الشخصيات
-
جحا.
-
تيمور لنك.
-
حارس تيمور لنك الخاص.
-
قائد.
-
حراس وجنود مختلفون.
فكرة المسرحية مُستوحاة من حكاية ذكرها شاعر الألمان الأكبر
«جوته» في تعليقاته على ديوانه الشرقي؛ فقد رأى القائد المغولي
المرعب وجهه لأول مرة في المرآة، فاستبشعه وانخرط في بكاءٍ مر.
عندئذٍ قال له بعض المحيطين به: إذا كنت قد بكيت بعد رؤية وجهك مرة
واحدة، فماذا نفعل ونحن نراه كل يوم؟! أما عن لقاء جحا وتيمور لنك،
فتذكره بعض نوادر جحا، وبعض كتب التاريخ.
(خيمة تيمور لنك الحريرية، وفرسانه يُحاصرون
مدينة جحا «آق شهر» بالأناضول استعدادًا لغزوها، حارسه الخاص
يُساعده على ارتداء ملابسه، تسمع بين حينٍ وحين أصوات أبواق وصلصلة
سلاح كما ترى أشباح جنودٍ تتحرَّك في الخلف.)
الحارس
(ممسكًا بفردة حذاء)
:
لم تبقَ إلا هذه الفردة يا مولاي.
تيمور
:
قلت لك لا أريد.
الحارس
:
ويسير مولاي حافيًا؟
تيمور
(ينهض ويمشي)
:
وما الضرر؟ هل قالوا لك أني ولدت بحذاءٍ في قدمي؟
الحارس
:
لم يقل أحد هذا، ولكن لن يُصدق أحد أن تيمور لنك العظيم
…
تيمور
:
دعْني وشأني، قلت لك: اذهب واتركني وحدي.
الحارس
:
عفوًا يا مولاي، ولكن من يتصور أن الملك الذي يضع التاج
على رأسه يسير بقدم حافية؟ من يتصوَّر أن القدم التي تدور
على نصف العالم تظل عارية؟
تيمور
:
نفاق … نفاق، كلكم تجيدون النفاق، سواء كنت تيمور لنك
السفاح الجبار، أو كنت أضعف خلق الله، المهم أن تروا التاج
على الرأس أو السيف في اليد.
الحارس
:
ولكن يا مولاي.
تيمور
:
قلت لك: دعني، ألا ترى كيف لا أحتمل الكلام؟
الحارس
:
أجل يا مولاي، وقد عرفت دائمًا عنك …
تيمور
:
تكلَّم، ماذا عرفت؟
الحارس
:
عرفت حبَّكم للصمت، سمعت أنكم تجلسون دائمًا وحدكم بجبين
مقطَّب ووجهٍ مُكفهر حزين.
تيمور
:
حزين؟ نعم هذه هي الكلمة المناسبة، هل جرَّبت البكاء مرة
واحدة في حياتك يا ولدي؟
الحارس
:
مرة؟ بالطبع يا مولاي، أظن أنني لا أختلف في هذا عن أي
إنسان، ولكنِّي لا أصدق.
تيمور
:
لا تصدق أن تيمور لنك يُمكنه أن يبكي.
الحارس
:
لم أقصد هذا يا مولاي، فأنت أيضًا بشر.
تيمور
:
لأول مرة تترك النفاق، نعم أنا أيضًا بشر، ولكن الناس
تَنتفِض رعبًا إذا سمعت باسمي أنهم يُسمونني الشيطان
الأكبر والسفاح الأعظم والأسد الفاتك والإله الأعمى. لا
يعرفون أن تيمور له قلب مثلهم، ولا يتصوَّرون أنه يبكي في
بعض الأحيان.
الحارس
:
إن أذنتم يا مولاي … متى؟
تيمور
:
متى بكيت؟ بكيت دائمًا يا ولدي، بدموعٍ جامدةٍ تغيب في
نفسي كأنَّها تغيب في أعماق البئر، كنت في طفولتي أجلس على
سطح بيتنا في المدينة الخضراء، أمد بصري إلى القوافل
الذاهبة إلى سمرقند، وأسمع نشيد الفلاحين في عودتهم من
الحقول ونداء المؤذن يدعو الناس للصلاة وأحاديث التجار
والدراويش والشحاذين عن القوافل والحروب والمعارك. كانت
أمي قد ماتت وأنا صغير، فلم أتذكر ملامح وجهها، وكان أبي
دائم الجلوس مع المشايخ والعلماء، ثم ذهب إلى صومعة انصرف
فيها إلى العبادة.
الحارس
:
طفولة حزينة يا مولاي، ألم يكن لك رفاق … أترابُ
لعبٍ؟
تيمور
:
هؤلاء أيضًا كانوا دائمًا يعجبون لحالي، كنت أسير بينهم
مطرق الرأس، كثير التفكير، قليل الضحك. لم يكن عبثهم
يُحرِّك فيَّ شعرة واحدة، وكلما سألوني عن السر في ذلك
أقول: على المرء أن يسلك الطريق الذي كتبه القدر.
الحارس
:
وهذا القدر يا مولاي؟
تيمور
:
الحزن يا ولدي.
الحارس
:
الحزن؟ أيُمكن أن يصنع الحزن رجلًا، لا بل …
تيمور
:
نعم الحزن، إنه المسئول عن كل شيء، عبوس الوجه، تقطيب
الجبين، الصمت … الصمت الدائم الذي لم أكن أخرج
عنه.
الحارس
:
لا أفهم يا مولاي.
تيمور
:
لم أكن كما تعلم ابن ملك كالإسكندر ولا ابن زعيم قبيلة
مثل جنكيز خان، ولكن الحزن هو الذي علَّمني الطموح، هل
تعرف من الذي حببني في الدم؟ الحزن. هل تعرف من الذي فتح
شهيتي لرؤية آلاف الرءوس المقطوعة؟ الحزن. هل تعرف من الذي
علمني القسوة التي لا ترحم الطفل ولا المرأة ولا الشيخ؟
الحزن … الحزن … الحزن.
الحارس
:
مولاي … لا أتصور أن الحزن يُمكنه أن يغلب ملوك الهند
والصين وفارس وما بين النهرين، أن يَنتصِر على كل الأعداء،
ويقتحم كل الحصون … أن يبث الخوف في نفوس الملوك والفرسان
والعامة … أن يكون ملك العالم.
تيمور
:
نعم هو الحزن … الحزن الذي جعلني أمشي وحيدًا إلى
سمرقند، لا أملك غير سيفي، وليس معي سوى خادمي عبد الله.
الحزن هو الذي جعلني أصبح أملك العالم كما تقول.
الحارس
:
معذرةً يا مولاي، هل أتوسَّل إليكم بلبس هذه الفردة حتى
يتمَّ الحزن؟
تيمور
:
ويحك! ألا يتم الحزن إلا إذا لبستها؟
الحارس
:
ولكن منظركم هكذا، أخاف أن أقول …
تيمور
:
منظر مضحك؟ ولكنه لا يضحكني كما ترى، ولن يضحك أحدًا، إذ
لم يُخلَق من يجرؤ على الضحك في وجه تيمور. (بعد قليل) أين ذلك الرجل
الذي طلبته؟ لماذا تأخر؟
الحارس
:
جحا؟ إنهم يبحثون عنه من ثلاثة أيام.
تيمور
:
أريد اليوم أن أضحك، أضحك من القلب، أضحك وأضحك
وأضحك.
الحارس
:
إذن فليضحك مولاي، يكفي أن يراني أجري وراءه بهذا الحذاء
فيضحك (يحاول أن يجري فينظر إليه
تيمور فيتجمد في مكانه).
تيمور
:
أريد هذا الرجل، ماذا كان اسمه؟
الحارس
:
جحا يا مولاي.
تيمور
:
وماذا تعرف عنه؟
الحارس
:
أعرف عن حماره أكثر مما أعرف عنه.
تيمور
:
حماره؟ ألم أسمع أنه قاض؟ هل يتاجر أيضًا في
الحمير؟
الحارس
:
إنه لا يكاد ينفصل عن حماره، الناس لا يعرفونه من
ملابسه؛ لأنه يُغيِّرها كل يوم، ولا من صنعته فهو يومًا
قاض أو واعظ في جامع أو معلم في مدرسة أو سائح في بلاد
الله، ولا حتى من زوجته فهم يقولون إن له أكثر من زوجة،
وربما كان هو نفسه لا يعرفهن، ولكنَّهم إذا راوا حماره
عرفوا مكانه.
تيمور
:
وكيف سيهتدي إليه فرساني؟ هل يعرفون ذلك الحمار؟
الحارس
:
يعرفونه؟ إنه أشهر حمار في المدينة، بل أشهر حمار في
التاريخ، إنه ابنه ورفيق عمره، ومُستشاره وكاتم
سره.
جحا
(ضجة في الخلف، صوت جحا يَصيح
مستغيثًا: حماري … حماري، ويدخل وهو يقول في غضبٍ
شديد)
:
حماري … حماري أيها الملاعين! حماري أيها اللصوص! والله
لا أعدل به قافلة جمال، والله لا أرضى بفرسان تيمور كلها
عِوَضًا عنه، والله ولا حتى بتيمور نفسه. (يتلفَّت حوله ويستعيذ
بالله) أقصد لا أرضى أن يركبه غيري، ولو كان
هو نفسه، أعوذ بالله من اسمه. حماري يا ناس، حماري يا
عالم.
الحارس
:
ما هذه الضجة أيها الرجل؟ ألا تعرف أين أنت؟
تيمور
(همسًا للحارس)
:
حذار لا تقل شيئًا.
جحا
:
وأين أكون إذن؟ في جنة عدن؟ في قصر أمير المؤمنين؟ حماري
أيها اللصوص، ألستم من فرسان تيمور؟ أليست صناعتكم هي
السلب والنهب والسطو على أملاك الناس وحميرهم؟
الحارس
:
هل أحتمل هذه البذاءة كلها؟
تيمور
:
هش، قلت لك لا تَفتح فمك، أوصيهم أيضًا ألا يدخل علينا
أحد (لجحا) هيه ماذا
تريد أيها الرجل؟ عم تبحث؟ هل أستطيع أن أساعدك؟
جحا
:
ماذا تريد؟ عم تبحث؟ وكيف تساعدني بالله عليك وأنت
أصم؟
تيمور
:
قل لي ماذا تريد؟
جحا
:
يظهر أنك لست أصم فقط، بل غبيٌّ أيضًا، ألم أَصِح بملء
صوتي؟ ألم أصرخ كالمجنون؟
تيمور
:
هيه، فهمت، لقد ضاع منك شيء وتبحث عنه.
جحا
:
ما شاء الله.
تيمور
:
هل قلت إنه حمار؟
جحا
:
نعم والله، وفيه شبه منك.
تيمور
:
وكيف دخل إلى هنا؟
جحا
:
كيف يدخل إلى هنا؟ كما يدخل كل شيء بقدرة قادر (يشير إشارة السطو
والسرقة).
تيمور
:
هل هرب منك مثلًا؟ هل ضاع؟
جحا
:
هرب … ضاع؟ والله إن لك أسئلة لا يسألها حماري، وهل يهرب
شيء أو يضيع وفرسان تيمور أحياء يُرزقون، إن الهواء نفسه
يخاف منهم. الشمس نفسها تخشى أن يسرقوا نورها، البحر
والسماء والرياح.
تيمور
:
كفى … كفي، أين كنت حين اختفى حمارك؟
جحا
(مقلدًا صوته)
:
كنتُ أنا وهو نختفي منكم.
تيمور
(بصبرٍ شديد)
:
وأين؟
جحا
:
وأين أختفي حتى لا يروني؟ أين أختفي حتى لا يعرفوا أنني
حي أرزق؟ في الجبانة طبعًا، نزلت في أحد القبور المفتوحة
حين أبصرتهم من بعيد.
تيمور
(مبتسمًا وهو يقترب منه)
:
ومعك حمارك؟
جحا
:
يا لذكاء الفرسان! هل كتب عليَّ أن أتحمَّل ذكاءكم بعد
أن تحملت شجاعتكم؟
تيمور
:
تكلم، هل كان الحمار معك؟
جحا
:
بالطبع لا أيها الفارس الذكي الشجاع، تركت حماري يَرعى
وأسرعت بإخفاء نفسي في قبرٍ مفتوح وجدته صدفة
أمامي.
تيمور
:
كيف كان هذا؟ ارو الحكاية.
جحا
:
يا عم أنا لم أجئ لأروي حكايات، إنما جئت لأبحث عن
حماري، حبيبي وصديقي ومُنى عيني.
تيمور
:
ورفيق عمرك ومستشارك وكاتم سرك.
جحا
:
ومن أين عرفت؟ إن أحدًا لا يعرف هذا، هل قاله لك الحمار
بنفسه؟
تيمور
:
ربما.
جحا
:
إذن ساعدني في البحث عنه.
تيمور
:
ألم أعرض عليك هذا من قبل؟ هيا نتكلم، ماذا فعلت حين
رأيت الفرسان؟
جحا
:
وماذا أفعل بالله عليك؟ ماذا أفعل أيها الفارس الطيب
(يرى قدمه الوحيدة حافية
فيضحك) ماذا يفعل رجل على نياته مثلك حين يرى
أحد فرسان تيمور؟
تيمور
(متجاهلًا نظراته إلى قدميه)
:
نعم، ماذا يفعل؟
جحا
:
يرتعش وينتفض، يتصور عزرائيل أمامه، يقرأ الشهادة على
روحه.
تيمور
:
حسن جدًّا، ولهذا أسرعت إلى القبر المفتوح؟
جحا
:
خلعت ملابسي أولًا، ثم دخلت القبر كما ولدتني
أمي.
ولما اقترب الفرسان ورأوني في القبر عاري الجسم استغربوا
حالي وسألوني: ماذا تفعل في القبر يا هذا؟ فحرتُ في
الجواب، ولكنني استدركت بسرعة، أنا يا سادتي الفرسان من
أهل القبور، أرقد هنا من عشرات السنين، وقد سئمتُ طول
المكث فاستأذنت ربي أن أخرج قليلًا للفسحة.
(تيمور يضحك بصوتٍ عالٍ.)
جحا
(ينظر إليه)
:
هكذا ضحكوا يا سيدي، ولكنهم لم يكتفوا بالضحك.
تيمور
:
وماذا فعلوا؟
جحا
:
أعوذ بالله، أبعد هذا كله تسألني: ماذا فعلوا؟ سرقوا
حماري الذي جئت أبحث عنه، فإذا بحضرتك تُعطِّلني كل هذا
الوقت (جحا يبحث في كل ركن في
الخيمة تحت المقاعد … بين الكراسي … تحت السرير … وراء
قماش الخيمة وهو يقول):
حماري … حماري، اظهر يا نور عيني … اظهر ولا تخف، أنا
لستُ من فرسان تيمور السفاح، أنا صاحبك، صاحبك جحا
المسكين، أرجوك يا حماري. نهقة واحدة ترد روحي (يقترب من تيمور
لنك).
جحا
(يرفع ثوب تيمور لنك، وينظر في داخله
وتحته)
:
هل أنت هنا يا حبيبي؟
تيمور
:
ماذا تفعل يا جحا؟
جحا
:
عدت للسؤال يا ذكي؟
الحارس
(يتقدم إليه غاضبًا)
:
أجننت أيها الأحمق؟ أتبحث في ثوب …
تيمور
:
حذار …
الحارس
:
في ثوب هذا الفارس الشجاع عن حمارك؟
جحا
(بثباتٍ وهو يُواصل البحث)
:
ولم لا؟ وهل يصعب شيء على الفرسان الشجعان من أمثاله،
إنهم يسرقون مال النبي، ويَخطفون الكحل من العين، ويلهفون
الرءوس من على الأجسام، انحنِ قليلًا يا رجل.
الحارس
:
كيف تخاطب الفارس بهذه اللهجة؟
جحا
:
وما المانع؟ وهل بقي شيء بعد أن ضاع الحمار؟ (يمد يده إلى عمامة تيمور، وتيمور
مُستسلِم له).
الحارس
:
وهل يختفي الحمار في العمامة يا أحمق؟
جحا
:
وهل هي ككل العمامات يا غبي؟ هل تضيق عمامة أحد فرسان
تيمور عن حمار صغير لطيف مثل حماري؟ أسنانك يا رجل.
الحارس
(صارخًا)
:
وتبحث في أسنان مولاك أيضًا؟
جحا
:
وما المانع أيها الغبي العنيد؟ ثم مَن الذي أسماه مولاي؟
هذا الجلف الضخم اﻟ…
الحارس
(وقد نفذ صبره)
:
إنه تيمور لنك يا أحمق، إنه تيمور لنك.
جحا
:
من؟ ماذا قلت؟
تيمور
(يُربِّت عليه بهدوء، للفارس)
:
لا فائدة منك يا غبي، لا تخف يا جحا.
(جحا يسقط على الأرض مغشيًّا
عليه، تيمور لنك ينحني، ويُحاول أن يفيقه من غشيته.
جحا يفتح عينيه، ثم يقفلهما بسرعة، يرفع رأسه، ثم لا
يلبث أن يخفضها ويتماوت) اصح يا جحا …
اصح.
جحا
:
من ينادي عليَّ؟
تيمور
:
أنا يا جحا بجانبك.
جحا
:
من؟ عزرائيل؟
تيمور
:
بل السلطان تيمور لنك.
جحا
:
آه … الله يرحمني، ظننتُ أنني لا زلت أطالع في الروح
(يتماوت).
تيمور
:
أفق يا جحا، قلت لك لا تخف.
جحا
:
الحمد لله أنني مت من زمان.
تيمور
:
لم تَمُت بعد، ألا تسمع صوتك؟
جحا
:
ضعتُ وضاع حماري أيضًا، كنت على ظهره فضعت معه.
تيمور
(يضحك)
:
هيا، أفق، قلت لك لا تخف (ينهضه بالقوة).
جحا
:
أسرع يا مولاي، أسرع.
تيمور
:
وما الداعي للسرعة يا جحا؟
جحا
:
ألم تأمر بالسيف والنطح؟ هيا اضرب رأسي قبل أن أفيق من
نومي.
تيمور
(مدعيًا الغضب)
:
قلت لك ألف مرة لا تخف، أم تُريد أن ترى كيف يتصرف تيمور
لنك السفاح؟
جحا
:
أرجوك يا مولاي (يزحف إلى
قدمه) ها هي قدمك أقبلها. إنها حافية وهذا
يسهل الأمر (يقبلها).
تيمور
:
انهض، قلت لك أفق وإلا …
جحا
:
لا … لا، أفقت وصحوت (يتحسَّس
رأسه)، وما زال رأسي على كتفي أيضًا، أشكرك
يا مولاي، أشكرك وأتوسل إليك.
تيمور
(يأخذ بيده في لطف، ويتجه به إلى
أريكة)
:
بل أنا الذي أتوسل إليك.
جحا
:
أنت يا مولاي؟ ملك العالم يتوسل لحمار مثلي؟ (يمتنع عن الجلوس.)
تيمور
:
اجلس …
جحا
:
وأجلس أيضًا؟
تيمور
:
قلت لك اجلس، أتدري لماذا أرسلت إليك؟
جحا
:
مولاي أرسل إليَّ أنا؟
تيمور
:
فرقة كاملة من الفرسان تبحث عنك في كل مكان، من ثلاثة
أيام وهم يسألون عنك. كان يحب عليهم أن يسألوا عن
حمارك.
جحا
:
وقد سألوا يا مولاي وسرقوه.
تيمور
:
سأتحقَّق من هذا بنفسي، اجلس الآن بجانبي (جحا يجلس).
جحا
:
وإذا لم تجده يا مولاي.
تيمور
:
أُعوِّضك عنه، هل قالوا لك إن تيمور لنك فقير أو
بخيل؟
جحا
:
عفوًا يا مولاي، ولكن حماري لا يعوضه شيء.
تيمور
:
إذا لم أعثر عليه فسأعوضك تعويضًا كافيًا، سأعطيك جرابًا
مملوءًا بالذهب في حجم الجراب الذي تضع له العلف
فيه.
جحا
:
المهم هو أن تجده يا مولاي، وتستطيع أن تُعطيَه الذهب،
وتترك لي العلف.
تيمور
:
أتحبُّه إلى هذا الحد يا جحا؟
جحا
:
أحبه؟ إن كلمة الحب لا تكفي يا مولانا، لقد ربيتُه
كابني، أخلص لي أكثر من زوجتي وأولادي، فهمني أكثر من كل
الناس. واساني حين لم أجد أحدًا يَسمع شكواي، تحمل حماقاتي
حين ضاق بها الجميع، أتقول أحبه؟ في بعض الأحيان أتصور أنه
ظلي، لا بل إنني ظلُّه.
تيمور
(يضحك)
:
لا بد أنه شديد الإخلاص لك يا جحا، ألم تفكر مرة في
بيعه؟
جحا
:
كلما ضاقت بي الحال، وسُدَّت في وجهي أبواب الرزق فكَّرت
في بيعه، ولكني كنت أشترط على الشاري شرطًا لم يرض به
أحد.
تيمور
:
وما هو هذا الشرط يا جحا؟
جحا
:
أن يشتريني معه، أن يأخذني لأكون بجانبه.
تيمور
(ضاحكًا)
:
الناس معذورون لرفضهم هذا الشرط يا جحا.
جحا
:
إنني أخشى عليه حتى من نفسه، يُخيَّل لي أنه لو ضاع لضعت
معه، ولو مات فلا بد أن أموت أنا أيضًا، جاء جاري يطلب
إعارته، فقلت: إنني ذاهب للحمار أستشيره عساه يقبل، ثم
دخلت إلى الإصطبل وعدت لأقول له: لقد استشرت الحمار فلم
يرض؛ لأنه يزعم أن ملاك الحمير أوحى إليه بأنك ستَضربه
ضربًا مبرحًا وتشتمه وتسبُّه هو وصاحبه.
تيمور
:
ملاك الحمير؟ ها ها وماذا تفعل لو خانك الحمار، فنهق
مثلًا؟
جحا
:
فعلها يا مولاي، جاءني جار آخر يطلب نفس الشيء، فقلت له:
إن الحمار في السوق، وما كدتُ أتمُّ عبارتي حتى بدأ الخائن
ينهق بصوتٍ منكَرٍ من داخل الإصطبل، فقال جاري: يا شيخ هذا
الحمار يملأ الدنيا نهيقًا وتنكر أنت وجوده؟ أسعفني طول
لساني، فهززت رأسي وقلت: ما أغربك يا رجل! أتصدق الحمار
وتكذب هذه اللحية الشائبة (تيمور
يضحك).
(يدخل أحد قواد الجيش، ينحني لتيمور لنك
ويُحيِّي بجلبة السلاح ويقول):
القائد
:
مولاي، الفرسان ينتظرون الإشارة.
تيمور وجحا
(معًا)
:
هل وجدتم الحمار؟
القائد
(مرتبكًا)
:
حمار؟ ماذا تريد يا مولاي؟
تيمور
:
ماذا تريد أنت أيها القائد؟ ماذا يريد فرساني
الشجعان؟
القائد
:
ماذا يريدون؟ لا يريدون إلا ما تشاء إرادتكم يا
مولاي.
تيمور
:
تبًّا لك يا جحا، لقد نسيتُ لماذا كلفت الفرسان
بالاستعداد، ذكِّرني أيها القائد.
القائد
:
إنهم على أهبة الاستعداد يا مولاي، سيوفهم تتحرَّك شوقًا
لطعن هؤلاء الخبثاء.
تيمور
:
الخبثاء؟ من هم أيها القائد؟ طالما أرحنا خبثاء كثيرين
من نفوسهم الخبيثة.
القائد
:
ومن غيرهم يا مولاي؟ أهالي آق شهر.
جحا
(قافزًا من مكانه)
:
من؟
القائد
:
الذين لا يخافون بقدر ما يعبثون بنا.
تيمور
:
يعبثون؟ وكيف هذا أيها الفارس؟
القائد
:
لم يُخلَق بلد فيها من الحمير بقدر ما في بلدهم، تصور
أنهم يُرسلون الحمير للتجسُّس علينا.
تيمور
(فجأة)
:
وهل وجدتم بينهم حمار جحا؟
جحا
:
نعم يا ولدي، إنني أستطيع التعرف على نهيقه من بين ألف
حمار، أرجوك يا ولدي.
القائد
:
إننا نقتلها أولًا بأول، ونستعد الآن لتأديب
أهلها.
جحا
:
مولاي، أتوسل إليك.
تيمور
:
أيها القائد، دعني الآن قليلًا، قل للفرسان يَستريحوا
حتى يأتي تيمور.
جحا
:
أتوسل إليك يا مولاي، إنهم ضعاف مساكين.
تيمور
:
قلت أنا الذي أتوسل إليك، هيا عد إلى مكانك.
جحا
:
العجزة والأطفال والنساء.
تيمور
:
قلت لك: اجلس، نعم هنا بجانبي، هل تعلم لماذا أرسلت
إليك؟
جحا
:
لو كان حماري معي لعرفت يا مولاي.
تيمور
(ضاحكًا)
:
لا أشتهي سماع نهيق الحمار، أريد أن أسمعك أنت يا جحا،
ماذا كنت تقول؟
جحا
:
ماذا كنت أقول؟ انتظر حتى أستشير حماري.
تيمور
:
ولكنه ليس معنا يا جحا.
جحا
:
ولكن روحه دائمًا معي يا مولاي، انتظر … انتظر، ما رأيك
يا حماري؟ صحيح … صحيح.
تيمور
(ضاحكًا)
:
زدني يا جحا.
جحا
:
ماذا أقول يا مولاي؟
تيمور
:
لا تقل شيئًا، أضحكني … أضحكني.
جحا
:
إنك تضحك يا مولاي.
تيمور
:
لا أريد هذا الضحك، أريد أن أضحك من القلب، الضحك الذي
يغسل الروح ويطهر الجسد … الضحك الذي يغسل الدماء من ضميري
يُنسيني منظر الرءوس المقطوعة والأجسام المصلوبة والبيوت
المحترقة والمآذن المهمة … الضحك الذي ينسيني الخراب
والموت والدم في كل مكان داسته قدماي.
(جحا ينظر إلى قدمه الحافية ويضحك.)
تيمور
:
ما الذي يضحكك يا جحا؟
جحا
:
تمنَّيت لو كان حماري هنا.
تيمور
:
وماذا كان يفعل؟
جحا
:
ربما كنت استعرتُ حدوته وأعطيتها لك.
تيمور
(ضاحكًا)
:
قل لي يا جحا، كيف يَضحك الناس؟ كيف تُزيل العبوس من
وجوههم؟ كيف تحيي الابتسامة على شفاههم؟
جحا
:
أنا أضحك الناس؟ من قال هذا يا مولاي، إنهم هم الذين
يَضحكون على أنفسهم. أريهم العالم المقلوب الذي يعيشون
فيه، فيكتشفون أنه عالمهم ويضحكون … أسير أمامهم على رأسي
أو أمشي على أربع كما يفعلون، فيكتشفون أنهم كانوا يفعلون
ذلك دائمًا فيضحكون. أُبيِّن لعلمائهم ومشايخهم أنهم
يقلبون اللغة أيضًا على رأسها، فيضحك الناس منهم
ويطاردونني في البلاد … إنني لا أُضحك الناس يا مولاي، لم
يخلق إنسان له هذه الموهبة الخارقة … إنني أريهم وجوههم في
المرآة.
تيمور
:
تريهم وجوههم في مرآة، وما هي المرآة يا جحا؟
جحا
(بينما يبحث في جيوبه)
:
اختراع غريب يا مولاي، لا أدري إن كنتم قد سمعتُم به
أولًا، ربما اخترعه الناس في أرض فرعون.
تيمور
:
زدني يا جحا، زدني عن هذه المرآة.
جحا
(يخرج بعض الأشياء من جيوبه
وعبه)
:
رغيف أعطته لي امرأتي لأتغذى به، أوصتني أن أطعم منه
الحمار وآكل ما يفيض منه.
تيمور
(يضحك)
:
ثم ماذا يا جحا … ثم ماذا؟
جحا
(يبحث في جيوبه)
:
ولباسي أيضًا، كان منشورًا على الحبل وما زال مبتلًّا،
هل تدري لماذا أعطته لي امرأتي؟ لأنني كثيرًا ما أبول على
نفسي يا مولاي، عادة قديمة لم أستطع التخلص منها.
تيمور
(ضاحكًا)
:
والمرآة يا جحا … المرآة.
جحا
(يبحث في جيوبه)
:
أظن أنها أعطتها لي أيضًا لأنظر فيها كلما أردت أن
أضحك.
تيمور
:
أين هي يا جحا؟ أين هي؟
جحا
(يخرج من جيبه مرآة صغيرة في حجم
الكف)
:
أخيرًا، ها هي يا مولاي.
تيمور
(يسرع نحوه)
:
أرني يا جحا.
جحا
:
انتظر يا مولاي، انتظر، أتظنها مرآة عادية؟ أتحسب أن كل
من هبَّ ودب يستطيع أن ينظر فيها؟ إنها مرآة يستطيع
الإنسان أن يرى فيها كل شيء.
تيمور
:
وماذا يرى يا جحا؟ هل هي حقًّا البلورة المسحورة التي
سمعنا عنها؟
جحا
:
في بعض الأحيان يا مولاي تُطلُّ فيها كما تطل في أعماق
بئر. قد ترى هناك قصورًا مسحورة وعذارى جميلات وبساتين
وفاكهة من كل نوع.
تيمور
:
أرني يا جحا، أرني هذه المرآة، هذه البلورة
المسحورة.
جحا
:
وقد ترى فيها شياطين مردة بذيول وقرون في جباهها ونيران
تخرج من عيونها وأفواهها أنوافها.
تيمور
:
لنترك هذه الشياطين يا جحا، لنر القصور المسحورة
والعذارى.
جحا
:
قد ترى وجهًا لم تره من سنين وسنين، وجه أبيك أو أمك أو
معلمك أو حبيبتك.
تيمور
:
شيء غريب يا جحا، وماذا أيضًا؟
جحا
:
وقد ترى شيئًا تضحك له، تضحك كما لم تضحك في حياتك
أبدًا.
تيمور
(مقاطعًا)
:
هذا ما أريده يا جحا، هذا ما أتوسَّل إليك أن تحققه لي،
لهذا أرسلت فرساني يبحثون عنك ثلاثة أيام وليالي، أرجوك يا
جحا، أتوسل إليك، أريد أن أضحك … أضحك من قلبي كما لم أضحك
في حياتي … أريد أن أنسى حزني وعبوسي وصمتي، أرجوك يا
جحا.
جحا
:
ما دمت ترجوني فلا مانع، هيا تعال هنا.
تيمور
(طائعًا)
:
أين يا جحا؟ أين البئر؟ (يبحث
حوله.)
جحا
:
أية بئر يا (يتدارك
نفسه) يا مولانا … انظر هنا.
تيمور
:
نعم … نعم، ماذا أرى؟ أهو وجه إنسان يا جحا؟
جحا
:
المسألة ليست سهلة إلى هذا الحد (لنفسه) وجه إنسان؟ أيعقل
أن يكون وجه إنسان؟ أيمكن أن يكون وجه إنسان؟
تيمور
:
ماذا تقول يا جحا؟
جحا
:
نعم، ماذا أقول؟ أولًا عليك أن تسكت تمامًا، أن تنظر فقط
وتسكت، تمامًا كما يجلس الأطفال أمام صندوق الدنيا، هل
جلست؟
تيمور
:
نعم يا جحا، وأنتظر أن تفسر لي ما أراه.
جحا
(أمرًا)
:
قلت لك اسكت، هل ترى هذا الوجه؟ (يمسك المرآة أمام وجه
تيمور) انظر جيدًا، هل تبصر قرنين في جبينه؟
هل تلمح النار التي تخرج من عينيه وأنفه وفمه؟
تيمور
:
لا يا جحا، ولكنه وجه غريب.
جحا
:
قلت لك: اسكت، نعم هو وجه غريب، صاحبه قوي الجسم، مفتول
العضل، كبير الرأس كالمجانبين، واسع العينين تظهر فيهما
الصرامة والقسوة والتكبر، هل ترى جبينه؟ إنه عريض، ممتلئ
بالتجاعيد، لا يرى أحد ماذا يدور في داخله. رأس محموم يغلي
كقدر الساحرة الشمطاء بالأوهام والخيالات والأحلام، أتدري
من صاحبه؟ قلت لك: اسكت، كان طفلًا عاديًّا نشأ في بيتٍ
عادي، بيت من الطين والأخشاب، حوله سور من الطين ذو جدران
أربعة، ماتت أمه وهو صغير، فحرم من عطفها، وانعزل أبوه
يتعبد في صومعته، فحرم من حنانه. هل تدري ماذا كان
يفعل؟
تيمور
(لنفسه)
:
هذا الشارب أيمكن؟
جحا
(بشدة)
:
قلت لك: ولا تفتح فمك. كانت تسليته الوحيدة أن يجلس على
سطح البيت، وينظر للفضاء البعيد، ويحلم بمدينة القوافل
والذهب والنساء الجميلات، المدينة التي يحدثه عنها التجار
والفرسان والدراويش، من هنا بدأ يعرف الوحدة، والوحدة
علمته الصمت، والصمت علمه العبوس، والعبوس علمه الطموح،
والطموح دفعه أن يمسك السلاح، والسلاح أغراه أن يهدم ويخرب
ويقتل، والقتل دفعه إلى المزيد من القتل، والمزيد من القتل
إلى المزيد منه.
تيمور
:
عجيب يا جحا، هل يستطيع رجل واحد أن يفعل هذا
كله؟
جحا
:
ألم أقل لك لا تفتح فمك؟
تيمور
:
جحا، أنسيت أنك تكلم …
جحا
:
هش! أتريد أن تختفي الرؤية من أمامك؟ أتظن أن الإنسان
يمكن أن يرى مثل هذا الوجه مرتَين في حياته؟ اجتمع القتلة
حوله من كل الأجناس والشعوب والقبائل. وكلما غزا قبيلة أو
أسقط قلعة أو أحرق مدينة انضم إليه المزيد من القتلة، ومضى
بفرسانه من بلدٍ إلى بلد، يغلبون خصومهم في كل مكان،
ينتصرون على كل عدو، يقتحمون كل حصن، يفتكون بكل إنسانٍ
وحيوان.
تيمور
:
أيمكن أن يكون هذا!
جحا
:
هش، قلت لك اسكت.
تيمور
(لنفسه)
:
ترى هل يُكرر التاريخ نفسه؟
جحا
:
أتريد أن يختفي الوجه من أمامك؟ انظر … ألا ترى العين
تزداد حزنًا والشعر شيبًا، والجبين يمتلئ
بالتجاعيد؟!
تيمور
:
ماذا كان يريد صاحبنا؟
جحا
:
ماذا يريد؟ أن يفتح العالم كله، أن يقف فوق الأرض ويقول:
هل فيك شبر لم تمش عليه أقدام خيولي وفرساني؟ أن يحرق كل
مدينة ويمعن السيف والسلب والنهب في كل شيء، هل تعلم ماذا
فعل في مدينة حلب؟
تيمور
:
وهل ذهب إلى هناك أيضًا؟
جحا
:
أتُريد أن يَغضب منك ويختفي؟
تيمور
:
لا … لا، إنه وجه غريب حقًّا، تكلَّم يا جحا.
جحا
:
ترك جنوده يقتلون ويحرقون وينهبون كما يشاءون، حتى صار
الإنسان لا يكاد يقع إلا على جثة إنسان، هل تذكر شكل
المآذن؟ هل سمعت بأهرام فرعون؟ يقولون إنه بني من رءوس
القتلى عشرة مآذن وثلاثة أهرامات، عشرون ألف طفل وشيخ
وامرأة وشاب ماتوا تحت أرجل الخيل أو بسيوف
الفرسان.
تيمور
:
يُخيَّل إليَّ يا جحا.
جحا
:
لا تتخيَّل شيئًا، قلت: انظر وأنت ساكت. هل تعلم ما
يقوله الناس عما فعله في دمشق؟
تيمور
:
وهل دخل دمشق أيضًا؟
جحا
:
وهل بقيت هنالك مدينة لم يدخلها؟ يقول العجائز إنه أمر
رجاله باقتحام المدينة وسيوفهم مشهورة في أيديهم، نهبوا ما
قدروا عليه وسبوا النساء جميعًا، وساقوا الرجال والأولاد
بعد أن ربطوهم في الحبال، وأشعلوا النار في المنازل
والمساجد، حتى صار اللهيب يُناطح السحاب، وعصفت المدينة
مثل جهنم، أتعرف بماذا كان يتسلى وهو يرى هذا كله؟
تيمور
:
يتسلى؟ هل وجد الوقت لهذا أيضًا؟
جحا
:
بالطبع، إنها تسلية قديمة.
تيمور
:
وماذا كان يفعل يا جحا؟
جحا
:
كان يلعب الشطرنج.
تيمور
:
الشطرنج؟ هل أنت متأكد يا جحا؟
جحا
:
وهل تعلم أيضًا ماذا كان يقول لأتباعه وهو يرى النار
تأكل الأخضر واليابس، وتأتي على الحي والميت؟
تيمور
:
إلهي، ماذا كان يقول؟
جحا
:
إن طريقي هو طريق القدر، كل ما فعلته كان مقدرًا.
تيمور
:
نفس الكلام يا جحا، نفس الكلام.
جحا
:
قلت لك: اسكت حتى لا يختفي في البئر.
تيمور
:
يُخيَّل إليَّ أنه وجه عجيبٌ يا جحا.
جحا
:
بل وجه مُضحك يا مولاي، ألا تحسُّ بالرغبة في الضحك وأنت
تراه؟ ألا تريد أن تضحك؟ (يضحك
بشدة) أليس من المضحك أن يحاول الإنسان أن
يكون قدرًا، أن يُصبح شيطانًا، أن ينوب عن الموت؟ تصور يا
مولاي ماذا كنت تفعل لو قالوا لك إن صاحب هذا الوجه هو
الموت نفسه؟ (يبعد
المرآة.)
تيمور
(مُفكرًا، يذرع المكان جيئةً
وذهابًا)
:
جحا … هل نظرت مرةً في هذه المرآة؟
جحا
:
نعم يا مولاي، كلما اشتقت إلى رؤية حماري.
تيمور
:
جحا، هل خدعتني يا جحا؟
جحا
:
خدعتك؟ حاشاي أن أفعل يا مولاي، وهل غاب عني أنك
…
تيمور
:
لماذا سكت؟ أكمل عبارتك … أنَّني السفاح الأكبر. الرجل
الذي أصبح هو القدر والشيطان والموت.
جحا
:
وهل جُننت يا مولاي حتى أفعل هذا؟ إنها المرآة البلورة
المسحورة.
تيمور
:
أريد أن أعرف هذا الاختراع، والويل لك إن اكتشفتُ أنكَ
كنتَ تضحك عليَّ.
جحا
:
خوفي يمنعني أن أفعل هذا يا مولاي، حتى الحمار
نفسه.
(يدخل القائد بينما يشير جحا مصادفةً في
اتجاهه، تيمور يغالب الضحك، ولكنه يتماسَك بينما يقول
القائد):
القائد
:
الفرسان سئموا الانتظار يا مولاي، وسيوفهم تشتاق.
تيمور
(ناظرًا إلى جحا)
:
إلى رءوس سكان آق شهر، أليس كذلك؟
(جحا لا يرد.)
القائد
:
ولأي شيءٍ يشتاقون غير الرءوس يا مولاي؟
تيمور
:
ولن ينسوا الحمير أيضًا، أليس كذلك؟
جحا
:
إلا الحمير يا مولاي، أتوسل إليك، بحق حماري المسكين،
أرجوك، أُقبِّل قدميك.
تيمور
:
هيا أيها القائد (يغالب
الضحك)، ولنجرب مذبحة الحمير لأول مرة
(يخرج مع القائد، بينما يقف
جحا وحده حائرًا).
جحا
(لنفسه)
:
أهكذا تفشل يا جحا؟ هل انكشفت لعبتك بهذه السهولة؟ ومن
الذي كشفها؟ هذا السفاح الغبي الغليظ؟ أين حكمتك وذكاؤك؟
أين عبطُك وخبثك؟ أتضحك على ذقون العلماء والمشايخ
والفرسان والتجار ويُفلِت منك هذا الجلف المتكبر؟ ماذا
يكون مصيرك الآن؟ ماذا يكون مصير آق شهر؟ أهلُك وأولادك
وجيرانك وزوجتك الحمقاء وحمارك الطيب العجوز، أيكون عبطُك
هو السبب أم … أم هذه المرآة اللعينة؟ أكنت تحسب أن هذا
التتَري المتوحش الذي غزا نصف العالم سيعجز عن معرفة
وجهِه؟ ويلي … ويلي، ويلك أيتها المرآة الملعونة، يا من
تَزيدين النساء غرورًا والملوك ظلمًا والمجانين جنونًا. هل
يصعب عليك أن تُضحكيهم على أنفسهم؟ ولماذا أضحك أنا على
نفسي كلما نظرت فيك؟ أأنا أكثر منهم حكمة أم أكثر منهم
غباءً؟ أف، تعاليَّ (يكسرها بقوة
على الأرض فتَتناثر قطعًا صغيرة في كل مكان، يُحاول أن
يبكيَ فيختلط ضحكه وبكاؤه … يدخل
تيمور).
تيمور
:
جحا … جحا، ها أنا قد جئت، أين المرآة؟ هاتِها ليرى
الفرسان فيها أنفسهم، نعم نعم كما رأيت نفسي. أيها الأحمق،
ماذا فعلت؟ أيمكن أن يكسر الإنسان بلورة مسحورة؟ (يَنحني على الأرض، ويجمع القطع
المتناثرة، يأخذ قطعة منها وينظر فيها ثم …
يضحك.)
جحا
:
لماذا تضحك يا مولاي؟
تيمور
:
لماذا أضحك؟ وكيف لا أضحك يا جحا وأنا أرى هذا الوجه
لأول مرة؟
جحا
:
مولاي.
تيمور
:
اسكت يا جحا، هل أطلب منك شيئًا … شيئًا واحدً؟
جحا
:
بالطبع يا مولاي، ما دمت أنتظر بين لحظةٍ وأخرى.
تيمور
:
أف، ألم أقل لك لا تخف؟ اسمع … أريد أن تُصبح نديمي مدى
الحياة.
جحا
(مذعورًا)
:
أنا يا مولاي؟
تيمور
:
نعم أنت، لكي أنسى وجهي كلما نظرت في وجهك، لكي أستطيع
…
(جحا ينفجر باكيًا.)
تيمور
:
لماذا تبكي يا جحا؟ ألا يرضيك أن تكون رفيقي ونديمي؟ ألا
يُشرفك أن تكون بجوار أشجع رجل وأقوى رجل (يزداد بكاء جحا) تكلم يا
جحا، تكلم.
جحا
:
ارحمني يا مولاي.
تيمور
:
إنني لا أفهمك.
جحا
:
لقد رأيتُ وجهك مرةً واحد، فماذا أفعل أنا لو رأيته كل
يوم (تيمور ينظر في وجهه، ثم
يضحك).
تيمور
:
جحا … جحا، أيها المغفل، أيها الأحمق، أيها الحكيم
(ينظر في وجهه
ويضحك).
أتدري ماذا خطر لي الآن؟ وجهك أيضًا مرآة، الآن عرفت
لماذا يضحك الناس عندما ينظرون فيه، أتعرف كيف اكتشفتُ
لعبتك؟ من شاربي، تذكَّرت فجأة أن السفاح الذي تكلَّمتَ
عنه لا يمكن أن يكون غيري، تسألني لماذا؟ لأنه لا يمكن أن
يجتمع سفاحان بشاربٍ من نوعٍ واحد، شارب تترا نحيل مبروم
إلى أسفل، ومنسدل تحت الذقن، شاربي الذي طالما شددتُ
شعراته وأنا مطرق صامت أفكر في كل مذبحةٍ قادمة. ها ها
(يضحك يدخل القائد
فيلمحه) اذهب أيها القائد، قل للفرسان أن
تيمور سيخيب ظنَّكم لأول مرة في حياته. من يأمركم بالحرق
ولا بالموت ولا بالتدمير، قل لهم إنَّ السفاح الأكبر يضحك،
يضحك لأول مرة على نفسه، يضحك لأول مرة من قلبه، أليس كذلك
يا جحا (يعانقه ويقبله ويكتشف
أنه يبكي ويتشنَّج) لماذا تبكي أيها
الأحمق؟
ألم أقل إنني أضحك على نفسي؟ ألم تُعلِّمني المرآة هذا؟
لمَ تخافُ إذن على نفسك؟ على أهل بلدتك؟ آه، هيا يا جحا …
اضحك … اضحك … اضحك، هل أعلمك كيف تضحك أنت أيضًا على
نفسك؟ خذ. هذه قطعة من المرآة ترى فيها أنفك الطويل، ورأسك
الغبي، وفمك المضحك، هيا اضحك … اضحك (جحا يضحك).
جحا
:
ألم تذهب أيها القائد؟ خذ، هذه قطعة من المرآة، وهذه
قطعة أخرى. وهذه … أعط كل فارس مرآة، قل لهم إن تيمور نظر
فيها فضحك، أليس كذلك يا جحا؟ ضحك لأول مرة في حياته، قل
لهم من يضحك على نفسه لا يقتل غيره، أتخشى أن يمسك كل منهم
في يده مرآة، فيتعلموا الضحك وينسوا الحرب؟ أليس هذا أيضًا
شيئًا مضحكًا؟ اضحك أيها القائد، اضحك … اضحك على نفسك كما
يفعل تيمور لنك، لا، ليس هكذا، ضحكًا أقوى … أشد … أعلى
نبرة … أعلى … أعلى … أعلى.
(القائد يقف مُتسمرًّا في مكانه، يَفتح فمه من
الدهشة، ثم لا يلبث أن يُشاركهما ضحكهما الذي يرتفع شيئًا فشيئًا
قبل أن يُسدل الستار.)