الغواصةُ … «خالدُ بن الوليد»!
في أحد الموانئ السرِّية الأمريكية، الواقعة على المحيط الأطلنطيِّ، كان يجري مشهد لا يتكرر كثيرًا في ذلك المكان، المحاط بأكبر قدرٍ من السرِّية والحماية.
كان الميناء يكاد يكون شبه مغطًّى بستائر من ألواح الصلب لا تكشف لعيون الفضوليين عما يدور في داخله، وقد أحاطت به من الخارج دوريَّات رجال الحراسة والزوارق البحرية، وعشرات من الجنود المسلحين … وكانت أجهزة الرادار والاستشعار عن بعدٍ على أُهبة الاستعداد لأن تكشف أدنى محاولة للاقتراب، أو محاولة اختراق ذلك الحاجز الأمني.
أما في الداخل فكان المشهد الذي يجري مهيبًا، وقد وقف عدد من الملَّاحين العرب في زيهم المميز الأنيق، تزين أكتافهم رُتبهم المختلفة تنتهي برتبة لواءٍ وتبدأ بنقيبٍ … وقد انطبع تفاصيل عملهم الوطني فوق مقدمة ستراتهم.
كان عدد الملاحين يربو على العشرين … وقبالتهم وقف عددٌ من كبار ضباط البحرية الأمريكية، وهم يصافحونهم في ودٍّ ويلتقطون الصور التذكارية.
تقدم أحد الضباط الأمريكيين برتبة «فيلدمارشال» من نظيره العربيِّ قائلًا: نرجو لكم رحلةً موفقةً … وتحياتنا إلى بلادكم وقادتها.
فأجاب الضابط العربي الكبير باسمًا: نحن أيضًا نشكر لكم حسن تعاونكم.
وأدى الاثنان لبعضهما التحية العسكرية.
ثم انتظم طابور الملاحين العرب تجاه مقدمة الميناء، وقد انكشفت لهم مياه المحيط الواسع.
منذ لحظة تسلَّم الملاحون العرب الغواصةَ حتى صارت تحت مسئوليتهم المباشرة ليتولوا قيادتها عائدين إلى بلادهم.
كان منظر الغواصة مهيبًا … بِطُولها الذي يزيد على السبعين مترًا، وجسمها الأسطواني العملاق، حتى إنها كانت تبدو مثل وحش خرافي سابحٍ فوق الماء … وسرعان ما أخذ الملاحون العرب أماكنهم داخل الغواصة.
كانت الغواصة الكبيرة من الداخل شبيهة بمنزل مريحٍ … وتشتمل على قاعاتٍ عديدةٍ موزعةٍ خلال طابقين … بعضها للنوم والطعام والترفيه … وبعضها الآخر لقيادة الغواصة والتحكم في كلِّ أجزائها … من خلال حاسباتها الآلية العملاقة.
أما غرفة القوى النووية فكانت في نهاية جسم الغواصة، ومزودةً بعوامل أمانٍ متعددةٍ، كانت تحميها من أيِّ خطرٍ مهما كان.
أطلقت الغواصة «خالد بن الوليد» صفارة خاصة تحية للعاملين في الميناء الأمريكي، ثم غاصت ببطءٍ في قلب الماء … ثم شرعت تسبح في قلب الماء بهدوءٍ … مثل سمكة عملاقة آمنة مطمئنة.
أشار ربان الغواصة إلى ضابط الاتصال في الغواصة قائلًا: فلتبعث برسالةٍ لاسلكيةٍ إلى بلادنا تخبرهم أننا تسلَّمْنا الغواصة … وفي طريقنا إلى شواطئنا.
فأسرع ضابط الاتصال يجري الاتصال اللاسلكي ببلاده في قلب الخليج العربي، وقد تم التقاط الرسالة في البلد العربي.
وأيضًا … التقطت الرسالة جهةً أخرى … كانت تراقب العملية منذ بدايتها.
كان كلُّ شيءٍ يسير على ما يُرام بعد عدة أيامٍ من الغوص المتواصل على مسافة عشرات الأمتار من سطح المحيط … والتفت الربان إلى مساعده قائلًا: ما هو موقِعُنا الآن؟
أجابه المساعد: نحن على مسافة عشرين خط عرض من رأس الرجاء الصالح، وسنصل إلى بلادنا خلال أيامٍ بإذن الله.
قال الربان في ارتياح: إنني في حياتي لم أنعم برحلةٍ كهذه … كأنني داخل قلعةٍ تسبح في قلب الماء وليست غواصةً … قلعة بها كلُّ ما لا يتخيَّله إنسان لتحقيق راحته.
قال المساعد باسمًا: إن هذا النوع من الغواصات النووية مصمَّمٌ للبقاء في قلب الماء لمدة تزيد عن عامٍ، دون الحاجة إلى الصعود إلى السطح أو اللجوء إلى أية ميناءٍ بفضل الطاقة التي لا تنفذ من المفاعل النووي الصغير في قلب الغواصة، وأيضًا الماء الذي يتم تحليته من خلاله، وكذلك الطعام المحفوظ الذي لا نهاية له.
لكن أحد الملاحين اندفع من حجرة الاتصال إلى الربان قائلًا: لقد تلقينا رسالة استغاثة من سطح المحيط … يبدو أن هناك سفينةً تتعرض للغرق بأعلى السطح.
تساءل الربان: وما هو موقعها بالضبط؟
– على بُعد مسافة خمسة كيلومتراتٍ في اتجاه الشرق يا سيدي.
قطَّب الربان حاجبيه، ثم قال: إن واجبنا الإنساني يستدعي أن نبادر بإنقاذ هذه السفينة؛ فربما لا تتمكن أية سفن قريبة من الوصول إليها في اللحظة المناسبة.
أعطى الربان أوامره … فغيرت الغواصة من خط سيرها قليلًا متجهةً شرقًا، وهي تصعد إلى سطح الماء تدريجيًّا.
وانكشف سطح المحيط من خلال المنظار، وجسم الغواصة لا يزال مستقرًّا في قلب الماء … كانت هناك على مسافةٍ قريبة سفينةٌ تجارية صغيرة ترفع أعلام إحدى الدول الإفريقية، وقد مالت على جانبها وهي تغرق ببطءٍ … وقد ألقى عددٌ من بحَّارتها بأنفسهم في قلب الماء، وهم يصارعون الموج ويطلقون صرخات استغاثة يائسة.
هتف الربان: لنسرع بالتقاط هؤلاء البحَّارة.
وفي الحال برز جسم الغواصة بأكمله فوق سطح الماء … كماردٍ عملاق يبعث منظره الرجفةَ في القلوب.
أدرك البحارة الغرقى الفرصة التي أتاحها لهم القدر … فشرعوا يسبحون في قوةٍ وأمل، وهم يصارعون الأمواج للوصول إلى الغواصة.
ألقى إليهم ملَّاحو الغواصة بالحبال وأطواق النجاة، فتشبث البحارة الغرقى بها. وخلال دقائق كانوا يعتلون سطح الغواصة.
كان عددهم يصل إلى خمسة عشر رجلًا، وكانت ملابسهم ممزقةً ووجوههم قد لونتها الشمس وملأتها الخدوش … وفي الحال أمر الربان بصرف ملابس جديدةٍ وأطعمةٍ للبحارة، وسأل ربانهم: ماذا كانت وجهتكم؟
أجابه الربان: لقد كنا متجهين إلى «مدغشقر» ومعنا حمولةٌ من الأخشاب والبضائع، ولكن عاصفة مفاجئة هبت فأغرقت سفينتنا.
فتساءل قائد الغواصة في دهشةٍ: ولكنه في هذا الوقت من العام، لا تهب عواصف عادة في هذا الجزء من المحيط … وليس من المعتاد أن تعبر المحيطَ سفنٌ صغيرة مثل سفينتكم!
أجابه ربان السفينة الغارقة: أنت على حقٍّ بالفعل.
وفي حركةٍ خاطفةٍ أخرج من جيبه مسدسًا صغيرًا صوَّبه إلى الربان قائلًا: إنه شَرَك، وقد وقعتم فيه … مُرْ رجالك بتسليمنا الغواصة، وإلا كان مصيركم الموت جميعًا.
تساءل قائد الغواصة في ذهول: ولكن من أنتم؟
قهقه الربان المسلح قائلًا: هذا سؤالٌ خطر، ولكني سأجيبك عليه … فنحن مجموعة من القراصنة، وقد اصطادت شباكنا هذه المرة حوتًا كبيرًا!
ولكن، وبحركةٍ مفاجئة دفع قائد الغواصة الربان المسلح بعنفٍ، فاصطدم بجدار الغواصة، ثم طارت قبضة القائد إلى الرجل المسلح، ولكنه تحاشى الضربة القوية، ثم ضربه ضربةً أخرى جعلته يتهاوى على الأرض فاقدًا الوعي.
في أرجاء الغواصة كان يجري مشهد مماثل … فقد فوجئ ملَّاحو الغواصة بالهجوم المفاجئ الذي شنَّه البحارة الغرقى، وقد أظهروا أسلحتهم الصغيرة الخفية.
ودارت معركةٌ قصيرة انتهت بإصابة ستةٍ من ملَّاحي الغواصة … وخلال دقائق كان قد تم للمسلحين السيطرة على الغواصة.
عندما أفاق قائد الغواصة أصابه الذهول، عندما شاهد نفسه مقيدًا مع بقية ملاحيه وملقًى بهم داخل إحدى الحجرات.
أما الغواصة فراحت تشق طريقها في قلب المحيط إلى مكانٍ مجهول … وقد بدا واضحًا من طريقة قيادة المسلحين للغواصة، أنهم على قدرٍ كبير من المهارة.
ضغط قائد المسلحين على جهاز الاتصال خلال موجةٍ معينة، وقال في صوتٍ مليء بالنشوة: لقد نجحنا واستولينا على السمكة الكبيرة … ونرجو أن يكون الاستقبال حافلًا عند وصولنا.
وأغلق جهاز الاتصال … ثم أدار أجهزة اتجاه الغواصة لتستدير في دورةٍ كاملةٍ … وبعدها أطلق للغواصة العنان.