شخصيات القصة
حتى يتسنى لك ملاحظة عقلك في الوضع الآلي، انظر سريعًا إلى الصورة التالية:
تمزج خبرتك عند النظر إلى وجه المرأة بشكل متسق بين ما يمكن أن نطلق عليه عادةً الرؤية والتفكير الحدسي. بقدر ما ترى أن لون شعر المرأة الشابة أسود عن يقين وبسرعة، تدرك أنها غاضبة. بالإضافة إلى ذلك، ينسحب ما تراه على المستقبل. شعرت أن هذه المرأة على وشك التفوه بألفاظ غير مهذبة على الإطلاق، ربما بصوت عالٍ وحاد. ورد خاطر مسبق على ذهنك بما كانت ستفعله بعد ذلك بصورة تلقائية ودون جهد. لم تنوِ تقييم حالتها المزاجية أو التنبؤ بما يمكن أن تقوم به، ولم يتضمن رد فعلك إزاء الصورة أي شعور بشيء قمت به، لقد جال الأمر بخاطرك فحسب. كان ذلك مثالًا على التفكير السريع.
عرفت في الحال أن هذه عملية ضرب، وربما عرفت أن بإمكانك حلها، باستخدام الورقة والقلم، إذا لم يكن بدونهما. كان لديك أيضًا معرفة حدسية غير واضحة تمامًا بنطاق النتائج الممكنة. ربما تدرك سريعًا أن النتيجتين ١٢٦٠٩ و١٢٣ هما نتيجتان غير ممكنتين. في المقابل، دون قضاء بعض الوقت في حل المسألة، لن تكون متيقنًا أن الإجابة ليست ٥٦٨. لم يرد حل دقيق إلى العقل، وشعرت بأن بإمكانك الانخراط أو عدم الانخراط في إجراء العملية الحسابية. إذا لم تكن قد فعلت ذلك بعد، ينبغي أن تحاول حل مسألة عملية الضرب الآن، مكملًا جزءًا منها على الأقل.
مررتَ هنا بخبرة التفكير البطيء مع انتقالك عبر سلسلة من الخطوات. بدأت أولًا بأنك استعدت من الذاكرة البرنامج المعرفي لإجراء عمليات الضرب الذي تعلمته في المدرسة، ثم قمت بتنفيذه. كان إجراء العملية الحسابية مسألة شاقة. شعرت بعبء الاحتفاظ بكثير من الأشياء في ذاكرتك، مع محاولتك تتبع مسار وجهتك الحالية وإلى ما تمضي إليه، والتركيز على الوصول للنتيجة النهائية. كانت العملية عبارة عن عمل عقلي؛ تدبري، جهدي، ومنظَّم، وهو نموذج نمطي للتفكير البطيء. لم تكن عملية الحساب مجرد حدث يدور في رأسك. كان جسدك منخرطًا أيضًا في العملية: توترت عضلاتك، وارتفع ضغط دمك، وتزايدت معدلات ضربات قلبك. ربما رأى من كان ينظر إلى عينيك عن كثب، بينما كنت لا تزال تحل المسألة، حدقتَيْ عينيك تتسعان. تقلصت حدقتا عينيك مرة أخرى إلى حجميهما الطبيعيين لدى انتهائك من حل المسألة، عندما وجدت الإجابة (وهي ٤٠٨، على أي حال) أو عندما عجزت عن حل المسألة.
نظامان
-
«النظام ١» يعمل آليًّا وبسرعة، بجهد قليل أو دون جهد في ظل غياب سيطرة طوعية على عمله.
-
«النظام ٢» ينقل الانتباه إلى الأنشطة العقلية الجهدية التي تتطلبه، بما في ذلك العمليات الحسابية المعقدة. ترتبط عمليات النظام ٢ في كثير من الأحيان بالخبرة الذاتية للفاعل، والاختيار، والتركيز.
بينما يُستخدم مصطلحا النظام ١ والنظام ٢ بصورة واسعة في علم النفس، إلا أنني سأتعمق أبعد بكثير من الكثيرين في هذا الكتاب، الذي يمكن أن تقرأه باعتباره دراما نفسية تتألف من شخصيتين.
عندما نفكر بأنفسنا، نشعر بالتماهي مع النظام ٢، الذات الواعية المفكرة التي تمتلك معتقدات، وتنتقي بين الخيارات، وتقرر ماذا تفكر فيه وماذا تفعل. على الرغم من أن النظام ٢ يعتقد بأنه يقع في قلب الأحداث، فإن النظام ١ الآلي هو بطل هذا الكتاب. أصف النظام ١ باعتباره الانطباعات والمشاعر الأصلية التي لا جهد فيها، والتي تُعد المصادر الرئيسية للمعتقدات الظاهرة والخيارات المقصودة للنظام ٢. بينما تولِّد العمليات الآلية للنظام ١ أنماطًا معقدة مثيرة للدهشة من الأفكار، يستطيع النظام ٢ فقط بناء أفكار في صورة خطوات مرتبة. أشير أيضًا إلى الظروف التي يعمل فيها النظام ٢، متجاوزًا الدوافع والترابطات المتداعية الحرة في النظام ١. ستُدعى إلى التفكير في النظامين باعتبارهما فاعلين لهما قدراتهما، وأوجه قصورهما، ووظائفهما الخاصة بكل منهما.
-
تحديد بُعد شيء ما عن شيء آخر.
-
الالتفات إلى مصدر صوت مفاجئ.
-
إكمال العبارة «لحم و…»
-
التعبير «بوجه مشمئز» عند رؤية صورة مريعة.
-
تمييز نبرة عدائية في الصوت.
-
حل مسألة ٢ + ٢ = ؟
-
قراءة الكلمات على لوحات الإعلانات الكبيرة.
-
قيادة سيارة في طريق خالٍ.
-
القيام بنقلة بارعة في لعبة الشطرنج (إذا كنت أستاذ شطرنج).
-
فهم الجمل البسيطة.
-
إدراك أن عبارة «شخص صبور ومرتب شغوف بالتفاصيل» تنطبق على نموذج نمطي لمهنة ما.
تتشابه هذه الأحداث العقلية جميعًا مع نظرتك لصورة المرأة الغاضبة، وهي أحداث تقع بصورة آلية وتتطلب جهدًا قليلًا أو لا جهد على الإطلاق. تشمل قدرات النظام ١ المهارات الفطرية التي نتشاركها مع الحيوانات؛ فنحن نُولَد مستعدين لإدراك العالم من حولنا، وإدراك الأشياء، وتوجيه الانتباه، وتجنب الخسارة، والخوف من العناكب. تصبح الأنشطة العقلية الأخرى سريعة وآلية من خلال الممارسة الممتدة. يتعلَّم النظام ١ الارتباطات بين الأفكار (ما عاصمة فرنسا؟) وهو يتعلم أيضًا المهارات مثل القراءة وفهم الفروق الدقيقة في المواقف الاجتماعية. تُكتسب بعض المهارات، مثل اتخاذ خطوات قوية في لعبة الشطرنج، فقط من خلال الخبراء المتخصصين. في المقابل، تجرى مشاركة مهارات أخرى. وتتطلب عمليةُ تحديد أوجه الشبه بين سمات شخصية ونموذج نمطي مهني معرفةً واسعة باللغة والثقافة، والتي يمتلكها معظمنا. تخزَّن المعرفة في الذاكرة ويتم الوصول إليها دون قصد ودون جهد.
تُعتبر كثير من الأنشطة العقلية في القائمة السابقة غير طوعية. فلا يمكنك الامتناع عن فهم جمل بسيطة في لغتك أو عن الالتفات إلى صوت عالٍ غير متوقع، كما لا يمكنك منع نفسك من معرفة أن ٢ + ٢ = ٤ أو من التفكير في باريس عند ذكر عاصمة فرنسا. بينما تخضع الأنشطة الأخرى — كالمضغ — إلى التحكم الطوعي، إلا أن توجيهها يجري تلقائيًّا عادةً. يشترك النظامان في التحكم في الانتباه. يعتبر الالتفات إلى صوت عالٍ عادةً عملية غير طوعية في النظام ١، الذي يشحذ مباشرةً الانتباه الطوعي للنظام ٢. قد تستطيع مقاومة الالتفات إلى مصدر تعليق مرتفع وعدواني في حفل مزدحم، لكن حتى إذا لم تتحرك رأسك، فإنك توجه انتباهك في الأصل إليه، على الأقل لبرهة. في المقابل، يمكن صرف الانتباه عن مصدر تركيز غير مرغوب فيه، من خلال التركيز بصورة رئيسية على هدف آخر.
-
الاستعداد للانطلاق فور سماع طلقة بداية السباق.
-
تركيز الانتباه على المهرجين في السيرك.
-
التركيز على صوت أحد الأشخاص في حجرة مزدحمة وضاجة بالناس.
-
البحث عن امرأة شعرها أبيض.
-
البحث في الذاكرة للتعرف على صوت مدهش.
-
الحفاظ على إيقاع سير أسرع من إيقاع السير المعتاد لك.
-
مراقبة مدى ملاءمة سلوكك في موقف اجتماعي.
-
عد تكرار حرف معين في صفحة من نص.
-
ذكر رقم هاتفك لأحد الأشخاص.
-
ركن السيارة في مساحة ضيقة (وهي مشكلة بالنسبة لمعظم الناس باستثناء القائمين على أماكن انتظار السيارات).
-
المقارنة بين غسالتين في ضوء قيمتهما الكلية.
-
ملء نموذج ضريبي.
-
التأكد من صحة مسألة منطقية معقدة.
في جميع هذه المواقف، يجب أن تنتبه، وسيكون أداؤك أقل جودة، أو لن تستطيع القيام بأي شيء على الإطلاق، إذا لم تكن مستعدًّا، أو إذا كان انتباهك موجهًا بشكل غير مناسب. يمتلك النظام ٢ بعض القدرة على تغيير طريقة عمل النظام ١، من خلال برمجة الوظائف الآلية عادةً للانتباه والذاكرة. على سبيل المثال، عند انتظار أحد الأقرباء في محطة قطار مزدحمة، يمكنك أن تتحكم في ذاتك كي تقوم بالبحث عن امرأة بيضاء الشعر أو رجل ملتحٍ، ومن ثم تزيد من احتمالية العثور على قريبك من على بعد. يمكنك أيضًا ضبط ذاكرتك للبحث عن عواصم المدن التي تبدأ بحرف معين أو الروايات الوجودية الفرنسية. وعندما تؤجر سيارة في مطار هيثرو في لندن، سيذكرك المسئول عن تأجير السيارات «أننا نقود على الجانب الأيسر من الطريق هنا.» في جميع هذه الحالات، سيطلب منك فعل شيء لا يرد عفوًا إلى الخاطر، وستجد أن الحفاظ المستمر على مجموعة من المعلومات يتطلب البذل المستمر لبعض الجهد على الأقل.
العبارة المستخدمة كثيرًا «انتبه» مفيدة؛ فلديك حصة محددة من الانتباه تستطيع تخصيصها للأنشطة، وإذا حاولت تجاوز تلك الحصة، فستتعرض للفشل. تعتبر الأنشطة المتداخلة التي تتطلب جهدًا علامة مميزة لذلك، وهو ما يبرر صعوبة أو استحالة إجراء العديد منها في آن واحد. فلا تستطيع حساب حاصل ضرب ١٧ × ٢٤ أثناء الانعطاف يسارًا في منطقة مزدحمة، ولا يجب عليك أن تحاول بالتأكيد. بينما يمكنك عمل عدة أشياء في آن واحد، لا يمكنك ذلك إلا إذا كانت هذه الأشياء سهلة وغير عاجلة. فربما تكون في مأمن وأنت تجري محادثة مع راكب أثناء القيادة في طريق سريع خالٍ، وقد اكتشف العديد من الآباء — ربما بشيء من الشعور بالذنب — أنهم يستطيعون قراءة قصة إلى أطفالهم أثناء التفكير في شيء آخر.
يمتلك الجميع بعض الوعي بالسعة المحدودة للانتباه، كما يضع سلوكنا الاجتماعي هذا في الاعتبار في بعض الأحيان. على سبيل المثال، عندما يتخطى سائق سيارة شاحنة على طريق ضيق، يتوقف الركاب البالغون في السيارة، عن وعي إلى حد ما، عن الحديث. يعرف هؤلاء أن تشتيت انتباه السائق ليس شيئًا جيدًا، كما يعتقدون في صممه المؤقت وعدم سماعه ما يقولون.
قد يجعل التركيز الشديد على إحدى المهام الناس عميانًا عن رؤية ما هو واضح، حتى بالنسبة إلى المثيرات التي تجذب انتباههم عادةً. كان المثال الأبرز على ذلك ما قدَّمه كريستوفر تشابريس ودانيال سيمونز في كتابهما «الغوريلا الخفية». صنع المؤلفان فيلمًا قصيرًا حول فريقين يمرر أفرادهما كرة سلة بعضهم لبعض، يرتدي أحد الفريقين قمصانًا بيضاء، فيما يرتدي الفريق الآخر قمصانًا سوداء. يُطلب من المشاهدين عد عدد التمريرات التي يصنعها الفريق الأبيض، متجاهلين الفريق الأسود. تُعتبر هذه المهمة صعبة ومستنفدة للجهد. في منتصف الفيديو، تظهر امرأة ترتدي حلة غوريلا، وتعبر الملعب، تضرب على صدرها، ثم تتحرك. تظهر الغوريلا لمدة ٩ ثوان. شاهد آلاف الناس الفيديو، ولم يلاحظ نصفهم تقريبًا وجود أي شيء غير معتاد. تتسبب مهمة العد — خاصة مع طلب تجاهل أحد الفريقين — في حالة العمى. لن يَفوت أحدًا ممن يشاهد هذا الفيديو، دون أن يقوم بهذه المهمة، رؤيةُ الغوريلا. بينما تعتبر عملية الرؤية والالتفات وظائف آلية للنظام ١، فهما تعتمدان على تخصيص بعض الانتباه للمثير المقصود. يشير المؤلفان إلى أن أكثر الملاحظات بروزًا في دراستهما تتمثل في أن الناس يرون نتائجها مدهشة للغاية. في حقيقة الأمر، لم يكن المشاهدون الذين فاتهم رؤية الغوريلا متأكدين من أنها كانت موجودة؛ إذ لم يتخيلوا أن يفوتهم رؤية شيء واضح كهذا. تبين دراسة الغوريلا حقيقتين مهمتين حول عقولنا؛ وهما أننا يمكن أن نعمى عن رؤية ما هو جلي، وألا نعرف أننا كذلك.
ملخص الحبكة
يعتبر التفاعل بين النظامين موضوعًا متكررًا في الكتاب، ومن الملائم هنا تقديم ملخص موجز للحبكة. في القصة التي سأتلوها، يكون النظام ١ والنظام ٢ نشطيْنِ متى كنا مستيقظين. بينما يعمل النظام ١ آليًّا، يعمل النظام ٢ في وضع جهد منخفض ومريح عادةً؛ إذ يجري استخدام جزء بسيط فقط من قدرته. يولِّد النظام ١ اقتراحات للنظام ٢ باستمرار؛ مثل الانطباعات، والأفكار الحدسية، والنوايا، والمشاعر. إذا جرت الموافقة عليها من قِبَل النظام ٢، تتحوَّل الانطباعات والأفكار الحدسية إلى معتقدات، وتتحول الدوافع إلى أفعال طوعية. عندما يجري كل شيء كما ينبغي — وهو ما يحدث معظم الوقت — يتبنى النظام ٢ اقتراحات النظام ١ مع إدخال تعديلات طفيفة أو دون تعديلات على الإطلاق. إنك تصدق عمومًا انطباعاتك وتتصرف بناءً على رغباتك، وهو شيء طيب، عادةً.
عندما يواجه النظام ١ صعوبة، يستدعي النظام ٢ لدعم عملية معالجة أكثر تفصيلًا وتحديدًا يمكنها أن تتوصل إلى حل المشكلة الراهنة. يجري شحذ قدرات النظام ٢ عندما يبرز سؤال لا يقدِّم النظام ١ إجابة عليه، مثلما حدث لك ربما عندما صادفت عملية ضرب ١٧ × ٢٤. يمكنك أيضًا أن تشعر بموجة من الانتباه الواعي متى تفاجأت. ينشط النظام ٢ عندما يجري تحديد حدث يخالف نموذج العالم الذي يتبناه النظام ١. في ذلك العالم، لا تقفز المصابيح، ولا تنبح القطط، ولا تعبر الغوريلات ملاعب كرة السلة. تبين تجربة الغوريلا أن ثمة حاجة لشيء من الانتباه حتى يمكن تحديد المثير المدهش. تنشَّط الدهشة بعد ذلك وتوجه الانتباه؛ ستحدق وستبحث في ذاكرتك عن قصة تفسِّر الحدث المدهش. يرجع الفضل أيضًا للنظام ٢ في المراقبة المستمرة لسلوكك، وهي العملية التي تجعلك مهذبًا عندما تكون غاضبًا، ومنتبهًا عندما تقود ليلًا. يجري شحذ قدرات النظام ٢ لزيادة الجهد عندما يتبين وجود خطأ على وشك الحدوث. تذكر عندما كدت تتفوه بملاحظة نابية ولاحظ كيف عملت جاهدًا لاستعادة السيطرة على نفسك. باختصار، بينما يرجع معظم ما تعتقده أنت (أي النظام ٢ الخاص بك) وتفعله إلى النظام ١ الخاص بك، يتولى النظام ٢ زمام الأمور عندما تصير الأمور صعبة، ويكون له عادةً الكلمة الأخيرة.
تقسيم العمل على هذا النحو بين النظام ١ والنظام ٢ فعال للغاية؛ إذ يقلل الجهد المبذول ويطور الأداء. ينجح هذا الترتيب معظم الوقت؛ نظرًا لأن النظام ١ يمتاز بقدرته على أداء عمله جيدًا؛ فنماذجه للمواقف المألوفة دقيقة، وتوقعاته على المدى القصير دقيقة عادةً، كما أن ردود أفعاله المبدئية للتحديات التي تواجهه تكون سريعة ومناسبة بصورة عامة. في المقابل، يمتلك النظام ١ انحيازات، وهي أخطاء منهجية هو مُعرَّض إلى ارتكابها في ظروف محددة. مثلما سنرى لاحقًا، يجيب النظام ١ على أسئلة أسهل من الأسئلة التي جرى توجيهها إليه، كما لا يحظى النظام ١ إلا بفهم محدود للمنطق والإحصاء. يتمثل أحد أوجه القصور الأخرى في النظام ١ في عدم قابليته للإيقاف. فإذا عُرضت عليك كلمة على الشاشة في لغة تعرفها، ستقرؤها — إلا إذا كان انتباهك مركزًا بالكلية في موضع آخر.
الصراع
أعتقد أنك نجحت بالتأكيد في ذكر الكلمات الصحيحة في كلتا المهمتين، واكتشفت بالتأكيد أن بعض الأجزاء في كل مهمة كانت أسهل كثيرًا من الأجزاء الأخرى. عندما حددت الكلمات المكتوبة بأحرف كبيرة والكلمات المكتوبة بأحرف صغيرة، كان العمود إلى اليسار سهلًا، فيما تسبب العمود إلى اليمين في التباطؤ وربما التمتمة أو التلعثم. وعندما حددت موضع الكلمات، كان العمود إلى اليسار صعبًا وكان العمود إلى اليمين أسهل كثيرًا.
يعتبر الصراع بين رد فعل آلي ونية للتحكم فيه أمرًا شائعًا في حياتنا. نعرف تمامًا خبرة محاولة عدم التحديق في زوجيْن يرتديان ملابس غريبة في الطاولة المجاورة في أحد المطاعم. نعلم أيضًا كيف يبدو الأمر عندما نجبر أنفسنا على التركيز في قراءة كتاب ممل، عندما نعود بشكل مستمر إلى النقطة التي فقدت عملية القراءة معناها فيها. عندما يكون الشتاء قارسًا، تتوفر ذكريات لدى كثير من السائقين لسياراتهم وهي تخرج عن نطاق السيطرة على الجليد، وللصراع الذي يجدونه في اتباع الإرشادات المعروفة التي تتعارض مع ما سيفعلونه عادةً: «دع السيارة تمضي مع الجليد الزلق، ومهما فعلت، لا تستخدم الفرامل أبدًا!» كما مر الجميع بخبرة محاولة «عدم» قول «اذهب إلى الجحيم» إلى أحد الأشخاص. تتمثل إحدى مهام النظام ٢ في كبح جماح نزوات النظام ١. بعبارة أخرى، يتولى النظام ٢ عملية السيطرة الذاتية.
الأوهام
لا شيء مميز في هذه الصورة؛ إذ تتألف من خطيْن أفقيين طولهما مختلف، ملحق بهما رءوس أسهم، تشير في اتجاهات مختلفة. بطبيعة الحال، يزيد طول الخط السفلي عن الخط العلوي. هذا ما نراه جميعًا، ونحن نصدق عادةً ما نراه. في المقابل، إذا كنت قد رأيت هذه الصورة من قبل، فستدرك على الفور أنها خداع مولر-لاير البصري الشهير. مثلما قد تتأكد بسهولة من خلال قياس الخطين باستخدام مسطرة، يتطابق الخطان الأفقيان في حقيقة الأمر في طولهما.
أما وقد قست الخطين، يتوفر لديك — أي لدى النظام ٢ الخاص بك، الكيان الواعي الذي تطلق عليه «أنا» — اعتقاد جديد؛ وهو أنك «تعرف» أن الخطين متساويان في الطول. إذا جرى سؤالك عن طولهما، فستقول ما تعرف. في المقابل، أنت لا تزال «ترى» الخط السفلي أكثر طولًا. بينما اخترت أن تعتقد بصحة القياس، لا تستطيع منع النظام ١ من القيام بعمله. فلا يمكنك أن تقرر أن الخطين متساويان في الطول، على الرغم من معرفتك بأنهما كذلك. لمقاومة هذا الوهم، لا يوجد سوى شيء واحد يمكنك القيام به؛ ألا وهو ضرورة تعلم عدم الثقة في انطباعاتك حول طول الخطين عندما تكون هناك رءوس أسهم ملحقة بها. لتنفيذ هذه القاعدة، يجب أن تكون قادرًا على إدراك نمط الوهم واسترجاع ما تعرفه عنه. إذا استطعت عمل ذلك، فلن يخدعك أبدًا خداع مولر-لاير البصري. حتى وإن ظللت ترى خطًّا أطول من الآخر.
ليست جميع الأوهام أوهامًا بصرية. فهناك أوهام فكرية، التي نطلق عليها «الأوهام الإدراكية». عندما كنت طالبَ دراساتٍ عليا، حضرت بعض البرامج الدراسية حول فن وعلم العلاج النفسي. خلال إحدى هذه المحاضرات، قدَّم أستاذنا حكمة طبية صغيرة. هذا هو ما قاله لنا: «ستصادفون من وقت إلى آخر مريضًا يخبركم بقصة مزعجة حول أخطاء متعددة في عملية علاجه السابقة. فقد كشف العديد من الأطباء الإكلينيكيين عليه، ولم يفلح أحد في علاجه. بينما قد يصف المريض في وضوح كيف أساء معالجوه فهمه، يدرك سريعًا أنك مختلف. إنك تشاركه الشعور نفسه، ومقتنع بفهمك إياه، وستستطيع مساعدته.» عند ذلك، رفع الأستاذ صوته قائلًا: «لا «تفكر» أبدًا في علاج هذا المريض! ألقهِ خارج عيادتك! هو على الأرجح شخصية سيكوباتية ولن تستطيع مساعدته.»
بعد سنوات عديدة، علمت أن الأستاذ كان يحذرنا من الوقوع في أسر السحر السيكوباتي، وهو ما أكده أحد أهم المختصين في مجال دراسة الاضطرابات السيكوباتية من أن نصيحة الأستاذ كانت نصيحة صائبة. يتقارب هذا كثيرًا مع خداع مولر-لاير البصري. لم يكن ما تلقيناه يتمثل في الطريقة التي يجب أن نشعر بها حيال المريض. كان أستاذنا يأخذ على محمل التسليم أن التعاطف الذي سنشعر به حيال المريض لن يكون تحت سيطرتنا؛ إذ سينشأ هذا التعاطف من النظام ١. بالإضافة إلى ذلك، لم يجر تعليمنا أن تنتابنا الشكوك بصورة عامة حيال مشاعرنا نحو المرضى. كان يُقال لنا إن الانجذاب الشديد لأحد المرضى الذي لديه تاريخ متكرر من العلاج الفاشل إنما يمثل علامة خطر، مثل رءوس الأسهم في الخطوط المتوازية. ليس هذا إلا وهم — وهم إدراكي — وقد عُلِّمتُ (النظام ٢) كيفية تحديد هذا الوهم ونُصِحتُ بعدم الاعتقاد في صحته أو التصرف بناءً على ذلك.
يتمثل السؤال الذي يجري توجيهه كثيرًا حول الأوهام الإدراكية فيما إذا كان من الممكن التغلب عليها أم لا. ليست الرسالة التي تتضمنها هذه الأمثلة مشجعة. نظرًا لأن النظام ١ يعمل آليًّا ولا يمكن وقفه عن العمل طوعًا، يصعب عادةً الحيلولة دون وقوع أخطاء التفكير الحدسي. فلا يمكن تفادي الانحيازات دائمًا؛ نظرًا لأن النظام ٢ قد لا تتوفر لديه أي إشارة تدل على الخطأ. حتى عندما تتوفر الإشارات الدالة على وجود أخطاء محتملة، يمكن الحيلولة دون وقوع الأخطاء فقط من خلال المراقبة المحسنة والنشاط الجهدي للنظام ٢. لكن الانتباه الدائم، باعتباره طريقة لممارسة حياتك، ليس أمرًا جيدًا بالضرورة، وهو بالتأكيد أمر غير عملي. ستصبح عملية نقد طريقة تفكيرنا باستمرار مسألة مملة، والنظام ٢ أبطأ كثيرًا وغير فعَّال من أن يمثل بديلًا للنظام ١ في اتخاذ القرارات الاعتيادية. لعل أفضل ما نستطيع عمله هو اتخاذ طريق وسط؛ ألا وهو تعلُّم التعرف على المواقف التي تقع بها الأخطاء على الأرجح، والمحاولة بصورة أكثر جدية تفادي ارتكاب أخطاء كبيرة عندما تكون المخاطر مرتفعة. يعتمد هذا الكتاب على فكرة أن من السهولة بمكان إدراك أخطاء الآخرين أكثر من إدراكنا أخطاءنا.
استخدام أسلوب المجاز في الكتاب
طُلب منك التفكير في النظامين باعتبارهما عامليْن فاعلين داخل العقل، يمتلكان شخصيات، وقدرات، وأوجه قصور مميزة لكل منهما. سأستخدم كثيرًا عبارات يحل النظامان فيها موقع الفاعل، مثل «يحسب النظام ٢ المنتجات».
يعتبر استخدام هذه اللغة خطيئة في الدوائر المهنية التي أتنقل بينها؛ نظرًا لأنها تبدو كأنها تفسِّر أفكارَ وأفعالَ شخصٍ ما من خلال أفكار وأفعال أشخاص صغار داخل رأس ذلك الشخص. نحويًّا، تشبه الجملة حول النظام ٢ نحويًّا جملة «يسرق مدير المنزل النثريات.» سيشير زملائي إلى أن عمل مدير المنزل يفسِّر في حقيقة الأمر اختفاء النثريات، وهم يسألون عن حق عما إذا كانت الجملة عن النظام ٢ تفسِّر طريقة حساب المنتجات. يتمثَّل ردي على ذلك في أن الجملة المبنية للمعلوم المختصرة التي تُعزي عملية الحساب إلى النظام ٢ إنما جاءت باعتبارها وصفًا، لا تفسيرًا. تكتسب هذه الجملة معنى فقط نظرًا لما تعرفه بالفعل عن النظام ٢. تعتبر هذه الجملة اختصارًا للآتي: «تعتبر عملية الحساب العقلي نشاطًا طوعيًّا يتطلب جهدًا، ولا يجب القيام به أثناء الانعطاف يسارًا، وهو نشاط يرتبط باتساع حدقة العين وتسارع دقات القلب.»
بالمثل، تعني عبارة «تُترك مهمة القيادة على الطريق السريع في الظروف العادية إلى النظام ١» أن الالتفاف بالسيارة حول منعطف عملية آلية لا تتطلب جهدًا تقريبًا. كما تشير هذه العبارة أيضًا إلى أن القائد المتمرس يستطيع القيادة على طريق سريع خالٍ أثناء إجرائه محادثة. أخيرًا، تعني عبارة «منع النظام ٢ جيمس من التصرف بحماقة إزاء الإهانة» أن جميس كان سيصبح أكثر عدوانية في ردة فعله إذا حدثت مشكلة في قدرته على التحكم الجهدي (إذا كان مخمورًا، على سبيل المثال).
النظامان ١ و٢ يلعبان دورًا غاية في الأهمية في القصة التي سأرويها في هذا الكتاب، إلى درجة أنني يجب أن أؤكد تمامًا على أنهما شخصيتان خياليتان. فهما ليسا نظامين بالمعنى التقليدي للكيانات التي تتألف من سمات أو أجزاء متفاعلة. ولا يوجد جزء من الدماغ يمكن أن يعد موطنًا لأحد النظامين. ربما تسأل قائلًا: ما الهدف من تقديم شخصيات خيالية تحمل أسماء غريبة في كتاب جاد؟ الإجابة هي أن الاستعانة بالشخصيات مفيدة نظرًا لوجود بعض العادات السلوكية لعقولنا، عقلك وعقلي. تُفهم أي عبارة على نحو أكثر سهولة إذا كانت تصف ما يقوم به فاعل (النظام ٢) مما لو كانت تصف ماهية شيء ما، وخصائصه. بعبارة أخرى، يمثل «نظام ٢» فاعلًا أفضل في أي جملة من «عملية الحساب العقلي». يبدو أن العقل — خاصةً النظام ١ — يمتلك قدرة خاصة لبناء وتفسير القصص حول العوامل الفاعلة النشطة، التي تمتلك شخصيات، وعادات، وقدرات. شكَّلت سريعًا رأيًا سيئًا عن مدير المنزل السارق، وتتوقع قيامه بالمزيد من السلوك السيئ، وستظل تذكره إلى حين. هذا هو ما آمل أن يتحقق مع لغة النظامين.
•••
لماذا نُطلق عليهما النظام ١ والنظام ٢ بدلًا من الأسماء الأكثر توصيفًا «النظام الآلي» و«النظام التدبري أو الجهدي»؟ السبب بسيط؛ يستغرق التعبير «النظام الآلي» وقتًا أطول في ذكره من «النظام ١»، ومن ثم يشغل مساحة أكبر في الذاكرة العاملة. هذا مهم؛ نظرًا لأن أي شيء يشغل ذاكرتك العاملة يقلل من قدرتك على التفكير. يجب أن تتعامل مع «النظام ١» و«النظام ٢» باعتبارهما لقبيْن، مثل بوب وجو، يشيران إلى الشخصيتين اللتين ستتعرف عليهما عبر صفحات هذا الكتاب. فالنظامان الخياليان ييسران عليَّ التفكير في الأحكام والخيارات، وسييسران عليك كثيرًا فهم ما أقوله.
في الحديث عن النظام ١ والنظام ٢
«لديه انطباع، لكن بعض انطباعاته أوهام.»
«كان ذلك رد فعل النظام ١، لقد تجاوبت مع التهديد قبل إدراكه.»
«إن النظام ١ الخاص بك هو الذي يتحدث، أبطئ قليلًا ودع النظام ٢ يتولى زمام الأمور.»