مدارس الشعر العربي الحديث
انتهينا من الحديث عن الشعر العربي التقليدي وتطوره في ضوء النظرية العامة للشعر، ووصلنا في استعراضنا السريع إلى حركة البعث الشعري الذي قام به في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر شاعرنا الكبير محمود سامي البارودي، وهو البعث الذي كان إيذانًا ببدء الحركة الشعرية المعاصرة وتنوُّع مدارسها استنادًا إلى التراث العربي القديم حينًا وإلى تأثيرات الآداب الغربية ومقتضيات حياتنا الجديدة حينًا آخر، وها نحن أولاء ننظر اليوم في هذه المدارس.
المدرسة التقليدية
وقد كان أول هذه المدارس ظهورًا وأوسع أصحابها شهرة «المدرسة التقليدية» التي تزعمها أمير الشعراء أحمد شوقي، وكان من فحولها شاعر النيل حافظ إبراهيم، وشاعر البداوة محمد عبد المطلب، وشاعر رشيد علي الجارم، والشاعر محمد الأسمر، ولا يزال من بين أنصارها الأحياء الشعراء: محمود عماد، وعلي الجندي، وعزيز أباظة.
ولقد يبدو غريبًا أن يتزعم أحمد شوقي هذه المدرسة مع أنه أوفد في بعثةٍ دراسية إلى فرنسا؛ حيث أقام أربع سنوات اتصل فيها بآدابها خاصة والآداب الأوروبية عامة، وتأثر أثناء إقامته بتلك الآداب حتى رأيناه يُترجم شعرًا قصيدة «البحيرة» للامارتين، كما ترجم عددًا من أقاصيص «لافونتين» على ألسنة الحيوانات، وألَّف أقاصيص أخرى على غرارها، بل وألَّف الطبعة الأولى من مسرحية «على بك الكبير» سنة ١٨٩٣، ولكن هذا العجب يمكن أن يزول إذا ذكرنا ظروف حياة شوقي الخاصة وإعداده نفسه؛ ليكون شاعر الأمير تمهيدًا لأن يصبح أمير الشعراء ويبايعه العرب على ذلك في سنة ١٩٢٧، فهو نفسه يحدثنا في مقدمة ديوانه الأول الصادر في سنة ١٩٠٣ بأنه قد حاول أن يتأثر بالأدب الغربي، ولكنه لم يلبث أن تبين أن المطلوب منه هو أن يلتزم عمود الشعر العربي وتقاليده، وفعلًا نهج هذا السبيل حتى إننا لنقرأ شعره فلا نكاد نتبيَّن فيه أثرًا واضحًا للآداب الغربية، بل ولا للحياة الأوروبية التي عاشها أربع سنوات، وذلك فيما عدا القليل النادر إذا قورن بشاعر لاحق ﮐ «علي محمود طه» الذي لم تُتحْ له الإقامة المتصلة بأوروبا كما أتيحت لشوقي، ومع ذلك نحسُّ أنه قد تأثر تأثرًا عميقًا بتلك الحياة ومشاهدها الطبيعية والإنسانية خلال زياراته الصيفية العابرة لأقطار أوروبا على نحو ما نشهد في عدد من قصائده ابتداء من «الجندول» إلى «بحيرة كومو»، بل إن قصيدة شوقي الوحيدة التي تردد بعض ذكريات باريس وهي قصيدة «غاب بولونيا» لا نحس فيها تعمقًا من الشاعر في حياة تلك المدينة الصاخبة ولا غنى في تجاربه فيها، وإن تكن بالغة الجمال والعذوبة في نسيجها الشعري وما يشيع فيها من أسًى مرهف؛ حيث يقول:
ومن الواضح أن شوقي لم يقلْ هذه القصيدة وهو مقيم بباريس أيام شبابه، وإنما قالها وقد تقدَّم به العمر عندما عاد في إحدى رحلاته إلى «غاب بولون»، وإن المرء ليحار في افتقاد أصداء الحياة الباريسية في شعره المبكر، ولكن هذه الحيرة يمكن أن تخفَّ إذا ذكرنا أن شوقي لم يستطع قط أن يكون شاعرًا وجدانيًّا، وأن شعر المناسبات هو الذي غلب على شعره، ولعله رأى في هذا النوع من الشعر ما يواتي طموحه أكثر من شعر الوجدان، أو لعل مزاجه الخاص لم يكن يطاوعه، أو لعل في ظروفه الاجتماعية وطبقته المترفِّعة المتزمِّتة ما منعه من أن يستسلم لوجدانه مترفِّعًا عن أن يعرضه على القراء أو السامعين، وأيًّا ما يكون الأمر فإننا نعتقد أن أحمد شوقي لم يستطع — لسوء الحظ — أن يغذِّي طاقته الشعرية الفذَّة بآداب الغرب وحياة الغرب، كما أنه لم يستطع أن يُطلِق طاقته على سجيتها، وأن يخلص لنفسه وأن يرتفع بشعره إلى الآفاق الإنسانية الرحبة التي لا تتقيد بمناسبات الظرف وبملابسات المكان والزمان؛ حتى ليصعب على أي ناقد اليوم أن يستشفَّ من شعر شوقي شخصيته ومعالمه الروحية وأية فلسفة خاصة في الحياة، وكل هذه الحقائق هي التي مكَّنت لمدرسة التجديد التي قادها شكري والمازني والعقاد من الهجوم على شوقي ومدرسته، ذلك الهجوم العنيف الذي نطالعه في الجزأين اللذين ظهرا في سنة ١٩٢١ من كتاب «الديوان» الذي قدر له كاتباه المازني والعقاد أن يصل إلى العشرة أجزاء، وقد خصصاه لمهاجمة المدرسة التقليدية كلها في الشعر والنثر، وذهب العقاد بنقد شوقي فاتهمه بعدم الصدق، وقرر أن الشاعر هو من أخلص لنفسه؛ بحيث لا يحجب الكذب والتكلف شخصيته عن شعره، كما اتهمه بالتقليد والصدور عن القوالب الشعرية المتوارثة دون قدرة على التجديد والابتكار ودون غوص وراء الحقائق العميقة والصور الجديدة، وكل ذلك سواء في شكل القصيدة أو مضمونها. وكانت جماعة الديوان متأثرة بلا ريب بالآداب الغربية وبخاصة الإنجليزية منها، بل وبالشعر الأوروبي الرومانسي بنوعٍ أخصَّ بدليل إجماعهم على الدعوة إلى شعر الوجدان.
ولكن المدرسة التقليدية التي لاقت نجاحًا شعبيًّا واسعًا لم تستسلم قط، بل ظلَّت تتشبَّث وتقاوم حتى اليوم.
مدرسة الديوان
وقادت مدرسة الديوان الدعوة إلى شعر الوجدان، واتَّفق ثلاثتهم على هذه الدعوة وإن اختلفوا بعد ذلك في الاتجاه وفقًا لمزاج كل منهم الخاص؛ فذهب عبد الرحمن شكري بالتأمل الوجداني والاستبطان الذاتي على نحو ما رأينا سابقًا في قصيدته التي يخاطب فيها المجهول، بينما صدر المازني في مستهلِّ شبابه عن روحٍ رومانسيةٍ شاكيةٍ باكية، مُتبرِّمة بالحياة ساخطة عليها، وظل يصدر عن هذه الروح حتى هجر الشعر كله، بعد الجزأين اللذين صدرا من ديوانه، إلى النثر الذي برع فيه وأصبح من أعلامه، كما تخلَّص من الشكوى والسخط بالسخرية والتهكُّم اللذين عُرف بهما في نثره، ولعلنا نستطيع أن نحسَّ بمدى سخطه وشكواه وتبرُّمه بالحياة في مثل قوله عن «الإخوان»:
… إلخ.
ولعلنا نستطيع أن نلمس المزاج الرومانسي الذي كان مسيطرًا على المازني عندئذٍ في قوله:
أو في قوله:
وأما العقاد أديبنا الطموح الواسع الآفاق فقد قال الشعر في الاتجاهات جميعها فله شعر الوجدان وله الشعر الفلسفي، بل وله أيضًا شعر المناسبات، ولكنني عن نفسي أفضِّل ما قاله من الشعر الوجداني الخالص الذي تروقني منه أمثال قصيدة «نفثة» التي يقول فيها:
وعلى أية حال فإن دعوة جماعة الديوان وبخاصة دعوتهم النقدية قد ساهمت مع دعوة المدرسة المهجرية، ومدرسة مطران في توجيه الشعر العربي الحديث الوجهة الوجدانية التي لا تزال تلازمه حتى اليوم على الرغم من تطور الوجدان في الفترة الأخيرة من الفردية إلى الجماعية.
المدرسة المهجرية
- أولًا: حاجتنا إلى الإفصاح عن كل ما ينتابنا من العوامل النفسية من رجاء ويأس، وفوز وفشل، وإيمان وشكٍّ، وحب وكره، ولذة وألم، وحزن وفرح، وخوف وطمأنينة وكل ما يتراوح بين أقصى هذه العوامل وأدناها من الانفعالات والتأثرات.
- وثانيًا: حاجتنا إلى نور نهتدي به في الحياة، وليس من نور نهتدي به غير الحقيقة، حقيقة ما في أنفسنا، وحقيقة ما في العالم من حولنا، ونحن وإن اختلف فهمنا عن الحقيقة لسنا ننكر أن في الحياة ما كان حقيقة في عهد آدم ولا يزال حقيقة حتى اليوم، وسيبقى حقيقة إلى آخر الدهر.
- وثالثًا: حاجتنا إلى الجميل في كل شيء، ففي الروح عطش لا ينطفئ إلى الجمال، وكل ما فيه مظهر من مظاهر الجمال؛ فإننا وإن تضاربت أذواقنا فيما نحسبه جميلًا ونحسبه قبيحًا لا يمكننا التعامي عن أن في الحياة جمالًا مطلقًا لا يختلف فيه ذوقان.
- ورابعًا: حاجتنا إلى الموسيقى؛ ففي الروح ميلٌ عجب إلى الأصوات والألحان لا ندرك كنهه، فهي تهتزُّ لقصف الرعد ولخرير الماء ولحفيف الأوراق، لكنها تنكمش من الأصوات المتنافرة وتنبسط بما تآلف منها.
ولقد وجَّه جبران خليل جبران شعر المهجر توجيهًا قويًّا نحو الرومانسية المجنحة، وامتد تأثيره إلى الشرق العربي كله، سواء في الشعر الموزون أو الشعر المنثور، وكان تأثيره أوضح ما يكون في خلق شعر المناجاة الذي سميناه في كتابنا «في الميزان الجديد» بالشعر المهموس، ورأينا مثلًا رائعًا له في قصيدة «أخي» لميخائيل نعيمة، ولنأخذ لهذا الشعر مثلًا جميلًا آخر من مطلع قصيدة «الطين» لإيليا أبو ماضي:
•••
مطران ومدرسة أبوللو
وفي الوقت الذي كان فيه جماعة الديوان، وكان المهجريون يهاجمون المدرسة التقليدية أعنف الهجوم ويدعون إلى التجديد دعوةً عنيفة صاخبة كان ثمة شاعرٌ كبير يجدِّد في صمت، ويقدِّم روائعه الجديدة حاملة الدعوة العملية لهذا التجديد، وهو الشاعر خليل مطران الذي كتب المطوَّلات القصصية والدرامية الرائعة، كما كتب الوجدانيات التي رأينا مثلًا جميلًا لها في قصيدة «المساء» التي كتبها سنة ١٩٠٢ وهو مريض بمكس الإسكندرية، وقد رأينا كيف أحال الوصف فيها من الحسِّية التقليدية إلى الوجدانية التي يمتزج فيها الشاعر بالطبيعة، ويتجاوب معها وكأنه حلَّ بها وحلَّت به؛ مما يجعل من مطران رائد الوصف الوجداني في شعرنا العربي الحديث.
ولقد أعلن الشاعر أحمد زكي أبو شادي منذ ديوانه الأول «أنداء الفجر» أنه قد تتلمذ على مطران، كما أعلن الاعتراف نفسه عدد من كبار جماعة أبوللو التي تأسست في سنة ١٩٣٢ وأصدرت مجلتها الشعرية الخالدة التي ظلت تصدر حتى آخر سنة ١٩٣٤ متخصصة في نشر الشعر الجديد ونقده، ومنهم الشاعر الوجداني الكبير الدكتور إبراهيم ناجي، الذي تحدَّث غير مرة عن «الحمى المطرانية» التي أصابته وأصابت رفاقه.
وعلى الرغم من أن جماعة أبوللو لم تدَّعِ أنها تكوِّن مدرسة ذات فلسفةٍ شعرية محدَّدة، بل أعلنت على العكس أنها تفسح صدرها وصدر مجلتها لكل شعرٍ جيد، فإنها في مجموعها قد تميَّزت بالطابع الوجداني الخالص رغم اختلاف كبار أعضائها اختلافًا بيِّنًا في المزاج النفسي، وهو الخلاف الذي جعل من شعر ناجي قصيدة غرام ومن شعر أبي القاسم الشابي ثورةً نفسيةً عارمة، ومن شعر على محمود سيمفونيةً مرحةً مبتهجة بالحياة، ومن شعر حسن كامل الصيرفي تأملًا انطوائيًّا متصلًا في الحياة وحقائقها، ومن شعر الهمشري هروبًا عاطفيًّا من صخب الحياة إلى «نارنجته الذابلة» أو إلى «قمة الأعراف»، فأغنوا شعرنا العربي المعاصر بثروة ضخمة من شعر الوجدان المتفاوت النغمات المتعدد الألوان امتدادًا من ناجي صاحب «العودة» و«الأطلال» والقائل:
إلى أبي القاسم الشابي الذي ظل يغالب الأقدار والمرض العضال حتى أسلم النفس الأخير في روحٍ ثوريةٍ صلبةٍ عاتية، نستطيع أن نحسَّها في مثل قوله من قصيدة «نشيد الجبار أو هكذا غنى بروميثيوس»:
وقد سرت روح الشابي الثائرة في ضمير الأمة العربية كلها فأصبحت ترى المواطن العربي في كل قطر يردد قوله:
وكل ذلك إلى جوار نغمات على محمود طه الباسمة المبتهجة في دواوينه «الملاح التائه» و«عودة الملاح التائه»، و«زهر وخمر»، و«الشوق العائد»، و«شرق وغرب».
وقد ردَّد عدد من مغنينا عددًا من قصائده التي تنشر البهجة في النفوس وفي مقدمتها أغنية «الجندول»:
مدرسة الوجدان الجماعي
وسار الزمن بخطوات حثيثة، فإذا بالمد الثوري يعلو موجه، وإذا بثورتنا الوطنية الكبرى تجمع في سنة ١٩٥٢ بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية، فيأخذ الوجدان الفردي في التقهقر شيئًا فشيئًا أمام الوجدان الجماعي الذي نسميه حينًا بالوجدان الواقعي، وحينًا آخر بالوجدان الاشتراكي، فيظهر إلى جوار شعر الوجدان الفردي الخالص شعر الوجدان الجماعي الذي سبق أن رأينا كيف أخذ يُجدِّد في صورة القصيدة العربية ومضمونها فيتحرَّر من وحدة البيت ليجعل من القصيدة كلها وحدةً موسيقيةً متصلةً متماسكة، ويلجأ في أحيانٍ كثيرة إلى الأقصوصة الموضوعية والدراما القصيرة ليتخذ منها موضوعات لقصائده.