحدة جرِبة من الثياب صُنِعت من جلد الماعز. كانت ذراعاه وساقاه تتَّسِم بالنحالة والتغضُّن ما يدلُّ على طعونِه في السن، مثلما دلَّت الندوب والخدوش وسفعاتُ الشمس على السنوات الطويلة التي تعرَّض فيها لظروف الطقس القاسية.
أما الصبيُّ الذي كان يقود الطريق كابحًا هِمَّةَ عضلاته كي تُناسب خطواتُه الإيقاع البطيء الذي كان يسير به العجوز، فقد كان هو أيضًا يرتدي قطعة واحدة من الثياب، وهي قطعة رثَّة ذات حواف مُهترئة من جلد الدِّبَبة، وبها فتحة في المنتصف أدخل منها رأسه. لم يكن عمره يزيد عن اثنَي عشر عامًا. حَشر فوق إحدى أذنيه، على نحوٍ يلفِتُ الانتباه، ذَيلَ خنزير لم يكن قد مضى وقتٌ طويل على بترِه. وكان يحمل في إحدى يدَيه قوسًا متوسط الحجم وسهمًا.
كان يحمل على ظهره جُعبة مملوءة بالسهام. وقد كشف جِرابٌ مُعلق حول رقبته بشريطٍ رفيع عن مقبضِ سكينِ صيدٍ أصابه البِلى من كثرة الاستخدام. اسمرَّت بشرة الصبي لتعرُّضِه كثيرًا لسفعات الشمس، وكان يسير بهدوءٍ في خطواتٍ أشبهَ بخطوات قِط. وفي تبايُنٍ واضح مع بشرته السمراء، كانت عيناه زرقاوَين، بل داكنتَي الزُّرقة، لكنهما يقظتان وحادَّتان كمِثقابَين. كانتا تتفحَّصان على ما يبدو كلَّ ما حوله بطريقةٍ كانت مُعتادة. وقد راحَ يشتَمُّ الأشياء في أثناء مَسيرِه أيضًا، فكان مِنخاراه المُنتفخان المُرتجفان يُرسلان إلى دماغه عددًا لا نهائيًّا من الرسائل من العالم الخارجي. كانت حاسَّة سمعِه حادةً هي الأخرى، وقد كانت على درجةٍ ممتازة من التدريب حتى إنها كانت تعمل تلقائيًّا؛ فبدون مجهودٍ واعٍ منه، كان يسمع جميع الأصوات الخافتة وسط ذلك الهدوء الظاهري. كان يسمع هذه الأصوات جميعها ويُميِّزها ويُصنِّفها، سواءٌ أكانت أصواتَ حفيف الرياح في أوراق الشجر، أو طنين النحل والبعوض، أو هدير البحر البعيد الذي لم يكن يصِل إليه إلا همهمة هادئة، أو حتى صوت أحد القوارض تحت قدمَيه وهو يدفع حفنة من التراب نحو مدخل جُحرِه.
فجأةً أصبح مُتوترًا في انتباه؛ فحواسُّ السمع والبصر والشم جميعها قد نقلتْ له تحذيرًا فوريًّا. عادت يدُه إلى الرجل العجوز تلمسُه، ووقف كلاهما ساكنَين. في الأمام، على قمَّة أحد جانبي السور، صدر صوت طقطقة، وتركَّزت نظرةُ الصبي على قِمَم الأجمات المُضطربة، ثم ظهر دبٌّ ضخم أشهب، لكنه توقَّف فجأةً مثلما توقَّفا عند رؤيته لهما. لم يرُوقا له وراح يعوي بتذمُّر. وبتمهُّلٍ وضَعَ الصبيُّ السهم في القوس ثم شدَّ وترَه، لكنه لم يرفع بصرَه أبدًا عن الدُّب.
حدَّق العجوز في الخطَر الماثِل أمامهما من تحت ورقته الخضراء، ووقفَ هادئًا مِثلما فعلَ الصبي. استمرَّ هذا التفحُّص المُتبادَل لبضع ثوانٍ، ثم كشف الدبُّ عن اهتياجه المُتزايد؛ فأومأ الصبيُّ إلى العجوز بحركةٍ من رأسه بأنَّ عليه أن يتنحَّى جانبًا عن الطريق، وأن ينزل عن الجدار. تبِعَه الصبيُّ وهو يسير بظهره إلى الوراء، بينما لا يزال يُمسك بوتر القوس جاعلًا إيَّاه مشدودًا وجاهزًا. انتظرا إلى أن سمِعا صوتَ تهشُّمٍ قادم من بين الأجمات على الجانب المقابل من الجدار أخبرَهما بأنَّ الدُّبَّ قد واصل مسيره. ابتسم الصبي ابتسامةً عريضة وهو يسير عائدًا إلى الطريق ومِن ورائه العجوز.
ثم ضحك ضحكةً خافتة قائلًا: «إنه دبٌّ كبير أيُّها الجدُّ.»
هزَّ العجوز رأسه.
تبرَّم قائلًا في صوتٍ خافتٍ لكنه لا يزال مسموعًا: «إنَّ عددها يزداد كلَّ يوم. من كان يظنُّ أنني سأعيش لأرى اليوم الذي يخاف فيه المرءُ على حياته وهو يسير في الطريق المؤدي إلى كليف هاوس. حين كنتُ صبيًّا يا إدوين، كان عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال يأتون إلى هنا من سان فرانسيسكو في أيام الطقس الصَّحْو. ولم يكن ثمة دِبَبة في ذلك الوقت. أجل يا بُني، كان البشر يدفعون النقود كي يشاهدوها وهي في أقفاصها. لقد كانت على هذه الدرجة من الندرة.»
«ما هي النقود أيُّها الجدُّ؟»
قبل أن يتمكَّن العجوز من الإجابة، تذكَّر الصبي وأدخل يدَه في جرابٍ تحت جلد الدبِّ الذي يرتديه، وأخرج منه دولارًا فضيًّا باليًا وباهتًا. التمعَتْ عينا العجوز بينما قرَّب إليه الصبي تلك العُملة المعدنية.
تمتم قائلًا: «لا أستطيع الرؤية، انظر أنتَ يا إدوين، ولترَ إذا ما كنتَ تستطيع قراءة التاريخ.»
ضحك الصبيُّ وصاح بسرور: «إنك رائعٌ أيُّها الجدُّ؛ فأنت تتظاهر دومًا بأنَّ هذه العلامات الصغيرة تعني شيئًا.»
أظهر العجوز انزعاجًا مُعتادًا بينما راح يُقرِّب العملة المعدنية من عينَيه مُجددًا.
صاح قائلًا: «٢٠١٢!» ثم راح يُثرثر بصوتٍ حادٍّ غريب: «لقد كان ذلك هو العام الذي عيَّن فيه مجلس الأقطاب مورجان الخامس رئيسًا للولايات المتحدة. لا بدَّ أنها كانت إحدى آخِر العُملات التي سُكَّت؛ فالطاعون القرمزي قد حلَّ بالبلاد عام ٢٠١٣. يا للعجَب! يا للعجب! تخيَّل هذا! منذ ستِّين عامًا، وأنا الشخص الوحيد اليوم الذي عاشَ في ذلك العصر. أين وجدْتَها يا إدوين؟»
وعلى الفور، أجاب الصبيُّ الذي كان ينظُر إليه بالفضول الحليم الذي يُوليه المرءُ إلى ثرثرة واهِني العقول:
«لقد أخذتُها من هو-هو الذي وجدَها حين كُنَّا نرعى الماعز بالقُرب من سان هُوزاي في الربيع الماضي. وقد قال هو-هو إنها «نقود». ألسْتَ جائعًا أيُّها الجدُّ؟»
زاد العجوز من إحكام قبضته على عصاه، وأسرع في السير على الطريق، بينما عيناه تلمَعان في شراهةٍ.
راح العجوز يُتمتِم: «أتمنَّى أن يكون هير-ليب، قد وجد سلطعونًا … أو اثنَين. فالسلطعون طعامٌ جيد، بل لذيذ للغاية لا سيَّما حين تفقد أسنانك، ويكون لدَيك أحفاد يُحبون جدَّهم ويحرصون على اصطياد السلطعون من أجله. حين كنتُ صبيًّا …»
لكنَّ ما رآه إدوين قد استوقَفَه فجأة، وشدَّ وتَر القوس على سهمٍ وضعَه فيه. كان قد توقف على شفا صدْع في الجدار؛ ففي هذا المكان، كان يُوجد مصرفٌ قديم وقد رُدِم، ولمَّا لم يعُد تيَّار المياه محجوزًا، فقد شُقَّ ممرٌّ في هذا الردم. على الجانب المقابل، ظهر طرف قضيبٍ مُتدلٍّ، وقد بدا صدئًا بين كرمات العنب التي افترشتْه. وفيما وراء ذلك، كان ثمة أرنبٌ رابض بجوار أجمةٍ قد نظَر إليه في تردُّد خالطه ارتجاف. كانت المسافة بينهما خمسين قدمًا كاملة، لكنَّ السهم قد انطلق بسرعةٍ خاطفة وأصاب الهدَف، وراح الأرنب المطعون يُحاول بصعوبةٍ شديدة أن يبتعِد ويتوارى وسط العُشب، وهو يصرُخ رعبًا وألمًا. بدا الصبيُّ نفسه كأنه وميضٌ من البشرة البُنِّية والفراء الطائر، حين قفز أسفل الجدار المُنحدِر للفجوة، وصعد إلى الجانب الآخر. كانت حركاته رشيقة وبارعة بفضل عضلاته الصغيرة الممشوقة التي بدَتْ وكأنها نوابض من الصُّلب. وبعد مائة قدم، في كتلة مُتشابكة من الشجيرات، داهمَ الكائنَ الجريح، ودقَّ رأسَه على جذع شجرةٍ مناسب، وأعطاه الجدَّ كي يحمِله.
تحدَّث العجوز بصوتٍ مُتهدج: «الأرانب جيدة، جيدة للغاية، لكن حين يتعلق الأمر بطعامٍ شهي لذيذ، فإنني أُفضِّل السلطعون. حين كنت صبيًّا …»
قاطع إدوين بنَفاد صبرٍ ثرثرة الجدِّ التي لا تُفيد: «لماذا تُثرثِر كثيرًا ثرثرةً فارغة؟»
لم يتفوَّه الصبي حرفيًّا بهذه الكلمات بالضبط، وإنما تفوَّه بشيءٍ يُشبهها من بعيد، شيءٍ أكثر غِلظةً وعُنفًا واقتصادًا في العبارات المُلطِّفة. كان حديثه ينمُّ عن وجود صِلة قرابة بعيدة تجمعه والعجوز، وكان حديث الأخير بلغةٍ إنجليزية تشتمل على الكثير من الاستخدام الخاطئ للكلمات والتراكيب.
تابع إدوين حديثه: «ما أريد أن أعرفه هو السبب في أنك تَصِف السلطعون بأنه «طعامٌ شهيٌّ لذيذ؟» السلطعون هو السلطعون، أليس كذلك؟ إنني لا أعرف أيَّ أحدٍ على الإطلاق يصِفه بمثل هذه الأوصاف الغريبة.»
تنهَّد العجوز لكنه لم يُجب، وتابعا سيرَهما في صمت. علا صوتُ الأمواج فجأةً إذ خرجا من الغابة إلى بساطٍ من الكثبان الرملية يحدُّ البحر. كان هناك بضع عنزاتٍ ترعى في الرَّوابي الرملية، يحرسها صبيٌّ يرتدي ثيابًا من جلود الحيوانات يُعاونه في ذلك كلبٌ ذِئبي يذكِّر قليلًا بكلاب الكولي. واختلط مع هرير الموج صوتُ نباحٍ أو عواءٍ كان يأتي من مجموعةٍ من الصخور المُحزَّزة التي كانت تبعُد عن الشاطئ بمقدار مائة ياردة؛ فهنا كانت أسُود البحر تجرُّ أجسامها كي تستلقي في الشمس أو ليتشاجَر بعضها مع بعض. أمامهما مباشرةً، ارتفع دخان نيرانٍ يقوم عليها صبيٌّ ثالث له مظهرٌ بربريٌّ أيضًا. وقد قبعَتْ بالقُرب منه عدة كلابٍ ذئبية شبيهة بالكلب الذي كان يحرس الماعز.
أسرَعَ العجوز في مشيتِه، وراح يتشمَّم بلهفةٍ بينما كان يقترِب من النار.
تمتم في نشوة: «بلَح البحر! بلَح البحر! أوليس ذلك من أنواع السلطعون يا هو-هو؟ أليس ذلك من أنواع السلطعون؟ مَرحى! إنكم أيُّها الصبية تُحسِنون إلى جدِّكم العجوز.»
ابتسم هو-هو الذي كان يبدو أنه في عمر إدوين ابتسامةً عريضة.
«لك كلُّ ما تريد أيُّها الجدُّ، لقد أحضرتُ أربعة.»
كانت لهفة العجوز المُرتجفة مُثيرة للشفَقة. لقد جلس على الرمال بأسرع ما تسمح له أطرافه المُتصلبة، وأخرج بلحةَ بحرٍ كبيرة من بين الجمْر. كانت الحرارة قد فلقَتْ صدفتها، وكان لحمها سلَمُونيَّ اللون قد نضج تمامًا. بين الإبهام والسبابة، أمسك اللُّقمة في عجلةٍ مرتعشة وحملها إلى فمه، لكنها كانت ساخنة للغاية؛ فلفظها بعُنفٍ في اللحظة التالية. غمغم العجوز مع شعوره بالألم، وسالت الدموع من عينَيه على خدَّيه.
كان الصَّبِيَّان همجِيَّينِ حقًّا، لا يتمتعان إلا بحسِّ الفكاهة القاسي الذي يمتلكه الهمَج. بالنسبة إليهما، كانت الحادثة مُضحكة للغاية، وقد انفجرا في نوبة من الضحك والقهقهة. راح هو-هو يرقُص مُتحركًا إلى الأعلى والأسفل، وراح إدوين يتدحرَج في فرحٍ على الأرض، وأتى الصبيُّ الثالث الذي يرعى الماعز جرْيًا ليشارك في هذا المرَح.
تحدَّث العجوز مُتوسلًا في خِضَّم حزنه دون أن يحاول مسْح الدموع التي كانت ما تزال تنساب من عينيه: «ضعْها لِتبردَ يا إدوين، ضعْها لتبرد. وضَعْ سلطعونًا ليبردَ أيضًا. أنت تعرف أن جدَّك يُحب السلطعون.»
تصاعد من الجمر طشيشٌ كبير نتجَ عن تفتُّح أصداف بلَح البحر وخروج ما بها من سوائل. كانت أصدافًا كبيرة يتراوح طول الواحدة منها بين ثلاث بوصاتٍ وستٍ، وقد جمعها الصبيان بالعِصيِّ ووضعوها على قطعةٍ كبيرة من الخشب كي تبرد.
«حين كنتُ صبيًّا، لم نكن نسخُر من كهولنا، بل كنا نحترِمهم.»
لم يُبدِ الصبيان أيَّ اهتمام، واستمرَّ الجدُّ في الغمغمة بسيلٍ مُفكك من الشكوى والتبكيت، لكنه كان أكثر حِرصًا في هذه المرة ولم يحرِق فمَه. شرعوا جميعًا في الأكل، ولم يستخدموا في ذلك شيئًا سوى أيديهم، وقد أحدثوا ضوضاءً عالية بأفواههم وتلمَّظت شفاههم بصوتٍ مسموع. الصبيُّ الثالث الذي كان يُدعى هير-ليب، وضعَ رشَّةً من الرمل خلسةً على بلحة البحر التي كان العجوز يحملها إلى فمه، وحين وصلتْ حُبيبات الرمل إلى غشائه المُخاطي ولَثتِه، جلجلَ صوت الضحك مرةً أخرى. كان مُدركًا أنَّهم قد جعلوا منه أضحوكة، وراحَ يبصُق ويُغمغم إلى أن أعطاه إدوين، مُترددًا، قربةً من الماء العذب ليغسل بها فمه.
تساءل إدوين: «أين السلطعون يا هو-هو؟ إنَّ الجدَّ يرغَب في تناول وجبةٍ خفيفة.»
مرةً أخرى، لمعَتْ عينا الجدِّ شراهةً بينما كان يتناول السلطعون. لقد كانت صَدفةً كاملة بسيقانها وجميع أجزائها، لكنَّ اللحم كان قد غادرها منذ وقتٍ طويل. وبأصابع مُرتجفة وغمغمة التلهُّف، كسر العجوز إحدى السيقان، ووجدَها مليئةً بالفراغ.
راح يصيح شاكيًا: «أين السلطعون يا هو-هو؟ أين السلطعون؟»
«لقد كنتُ أمزح أيُّها الجدُّ، لا يُوجد سلطعون! إنني لم أعثُر على أيٍّ منه أبدًا.»
امتلأ الصِّبية بالبهجة عندما رأوا دموع خيبة الأمل وقد انسالت على خدَّي العجوز، وفي غفلةٍ منه بعد ذلك، وضع هو-هو على الصَّدَفة الفارغة سلطعونًا مَطهوًا طازجًا. وقد انبعثت من اللحم الأبيض الذي قد نُزِع من السيقان المشقوقة، غيمةٌ من البُخار الطيب الرائحة، وهو ما أثار منخاري العجوز فنظر إلى الأسفل في دهشة.
تغيَّر مزاجُه على الفور إلى حالةٍ من الفرح، وراح يتشمَّم ويُتمتم ويُغمغم، فكانت هذه الأصوات أشبَهَ بترنيمةٍ من البهجة قد ترنَّم بها قبل أن يبدأ في الأكل. لم يُعِر الصبية لذلك كثيرًا من الاهتمام؛ إذ كان مشهدًا مألوفًا بالنسبة لهم، وهم لم يلاحظوا أيضًا ما كان يُبديه من تعجُّبٍ بين الحين والآخر، ولا ما كان يتفوَّه به من عباراتٍ لم تكن تحمل أي معنًى بالنسبة إليهم. ومن أمثلة ذلك ما تفوَّه به حين تلمَّظ بشفتَيه وعضَّ على لثتِه مُتمتمًا: «المايونيز! فقط تخيَّلوا … المايونيز! لقد مرَّت سِتُّون عامًا على آخر ما صُنِع منه! على مدى جيلَين، لم يكن هناك أثرٌ لرائحته! عجبًا، في تلك الأيام كان يُقدَّم في جميع المطاعم مع السلطعون.»
حين اكتفى العجوز من الطعام، تنهَّد ومسح يدَيه على ساقَيه العاريتَين، وشخَصَ ببصره إلى البحر. ومع شعوره بالشبَع لِما عُمِّرت به معدته، تملَّكتْه الذكريات.
«تخيَّلوا! لقد رأيتُ هذا الشاطئ مُفعمًا بالحياة مع وجود الرجال والنساء والأطفال في أيام عطلة الآحاد الرائقة، ولم يكن هناك من دِبَبة تلتهمهم! وفي الأعلى على هذا الجرف، كان هناك مطعمٌ كبير تستطيع أن تأكل فيه أيَّ شيءٍ تريده. في ذلك الوقت، كان يعيش في سان فرانسيسكو أربعة ملايين فرد، والآن لا يعيش في المدينة والمقاطعة بأكملها سوى أربعين فردًا. وهناك بعيدًا في البحر، كان يُرى دائمًا الكثير من السفن في طريق ذهابها إلى مضيق جولدن جيت أو إيابها منه. وكانت هناك السفن الهوائية؛ تلك الآلات الطائرة التي يمكن قيادتها وتوجيهها. لقد كان بإمكانها أن تطير مائتَي مِيلٍ في الساعة؛ فقد كانت عقود الإيجار التي أُبرِمت بين أصحاب هذه السفن وشركة نيويورك آند سان فرانسيسكو ليمتِدْ تشترط ذلك كحدٍّ أدنى. ثمَّة رجل فرنسي نسيتُ اسمه قد نجح في أن يوصِّل سرعة هذه السفن إلى ثلاثمائة مِيلٍ في الساعة، لكنَّ الأمر كان ينطوي على بعض الخطورة، بل كان خطيرًا للغاية بالنسبة إلى الأشخاص المُتحفِّظين. غير أنه كان على الطريق الصحيح، وكان سيتوصَّل إلى التدبير المُناسب لولا الطاعون العظيم. حين كنتُ صبيًّا، كان هناك بعضٌ من الأحياء الذين كانوا يتذكَّرون ظهور الطائرات الأولى، وها أنا قد عشتُ إلى أن رأيتُ آخر طائرة منها، وقد كان ذلك قبل سِتِّين عامًا.»
استمرَّ العجوز في الثرثرة دون انتباهٍ من الصِّبية الذين كانوا قد اعتادوا على مثل هذا اللغو منذ فترة طويلة، والذين كانت حصيلتهم اللغوية تفتقِر إلى الجزء الأكبر من الكلمات التي كان يستخدِمها. كان المُلاحَظ أنَّ لغته الإنجليزية التي كان يتحدَّث بها في هذه المُناجاة العشوائية، تتشكَّل من جديدٍ في بناءٍ وصياغة أفضل، غير أنها كانت تنتكِس بشدَّة مرة أخرى حين كان يتحدَّث مع الصبية مباشرةً، فتعود لتصطبغ بما تصطبغ به أساليبهم وتراكيبهم البدائية الخرقاء.
تابع العجوزُ حديثه الشارد: «لكن السلطعون لم يكن كثيرًا في تلك الأيام. كان يَجري اصطيادُه، وكان طعامًا فاخرًا رائعًا. لم يكن موسم الصيد يزيد عن شهرٍ واحد، أما الآن فيمكن اصطياد السلطعون على مدى السنة بأكملها. تخيَّلوا، يمكن للمرء أن يصطاد كلَّ ما يريده من السلطعون في أيِّ وقتٍ يريده، من زبَد الأمواج المُتكسِّرة على شاطئ كليف هاوس!»
ثمة اهتياجٌ مفاجئ بين الماعز جعل الصِّبية يهبُّون واقفِين. واندفعتِ الكلاب المجتمعة حول النار لكي تنضم إلى رفيقها المزمجِر الذي كان يحرس الماعز، بينما راحت الماعز نفسها تندفع في اتجاه حُماتها من البشر. انحدرتْ سِتَّة أجسامٍ رمادية هزيلة على الروابي الرملية وواجهت الكلاب المُتأهِّبة. رمى إدوين سهمًا لم يُصِب الهدف، لكنَّ هير-ليب، بمِقلاعه الذي يُشبه المقلاع الذي استخدَمه داود في معركته مع جالوت، قذفَ في الهواء حجارةً أصدرتْ صفيرًا لسُرعة طيرانها. سقطت هذه الحجارة بين الذئاب مباشرةً؛ فتسلَّلت بعيدًا إلى الأعماق السحيقة في غابة الكافور.
ضحِك الصبية واستلقَوا مُجدَّدًا على الرمال، وراح الجدُّ يتنهَّد تنهُّدًا ثقيلًا. كان قد أكل كثيرًا، وإذ وضع يدَيه على بطنه وتشابكتْ أصابعه، استكمل هذَيانه.
غمغم بكلماتٍ كان من الواضح أنها اقتباسٌ ما: «تتلاشى الأنظمة الزائلة كما يتلاشى الزَّبَد. هذا هو الأمر، زبَد وزوال. كلُّ الجهود المُضنية التي بذلَها الإنسان على الكوكب، تلاشَتْ كالزَّبَد. لقد استأنس الحيوانات النافعة، وقضى على الحيوانات العنيفة، وأخلى الأرض من نباتاتها البريَّة. وبعد ذلك، رحل الإنسان نفسه، ثم حلَّ على الأرض من جديدٍ فيضان الحياة البدائية مُكتسحًا ومُدمِّرًا جميع ما صنعَتْ يداه؛ فغطَّت الحشائش والغابات حقوله من جديد، واستولتِ الحيوانات المُفترسة على قُطعانه، والآن ها هي الذئاب قد وصلتْ إلى شاطئ كليف هاوس.» أرعبتْهُ الفكرة وأردف يقول: «في هذا المكان الذي كان أربعة ملايين من البشر يُرفِّهون عن أنفسهم فيه، أصبحتِ الذئاب البرية تتجوَّل اليوم، وأصبح نسلُنا من الهمَج، يدافعون عن أنفسهم ضدَّ اللصوص ذات المخالب بأسلحتهم البدائية. تخيَّلوا! وكل هذا بسبب «الطاعون القرمزي» …»
جذبَتِ الصِّفة انتباه هير-ليب.
فتحدَّث إلى إدوين قائلًا: «إنه يُردِّد هذه الكلمة كثيرًا. ما القرمزي؟»
تحدَّث العجوز باقتباس: «اللون القرمزي في أشجار القيقب يهزُّني كصياح الأبواق حين تمرُّ بي.»
أجاب إدوين عن سؤاله: «أعرف أنه اللون الأحمر، وأنت لا تعرفه لأنك من قبيلة الشوفير. إنهم لا يعرفون أيَّ شيء أبدًا، لا أحد منهم يعرف أيَّ شيء.»
تحدَّث هير-ليب مُتبرِّمًا: «لكن الأحمر هو الأحمر، أليس كذلك؟ فما الداعي إلى التحذلق وتسميتِه بالقرمزي؟»
توجَّه بالسؤال إلى الجدِّ: «لماذا تتحدَّث كثيرًا عن أشياء لا يعرفها أحدٌ أيُّها الجدُّ؟ القرمزي ليس بشيء، لكن الأحمر هو الأحمر؛ فلماذا لا تقول أحمر إذن؟»
وجاءته الإجابة: «ليس الأحمر بالكلمة المناسبة. لقد كان الطاعون قرمزيًّا، كان الوجه والجسد بأكمله يتحوَّل إلى اللون القرمزي في غضون ساعةٍ واحدة. أتظنُّني لا أعرف؟ أتظنُّني لم أرَ القدْر الكافي منه؟ وأنا أقول لك إنه قرمزي؛ لأنه … حسنًا، لأنه كان قرمزيًّا؛ فما من كلمة أخرى لوصفِه.»
تمتم هير-ليب بعناد: «وصفُه بالأحمر هو الأنسَب في رأيي. إنَّ أبي يصف الأحمر بأنه أحمر، ولا بدَّ أنه يعرف هو أيضًا. إنه يقول إنَّ الجميع قد ماتوا بسبب «الطاعون الأحمر».»
أجاب الجدُّ بحدَّة: «إنَّ أباك رجلٌ من العامَّة، وقد كان أبوه أيضًا رجلًا من العامَّة. أتظنُّني لا أعرف أصل قبيلة الشوفير؟ لقد كان جدُّك سائقًا خاصًّا، كان خادمًا ولم يتلقَّ أي قدر من التعليم. لقد كان يعمل لدى أشخاصٍ آخرين. غير أنَّ جدَّتك كانت من أصلٍ طيب؛ كلُّ ما هنالك أنَّ أبناءها لم يكونوا على شاكلتها. أتظنُّني لا أذكُر المرة الأولى التي التقيتُهم فيها، حين كانوا يصطادون السمك من بحيرة تميسكال؟»
سأل إدوين: «وما التعليم؟»
تحدَّث هير-ليب ساخرًا: «أنْ تقول قرمزيًّا بدلًا من أن تقول أحمر.» ثم عاد إلى الهجوم على الجدِّ قائلًا: «لقد أخبرَني أبي بما أخبرَه به أبوه قبل أن يموت، وقال إنَّ زوجتك كانت من قبيلة سانتا روزان، وأنها لم تكن ذات شأنٍ. قال إنها كانت «نادلة» قبل الطاعون الأحمر، غير أنَّني لا أعرف ماذا تكون النادلة. أخبِرْني أنت يا إدوين.»
لكنَّ إدوين هزَّ رأسَه في إشارة لعدَم عِلمه بالأمر.
صدَّق الجدُّ على كلامه قائلًا: «هذا صحيحٌ، لقد كانت نادلة في مطعم، لكنها كانت امرأةً جيدة، وكانت أمُّك ابنتَها. لقد كان عدد النساء قليلًا للغاية بعد الطاعون. إنها الوحيدة التي استطعتُ أن أتَّخِذها زوجةً لي، حتى إن كانت نادلة مِثلما يقول أبوك عنها. غير أنه ليس من الجيد أن نتحدَّث عن أسلافنا بهذه الطريقة.»
«أبي يقول إنَّ زوجة أول أفراد قبيلة الشوفير كانت ليدي.»
تساءل هو-هو: «وما معنى ليدي؟»
أجاب هير-ليب بسرعة: «الليدي هي زوجة الشوفير.»
راح العجوز يشرَح لهم بالتفصيل: «كان بيل هو أول أفراد قبيلة الشوفير، وقد كان رجلًا من العامَّة، لكنَّ زوجته كانت ليدي، لقد كانت سيدة عظيمة. قبل الطاعون القرمزي، كانت زوجة فان ووردن الذي كان رئيسًا لمجلس الأقطاب الصناعية، وأحد الرؤساء العديدين الذين حكَموا أمريكا. لقد كانت ثروته تُقدَّر بمليارٍ وثمانمائة مليون دولار؛ والدولار عملة كتلك العملة التي تحملها في جرابك يا إدوين. ثم حلَّ الطاعون القرمزي، وأصبحت زوجته، زوجة بيل أول أفراد قبيلة الشوفير، وقد اعتاد على ضربِها أيضًا. لقد رأيتُ ذلك بنفسي.»
كان هو-هو يرقُد على بطنه وينبِش بفتورٍ بأصابع قدمَيه في الرمال، لكنه صاح ثُم بدأ يستكشف الأمر؛ ففحص ظفر إصبع قدمه أولًا، ثم الحفرة التي نبشَها به. انضمَّ إليه الصبيَّان الآخران، وراحوا جميعًا يُنقِّبون في الرمال سريعًا بأيديهم إلى أن كشفوا عن ثلاثة هياكل عظمية كانت هناك. كان اثنان من هذه الهياكل لشخصَين بالِغَين، أما الثالث فقد كان لطفلٍ غير مُكتمل النمو. تزحزح العجوز على الأرض، وأنعَم النظر فيما وجدوه.
تحدَّث مُعلنًا: «إنهم من ضحايا الطاعون؛ فتلك هي الحال التي كانوا يموتون عليها في الأيام الأخيرة. لا بدَّ أنهم كانوا أُسرة راحوا يَهربون من العدوى؛ فماتوا هنا على شاطئ كليف هاوس. إنهم … ماذا تفعل يا إدوين؟»
طرح العجوز السؤال بنبرةٍ تنمُّ عن ارتباكٍ مفاجئ، عندما بدأ إدوين في الطرْق على الأسنان الموجودة في واحدةٍ من الجماجم باستخدام ظَهر سكين الصيد، وإخراجها من الفكَّين.
وقد أجاب إدوين: «سأنظُمُها عقدًا.»
أخذ الصِّبية الثلاثة يعملون بكدٍ على نظْم ذلك العقد، وتصاعدتْ أصوات الدقِّ والطَّرْق التي راح الجدُّ يُثرثر خلالها دونما انتباهٍ من أحد.
«إنكم همجيُّون حقًّا. لقد بدأتُم بالفعل في ارتداء الأسنان البشرية، وفي جيل آخر، ستبدءون في ثَقْب أنوفكم وآذانكم وترتدون الحُلِيَّ من العظام والأصداف. أعرف هذا. إنَّ النوع البشري محكوم عليه بأن يغوص مرةً أخرى إلى ما هو أبعدُ فأبعد. البدائية قبل أن يبدأ مرة أخرى في صعوده الدَّامي نحوَ الحضارة. حين يزداد عددُنا ونشعُر بحاجتنا إلى المساحة، فسوف يقتُل بعضُنا بعضًا. أعتقد أنكم بعد ذلك سترتَدُون خصلات الشعر البشري على خصوركم، مثلما بدأتَ أنت بالفعل يا إدوين، يا ألطف أحفادي، بارتداء ذَيل الخنزير الكريه هذا. ارمِهِ بعيدًا يا إدوين! ارمِهِ بعيدًا يا ولدي!»
علَّقَ هير-ليب قائلًا: «ما أكثر هذَيان هذا العجوز.» وحين استخرجوا الأسنان كلها، بدءوا في محاولة تقسيمها بينهم بالتَّساوي.
كانت حركاتهم سريعةً للغاية ومُباغتة، وكان حديثهم في المناقشة الحامية التي دارت بشأن تقسيم تشكيلة الأسنان هذرًا بكلِّ ما تحمِله الكلمة من معنًى. فقد كانوا يتحدَّثون بكلماتٍ تتكوَّن من مقطعٍ واحد، وجُمَل قصيرة مُتقطعة هي أقرب إلى الرطانة منها إلى اللغة. وبالرغم من ذلك، كانت تحمل في طيَّاتها بعض الملامح التي تدلُّ على وجود بناءٍ نَحْوي ما، وظهرت فيها آثار تدلُّ على اقترانها بثقافةٍ أعلى. حتى حديث الجدِّ كان مَعيبًا للغاية، حتى إنه كان يبدو محْضَ هراءٍ للقارئ، لو نُقِل حرفيًّا كما قاله بالضبط. غير أنَّ تلك كانت لغته عند حديثه مع الصِّبية فقط.
أما حين كان يصِل إلى الذروة في الثرثرة إلى نفسه، فقد كانت لغته تتطهَّر ببطءٍ إلى أن تُصبح لغة إنجليزية نقيَّة. كانت الجُمَل تزداد طولًا، وكانت طريقة نُطقِها تتميز بالإيقاع والسلاسة التي تُذكِّر بمنصة المحاضرات.
حين انتهى أمر الأسنان نهايةً مُرضية، تحدث هير-ليب سائلًا: «أخبِرْنا عن الطاعون الأحمر أيُّها الجدُّ.»
علَّق إدوين مُصوِّبًا: «الطاعون القرمزي.»
واصل هير-ليب حديثه: «ولا تُحدِّثنا بهذه اللهجة الغريبة. حدِّثنا حديثًا مفهومًا أيُّها الجدُّ، مثلما يتحدَّث من ينتمون إلى قبيلة سانتا روزان. فهم لا يتحدَّثون بطريقتِك هذه.»