الشعر العربي وتطوره
فرغنا من الحديث عن النظرية العامة للشعر من حيث أساسها الفلسفي ومقوماتها الأساسية وتطور تلك المقومات، ونودًّ أن ننظر في الشعر العربي على ضوء نظرية الشعر العامة، وتطور ذلك الشعر منذ العصر الجاهلي حتى اليوم.
وأول ما يستحق النظر هو تحديد وتعريف الفنون الشعرية التي عرفها العرب دون غيرها من فنونه الأخرى مع تعليلٍ سريع لما عرفوه وما جهلوه.
فالأدب العربي الفني لم يعرف من فنون الشعر المعروفة في الآداب العالمية غير فنٍّ واحد هو الفن المعروف باسم «الشعر الغنائي» أي شعر القصائد دون الفنَّيْن الآخرين وهما: فن الملاحم، وفن الشعر التمثيلي. وإن يكن الأدب الشعبي قد كان أكثر تنوعًا وأوسع آفاقًا من الأدب الفني الذي ظل حبيسًا في الآفاق التي رسمها أدب الجزيرة العربية منذ العصر الجاهلي، فالأدب العربي لم يلبث أن انتقل مع الإسلام واللغة العربية إلى أقطارٍ مترامية خلف حدود الجزيرة، ولم تقنع الشعوب الجديدة التي اتخذت العربية لسانًا بما رسم أدب الجزيرة من مجالات ونماذج وأصول وقيود؛ لأن بيئات تلك الشعوب وحاجاتها النفسية كانت تختلف عن بيئة الجزيرة وحاجاتها؛ ولذلك نرى الشعوب التي تعرَّبت في العراق والشام ومصر وشمال أفريقيا تخلق لنفسها الملاحم الشعبية التي لا تنتسب لشاعرٍ معين بل يشترك في تأليفها والإضافة إليها عدد من الشعراء الشعبيين المجهولين، منهم الشاعر فحسب، ومنهم الشاعر والمنشد والعازف على الربابة في وقتٍ واحد، وبفضل هؤلاء الشعراء الشعبيين المجهولين تمتَّعت تلك الشعوب بما لدينا اليوم من ملاحمَ شعبية مثل: ملحمة عنترة وملحمة أبي زيد الهلالي سلامة، وملحمة الظاهر بيبرس، على نحو ما تمتعت بالقصص الشعبية التي اكتسبت شهرةً عالمية مثل قصص ألف ليلة وليلة.
وإذا كان الأدب الفني لم يعرف ما يشبه المسرحيات من قريب أو بعيد لأسباب وتعليلات لا يزال الباحثون يتناقشون فيها، فإن الأدب الشعبي قد عرف فنونًا تشبه إلى حدٍّ ما الفنَّ المسرحي مثل: الأراجوز وخيال الظل، وإن يكن هذا الفن بمعناه الكامل لم ينشأ في عالمنا العربي الحديث تطورًا عن هذه الفنون الشعبية، بل أخذناه عن الغربيين بعد اتصالنا بهم في القرن الماضي وابتداء من سنة ١٨٤٨ وهي السنة التي ابتدأ فيها هذا الفن في منزل أحد التجار الأدباء ببيروت هو مارون نقاش. بل إن فن الشعر العربي التقليدي وهو الفن الغنائي إذا كان قد تحجَّرت صوره وقوالبه في الشرق العربي؛ إذ البيئة شديدة القرب من الجزيرة مهد اللغة وأدبها؛ فإنه لم يلبث أن تمرَّد على هذه الصور المتحجِّرة في بيئةٍ جديدةٍ نائية كبيئة الأندلس؛ حيث ظهرت الموشَّحات كما سبق أن أوضحنا. وفي الشرق والغرب العربي معًا تمرد الشعر الشعبي على تلك الصور المتحجرة أيضًا، فظهرت في الشعر الشعبي فنون الزجل والمواليا والكان كان والقوما وغيرها.
وهكذا نخلص إلى أن شعرنا الفني الفصيح هو وحده الذي اقتصر في أدبنا العربي التقليدي على الشعر الغنائي المحدَّد في صورة القصيدة ذات الوزن الواحد والقافية الواحدة.
طبيعة الشعر العربي
والآن وقد فرغنا من تحديد نوع الشعر العربي التقليدي يحق لنا أن ننظر في طبيعة هذا الشعر وتطوره فنرى أنه قد نشأ منذ جاهليته الأولى مطابقًا مطابقةً عجيبة لنظرية المحاكاة الأرسططالية.
فالشعر الجاهلي من الشعر الذي يصدق عليه إلى أبعد الحدود القول بأن الشعر رسمٌ ناطق؛ أي تصويرٌ حسِّيٌّ للبيئة الطبيعية والبشرية على السواء، وهو شعر لا يكاد يظهر فيه وجدان الشاعر إلا في القليل؛ بحيث لا نستطيع أن نقول عنه إنه تعبير عن وجدان قائله، وإذا كان في العربية شعر يمكن أن يوصَف بأنه من قبيل الفن للفن فهو بلا ريب شعر الوصف الجاهلي، وهو الفن الذي برع فيه شعراء الجاهلية وأتقنوه إلى حد الإعجاز الذي لا نكاد نجد له مثيلًا في أدبٍ عالميٍّ آخرَ؛ وذلك لفرط دقة الملاحظة واستقصاء الدقائق عند شعراء البادية الذين لم يتركوا فيها شيئًا إلا صوَّروه أدقَّ تصوير، فوصفوا في دقَّةٍ حسِّيةٍ بالغةٍ الناقةَ والحصان وحمار الوحش والذئب، كما وصفوا الأطلال والدِّمن والأثافي وبعر الآرام والهضاب والدروب وأعشاب الصحراء، وبالمثل وصفوا المرأة وصفًا حسيًّا دقيقًا، وانحصر غزلهم فيها في هذا الوصف، ولم يعرفوا الغزل العاطفي ولواعج الغرام إلا بعد ظهور الإسلام وفي بيئة الحجاز المُترَفة في العصر الأموي؛ حيث ظهر الغزل العذري عند المجنون، وقيس بن ذريح، وجميل بن معمر، وابن قيس الرقيات، وكُثيِّر عزة.
فامرؤ القيس مثلًا يتغزَّل في الحبيبة فلا يعدو هذا الغزل وصفها الحسي وتصوير مفاتنها الجسمية إما على الطبيعة وإما وفقًا للمثل الأعلى للجمال عند الشاعر وبيئته البدوية، فيقول عنها:
فهذا وصف حسي للمحبوبة لا نكاد نحسُّ فيه أي انفعال للشاعر بجمال ما يصف، وكأنه يصف للوصف أو يفتنُّ للفن، اللهم أن يكون هذا الوصف لمثلٍ أعلى للجمال عند الشاعر وبيئته أكثر منه وصفًا على الطبيعة. ومن المعلوم أن المحاكاة قد تكون لما هو كائن كما قد تكون لما يجب أن يكون أو يمكن أن يكون؛ فالشاعر يصف الحبيبة خلال مغامرةٍ حسية بأنها بيضاءُ خفيفة لحم البطن، ضامرة الخصر، مصقولة الترائب كالمرآة، طويلة الجيد كالظبية في غير فحش؛ أي في غير إسراف، كما يصف شَعرها الأسود الفاحم الذي يغطي ظهرها وقد عقصت بعضه فوق رأسها وأرسلت بعضه، ويصف لين ساقها وطراوته التي يشبهها بالنبات الرخص الذي ينمو في ظل النخيل ويسقيه الماء، وفي النهاية يصف عطرها وما تتقلب فيه من نعمة، يُدلل عليها بأنها نئوم الضحى لا تنتطق في الصباح ملابسها الخفيفة لتعمل بل لتتخفف، كما يُدلِّل عليها بطراوة أناملها ونعومتها شأن المترفات، وأخيرًا بإشراق وجهها الذي يلوح وقت العشاء كأنه مصباح راهبٍ متبتل في صومعته.
والذي لا شك فيه أن الشعر الجاهلي كان من أصدق الشعر في التعبير عن بيئته ومثلها العليا، نابعًا عن طبعٍ أصيل حتى لنحسبه هو والشعر الأموي خير ما أنتج العرب القدماء من شعر من الناحية الفنية الخالصة، ومع ذلك فلا يستطيع أحد أن ينكر ما كان للإسلام من أثر بالغ في تحريك وجدان الشعراء، سواء في ذلك الوجدان العاطفي الخالص أو الوجدان الديني أو الوجدان السياسي الاجتماعي على أثر الخلافات السياسية والاجتماعية التي أخذت تظهر منذ خلافة عثمان بن عفان وما تلاها من تحزُّب للأمويين أو للعلويين؛ فأدت إلى ظهور شعر الخوارج وشعر الشيعة ذي اللون السياسي الواضح، كما أدى إلى ظهور البيئة المترفة المرهفة المتعطِّلة بالحجاز بعد أن انتقلت الخلافة إلى دمشق. ففي هذه البيئة نرى شعر الوجدان العاطفي يظهر لأول مرة عند الشعراء العذريين الذين نستطيع أن نقرأ شعر الشاعر منهم كله دون أن نخرج بصورة ولو مقاربة للمحبوبة، وإنما نخرج منه بتعبيرٍ قويٍّ حارٍّ عن لواعج الحب وآلامه وآماله في وجدان الشاعر، وشتان بين هذا التعبير الوجداني الخالص وبين الوصف الحسي الذي شاهدنا مثلًا له في وصف امرئ القيس للعشيقة، وأين هذا الوصف الحسِّي من قول قيس بن ذريح مثلًا عن حبه لِلُبنى:
فقيس لم يحاول قط أن يصور لبنى، والمجنون — أي قيس بن الملوح — لم يصور ليلى، وجميل لم يكد يصور بثينة، وكثير لم يصور عزة، وإنما بكوا جميعًا حبهم وعبروا عن لواعجه، ولفظوا مكنون وجدانهم حتى لكأنهم من شعراء الوجدان المُحدَثين.
وعلى أية حال فالشعر الجاهلي قد كان شعرًا صادقًا أصيلًا كما كان الشعر الأموي صادقًا أصيلًا؛ لأن كليهما أخلص لبيئته ونوازعها ومثلها العليا وطبيعة حياتها فهو من شعر الطبع، وأما شعر العصر العباسي وبخاصة العصر المتأخر منه فلم يعد يأخذ عن الطبيعة، بل أخذ يحاكي الشعر الجاهلي والشعر الأموي، وكان ذلك بدء جفاف نبع الشعر العربي وتحجُّره وطغيان التقليد عليه حتى أصبح شعر صيغ وقوالب أكثر منه شعر طبع وطبيعة.
فالشعراء العباسيون قد استمروا في وصف الأطلال والنؤى والأثافي على الرغم من أنهم قد أصبحوا أهل حضر وسكان مدن وحدائق وأعناب، وقد تحكَّم التقليد في الشعر العربي إلى حد فشلت معه كل محاولة للتجديد كتلك التي دعا إليها شاعر متمرد كأبي نواس عندما قال:
وذلك على الرغم من أن بعض شعراء العصر العباسي الآخرين حاولوا الاستماع إلى هذه الدعوة مثل أشجع السلمي عندما أتى الرشيد مادحًا في قصر له بالرقة فاستهل قصيدته بقوله:
وذلك لأن التقاليد كانت أقوى من كل تمرد أو نزوع إلى التجديد أو رغبة في الصدور عن الحياة مباشرة؛ حتى لنرى شاعرًا معاصرًا كأحمد شوقي لا يزال يحسُّ بقبضة هذه التقاليد العنيفة، فيصفها في مقدمة ديوانه القديم الذي صدر في سنة ١٩٠٣ بأنها كالأفعوان؛ أي كالثعبان الذي لا يؤخذ إلا من خلف وبأطراف البنان، وهذا هو ما فعله دعاة التجديد الذي سُمِّي بالبديع في العصر العباسي المتأخر، وهم أبو تمام ومدرسته، فإنهم لم يحاولوا التجديد في معدن الشعر ومضمونه، وإنما حاولوا التجديد فيما سمَّوه بالبديع؛ أي التجديد في التعبير الشعري عن طريق الزخارف اللفظية من جناس وطباق وغيرها؛ مما أدى إلى ظهور علمٍ جديد بهذا الاسم وهو «علم البديع» الذي فصَّل أوجهه وبلغ بها الأربعة والثلاثين أبو هلال العسكري في كتاب «سر الصناعتين». ومنذ ذلك الحين أخذ الشعر العربي يفقد طلاوة أسلوبه إلى جوار فقدانه المضمون الحي، فانتصار البديع على عمود الشعر يعتبر في نظرنا أقوى ضربة نزلت بالشعر العربي، وما زالت به حتى أحالته في عصوره المتأخرة إلى زخارفَ لفظيةٍ خاوية وحرمته من كل جدة فكرية أو عاطفية أو فنية، وذلك فيما عدا شعراء قلائل كانوا أقوى طبعًا وأصالةً من أن تسترقهم التقاليد أو يستهويهم البديع بمحسِّناته اللفظية السقيمة، ومنهم ابن الرومي والمتنبي وأبو العلاء المعري الذين جاوروا عصر البديع دون أن يطغى عليهم، فكانوا من رواد الشعر الذي تظهر فيه شخصية قائله. ويمكن أن نلتقط ملامح الشخصية من شعرها، وربما كان المتنبي أصدق شاهد على ذلك الاتجاه الذي كان لاتصال العرب بالثقافات الأجنبية وبخاصة الثقافة اليونانية أثر كبير في حدوثه، فباستطاعتنا أن نعود إلى بعض أغراض الشعر العربي التقليدي عند المتنبي مثلًا، فنجده قد أحدث فيها من التجديد في المضمون ما لفت أنظار بعض نقاد العرب القدماء أنفسهم مثل «الثعالبي» في «يتيمة الدهر» حيث نراه يتحدث عن مساوئ المتنبي ومحاسنه، فيذكر بين محاسنه أنه قد انفرد في المدح بمذهب استكثر من سلوكه اقتدارًا منه وتبحُّرًا في الألفاظ والمعاني، ورفعًا لنفسه عن درجة الشعراء وتدريجًا لها إلى مماثلة الملوك، وذلك بمخاطبة الممدوح من الملوك بمثل مخاطبة المحبوب ثم استعمال ألفاظ الغزل والنسيب في أوصاف الحرب والجد.
هذا ما يقوله صاحب اليتيمة، والذي لا شك فيه أن له فضل ملاحظة الظاهرة ثم فضل تعليلها، وفي الأمثلة التي يوردها ما يقطع بصحة ما يقول، وأما التعليل فواضح النقص؛ وذلك لأنه لا يكفي أن نرى في تجديده مهارة فنية ورغبة في رفع نفسه إلى مرتبة ممدوحه فتلك ظاهرة أعمق في تاريخ الشاعر وطبيعته النفسية مما ظن الثعالبي.
وأول ما نلفت إليه النظر هو ما لاحظه صاحب اليتيمة نفسه من أن استخدام لغة الحب في المدح والحرب مذهب انفرد به المتنبي وهذا حق، فإننا لم نشهد ذلك من شعراء العرب، جاهليين كانوا أو إسلاميين، وإذن فتفسيره لا يمكن أن نجده إلا في حياة الشاعر وطبيعته النفسية (تراجع هذه المسألة بالتفصيل في كتاب «النقد المنهجي عند العرب» للمؤلف).
وقد كان حب المتنبي لسيف الدولة حبًّا مخلصًا فاضت به نفسه، وإنما تكلف وساقته الدوافع الخفية عند مدحه لغير هذا الأمير العظيم، وهنا أيضًا تصح ملاحظة الثعالبي الأخرى عن مقدرة الشاعر الفنية في تصريف المعاني وإجادة النقل والتلاعب بالكلام.
ثم إن صدور المتنبي عن هذا المذهب في المدح وانفراده به يدل على أن الرجل لم يكن شاعرًا مرتزقًا كما يزعم البعض، والناظر في مدائحه ذاتها يرى أن شخصية الشاعر لم تخلُ منها قط، وأن مدحه الجيد هو ما قاله في سيف الدولة وهو مدح أشبه بالحب منه بالتملق، وأما مدائحه الأخرى وبخاصة كافورياته فخير ما فيها ليس مدح كافور وإنما هو شعر المتنبي الشخصي أو إشاراته إلى سيف الدولة.
•••
وبعد هذه الوقفة عند المتنبي الذي نعتبره أكبر شعراء العرب القدماء وأقواهم طبعًا وأكثرهم أصالةً، نستطيع أن نتخطى عصور الانحطاط التي تتابعت على الشعر العربي بعد القرن الخامس للهجرة حتى نصل إلى عصر البعث والنهضة الأدبية المعاصرة التي ابتدأها شاعر البعث الكبير محمود سامي البارودي في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، فهو الشاعر الذي أعاد للشعر العربي ديباجته الأولى، وخلَّصه من المحسنات البديعية العقيمة والزخارف اللفظية الخاوية التي كان قد انحدر إليها، وذلك بفضل عودته إلى الشعر العربي القديم في عصور ازدهاره، وقد وضعت الطباعة الحديثة دواوين الشعر القديمة وموضوعات الأدب العربي القديم بين يدَيه ويدي جيله كله فأفاد منها في رد الديباجة القديمة الناصعة لشعرنا الغنائي، وذلك مع قوة في الطبع وانفعال بأحداث عصره وظروف حياته الثورية الشجاعة، فجاء شعره إيذانًا بنهضةٍ شعريةٍ رائعة، هي التي وضعت الأساس للنهضة الأدبية المعاصرة، وأسفرت عن المدارس الأدبية المتباينة التي ظهرت إما بوحي من قديمنا وإما بتأثر بالثقافة والآداب الغربية التي أخذنا نزداد بها اتصالًا يومًا بعد يوم.
حركة البعث
والذي لا شك فيه أن الشيخ حسين المرصفي أستاذ البارودي قد حدَّد في كتابه «الوسيلة» المنهج السليم لكل بعثٍ منتج عندما نصح شداة البعث بأن يستوعبوا من أصيل الشعر القديم أكثر ما يستطيعون استيعابه، على أن ينسوا بعد ذلك كل ما استوعبوه حتى لا يظل حملًا تنوء به مَلكاتهم الخلَّاقة، وحتى لا يأتي شعرهم شعر ذاكرة وقوالب محفوظة بدلًا من شعر طبع وحياة، وما من شك في أن البارودي قد استفاد بهذه النصيحة وعمل بها، فاكتسب من الشعر القديم قوة العبارة وجهارة النغم وحاول ما استطاع أن يكون تعبيره أصيلًا، وأن يكون مضمونه منتزَعًا من ذات نفسه وأحداث عصره، ووفق في ذلك أحيانًا كثيرة حتى ليذكرنا شعره أحيانًا بشعر المتنبي وما فيه من أصالةٍ قوية يمكن أن نحسَّ بها.
وعلى الرغم من وضوح المنهج العربي التقليدي في شعر البارودي من حيث صورته وديباجته ونغماته، إلا أننا مع ذلك نستطيع أن نعثر على هذا الشاعر في شعره على نحو ما قلنا عن ابن الرومي والمتنبي وأبي العلاء المعري، ولعله يبرز في ذلك شاعرنا التقليدي المعاصر أمير الشعراء أحمد شوقي الذي لا نستطيع أن نجد في شعره ما يعيننا على تخطيط صورته النفسية على نحو ما نستطيع أن نفعل مع البارودي في مثل قوله:
فمن هذه المقطوعة وأمثالها نستطيع أن نخطط صورةً نفسية لهذا الشاعر الفارس الذي عُرف بإباء الضيم والاعتزاز بالنفس بل والكبرياء المشروعة، بينما نخرج من دواوين شوقي مثلًا دون أن نستطيع أي تخطيط لصورته النفسية، وإذا جاز أن نتخذ العثور على شخصية الشاعر في شعره مقياسًا لشاعريته، لجاز أن نرتفع بالبارودي درجة فوق شوقي على الرغم من انتمائهما معًا إلى مدرسة البعث الشعري المعاصر.
خاتمة
وإذا كانت حركة البعث الشعري المعاصر قد استمرت بعد البارودي عند مدرسة بأكملها تزعمها شوقي وكان من كبارها حافظ إبراهيم ومحمد عبد المطلب وعلي الجارم وغيرهم ممن يعرفون اليوم بمدرسة الشعر التقليدي، فإنه قد ظهرت إلى جوارهم منذ أوائل هذا القرن مدارسُ شعريةٌ أخرى كبيرة، مثل مدرسة شكري والمازني والعقاد التي اصطلحنا على تسميتها بمدرسة الديوان نسبة إلى كتاب الديوان الذي هاجموا فيه المدرسة التقليدية أعنف الهجوم، ثم المدرسة المهجرية التي تزعَّمها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، ومدرسة خليل مطران الذي تنتسب إليه جماعة أبوللو، وأخيرًا المدرسة الجديدة التي تُعرف اليوم بمدرسة الشعر الواقعي أو شعر الوجدان الجماعي على نحو ما سنفصل القول.