الشخصيات
المسرحية مستوحاة من قصة «الخادمان» للكاتب اليوناني القبرصي
الأصل نيقوس نيقولائيدس الذي عاش ومات في مصر سنة ١٩٥٦م. كنت قد
قرأتها مع مجموعة من القصص التي اختارها الدكتور نعيم عطية من
الأدب اليوناني الحديث، وصدرت حوالي سنة ١٩٦٩م عن دار الكاتب
العربي بالقاهرة (من صفحة ٤٨ إلى صفحة ٦١). عاشت القصة في نفسي
سنوات طويلة، وجرى عليها ما يجري على كل حيٍّ من تغير وتحوُّل قبل
كتابتها على هذه الصورة. ويطيب لي أن أهديها إلى الصديق الكريم
تعبيرًا عما أكنُّه له من الحب والعرفان.
(المشهد يتألَّف من منظرين، المطبخ الكبير على
اليمين، تبدو الأرفف ومساند الأطباق، ومنضدة عليها مفرش ومطفأة
سجائر، وبجوارها كرسيان من أعواد القش، النافذة إلى اليمين تَفتح
على الحديقة، وتظهر منها أعالي الشجر والسور الحديدي … إلى اليسار
ممشًى طويل، في أوله باب يُفتح بعد قليل على غرفة الاستقبال في
البيت الكبير الذي يحرسه الخادمان العجوزان منذ سنين، المرأة بدينة
قصيرة، تُرتِّب الأواني وتُنظِّف المكان بفرشاة طويلة في يدها.
والرجل نحيل ضئيل الجسم والوجه، حركاته تنمُّ عن ضعف بصرٍ
شديد.)
المرأة
(وهي تنظِّف وتُتمتِم لنفسها)
:
صباح الخير يا سيدتي، صباح الخير يا سيدي (تنحني باحترام) يوم سعيد.
يوم أسعد، ألا زال الصغير نائمًا؟ أحلام سعيدة يا سيدي.
يوم سعيد يا حبيبي، ولترعك عينُ الله وعيون الملائكة.
القهوة؟ في الحال. الماء على النار، والفحم في المدفأة،
والغرفة مرتَّبة ودافئة ككل يوم، ككل مساء. النافذة
سأفتحها ليدخل النور، وفي الليل أوقد الثريات والمصابيح.
نعم يا سيدي، أمركِ يا سيدتي (تتثاءب) آه! أين غاب عقلي؟ (تتلفت حولها، تخطو خطوات وتنظر في
الممر) كل صباح أكلم نفسي، أكلم سادتي، كأنهم
أمامي، كأني أرى وجوههم وأسمع وقع أقدامهم، لكنهم غائبون
منذ سنين، غائبون منذ متى يا رب؟ نعم نعم، منذ ظهر الجراد،
فتح فاه وافترسهم. أكل الخضرة وتركنا وحدنا. آه! منذ كم
سنة؟ وكيف أعرف؟ زوجي هو الذي يحسب ويقرأ؟ سأسأله الآن.
العجوز النَّكِد! لا بد أنه يُخفي عنِّي سرًّا. لا بد أنه
يعرف ولا يقول، ثم إنه لم يَعُد يصلح لشيء … آه يا ربي!
سنوات مع هذا الرجل المتعب. لا عقل في دماغه حتى بصره.
أوشك أن يُصبح أعمى (تُنادي) أين أنت؟ هيه! أين أنت؟ تتركني
أعمل وتُختفي. هيه، لا بدَّ أنه انطرش أيضًا.
(تنحني على الأرض، وتجمع أعواد
الكبريت وأعقاب السجائر) الكلاب والقطط
يُقوِّم سلوكها. أما هو فيظن أن المطفأة موضوعة
للزينة.
الرجل
(يدخل حاملًا في يده الجاروف، وخرطوم
الماء وجردلًا ومكنسة، يتنهد)
:
هيه، لا زلت نائمة؟
المرأة
:
نائمة؟ أنا أم أنت؟
الرجل
:
عجوز بلهاء، ألا ترَين ما في يدي؟
المرأة
:
عجوز نَكِد، وهل ترى أنت؟
الرجل
:
هل ينام من روى الشجر والزرع ومسح السور من التراب،
ونظَّف السلَّم والمدخل؟ كان شخيرك يُقلق الجيران.
المرأة
:
وأنت الذي يرتفع شخيرك طول الليل كثور يلفظ
أنفاسه.
الرجل
:
وتسلَّلت من جانبك وأنا أقول: عجوز لا نفع فيها، ونزلت
إلى الحديقة، وأتممت كل شيء. آه من هذا الغبار، كل يوم …
كل يوم … تعبت … تعبت.
المرأة
:
المُتعب هو أنت، أصبحت تتكاسَل عن أداء الواجب.
الرجل
:
أنا أم أنت؟ يا إلهي!
الأرضية وغسل المفارش؟ من جمع أعقاب السجائر التي ترميها
على الأرض. كأن سادتنا لن يَرجعوا أبدًا.
المرأة
:
ومن الذي نظَّف الأواني والأطباق؟ من رتب الصحون
وكنس؟
الرجل
:
سادتنا؟ نعم … نعم (ينحني
باحترام).
المرأة
:
سيرجعون ويحاسبونك، قلبي يقول لي …
الرجل
:
تتكلَّمين عنهم كأنهم ذهبوا إلى الأبد، ألا تشعرين أن
أنفاسهم تدفئ البيت؟
المرأة
:
نعم … أنفاسهم حاضرة معنا، هذه أصدق كلمة قلتها يا زوجتي
منذ سنين، منذ متى يا زوجي؟
الرجل
(يجلس على كرسيٍّ ويضع حمله بجوار
الحائط)
:
منذ سنين (يتنهد).
المرأة
:
أنت تقرأ وتعرف الحساب، من كم سنة غابوا؟
الرجل
:
قلت لك لم يغيبوا، أنفاسهم تدفئنا، أرواحهم حاضرة معنا،
أتوقع كل لحظة أن يظهر سيدي بالباب.
المرأة
(تنهض وتنحني)
:
أوامرك يا سيدي.
الرجل
:
أو أسمع خطوات سيدتي.
المرأة
(تنهض وتنحني)
:
السمع والطاعة يا سيدتي.
الرجل
:
والخطاب الأخير يؤكد أنهم سيعودون.
المرأة
(في حزن)
:
مضت عليه سنين.
الرجل
:
سنين؟ أين ذهب عقلك؟ لم تمضِ إلا شهور.
المرأة
:
لتكن أخبارهم طيبة يا إلهي.
الرجل
:
أف لك ولذاكرتك الخربة كالغربال، أنسيت ما قالوه؟
المرأة
:
ما قالوه؟
الرجل
:
يا أعزائي، الشتاء عندكم قاتل وطويل، وابنُنا العزيز
…
المرأة
:
يحفظه الله ويرعاه.
الرجل
:
صحته لا تحتمله، وعندما يمر …
المرأة
:
وجاء شتاء آخر … شتاء قارس … شتاء …
(تسمع دقات الجرس، تنهض العجوز مذعورة وهي
تنظر في رعب إلى النافذة الكبيرة المفتوحة، تبدو لها أقنعة
مُخيفة على هيئة الجراد، يذهب قناع ويأتي قناع، العجوز ترى
الوجوه المقنعة كالأشباح، ولا يستطيع زوجها أن يراها، وربما
كان يحسُّ بها من كلام زوجته أو يعرفها من زمنٍ قديم. المرأة
تجري نحو النافذة الزجاجية من حينٍ إلى آخر، ثم تندفع في
النهاية وتُسدل عليها ستارة ثقيلة.)
المرأة
:
أرأيت؟ (يسمع دق
الجرس.)
الرجل
:
أسمعت؟
المرأة
(ساهمة شاردة)
:
رجعوا …
الرجل
:
لا بد أنه ساعي البريد.
المرأة
:
انظر إليهم … انظر.
الرجل
(لا يرى شيئًا)
:
من تظنين؟ أيمكن أن يرجعوا هكذا بغير أن يخبرونا؟ لا …
لا، ربما أرسلوا إلينا.
المرأة
(مذعورة)
:
نفس الوجوه … الوجوه الصفراء اللعينة، والعيون … لا ليست
عيونًا، قوارض وأنياب وأسنان تتدلى كالحراب، رجعوا يا
زوجي.
الرجل
(متعجبًا يتابع كلامه)
:
قلت لك لا يُمكن أن يرجعوا الآن. الشتاء عندنا.
المرأة
:
الشتاء قارس طويل، كيف يَزحفون علينا في الشتاء؟ ألم
ترهم في الحديقة؟ ألم تر عيونهم تلمع وسط الأشجار
والأزهار؟ انظر … انظر.
الرجل
(يدق جرس الباب)
:
أنظر أم أسمع … ألا تسمعين أنت؟ ألا تفتحين الباب
يا امرأة، أصبحتِ في آخر العمر صمَّاء.
المرأة
:
وأنت أصبحت أعمى، إنهم هم … اذهبوا … اذهبوا.
الرجل
:
لا فائدة منك، لا بد أن أذهب أنا، سأفتح … سأفتح الباب
(يدق الجرس) اصبر
قليلًا، حتى الصبر اختفى من هذه الدنيا … حتى الصبر
(يَنصرف).
المرأة
:
لماذا رجعتم الآن؟ إنهم لم يرجعوا لبيتهم، نحن وحدنا …
عجوزان مريضان … عجوزان مسكينان … اذهبوا … دعونا في حالنا
… اذهبوا … اذهبوا (تندفع إلى
النافذة. الأقنعة المخيفة تتراقص أمام النافذة، وتلعب
لعبة الأشباح. المرأة تُسدل الستار البُنِّية القائمة
بعنف، ثم تُلقي بنفسها على أقرب كرسي وصدرها يهتز
بشدة).
المرأة
:
رحمتك يا رب، ما الذي ذكَّرهم بنا؟ لماذا رجعوا بعد كل
هذه السنين؟ ماذا يريدون منا؟ هل بقي في البيت أحد؟
(تلتفت وراءها وتخاطبهم
صارخة) تركوا لكم البيت وذهبوا، غابوا عنه
سنين ولم تغيبوا، ماذا تريدون منهم؟ ماذا تريدون منا؟ ما
نحن إلا خادمان عجوزان، نرتِّب البيت ونحافظ عليه.
الرجل
(يرجع مسرعًا وكأنه يرقص)
:
ألم أقل لك؟
المرأة
(مستمرة)
:
نعم نحافظ عليه، سنصونه ونحافظ عليه كما فعلنا طول
العمر، حتى آخر نفس فيَّ وفي عجوزي الأحمق.
الرجل
(ضاحكًا)
:
أحمق؟ بل أنت الحمقاء ولا تدرين ما هذا؟
المرأة
(تنتبه إليه وتخاطبه)
:
لماذا رجعوا اليوم؟ هل تعرف السر في هذا اللغز؟
الرجل
:
كما تقولين تمامًا، إنه سر … لغز.
المرأة
:
وماذا يريدون منا؟ ماذا يريدون من سادتنا؟ ما
السر؟
الرجل
:
إنه سر يا زوجتي العزيزة.
المرأة
(غاضبة)
:
طبعًا سر.
الرجل
:
لا يكفي أن تُسمِّيه سرًّا أو لغزًا، سميه المصادفة أو
الحظ الطيب، أو … ولكنه في الحقيقة سر.
المرأة
:
وإذا رجعوا مرةً أخرى.
الرجل
:
قلت لك لم يرجعوا … كيف يرجعون بلا خبر؟ هل يظهرون على
الباب هكذا فجأة؟ ألم تسمعي أن زمان المعجزات فات؟ ولكن
…
المرأة
:
ولكنك عجوز نكد، لا تفهم ولا ترى.
الرجل
:
وأنت لا ترين ما في يدي.
المرأة
:
إنك تُطبقها كمحارة، وماذا أرى فيها؟
الرجل
:
السر يا امرأة … اللغز، لا … كلام فارغ، الحظ الطيب …
كلام فارغ أيضًا، المعجزة نعم المعجزة.
المرأة
:
بدأت تخرف.
الرجل
:
هذا ما تقولينه دائمًا، عجوز مخرِّف، وهل هذا تخريف؟
(يفتح يده.)
المرأة
:
ما هذا؟ لا أرى شيئًا.
الرجل
:
لا ترين ولا تسمعين، وتتَّهمينني بأنني أعمى
وأصم.
المرأة
:
وأعمى من العميان، استغثتُ بك فلم تنظر ولم
تَسمع.
الرجل
:
وإذا لم أكن قد سمعت الجرس، فمن الذي فتح
البوابة؟
المرأة
:
الجرس؟ هل دق اليوم؟
الرجل
:
وأصم من الصم، وهذا الخطاب؟
المرأة
:
خطاب من أين؟ متى؟
الرجل
:
نعم خطاب، وأنت لا ترين ولا تسمعين.
المرأة
:
كف عن ثرثرتك، هيا اقرأه عليَّ (تقف باحترامٍ وتنحني لسادتها).
الرجل
:
وكيف يقرأ الأعمى؟
المرأة
:
قلت كفى ثرثرة، هيا اقرأ أخبار سادتنا.
الرجل
:
وهذه الستارة، لماذا أرخيتِها؟ إنني لا أرى
شيئًا.
المرأة
:
أف لك، هيا أثبِت لي أنك لم تصبح أعمى (تضع المصباح أمامه على
المنضدة).
الرجل
(ضاحكًا)
:
نسيتِ أن تُوصِّلي النور (تصل
السلك بمفتاح الكهرباء) ونسيت …
المرأة
:
ماذا أيضًا؟ التبغ أمامك.
الرجل
:
والمنفضة أيضًا، سأضع فيها الأعواد وأعقاب
السجائر.
المرأة
:
ضعها حيثما شئت، فلا فائدة فيك، المهم أن نطمئنَّ على
سادتنا.
الرجل
(يفضُّ غلاف الخطاب ويبدأ في
القراءة)
:
أخبار طيبة.
المرأة
:
حمدًا لك يا رب.
الرجل
:
عجوزاي العزيزان! هذا خط السيد …
المرأة
(تقف احترامًا بينما يُقلِّد زوجها صوت
السيد ونبرته)
:
نعم يا سيدي.
الرجل
:
نرجو أن تكونا بخير، وأن تكون صحتكما …
المرأة
:
نحن عجوزان مريضان، المهم أن تكونوا أنتم بخير.
الرجل
:
اشتقنا لرؤية وجهيكما، والحياة في بيتنا الكبير.
المرأة
:
والبيت الكبير يشتاق إليكم، متى يا رب ترجعون؟
الرجل
:
ألا تكفين عن مقاطعتي؟ (يشعل
سيجارة وينفخ الدخان في وجهها.)
المرأة
:
قل له نحن بخير ما داموا في خير، والبيت …
الرجل
:
أقول له؟ سمعت يا سيدي؟
المرأة
:
والبيت في خير، نصونه كالعهد بنا منذ دخلناه.
الرجل
:
وتزوجنا فيه، وأدركتنا الشيخوخة والصمم والحمق بين
جدرانه.
المرأة
:
قل له لا زالت الكلاب الطيبة تحرسه وتحميه، في كل يومٍ
نرتبه وننظفه ونطمئن على كل شيء في مكانه، السجاد النفيس
بين أيدي حراس لا يغفلون … والأواني والثريات والمصابيح
والصور والتماثيل الصغيرة مُغطاة كما تركتها ولم تمسها يد
غريبة، وشجرة الليمون.
الرجل
:
أف لكِ، أتظنين أنه يسمعك أو يراك، دعيني أكمل.
المرأة
:
أكمل أكمل، لن تتغيَّر أبدًا، دائمًا تسبح عكس
التيار.
الرجل
:
وأنت تقلبين القارب بما فيه ومن فيه!
المرأة
:
هيا واخفض صوتك، أتريد أن توقظ سيدنا الصغير …
الرجل
:
سيدنا الصغير؟
المرأة
:
يا رب اشفه ولا تحرمنا منه.
الرجل
:
لو صبرت قليلًا (يقرأ) إنه الآن في دور النقاهة.
المرأة
:
شكرًا لك يا رب، أكمل أكمل …
الرجل
:
هو الآن بخير، والخطر زال عنه.
المرأة
:
آمين … آمين.
الرجل
(يواصل القراءة)
:
لم يرد الله أن يتركنا بلا أولاد، حمدًا له.
المرأة
:
حمدًا لك يا رب.
الرجل
:
ولكن الشتاء عندكم.
المرأة
:
بارد وشديد.
الرجل
:
اصبري، إنه لا يقول بارد وشديد.
المرأة
:
صبرت … وماذا يقول؟ أليس باردًا على كل حال؟
الرجل
:
ولأن الشتاء عندكم أقسى مما هو عندنا، عجيب عجيب. هل
يمكن أن يكون أشد بردًا؟
المرأة
:
أو أشد ظلامًا.
الرجل
:
حقًّا … كان كذلك يوم رحلوا عنا فجأة.
المرأة
:
وقبل رحيلهم أيضًا.
الرجل
:
واستمرَّ على قسوته كل هذه السنين، ولأن الشتاء عندكم …
آه قرأت هذا من قبل، فسوف نتغيب عن بيتنا.
المرأة
:
ألم يكتب متى يرجعون؟
الرجل
:
انتظري، سوف نتغيب سنة أخرى، أو ربما أكثر من سنة، لا بد
أن نحارب الموت حتى النهاية.
المرأة
:
نعم لا بد، الموت والجراد …
الرجل
:
الموت والشتاء، ليتهم كانوا معنا.
المرأة
:
وليتنا معهم (صمت. بعد
فترة) أكمل أكمل.
الرجل
(سارحًا)
:
ماذا أكمل؟ انتهى كلام السيد.
المرأة
:
وسيدتي، ألم تقل شيئًا؟
الرجل
:
انتظري، نعم … نعم، بقيت سطور صغيرة بخط يدها.
المرأة
:
لا بد أنها موجهة لي.
الرجل
:
صدقت، إنها لك … عجوزي العزيزة.
المرأة
(تقف باحترام وتُشبك يديها على
صدرها)
:
أعزك المولى يا سيدتي.
الرجل
:
عرفت من الصحف أنَّ الشتاء عندكم هذا العام.
المرأة
(مقاطعة)
:
الشتاء والبرد والظلام والجراد.
الرجل
(مستمرًّا)
:
هذا العام كان أشد، مع ذلك أرجو أن تكون مدفأتنا في غرفة
الاستقبال الصغيرة على ما يرام، وأن تبعث الدفء في
أوصالك.
المرأة
:
سمعت؟ إنها تَذكُرني أيضًا، طيبة وحنون.
الرجل
(مستمرًّا)
:
إن شالي الأسود بالنقاط البنفسجية يصلح لك، ضعيه على
كتفَيكِ، إنه من الصوف الخالص وسيدفئك.
المرأة
:
يا لسيدتي الحبيبة الغالية!
الرجل
:
ماذا تنتظرين؟ إنها …
المرأة
:
يا إلهي (تفكر).
الرجل
:
تنقصنا الثقة بالنفس، هذا ما يجب الاعتراف به.
المرأة
:
أتريد أن نفتحها؟ إنها مغلقة منذ رحلوا.
الرجل
:
خفنا أن نلمس مفروشاتها فتركناها مغلقة، لم نُجدِّد
الهواء، ولم نترك ضوء الشمس يدخل إليها.
المرأة
:
هل يمكن أن نفتحها بغير أمرهم؟
الرجل
:
أليس هذا أمرًا؟ أليس من الواجب أن نفتحها لنرى
حالها؟
المرأة
:
أأنت جاد؟
الرجل
:
بالطبع، سترين التراب الذي تراكم فوق الأرائك والكراسي
والستائر، سترين العناكب.
المرأة
:
ليحفظنا الله.
الرجل
(وهو ينهض)
:
قولي ليغفر لنا الله تقصيرنا.
المرأة
:
لقد حافظنا على كل شيء وتركناه على حاله، أتُسمي هذا
تقصيرًا؟
الرجل
:
بالطبع يا امرأة، هيا … هيا … إلى العمل.
(يفتحان غرفة الاستقبال، يصرُّ الباب وتثور
زوبعة من الغبار، يدخلان الغرفة، ويفتحان النوافذ على اتساعها،
يُقبلان على العمل في صمتٍ ونشاطٍ ولا يكاد أحدهما ينطق بكلمة
إلا لكي ينبه الآخر إلى ترتيب شيء، أو يأمره بتنظيف آنية أو
تحفة صغيرة أو صورة من التراب العالق بها، الرجل يحمل السجاجيد
إلى الخارج، ويكنسها وينظفها ويعود بها ليسويها في مكانها،
والمرأة تزيح الأغطية عن الثريا والمرآة واللوحات التي تصور
الطبيعة الصامتة، وتنفض الورق عن الشمعدانات وتنفخ الغبار
المتراكم عليها، وبعد أن ترتب الغرفة تمامًا كما كانت على عهد
سادتهما يتنهدان وينظران إلى بعضهما.)
الرجل
:
الحمد لله.
المرأة
:
الحمد لله.
الرجل
:
كان يمكن أن تتسرَّب المياه من المدخنة إلى المدفأة،
فتُسبِّب تلفًا جسيمًا (يجلس على
المقعد الذي كان يجلس عليه سيده ويقربه من المدفأة.
يضع علبة التبغ كما يضع المنفضة على المنضدة الصغيرة
بجواره).
المرأة
:
وكان يُمكِن أن تُعشِّش العناكب على السقف والحائط
والنجف …
الرجل
:
حمدًا لله.
المرأة
:
حمدًا لله (تفتح دولاب سيدتها
وتُخرج منه الشال الأسود وتضعه على كتفَيها، تجلس على
مقعد جلدي في مواجهة زوجها وترتب علبة البن والسكر على
المنضدة، تنهض وتملأ إناء القهوة بالماء وتضعه عليها،
تتذكر أنها نسيت شيئًا فتذهب إلى المطبخ وتُحضر السلة
التي تحتفظ فيها ببكرات الصوف وإبر التطريز، وتعود
لتجلس في مقعدها).
الرجل
:
لا زالت الغرفة دافئة.
المرأة
:
كما تركوها يوم رحيلهم.
الرجل
:
مع أننا لم نشعل الفحم في المدفأة.
المرأة
:
مع أن الشتاء قاسٍ هذا العام.
الرجل
:
لن يكون قاسيًا عندما يرجعون.
المرأة
:
فليرجعوا بسلامة الله.
الرجل
:
هل سنعيش لنراهم؟
المرأة
:
نعيش أو لا نعيش، المهم أن يعودوا إلى بيوتهم.
الرجل
:
نعم … يعودوا إلى بيتهم.
المرأة
:
ويجلسوا في هذه الغرفة الدافئة، على هذه المقاعد
المريحة.
الرجل
:
ويشربوا القهوة التي تُعدِّينها (يشعل سيجارة وينهض ليمشي خطواتٍ في
أرض الغرفة، تُتمتِم العجوز كأنها تريد أن تثور غاضبةً
عليه، ثم تنهض بدورها وتذهب إلى المطبخ لإعداد القهوة،
ترجع بعد قليلٍ لتراه يقلب في الصور القديمة، وينزع
عنها الورق الذي غُطيت به، يتجه إلى مقعده وفي يده
صورة رجل عجوز).
المرأة
:
بحق الله، ماذا تفعل؟
الرجل
:
انظري، أليس هذا هو السيد؟
المرأة
:
أعمى ومفسد أيضًا؟ كيف تمدُّ يدك إليها؟ ماذا يقولون
عنا؟
الرجل
:
قولي أنت … تحققي منها.
المرأة
:
أقول معذرة يا سادتنا، عفوًا يا سيد (تنحني باحترام).
الرجل
:
أليس هو بنفسه يوم دخلنا هذا البيت؟
المرأة
(تمدُّ يدها إلى الصورة)
:
ولا تعرفه أيضًا؟ وهل كان له شارب طويل؟ هل كان الشعر
أبيض على رأسه، يا حسرتى على عينَيك!
الرجل
:
إنه الجد الطيب … الجد العجوز.
المرأة
:
كأنني أراه الآن أمامي، جالسًا على المقعد الذي تجلس
عليه.
الرجل
:
أتذكرين كيف حيَّانا ورحَّب بنا (يقلد صوت الجد) تفضَّلوا
يا أولادي، البيت بيتكم.
المرأة
:
كنا غرباء بلا مأوى.
الرجل
:
مشرَّدين من بلدٍ إلى بلد.
المرأة
:
البيت بيتكما.
الرجل
(مقلدًا صوت الجد)
:
أمانة في رقبتكما، كنز أنتما حراسه.
المرأة
:
وأنت تَنحني باحترام وتقول: نحن في خدمتكم يا سيدي، أنا
وزوجتي.
الرجل
:
أنت وزوجتك أولادي، من يدخل بيتي لا يخرج منه إلا إلى
القبر.
المرأة
:
سنكون عند حسن ظنك يا سيدي.
الرجل
:
قلبي لا يكذبني، ستعيشان هنا وتُربيان أبناءكما
وتشيخان.
المرأة
:
ليس لنا أولاد يا سيدي، وربما أكون أنا، أو هذا
الرجل.
الرجل
:
كنزي يكفيكما.
المرأة
:
كنزك؟
الرجل
:
ألم أقل لكما؟ إنه كنزي من الدنيا، ضعاه في قلبكما كما
أضعه في قلبي.
المرأة
:
وظهر على وجهك الغباء وأنت تردد.
الرجل
(ضاحكًا)
:
كنزك هو بيتك، سنُحافظ عليه ونحرسه كالكلاب التي لا
تنام. سنضعه في قلوبنا وعيوننا، ويضحك الرجل على غبائي،
ويشير إلى صبيٍّ يصعد سلالم الحديقة، ويتجه نحونا (مقلدًا صوته) هذا هو كنزي
… درع عزتي وأملي، سترى حبه يُحفر رويدًا رويدًا في قلبك،
وفي قلب زوجتك أيضًا، وستطويانه بين ضلوعكما كما يطوي
المنجم أغلى كنوزه، انظري إليه وهو يصعد السلم.
المرأة
:
وأقبل سيدي علينا، مرحًا متهللًا كما عرفناه دائمًا، سلم
علينا بحرارة.
الرجل
:
ولما ملتُ على يده لأقبلها سحبها وصاح: أستغفر الله يا
والدي.
المرأة
:
ورفعت يدي للسماء ودعوت: يا رب احفظه واحفظ بيته.
الرجل
:
وصاح بك الجد الطيب، وأنا؟ هل نسيني الله؟
المرأة
:
وهتفت … أنت الأصل، هل يرعى الله الثمرة إلا وهي على فرع
الشجرة؟
الرجل
:
ضحك الجد العجوز، وكشف عن فمه العاري كفك السمكة.
المرأة
:
ضحك وهو يداعب ولده، وقال: ليت البذرة تنمو منها شجرة …
ليت الشجرة تنبت ثمرة.
الرجل
:
وصاح الجد: بل ستعيش الشجرة، ستمد جذورها في هذا البيت
وتنبت ألف ثمرة وثمرة، وستمرُّ السنون.
المرأة
:
ومرت السنون.
الرجل
:
عشرة … عشرون؟
المرأة
:
السنوات العجاف هي التي تحصى.
الرجل
:
تقصدين سبع سنين؟
المرأة
:
أقصد ما لا يفهمه عقلك الغبي، مرت السنون كأنها يوم واحد
سعيد، كبر الصبي وأتمَّ دروسه، تزوج وأضاءت سيدتي البيت
بنور البهجة والعقل، واستقبلنا الزوار في كل المناسبات
السعيدة، في أعياد الزواج وأعياد الميلاد، وانحنَينا لهم
وأضأنا الثريات، وفتحنا هذه الحجرة المُغلَقة، حتى بدأت
سنوات القحط، حتى كان اليوم المشئوم.
الرجل
:
لا تُذكِّريني به.
المرأة
:
يوم أن زحف الجراد.
الرجل
:
الجراد؟
المرأة
:
الجرادة الكبيرة التي افترست سيدنا.
الرجل
:
آه … تقصدين الرجل الذي كان يحمل الحقيبة
الكبيرة؟
المرأة
:
ووضع سيدنا الصغير فيها، أنسيت يا رجل؟
الرجل
:
اصبري، لا … لم أنسَ، لا زلت أراه كأنه أمامي، لا زلت
أسمع وقع ضرباته على الباب.
(تسمع طرقات شديدة على الباب، الرجل
والمرأة يجلسان في مكانهما كأنهما مخدران أو غارقان في كابوس.
يدخل شبح يكتسي قناع جرادة كبيرة، ويجوس في أرجاء الغرفة
كالرعب الجاثم فوق الصدر، الرجل والمرأة يُتابعان حركاته
مفتوحي الأعين والأفواه، تتحرك الجرادة، وتتكلم بصوتٍ مُبهَمٍ
كأنه يصدر من بوق بينما يتردد صوت الجد والابن من
بعيد.)
الجرادة
:
هذا بيت السيد؟
الرجل
(في الغيبوبة)
:
نعم … من أنت؟
(المرأة تخفي وجهها.)
الجرادة
:
ناد عليه (يتحرك في المكان،
ويقلب الأوراق والصور والكتب ويفتح الخزائن، ويُلقي
بالأواني والأطباق والتحف على الأرض …
إلخ).
(الرجل يتبعه كالظل العاجز.)
الجرادة
:
لا شأن لك، قلت ناده.
ص. السيد
:
ها أنا ذا.
الجرادة
:
كنت تتوقَّع مجيئي؟
ص. السيد
:
وحقيبتي جاهزة.
ص. الجد
(من بعيد)
:
من؟ من أيها العجوز؟
الرجل
:
لا شيء يا أبي، لا شيء.
الجرادة
:
ستُشرفنا هناك.
ص. السيد
:
على أتمِّ استعداد.
الجرادة
:
تُعجبني شجاعتك، الاعتراف أولى (يتجول في المكان، ويراقب كل شيء، ويقلب في كل
شيء).
ص. السيد
:
هل أصبح الدفاع عن الحرية جريمة؟
الجرادة
:
هذا ما يَكشف عنه التحقيق.
ص. الجد
:
من يا بني؟
ص. السيد
:
لا شيء يا أبي، اطمئن.
ص. الجد
:
ما هذه الضجة؟
ص. السيد
:
إجراء بسيط.
الجرادة
:
تمامًا، إجراء عادي، هل أعددت حقيبتك؟
ص. السيد
:
جاهزة.
الجرادة
:
سنأخذ هذه الكتب والأوراق.
ص. السيد
:
لتُحقِّق معها أيضًا؟
الجرادة
:
لنتحقَّق منك، هيا خذوا هذه … وهذه … وهذه (تظهر أفواج الجراد تتناول منه الكتب
والأوراق والملفات وتُسلِّمها
لبعضها).
الرجل
:
لكن يا سيدي، لا يمكن …
الجرادة
:
اخرس أنت.
ص. السيد
:
اطمئن يا والدي. (للجرادة) هل تسمح لي بتوديع زوجتي
وابني؟
الجرادة
:
بالطبع، نحن إنسانيون جدًّا، أكثر مما تتصور (يشير لجرادتين
باصطحابه).
المرأة
:
ماذا تريدون بسيدي؟ ماذا تريدون؟
الجرادة
(وهي لا تزال تتجول في أرجاء الغرفة،
وتفحص كل ما يقع تحت بصرها ويدها)
:
ومن أنت؟
المرأة
(صارخة)
:
بل قل من أنت؟ من أنتم؟
الجرادة
(ضاحكًا)
:
نحن الذين ترينهم.
المرأة
:
جراد … جراد، أين الشرطة؟ أين الدولة؟
الجرادة
:
نحن الدولة.
الرجل
:
اعذرها يا سيدي، إنها زوجتي، تربَّينا في هذا البيت ونحن
نحافظ على الحديقة، ونسقي الزرع ونروي الشجر.
الجرادة
:
ونحن نحافظ على البيت والحديقة والزرع والشجر.
الرجل
:
وسيدي؟
الجرادة
:
اطمئن، إجراء بسيط.
ص. الجد
:
أيها العجوز، أريد أن أعرف من …
الجرادة
:
اطمئن يا جدي، جئنا من أجلك أيضًا.
الرجل
:
إنه عجوز مُقعَد.
الجرادة
:
قلت اطمئن، نحن نحافظ عليه وعليك وعلى هذه …
الرجل
:
سامحها يا سيد، عجوز بلهاء تحب البيت وأهله.
الجرادة
:
ونحن نحبه أيضًا، وفي سبيل الحب والحرية.
ص. السيد
(قادمًا)
:
في سبيل الحب والحرية.
الجرادة
:
هيا.
ص. السيد
:
هيا.
الجرادة
(لأفواج الجراد التي تقف على استعداد
وتحيط بالسيد)
:
هيا (يخرج الجميع كما يحدث في
كابوس، يعود الرجل إلى كرسيه، تتثاءب العجوز
وتصحو).
الرجل
:
ومرت السنون.
المرأة
:
سبع سنين.
الرجل
:
في كل شهر أختفي مع سيدي، ونذهب إلى هناك.
المرأة
:
لم تقل لي أبدًا إلى أين …
الرجل
:
نذهب ونعود … نذهب ونعود.
المرأة
:
والعجوز يسأل كل يوم.
الرجل
:
والعجوز يموت كل يوم.
المرأة
:
حتى كانت تلك الليلة.
الرجل
:
صرخ ونادى … كنزي … بيتي.
المرأة
:
حتى فاضت روحه على صدري.
الرجل
:
حتى خرج السر.
المرأة
:
وتحملنا الآلام.
الرجل
:
وبكينا لما بكت السيدة.
المرأة
:
على الزوج الغائب، والجد الغائب.
الرجل
:
وفتحنا البوابة والحجر المغلقة للمعزين.
المرأة
:
ولم أخلع ثياب الحداد.
الرجل
:
حتى رجع السيد يومًا من ذات الأيام.
المرأة
:
فهم بغير كلام.
الرجل
:
عانق زوجته وابنه.
المرأة
:
وأتاني بملابس الحداد.
الرجل
:
وبكينا لما مسح الدمع عن الخدين.
المرأة
:
وكان الشتاء.
الرجل
:
وامتد شتاء بعد شتاء.
المرأة
:
برد وظلام.
الرجل
:
مرض الابن المسكين.
المرأة
:
ارتجف العصفور المسكين.
الرجل
:
لم ينفع معه طب ولا حنان.
المرأة
:
حتى كان صباح …
الرجل
:
يوم مشئوم.
المرأة
:
أفقنا على صراخ الأم، نهجر هذا العش؟
الرجل
:
والسيد يبكي، نترك بيتنا؟
المرأة
:
والسيدة تولول: هل أتركه يحتضر أمامي؟
الرجل
:
وتُهاجر الطيور المذعورة.
المرأة
:
وتبقى الكلاب المذعورة.
الرجل
:
تبكي وجه الأحباب، وتنبح في وجه الأغراب.
المرأة
:
ونقوم بالحراسة كل صباح، كل مساء.
الرجل
:
الإنسان ضعيف أمام الشتاء.
المرأة
:
وأمام الفراق.
الرجل
:
وأنا أجري من البيت إلى الباب، ومن الباب إلى البيت.
حاضر يا سيدي، أوامرك يا سيدتي (ينهض ويمشي نحو الدولاب، يفتحه ويضم يديه على
شيء).
هذا هو المعطف يا سيدي، المعطف الأسود الثقيل، إن كنت
نسيته فلم أنسه.
المرأة
:
يومها تخيلت أنك تحمل إناءً أسود مليئًا بكل
الدموع.
الرجل
:
على البيت … والجد العجوز … والصبي المريض.
المرأة
:
وأنا أجري إلى الحديثة وأقطف الزهور الأخيرة … الزهور
الشاحبة.
الرجل
:
وتقدمينها للابن العزيز.
المرأة
:
لن أنسى منظره أبدًا.
الرجل
:
عصفور يرتجف من البرد.
المرأة
:
يوشك أن يحتضر.
الرجل
:
وتذكرين عينَيه، والنظرات المذعورة في عينيه.
المرأة
:
والشمس الصغيرة التي نورت وجهه حين ناولته باقة
الورود.
الرجل
:
الورود الأخيرة.
المرأة
:
وذهبوا واختفت العربة.
الرجل
:
ولوَّحوا بأيديهم من الزجاج.
المرأة
:
واستندت إليك لأصعد السلم.
الرجل
:
ذهبوا.
المرأة
:
وعادوا في تلك الليلة.
الرجل
:
من؟
المرأة
(تنظر مذعورة إلى النوافذ، تشيح
بيدَيها وقدميها)
:
عادوا من جديد.
الرجل
(لا يرى شيئًا)
:
سيعودون حتمًا، سيعودون إلى بيتهم.
المرأة
(تنهض وتصرخ في النوافذ)
:
اذهبوا … اذهبوا، ماذا تُريدون الآن؟
الرجل
:
اهدئي يا عزيزتي … اهدئي يا حبيبتي.
المرأة
:
تركوه … تركوا بيتهم، أهذا ما كنتم تريدون؟ لم يبق
سوانا.
الرجل
(يُحاول تهدئتها)
:
لم يبقَ سوانا، ولكنَّهم سيَرجعون.
المرأة
:
اذهبوا … اذهبوا (تَختفي
الأقنعة) نحن نحافظ عليه، الكلاب الأمينة
تحرس البيت الذي تربت فيه، لن تغفل عيوننا … لن تغفل
أبدًا.
الرجل
:
تعالَي يا زوجتي … تعالي (يحملها إلى الكرسي، ينتفض جسدها، ثم تهدأ شيئًا
فشيئًا، يحمل إليها كوبًا من الماء، تشربه وتنظر في
الفراغ).
الرجل
:
سيعودون يا عزيزتي الصغيرة … سيعودون.
المرأة
:
متى؟ متى؟
الرجل
:
لا بد من الانتظار.
المرأة
(تُسوِّي الشال البنفسجي على
كتفَيها)
:
يا سيدتي الغالية.
الرجل
(يتأمل صورة السيد على الحائط)
:
يا سيدي المبجل. (صمت. بعد
قليل لزوجته) ألا يخيل إليك أننا دخلنا
الحجرة توًّا، حيث كان سيدي وسيدتي يجلسان بجوار المدفأة
قبل أن يذهبا للنوم.
المرأة
:
كأن ما رأيناه حلم.
الرجل
:
كأنه حلم.
المرأة
:
هنا كانا يَشربان قهوة المساء.
الرجل
:
وتتركينهما بلا قهوة؟ هيا يا عزيزتي.
(المرأة تنهض وتَمشي إلى المطبخ، يتمدَّد
في كرسيه ويفتح علبة التبغ ويشعل سيجارة، تعود بعد قليل لتقدم
له القهوة.)
الرجل
:
عزيزتي.
المرأة
(تجلس في كرسيِّها، وتُسوِّي الشال على
كتفيها وتمسك بإبرتها وجواربها)
:
عزيزي.
الرجل
:
ألا تعتقدين أن في إمكان الناس أن يعيشوا
متقاربين.
المرأة
:
ماذا تعني؟
الرجل
:
أعني أن يمدوا أيديهم إلى بعضهم.
المرأة
:
ربما يا عزيزي … ربما.
الرجل
:
وأن يَحيوا في ثقةٍ ومحبة.
المرأة
(لنفسها)
:
إلهي، كأنه سيدي نفسه، مُمكن يا عجوزي الطيب.
الرجل
:
بل واجب يا عجوزي المسكينة (يُطفئ سيجارته في المنفضة، يشعل سيجارة جديدة،
ويُلقي بعود الثقاب فيها) انظري، ما الذي
منعهم من هذا؟
المرأة
(لنفسها)
:
أهذا ممكن؟ يطفئ السيجارة كأيِّ سيد مهذَّب، ويضع عود
الثقاب أيضًا في المنفضة! ما الذي منعهم يا عزيزي؟
الرجل
:
لأنهم نسوا الجنة التي طردهم منها الله، ولم يحاولوا أن
يعودوا إليها.
المرأة
:
حقًّا يا عزيزي، حقًّا.
الرجل
:
لم يحاولوا أن يعودوا إليها، فهمت؟ ولم يبذلوا جهودهم
ليوجدوها على الأرض.
المرأة
:
ماذا … على الأرض؟
الرجل
(يطفئ سيجارته في المنفضة)
:
الجنة طبعًا.
المرأة
(لنفسها)
:
لا يدوسها على السجاد كعادته، شيء يصعب تصديقه.
الرجل
:
لماذا يصعب تصديقه؟ لقد حقت عليهم لعنتُه الأبدية بأن
يأكلوا خبزهم بعرق جبينهم، أن يعيشوا في جحيمٍ على
الأرض.
المرأة
:
صدقت في هذا يا عزيزي، جحيم على الأرض.
الرجل
:
هل قلت يعيشون في الجحيم؟ إنهم في الحقيقة يصنعونه كل
يوم، يشعلون ناره كلما انطفأت بوقودٍ جديد (يُطفئ السيجارة في
المنفضة).
المرأة
:
عجيب؟ شيء لا يُمكن تصديقه.
الرجل
:
ليس عجيبًا كما تتصوَّرين، أتدرين ما السبب؟
المرأة
(لنفسها)
:
إلهي، كأني أسمع صوت سيدي، وما السبب يا عزيزي؟
الرجل
:
إنها الشياطين التي تفرق الناس إلى شيع يُحارب بعضها
بعضًا، وتؤلب الأبيض على الأسود، والبر على البحر.
المرأة
:
غريب يا زوجي الطيب … غريب.
الرجل
:
ليس غريبًا كما تظنِّين، لقد تصوَّروا أن الحي الذي لا
يموت لم يخلف وراءه وصية، وماذا حدث؟
المرأة
:
ماذا؟ ماذا حدث؟
الرجل
:
فكري في الأمر معي، انقض الورثة المطرودون من الجنة على
مُمتلكاته كل من نهب أرضًا أو زرعًا أو حيوانًا، وضع حوله
سورًا وقال: هذا ملكي، من يتعدَّى هذا السور عدوي.
المرأة
:
وخطف كل منهم ما أمكنه خطفه.
الرجل
:
تمامًا، واستعر الجحيم الذي أشعلوه بأيديهم.
المرأة
:
صحيح يا زوجتي، ولم ينتظروا الجحيم في يوم
الحساب.
الرجل
(يَرشف القهوة ويشعل سيجارة، ويطفئ عود
الثقاب في المنفضَة)
:
ألم أقل لك.
المرأة
:
صدقت يا عجوزي الطيب، ما أجمل حديثك الليلة، كأني أسمع
…
الرجل
:
كأنك تَسمعين سيدي، أليس كذلك؟
المرأة
:
نعم … نعم، حتى أعقاب السجائر.
الرجل
(ضاحكًا)
:
أضعها في المنفضة، ولا أدعكها بقدمي. (ينهض ويذرع الغرفة جيئةً
وذهابًا) أتعرفين يا زوجتي الطيبة …
المرأة
:
ماذا تريد يا عزيزي؟
الرجل
:
يُخيل إليَّ أنني أرى سيدتي.
المرأة
(ضاحكةً)
:
سيدتك؟ هذا لأنك …
الرجل
:
لأني أعمى لا أرى، قوليها ولا تتردَّدي، ولكن جلستك …
حديثك … الشال الأسود بالنقط البنفسجية، حتى القهوة التي
رشفتها الآن، كأني أسمع سيدتي وأبصرها أمامي.
المرأة
:
وكأني أسمع سيدي وأبصره أمامي.
الرجل
:
فليرجعوا بسلامة الله.
المرأة
:
ليرجعوا إلى بيتهم بسلامة الله، (الرجل لا يزال يذرع الغرفة، وهو
سارح البصر مطرق الرأس) ألم يحن موعد النوم
يا عزيزي؟
الرجل
:
بلى يا عزيزتي، بلى!
المرأة
:
هيا … ضع كل الصور في مكانها.
الرجل
:
وأغلقي النوافذ، ولا تنسَي الشال الأسود (تخطو المرأة نحو النوافذ، تتذكر
الشال فترجع وتضعه في مكانه على الأريكة، وتحمل إناء
القهوة والأكواب لتتجه بها إلى المطبخ، تسمع هتاف
زوجها).
الرجل
:
انظري ماذا وقع مني؟
المرأة
:
ماذا؟ قلت لك كن حذرًا.
الرجل
:
لم ينكسر شيء، وقع هذا من جيبي.
المرأة
:
ماذا وقع؟
الرجل
:
الخطاب.
المرأة
:
إذن ضعه في جيبك وهيا.
الرجل
:
لم تفهميني، كنت أنحني لأضع المنفضة في مكانها المعتاد،
سقط الخطاب مني، ضغطت على مفتاح النور، وماذا رأيت؟
المرأة
:
خطاب سيدي وسيدتي.
الرجل
:
على الصفحة الأخرى … على الصفحة الأخرى سطور
بخطه.
المرأة
:
هيا يا رجل، قل وأرحني.
الرجل
:
لا، بل هي بخط عزيزنا الصغير.
المرأة
(فرحة)
:
العصفور المسكين، وماذا يقول؟
الرجل
:
إنه بخير.
المرأة
:
فلتحفظه يا رب، اقرأ يا رجل (تضع الآنية والأكواب على المنضدة وتسرع
إليه).
الرجل
(مقربًا المصباح من الخطاب)
:
اسمعي يا عزيزتي (يتردد صوت
الابن بمجرد أن يفتح العجوز فمه).
ص. الابن
:
عجوزاي العزيزان، صحتي تحسنت كثيرًا.
المرأة
:
الحمد لله … الحمد لله.
ص. الابن
:
سأعود إلى بيتنا قريبًا.
المرأة
:
عد يا حبيبي إلى بيتك، عد بسلامة الله.
ص. الابن
:
كان مرضي شديدًا، ولكني نجوت منه، لن أموت.
المرأة
:
ستعيش يا حبيبي … ستعيش بأمر الله.
ص. الابن
:
سأعود وأُقبِّلُكما أنا وأبي وأمي.
المرأة
(تلتفت إلى النوافذ، ترى أقنعة الجراد
تملؤها وتكاد تصدر منها أصوات الضحك والاستنكار، تجري
نحوها لتغلقها)
:
سيعود … سيعود (الأقنعة تضحك
وتكشر في وقتٍ واحد).
سيعود ويطاردكم إلى آخر الدنيا.
(الأقنعة تضحك وتكشر وتتراقص على
النافذة، يسرع إليها العجوز ويهدئها ويغلقها معها.)
اذهبوا … اذهبوا، سيعود سادتنا في يومٍ قريب، أقرب مما
تتصورون.
الرجل
:
اهدئي يا عزيزتي، اهدئي.
المرأة
:
لن أهدأ حتى يعودوا.
الرجل
:
سيعودون.
المرأة
:
ويُطاردونهم إلى آخر الدنيا.
الرجل
:
ويختفون بلا عودة.
المرأة
:
عد يا سيدي، عد يا حبيبي الصغير.
ص. الابن
:
سأعود قريبًا … سأعود.
المرأة
:
نحن وحدنا يا سيد، عد إلى بيتك وتمتع بحياتك.
ص. الابن
:
كان مرضي شديدًا، ولكني نجوت منه، لن أموت.
الرجل
:
عد وستجد الحديقة كما هي، والزهور والأشجار. والقطة التي
تعوَّدَت على الجلوس في حجرك، عد وستجدنا نحرس الحديقة
والبيت.
المرأة
:
نحرسها من الجراد، نحرسها من الجراد.
ص. الابن
:
سأعود ولن أموت … سأعود ولن أموت.
المرأة
(نحو النافذة)
:
وستذهبون بلا عودة … ستذهبون … ستذهبون.
الرجل
:
هيا يا عزيزتي، هيا (يغلق
النوافذ ويطفئ النور، يلمس الأرائك والكراسي لمسات
أخيرة، ويطمئن على أن كل شيءٍ في
مكانه).
المرأة
:
هل ذهبوا؟
الرجل
:
ذهبوا يا عزيزتي.
المرأة
:
هل رأيتهم يا عزيزي؟ فظيع ومخيف.
الرجل
:
صدقت يا عزيزتي، ذهبوا ولن يعودوا.
المرأة
:
كأني أحلم.
الرجل
:
كأنه كابوس.
المرأة
:
وسادتنا، أتظن أنهم … (تستند
عليه.)
الرجل
:
سيعودون يا عزيزتي … حتمًا سيعودون.
ص. الابن
:
سأعود قريبًا … سأعود … سأعود.
المرأة
(تنحني)
:
بسلامة الله يا حبيبي.
الرجل
(ينحني)
:
بسلامة الله يا ولدي (يأخذ
بيدها وينصرفان).
صوت الابن
(يتردد)
:
لن أموت، سأعود … سأعود … سأعود.