المضمون والصورة
على ضوء التطور التاريخي لنظرية الشعر نستطيع أن ننظر الآن في مقوِّمات هذا الفن، وهي في مجموعها لا يمكن أن تخرج عن المضمون والصورة؛ أي عن المادة الأولية التي يصبُّها الشاعر في قصيدة، والصورة التي يبني بها قصيده، والبحث في المضمون الشعري يعتبر من المباحث الجديدة؛ إذ إن النقد التقليدي والتاريخ الأدبي المتوارَث كانا يبحثان دائمًا، في أغراض الشعر وأهدافه أكثر مما يبحثان في مضمونه، فالعرب القدماء مثلًا كانوا يقسِّمون الشعر بحسب أغراضه فيجعلونه مدحًا وهجاءً وغزلًا ورثاءً ووصفًا وحماسًا وما إليها، دون عنايةٍ كبيرة بالمضمون الذي يصبُّه الشاعر في كلٍّ من هذه الأغراض حتى رأيناهم يقولون مثلًا إن المدح ثناء على الحي والرثاء ثناء على الميت، دون مناقشة لطبيعة المضمون الذي يجب أن يصبَّه الشاعر في قصيدة الرثاء، وهل يحسن أن يكون هذا المضمون تفجُّعًا على الميت وحزنًا لوفاته أو مدحًا له وتسجيلًا لفضائله، وتفلسفًا سطحيًّا حول الموت والحياة والقضاء والقدر، أو مزجًا بين كل هذه العناصر أو تغليبًا لأحدها على الآخر.
ولكن ظهور علم الجمال وفلسفته في العصور الحديثة أخذ يربط بين الشعر وغيره من الفنون الجمالية، ويخضعها كلها لفلسفاتٍ جماليةٍ مختلفة، ويحاول أن يرسم لكل فن مجالاتٍ خاصةً حينًا آخر، كما يبحث في مضمون كل فن وصوره.
ففي العصور القديمة كان الاعتقاد السائد أن الأشياء الجميلة وحدها هي التي تصلح لأن تكون مصدرًا للإلهام الشعري، بل ومصدرًا للفنون الجميلة جميعها، ولكن التفكير الحديث أخذ يُخلخِل هذه النظرية فيرى أن الأشياء القبيحة قد تصلح هي الأخرى لأن تكون موضوعًا للفن الجميل، وأننا قد نطرب لرؤية هذه الأشياء القبيحة مصورة أو معبرًا عنها بأحد تلك الفنون مع أننا لا نطرب، بل ولا نرتاح لرؤيتها في الطبيعة على نحو ما نطرب مثلًا لرؤية لوحة زيتية تصور رجلًا فقيرًا مريضًا ملقى على قارعة الطريق؛ فنطرب باللوحة وإن كنا ننفر من مشاهدة موضوعها على الطبيعة، وفي تفسير ذلك يختلف المفكِّرون؛ فمنهم من يرجع طربنا إلى مهارة المصوِّر، ومنهم من يُرجِعه إلى ما يُضفيه المصوِّر على موضوعه من ذات نفسه ومن قوة التعبير المثير، ومنهم من يجمع بين الأمرين، ولعلَّنا نجد أمثلةً كثيرة على ذلك في شعر الهجاء الذي ازدهر عند الشعراء القدامى من عرب وغير عرب، فهو شعر يُصوِّر القبيح ومع ذلك نطرب له ونُعجَب به، وعند شعراء النقائض وكبار الهجَّائين العرب من أمثال الحطيئة وابن الرومي شواهد لا تنفد لهذا الشعر الجميل الذي يصوِّر القبائح.
مجالات الفنون
ولقد اختار لسنج لبحثه هذا مجالًا مواتيًا هو مجال الوصف؛ لينظر إلى أي مدًى تستطيع الفنون المختلفة أن تتسابق في مجاله، وقد أثار هذا البحث في نفسه قراءته لوصف الشاعر فرجيل في إينيادة الرومان للعذاب الذي أنزلته الآلهة بالكاهن لاوكون الذي خان أسرارها، فأرسلت إليه أسرابًا من الأفاعي التي طوَّقته هو وأولاده وعصرتهم عصرًا أنزل بهم أقصى العذاب. ورأى لسنج إلى جوار هذا الوصف الشعري المثير لمأساة لاوكون عدة تماثيل تُجسِّم هذا الكاهن وأولاده بين أحضانه والأفاعي تلتفُّ بهم وتعتصرهم، وقد ارتسمت على ملامحهم آلام عذابها المُميت؛ فأخذ هذا الناقد الكبير يعقد المقارنات بين قوة تعبير الوصف الشعري والفن التشكيلي ليستطرد بعد ذلك إلى البحث في مجالات الفنون عامة، وهل يحسن أن يتخيَّر كلٌّ منها مجاله أم يدلف إلى كل المجالات، وقد دوَّن كل هذه المقارنات في كتابه النقدي الشهير المسمى «لاوكون».
والنتيجة الصلبة التي نخرج بها من مطالعة كتاب «لاوكون» ﻟ «لسنج» وتحليله: هي قوله إن للفن التشكيلي لمحة في المكان، وأما الفن الشعري فله لمحات في الزمن بمعنى أن المصوِّر أو النحَّات لا يستطيع أن يلتقط بفنه غير وضعٍ واحد لموضوعه أي لمحةً واحدة في المكان، أما الشاعر فيستطيع أن يصوِّر بفنِّه عدة أوضاعٍ متلاحقة للموصوف؛ أي عدة لمحات في الزمن على نحو ما نشاهد مصوِّرًا أو نحَّاتًا مثلًا يرسم صورة أو ينحت تمثالًا لحصان في وضع معيَّن بينما نرى شاعرًا مثل امرئ القيس يُقدِّم لنا في بيتِ شعرٍ واحدٍ عدة أوضاع للحصان؛ حيث يقول:
إذ من المؤكد أن أي مصوِّر أو نحات لا يستطيع أن يجمع في لوحةٍ واحدة أو في تمثالٍ واحد كل هذه الأوضاع التي يمكن أن يتخذها الحصان في كَرِّه وفَرِّه وإقباله وإدباره كجلمود صخر ينحدر على سفح ربوة.
هذا وقد استغلَّ ناقدنا المرحوم إبراهيم عبد القادر المازني نظرية «لسنج» هذه في دراسته لفن الوصف عند ابن الرومي في المقالات التي كتبها عنه، وجمعت في كتابه «حصاد الهشيم» حيث أخذ يدلِّل على فطنة ابن الرومي الفنية باختياره في الوصف الشعري المواضيع التي يحذقها هذا الفن ويبذُّ فيها غيره من الفنون، ونعني بها «مواضيع الحركة» ذات المراحل المتلاحقة التي يستطيع الشعر وحده أن يصوِّرها ويوحي بها في أضيق حيز، وقد اختار المرحوم المازني للتدليل على ذلك وصف ابن الرومي للخباز وهو يصنع الرقاق؛ حيث قال:
ففي هذه الأبيات الثلاثة استطاع ابن الرومي أن يصوِّر صانع الرقاق في أوضاعه المتلاحقة؛ أي في لمحاتٍ متتابعة في الزمن لا في وضعٍ مكانيٍّ محدَّد على نحو ما تستطيع عادة الفنون التشكيلية.
وارتكازًا على هذا التمييز البادي الوجاهة حاول «لسنج» في كتابه أن يُحدِّد مجالات الفنون المختلفة، ويفصل بينها بحيث لا ينبغي أن يجازف فن منها بالخروج من مجاله إلى مجالٍ آخر يتخلف فيه، ولكن أساس البحث لم يلبث أن تغيَّر، فلم يعد يجري في تحديد المجالات الفنية بل في خصائص كل فن وممكناته حتى داخل المجال الواحد، فالفنون التشكيلية مثلًا تستطيع أن تلتقط لمحة في المكان لتصوِّرها، كما يستطيع فن الشعر أن يلتقط اللمحة نفسها، ومع ذلك يختلف مضمون أحدهما عن مضمون الآخر، وإذا كان تاريخ الشعر بخاصة والفنون عامة يوحي بأن كل فن قد حاول أن يغتصب خصائص الفن الآخر وإمكانياته حتى قيل — كما سبق أن أوضحنا — إن الشعر رسم ناطق والرسم شعر صامت، فإن مضمون كلٍّ من الفنَّين قد أخذ يتحدَّد بعد ذلك على نحو يلوح لنا اليوم حاسمًا، فالشاعر لم يعد يطمح إلى تجسيم الموصوفات كما كان يريد «البرناسيون» وأنصار الفن للفن، بل أخذ يحصر همه في أن يُعبِّر عن وقع الموصوفات في نفسه وتفاعلها مع وجدانه، وكأن الوصف قد صار ضربًا من شعر الوجدان لا ضربًا من المحاكاة الجمالية، حتى ليلوح لنا أحيانًا كثيرة أن الشاعر الحديث لا يلجأ إلى الوصف للتجسيد الحسي، بل كمحكٍّ للوجدان وامتزاج بالطبيعة وتجاوب معها وانفعال بها قد يصل إلى حد الحلول الشعري؛ أي إلى حد فناء الشاعر في الطبيعة وامتزاجه بها وخلع وجدانه عليها على نحو ما قال بودلير «إن الأشياء تفكر خلالي، كما أفكر خلالها.» ولعلنا نستطيع أن نجد مثلًا رائعًا لهذا الوصف الوجداني الذي يصل إلى حد الحلول الشعري في إحدى روائع أدبنا العربي الحديث وهي قصيدة «المساء» التي قالها شاعرنا الكبير خليل مطران في صدر شبابه سنة ١٩٠٢ وهو مريض بمكس الإسكندرية، ومطلعها:
وفيها يقول:
•••
ففي هذه القصيدة يشكو الشاعر ألمه ويحنُّ لحبيبته، ويصف مشاهد الطبيعة في مكس الإسكندرية، ولكن الوصف عنده كشاعرٍ حديث أبعدُ ما يكون عن الوصف الحسِّي الذي ألِفناه في شعرنا العربي القديم؛ إذ أصبح ما يمكن أن نسمِّيه بالوصف الوجداني؛ أي الوصف الذي يمتزج فيه الشاعر بالطبيعة ويتبادل وإياها ألوان وجدانه حتى لكأنه قد حلَّت به وحلَّ بها، فرياح البحر الهوجاء صدًى لاضطراب خواطره، والصخرة الصمَّاء ينتابها موج كموج مكارهه، والبحر خفَّاق الجوانب ضائق كمدًا كصدر الشاعر ساعة الإمساء، وكدرة البرية صاعدة إلى عينيه من الأحشاء، والأفق معتكر قريح الجفن، وهو يرى خواطره بعينيه كدامية السحاب، والدمع يسيل من جفنه مُشعشعًا بسنى الشعاع الغارب، والشمس في انحدارها الأخير بين السحاب كأنها آخر دمعة للكون تمتزج بدموع الشاعر لترثيه، ومن كل هذا تتكون المرآة التي يرى فيها الشاعر نفسه وترى فيها الطبيعة نفسها، وبذلك يتم التقابل بين الطبيعة والوجدان ويبرز حتى في هذا المجال الطابع الوجداني الذي أصبح — ونُرجِّح أن يظل — الطابع الأساسي للشعر الغنائي كله من حيث مضمونه.
الفكر والتأمل
وإذا كان الشعر الغنائي في العصور القديمة والعصور الوسطى قد عرف ما يسمى بشعر الفكرة وشعر الحكم، وكتب منه الممتع المركز الصافي الجوهر، فإن هذا النوع من الشعر قد تطوَّر في العصور الحديثة من الفكر والفلسفة والحكمة إلى التأمل والاستبطان الذاتي، فلم يعُدِ الشعر الحديث يحفل بالفكرة في ذاتها، ولا بالحكمة في ذاتها، بل يحفل بتأمل الأفكار والحقائق تأملًا وجدانيًّا؛ أي بالتعبير عن وقع هذه الحقائق والأفكار والحكم في النفس البشرية وتأثيره فيها عن طريق التأمل، والنظر في تأثيرها في حياة الإنسان ومصيره وسعادته أو شقائه؛ بحيث يمكن القول إن ما نسميه قديمًا بشعر الفكرة قد أصبح من الواجب أن يصبح اليوم شعر التأمل الفكري وإلا رميناه بالجفاف والنثرية وفقًا لمدى بُعده عن الطابع الوجداني الذي نسعى إلى تقريره كطابع حاسم للفن الشعري الذي لا تزال الإنسانية تنتجه حتى اليوم، وهو فن الشعر الغنائي الذي طفا على وجه الزمن ولم يستطع مَوجُه أن يبتلعه كما ابتلع من قبلُ شعر الملاحم وشعر التمثيليات، وكان السبب الأساسي في الإفلات من طوفان الزمن هو إشباعه لحاجةٍ إنسانيةٍ خالدة ما خلد الإنسان، وهي الحاجة إلى التعبير عن الوجدان البشري.
وإذا كان شاعرنا خليل مطران قد كان له أكبر الفضل خلال نهضتنا الشعرية الحديثة في تطوير فن الوصف الشعري من الوصف الحسي إلى الوصف الوجداني مجاراة للتطور الإنساني العام؛ فإن شاعرنا الآخر عبد الرحمن شكري قد كان له أكبر الفضل في تطوير شعر الفكرة إلى شعر التأمل الوجداني والاستبطان الذاتي، فعبد الرحمن شكري قد يلوح شعره عند النظرة السطحية الأولى من شعر الفكرة والتفلسف، ولكننا عند إمعان النظر فيه لا نلبث أن نتبين أنه قد تطور بهذا النوع من الشعر تطورًا واسع المدى، بأن أحاله من تفكيرٍ فلسفي إلى تأملٍ وجداني، واستبطانٍ ذاتي، وتعبير عن موقف النفس البشرية من الحقائق التي نعلمها والحقائق التي نجهلها على السواء، حتى ليصحُّ — بل يجب — أن نسمي شعره بشعر «التأمل الوجداني» على نحو ما سمينا فن الوصف عند مطران بأنه هو الآخر فن الوصف الوجداني. ولعلنا نستطيع أن نضع أيدينا على هذه الخاصية الفريدة في شعر عبد الرحمن شكري بالنظر في القصيدة التي يخاطب فيها المجهول في الجزء الخامس من ديوانه ص٣١ حيث يقول:
فهذه القصيدة وكثير من أمثالها من روائع شكري قد تبدو فكرية الطابع ولكنها في الحقيقة ليست من التفكير والتفلسف في شيء، بل هي تأمُّل وجداني خالص للمجهول ومعمَّياته، واستبطان ذاتي لوقع هذا المجهول وتلك المعمَّيات في نفسه البشرية المعذَّبة، وفي كل هذا ما يُحيل شعره إلى شعرٍ وجداني رفيع يجمع بين التأمل الفكري والانفعال الوجداني والاستبطان الذاتي على نحو ما أوضحنا في الجزء الأول من كتابنا عن الشعر المصري بعد شوقي؛ حيث اتخذنا من شعر عبد الرحمن شكري كله ومن خواطره النثرية ما أيدنا به نظرتنا إليه كرائدٍ ضخم من رواد شعرنا العربي المعاصر الذي ماشى التطور العالمي؛ إذ رأيناه ينتقل بالشعر من ظاهر الحواس إلى باطن النفس البشرية، ومن التفكير الفلسفي إلى التأمل الوجداني عن طريق الرمز والإيحاء حينًا، والإفصاح والتصوير البياني حينًا آخر.
وهكذا نخلص من حديثنا عن المضمون الشعري إلى النتيجة نفسها التي حاولنا تأييدها، وهي أن هذا المضمون سواء استمدَّه الشاعر من الطبيعة الخارجية أو من ذات نفسه العاطفية أو الفكرية لا بد أن يتخذ في الشعر الغنائي الطابع الوجداني الذي إذا فقده الشعر فقد جوهره، ولم يستطع أن يعوِّض هذا الفقدان بأية واقعية أو طبيعية أو محاكاة، فالشعر في مضمونه أولًا وآخرًا تعبير عن وجدان الشاعر أيًّا كان مصدر هذا الوجدان الذي تختلط فيه الطبيعة في ذات الشاعر وبمجتمعه وحياة ذلك المجتمع. وإذا كان هناك تطورٌ جديد قد طرأ على نظرية الشعر الغنائي فهو ذلك التطور الذي جاء نتيجة لظهور فلسفاتٍ سياسية واجتماعيةٍ جديدة غطَّت جميع مجالات النشاط البشري بما فيها مجال الشعر الغنائي، وإن يكن من المؤكد كما سبق أن أشرنا أنها لم تستطع أن تقضي على الطابع الوجداني للشعر الغنائي، وكل ما استطاعته هو أن حوَّلت جانبًا من هذا الوجدان من الذاتية؛ أي من الرومانسية إلى الجماعية؛ أي إلى النظرة الاشتراكية للحياة، ولكن دون أن تحيله إلى فنٍّ موضوعيٍّ خالص كما استطاعت أحيانًا في مجال القصة والمسرحية النثريتين.
الصورة أو الشكل
أما من ناحية الصورة والتركيب الموسيقي للقصيدة العربية، فيُخيل إلينا أن هذه القضية لم تدرس بعدُ في شعرنا العربي دراسةً علمية يجب أن ترتكز على المنهج التاريخي والمنهج المقارن معًا؛ وذلك لأننا لو نظرنا إلى صور الشعر وتركيباته في الآداب العالمية لوجدنا أنها قد اتخذت أشكالًا متباينة، فالملحمة الشعرية كانت لها صورتها وتركيبها الموسيقي، والمسرحية الشعرية كذلك، بل إن القصائد الغنائية التي تعيننا هنا قد اتخذت هي الأخرى عدة صور وتراكيب في الآداب الكبيرة، وإذا كنا لا نستطيع استقصاء كل هذه الصور والتراكيب فلا أقل من أن نختار بعضها لنرتكز عليها في الدراسة المقارنة التي تستطيع وحدها أن تكشف لنا صورة القصيدة العربية وتركيبها، بل وأن تعيننا على تفسير هذه الصورة وذلك التركيب.
والسونتة مقطوعةٌ شعريةٌ قصيرة تتكوَّن من أربعة عشر بيتًا، لا تزيد ولا تنقص، مقسَّمة إلى أربعة أجزاء: الجزأين الأولين كل منهما من أربعة أبيات، والجزأين الأخيرين كل منهما من ثلاثة أبيات، وكل سونتة لا تشتمل في العادة إلا على عاطفة أو خاطرة محددة؛ فلا استطراد ولا توارد خواطر ولا إسهاب في قصص أو وصف، بل تعبير أو تصوير مباشر لتجربة بشرية محدَّدة، حتى ليصح أن نترجم كلمة سونتة بعبارة صورة صوتية، وها هو ذا أنموذج لها من شعر رونسار:
ونكتفي بهذين النوعين من القصائد الغنائية عند الغربيين كدليل على تنوع الصورة والتركيب الموسيقي تنوُّعًا محدَّدًا، وهما نشيد النصر والسونتة؛ لنتساءل بعد ذلك لماذا لم تتنوَّع الصور والتراكيب الموسيقية في شعرنا العربي التقليدي كما تنوَّعت عند الغربيين، حتى إذا اطلعنا على آداب الغرب وأخذنا ننوِّع من صور القصيدة وتركيبها الموسيقي عندما هبَّت الثورات البدائية الفقيرة ضد كل محاولة للتجديد أو للتنويع؟
وفي الحق أننا لا نستطيع أن نجد تفسيرًا لرتابة التركيب الموسيقي للقصيدة العربية التقليدية وتحجُّر صورتها، إلا في أثر البيئة عليها، سواء منها البيئة الطبيعية أو البيئة الاجتماعية.
فالبيئة الطبيعية هي تلك البيئة التي نجدها في بادية العرب؛ أي البيئة الصحراوية المتشابهة المعالم الممتدة الدروب على نسقٍ واحد في أضيق حدود التنوع، فلا غابات ولا جداول وأنهار ولا جبال مورقة، بل في الغالب الأعم صحراوات ممتدَّة على مدى البصر تعبرها الناقة بخطًى وئيدة وإيقاع مطرد هو الذي نجده منعكسًا في التركيب الموسيقي للقصيدة العربية، ومن المؤكد أنه لم يكن من قبيل المصادفة تنوع وتغير التركيب الموسيقي للقصيدة العربية في بلاد الأندلس؛ حيث تتنوَّع مشاهد الطبيعة من جبالٍ مورقة إلى أنهار وجداولَ رقراقةٍ إلى حقول وجنانٍ منبسطة إلى صخور ووديان، فمنذ القرن الثالث الهجري أخذ يظهر في الأندلس ما نسميه بالموشَّحات التي يُعرِّفها ابن خلدون بقوله: إنها فن أحدثه أهل الأندلس ينظمونه أسماطًا أسماطًا، وأغصانًا أغصانًا ويصدرون فيه عن جميع البحور التقليدية مع تركيب الموشح على أشكالٍ متباينة يعتبر من أكثرها ذيوعًا تركيبه من لازمة من بيتين ثم مقطوعة من ثلاثة أبيات، وهكذا إلى أن ينتهي الموشَّح مثل قول ابن سهل الأندلسي في توشيح له:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
ثم إن الشعر العربي التقليدي لم يكد ينتشر في الأمصار ذات البيئات الطبيعية المتباينة حتى أخذت صوره وتراكيبه الموسيقية تتعدَّد وتتنوَّع على غرار تلك البيئات الطبيعية؛ فنشأ في الشعر الشعبي أنواع من التراكيب الموسيقية المختلفة التي يطول بنا تحليلها مثل الزجل والمواليا والكان كان والقوما.
وأما البيئة الاجتماعية فقد كانت العامل الأساسي الذي تحكَّم في تصميم القصيدة العربية التقليدية؛ ذلك لأن هذه كانت بلا شك عند نشأتها التقليدية الأولى تعبيرًا من الشاعر عن وجدانه وخلجات روحه أو وصفًا لبيئته استجابة لغريزة المحاكاة الشهيرة، غير أن البيئة الاجتماعية الفقيرة لم تلبث أن أنتجت التكسُّب بالشعر، فاضطر الشاعر إلى المديح وعزَّ عليه أن يترك هدفه التلقائي من قول الشعر وهو التعبير عن وجدانه ووصف بيئته، فحاول أن يجمع الهدفين، ومن هنا ظهرت الصورة التقليدية للقصيدة العربية وتجمَّدت، وهي تلك الصورة التي وصفتها مدارس التجديد في شعرنا العربي المعاصر بالتفكك وانعدام وحدة الغرض فضلًا عن وحدة الموضوع والوحدة العضوية، كما اتهمتها أحدث مدارسنا بالرتابة المسرفة، وعدم التصميم الهندسي في البناء الموسيقي، والوقوف عند وحدة البيت بدلًا من وحدة التفعيلة التي يمكن أن تواتي الصورة الجديدة من القصيدة العربية التي تتضمن موضوعًا يقسَّم إلى مراحل، ومع ذلك يكون في جملته وحدةً عضوية منسقة على نحو ما سبق أن أوضحنا.