التوفر والمشاعر والمخاطر
سرعان ما وجد دارسو المخاطر أن فكرة التوفر متصلة باهتماماتهم. حتى قبل نشر بحوثنا، لاحظ عالم الاقتصاد هوارد كونرويثر — الذي كان لا يزال في مرحلة مبكرة في مساره المهني الذي كرسه لدراسة المخاطر والتأمين — أن آثار التوفر تسهم في تفسير نمط شراء بوليصات التأمين والإجراءات الوقائية بعد الكوارث. يصيب الضحايا والقريبين منهم قلقٌ عارم بعد وقوع كارثة. فبعد وقوع كل زلزال كبير، تصبح كاليفورنيا بأسرها في غاية الحرص لفترة ما على شراء بوليصات التأمين، واتخاذ الإجراءات الوقائية والإجراءات التي من شأنها التخفيف من آثار الكارثة. يحكم سكان كاليفورنيا مرجلهم لتقليص أضرار الزلزال، ويحكمون غلق أبواب الأدوار السفلية تحسبًا للفيضانات، ويحتفظون بمؤن للطوارئ بكميات كافية. إلا أن ذكريات الكارثة تخفت بمرور الوقت، ومعها يذوي القلق والجهد الحثيث. تسهم آليات الذاكرة في تفسير الدورات المتكررة للكارثة، والمخاوف، والرضاء المتزايد عن الذات، المألوفة لدارسي حالات الطوارئ واسعة النطاق.
لاحظ كونرويثر أيضًا أن الإجراءات الوقائية، سواء أكانت من جانب الأفراد أم الحكومات، تصمم عادةً وفق أسوأ كارثة وقعت بالفعل. منذ أوقات سحيقة مضت ترجع إلى مصر الفرعونية، لا تزال المجتمعات تتبع أقصى علامة يصل إليها منسوب الماء في الأنهار التي يحدث فيها بصورة دورية فيضان، وكانت المجتمعات آنذاك — مثلما لا تزال تفعل الآن — تستعد للفيضان بناءً على ذلك، مفترضةً فيما يبدو أن الفيضانات لن ترتفع إلى منسوب أعلى من منسوب المياه الأعلى المحدد. لا ترد صور كارثة أسوأ إلى العقل بسهولة.
التوفر والمشاعر
-
تسبب السكتات الدماغية الوفاة بمقدار ضعف جميع أنواع الحوادث مجتمعة، بينما رأى ٨٠٪ من المشاركين أن نسب الوفاة جراء الحوادث أكثر من نسب الوفاة جراء السكتات الدماغية.
-
رأى المشاركون أن الأعاصير تسبب الوفاة أكثر من الإصابة بمرض الربو، مع أن الربو يسبب الوفاة أكثر من الأعاصير بنسبة تصل إلى ٢٠ مرة.
-
رأى المشاركون أن الموت جراء صاعقة البرق أقل احتمالًا من الموت بسبب التسمم الغذائي مع أن الموت صعقًا بالبرق يفوق الموت جراء التسمم ٥٢ مرة.
-
الموت بسبب الأمراض يفوق الموت جراء الحوادث ١٨ مرة، مع أن المشاركين رأوا أن سببي الوفاة متساويان في نسبة حدوثهما.
-
رأى المشاركون أن الموت جراء الحوادث يفوق الموت جراء الإصابة بمرض السكر بنسبة ٣٠٠ مرة، بينما تبلغ النسبة الحقيقية ١ : ٤.
الدرس واضح؛ تأثرت تقديرات أسباب الوفاة بسبب التغطية الإعلامية. تعتمد عملية التغطية نفسها على الانحياز تجاه الجدة وما يثير مشاعر الشفقة. لا تشكِّل وسائل الإعلام ما يهتم العامة به فقط، بل تتشكَّل بما يهتمون به أيضًا. لا يستطيع المحررون تجاهل طلبات العامة بتغطية موضوعات ووجهات نظر محددة تغطية كبيرة. تجذب الأحداث غير العادية (مثل التسمم الغذائي) انتباهًا غير متناسب في درجته مع أهميتها، ويجري إدراكها باعتبارها أحداثًا أقل اعتيادية مما هي فعلًا. لا تُعد صورة العالم في عقولنا مطابقة تمامًا لصورة العالم في الواقع. فتتشوه توقعاتنا حول معدل تكرار الأحداث عن طريق الشيوع والشدة الشعورية للرسائل التي نتعرض لها.
تعتبر تقديرات أسباب الوفاة تمثيلًا شبه مباشر لعملية تنشيط الأفكار في الذاكرة الترابطية، كما تعتبر مثالًا جيدًا على عملية الاستبدال. مع ذلك، توصل سلوفيك وزملاؤه إلى نتيجة أعمق؛ فقد وجدوا أن اليسر الذي ترد به الأفكار حول المخاطر المختلفة إلى العقل، وكذا ردود الفعل الشعورية لهذه المخاطر، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا. ترد الأفكار والصور المخيفة إلى عقولنا بسهولة خاصة، كما تفاقم أفكار الخطر المتدفقة والحية من مشاعر الخوف.
مثلما ذكرت سابقًا، طوَّر سلوفيك في نهاية المطاف فكرة الاستدلال العاطفي، الذي يُصدر الأشخاص من خلاله الأحكام والقرارات عن طريق الرجوع إلى مشاعرهم: هل أحب ذلك؟ هل أكرهه؟ كيف أشعر حيال ذلك؟ يرى سلوفيك أنَّ الأشخاص — في مجالات كثيرة في الحياة — يكوِّنون الآراء ويتخذون خيارات تعبِّر بصورة مباشرة عن مشاعرهم وميلهم الأساسي في الاقتراب أو الابتعاد عن أمر ما، عادةً دون معرفتهم أنهم يفعلون ذلك. يعتبر الاستدلال العاطفي مثالًا على الاستبدال؛ حيث تجري الإجابة عن سؤال سهل (كيف أشعر حيال ذلك؟) بدلًا من سؤال أصعب كثيرًا (ماذا أظن حيال ذلك؟). ربط سلوفيك وزملاؤه آراءهم ببحوث عالم الأعصاب أنطونيو داماسيو، الذي كان قد أشار إلى أن تقييمات الأشخاص الشعورية للنتائج، والحالات الجسدية وميول الاقتراب والابتعاد المرتبطة بها، تلعب جميعها دورًا رئيسيًّا في توجيه عملية اتخاذ القرار. لاحظ داماسيو وزملاؤه أن الأشخاص الذين لا يظهرون المشاعر المناسبة قبل اتخاذ القرار، في بعض الأحيان بسبب تلف في الدماغ، أظهروا أيضًا قدرة قاصرة في اتخاذ قرارات صائبة. يعتبر عدم قدرة الشخص على أن يتم توجيهه من خلال «مشاعر خوف صحية» من التداعيات السيئة عيبًا كارثيًّا.
في تجربة مثيرة عن آليات الاستدلال العاطفي، أجرى فريق سلوفيك البحثي استطلاعًا للآراء حول التقنيات المختلفة، بما في ذلك فلورة المياه، والمصانع الكيماوية، والمواد الحافظة في الأغذية، والسيارات، وطلبوا من المشاركين ذكر فوائد ومخاطر كل منها. لاحظوا وجود ترابط سلبي كبير صعب التصديق بين تقديرين قام بهما أفراد التجربة: مستوى الفوائد ومستوى المخاطر الخاصين بالتقنيات. فعندما كان أفراد التجربة معجبين بتقنية معينة، كانوا يرون أن لها فوائد كبيرة ومخاطر قليلة؛ وعندما كانوا غير معجبين بتقنية ما، كان من الممكن أن يفكروا فقط في عيوبها، في حين تأتي مزايا قليلة لها على ذهنهم. ونظرًا لأن التقنيات منظمة بعناية من الجيد إلى الأسوأ، فلم تكن هناك حاجة للقيام بمفاضلة صعبة. فتقديرات المخاطر والفوائد تماثلت بشكل كبير حتى عندما قام أفراد التجربة بتصنيف الفوائد والمخاطر تحت ضغط الوقت. المثير للدهشة أن أعضاء من جمعية السموم البريطانية استجابوا للتجربة بشكل مماثل؛ فقد وجدوا فوائد قليلة في المواد أو التقنيات التي كانوا يرون أنها خطرة والعكس صحيح. فالمشاعر المتسقة عنصر أساسي لما أطلق عليه التماسك الترابطي.
جاء أفضل جزء في التجربة بعد ذلك. بعد الانتهاء من الاستطلاع المبدئي، قرأ أفراد التجربة فقرات قصيرة تؤكد على فوائد تقنيات متعددة. بينما عُرض على البعض فقرات تركِّز على الفوائد العديدة لإحدى التقنيات، عُرض على آخرين أخرى تؤكد على المخاطر المنخفضة لها. كانت هذه الرسائل فعَّالة في تغيير الجاذبية الشعورية للتقنيات. كانت النتيجة المدهشة أن أفراد التجربة الذين كانوا قد تلقوا رسائل تعظِّم من فوائد إحدى التقنيات، غيَّروا من معتقداتهم أيضًا حول مخاطرها. وعلى الرغم من عدم حصولهم على أدلة ذات صلة في هذا الشأن، فقد رأوا أن التقنية التي أصبحوا معجبين بها الآن أكثر من ذي قبل أقل خطرًا. بالمثل، كوَّن أفراد التجربة، الذين قيل لهم إن مخاطر إحدى التقنيات طفيفة، رؤية أكثر إيجابية حول فوائدها. تعتبر النتيجة الضمنية واضحة: فمثلما أشار عالم النفس جوناثان هيدت في سياق آخر: «الذيل الشعوري يهز الكلب العقلاني.» يبسِّط الاستدلال العاطفي حياتنا من خلال خلق عالم أكثر تنظيمًا مما هو عليه في الواقع. فالتقنيات الجيدة ليس لها مخاطر كثيرة في العالم الخيالي الذي نعيش فيه، ولا توجد أي فوائد للتقنيات السيئة، وتعتبر جميع القرارات سهلة. في العالم الواقعي، بالطبع، نواجه مفاضلات صعبة عادةً بين الفوائد والمخاطر.
العامة والخبراء
ربما يعلم بول سلوفيك عن خصائص عملية إصدار الأحكام البشرية حول المخاطر أكثر مما يعلم أي شخص آخر. وتقدِّم أعماله صورة عن الشخص العادي، وهي صورة أبعد ما تكون عن صورة رومانسية له. فالشخص العادي توجهه المشاعر بدلًا من العقل، ومن السهل أن يغير رأيه عبر التفاصيل التافهة، فضلًا عن حساسيته غير الملائمة تجاه الاختلافات بين الاحتمالات الضئيلة وشبه المنعدمة. درس سلوفيك الخبراء أيضًا، الذين هم أكثر تفوقًا في التعامل مع الأرقام والكميات. وبينما أظهر الخبراء كثيرًا من الانحيازات نفسها التي نظهرها نحن في صورة معدلة قليلة، كانت أحكامهم وتفضيلاتهم حول المخاطر أحيانًا تختلف عن أحكام وتفضيلات الآخرين.
بينما تفسَّر الاختلافات بين الخبراء والعامة جزئيًّا من خلال الانحيازات في الأحكام غير الاحترافية، يجذب سلوفيك الانتباه إلى المواقف التي فيها تعكس الاختلافات صراعًا حقيقيًّا حول القيم. يشير سلوفيك إلى أن الخبراء عادةً يقيسون المخاطر عن طريق عدد الأرواح (أو سنوات الحياة) التي فُقدت، بينما يقوم العامة بعمل فروق أكثر دقة، على سبيل المثال بين «الميتات الجيدة» و«الميتات السيئة»؛ أي بين ميتات الحوادث العشوائية والميتات التي تحدث في إطار الأنشطة الطوعية مثل التزحلق على الجليد. يجري تجاهل هذه الفروق المعقولة عادةً في الإحصاءات التي تحصي عدد الحالات فقط. يرى سلوفيك من خلال هذه الملاحظات أن العامة يمتلكون مفهومًا أكثر ثرًاء عن المخاطر من الخبراء؛ بناءً عليه، يعارض سلوفيك بقوة وجهة النظر التي ترى أن الخبراء يجب أن يتسوَّدوا، وأن آراءهم يجب قبولها دون مساءلة عند تعارضها مع آراء ورغبات المواطنين الآخرين؛ لذلك يرى سلوفيك أنه عندما يختلف الخبراء والعامة حول أولوياتهم، «يجب أن يحترم كل طرف ذكاء ورؤى الطرف الآخر.»
لا يوجد «الخطر» «في الخارج»، بصورة مستقلة بعيدًا عن عقولنا وثقافتنا، في انتظار قياسه. اخترع البشر مفهوم «الخطر» لمساعدتهم في فهم والتعامل مع مصادر التهديد وحالات عدم اليقين في الحياة. وعلى الرغم من أن مصادر التهديد هذه حقيقية، فلا يوجد ما يمكن اعتباره «خطرًا حقيقيًّا» أو «خطرًا موضوعيًّا».
لإثبات ادعائه، يذكر سلوفيك تسع طرق لتعريف خطر الموت المصاحب لإطلاق مادة سامة في الهواء، في نطاق يتراوح بين «وفاةٍ بين كل مليون شخص» و«وفاة لكل مليون دولار من المنتج». يقصد سلوفيك من ذلك أن تقييم المخاطر يعتمد على اختيار المقياس، مع وجود احتمال واضح أن يُوجَّه الاختيار من قبل أحد التفضيلات تجاه نتيجة أو أخرى. يمضي سلوفيك مستنتجًا أن «تعريف المخاطر يعتبر إذن أحد ممارسات السلطة.» ربما لم تكن تظن أن المرء يستطيع الوصول إلى موضوعات السياسة الشائكة هذه عبر الدراسات التجريبية للجانب النفسي لعملية إصدار الأحكام! في المقابل، تدور السياسة في نهاية المطاف حول الناس، وما يريدونه، وأفضل الأشياء المناسبة لهم. يتضمن كل سؤال حول السياسة افتراضات حول الطبيعة الإنسانية، بصورة خاصة حول خيارات الناس وتبعات خياراتهم، سواء عليهم أو على مجتمعهم.
يختلف باحث آخر وصديق أعتز به كثيرًا، كاس سنستاين، اختلافًا كبيرًا مع موقف سلوفيك حول الآراء المختلفة حول الخبراء والمواطنين العاديين، ويدافع عن دور الخبراء باعتباره خط دفاع ضد التجاوزات «الشعبية». يعتبر سنستاين أحد أبرز الخبراء القانونيين في الولايات المتحدة، ويشترك مع رواد مهنته في صفة الجرأة الفكرية. يعلم سنستاين أن باستطاعته امتلاك ناصية أي مجال معرفي بسرعة وبعمق، وقد امتلك بالفعل ناصية العديد من المجالات، منها الجانب النفسي لإصدار الأحكام والاختيار وموضوعات القانون وسياسات المخاطر. يرى سنستاين أن النظام القانوني الحالي في الولايات المتحدة يحدد الأولويات بشكل غاية في السوء، وهو يعكس ردة فعل تجاه ضغوط العامة أكثر مما يعكس تحليلًا موضوعيًّا متأنيًا. يبدأ سنستاين بالافتراض القائل إن القوانين الخاصة بالمخاطر والتدخل الحكومي لتقليص المخاطر يجب أن توجهه عملية قياس عقلانية للتكاليف والفوائد، وأن الوحدات الطبيعية لهذا التحليل هي عدد الأرواح التي يتم إنقاذها (أو ربما عدد سنوات الحياة التي يتم إنقاذها، الذي يعطي ثقلًا أكبر لعملية إنقاذ صغار السن) والتكلفة الدولارية بالنسبة للاقتصاد. تهدر القوانين السيئة الأرواح والمال، اللذين يمكن قياسهما موضوعيًّا. لم يقتنع سنستاين بطرح سلوفيك القائل إن المخاطر وقياسها ذاتيان. فبينما تُعد كثير من سمات تقييم المخاطر خلافية، يؤمن سنستاين بالموضوعية التي يمكن تحقيقها من خلال العلم، والخبرة، والتفكير المتأني.
رأى سنستاين أن ردود الأفعال الانحيازية تجاه المخاطر تعتبر مصدرًا مهمًّا لوضع الأولويات غير الملائمة والمغلوطة في السياسات العامة. ربما يتميز المشرعون وواضعو القوانين بالحساسية أكثر مما ينبغي تجاه المخاوف غير العقلانية للمواطنين؛ نظرًا للحساسية السياسية ولأنهم يتعرضون للانحيازات الإدراكية نفسها مثل المواطنين الآخرين.
ابتدع سنستاين وزميل له، القانوني تيمور كوران، اسمًا للآلية التي تتحول الانحيازات من خلالها إلى سياسة، وهو «متتالية التوفر». أشار سنستاين وكوران إلى أنه في السياق الاجتماعي، «تتساوى الطرق الاستدلالية جميعًا، إلا أن التوفر أكثر تساويًا من الطرق الأخرى.» توجد لديهما فكرة موسعة حول الطرق الاستدلالية، التي يقدِّم التوفر فيها طريقة استدلالية للأحكام بخلاف معدل التكرار. على وجه الخصوص، يجري الحكم على أهمية فكرة ما عادةً من خلال الطلاقة (والشحنة العاطفية) التي ترد بها إلى العقل.
تمثل متتالية التوفر سلسلة من الأحداث المتواصلة ذاتيًّا، التي قد تبدأ من التقارير الإخبارية الإعلامية حول حدث صغير نسبيًّا وتنتهي بذعر عام وإجراء حكومي واسع النطاق. في بعض الحالات، تجذب قصة إعلامية انتباه قطاع من العامة، الذي تجري استثارته انفعاليًّا ويصيبه القلق. يصير رد الفعل الشعوري هذا قصةً في حد ذاته، وهو ما يدفع إلى مزيد من التغطية في الإعلام، وهو ما يدفع بدوره إلى المزيد من القلق والاستغراق أكثر في الموضوع. في بعض الأحيان، تتسارع وتيرة هذه الدورة عمدًا من خلال «روَّاد التوفر»، وهم الأفراد أو المنظمات التي تعمل لضمان التدفق المستمر للأخبار المقلقة. تجري المبالغة في الخطر بصورة متزايدة مع تنافس وسائل الإعلام على تقديم عناوين أخبار جاذبة للانتباه. لا يجذب العلماء والآخرون الذين يحاولون التقليل من شدة الخوف الكثير من الانتباه، ويكون رد الفعل في معظمه عدائيًّا. فتتوجه أصابع الشك إلى كل من يدعي أن الخطر مبالغ فيه بالاشتراك في «عملية تعتيم شائنة». يصبح الموضوع مهمًّا سياسيًّا نظرًا لوجوده في عقل الجميع، ويجري توجيه رد فعل النظام السياسي من خلال شدة الشعور العام. وهكذا، تعيد متتالية التوفر ترتيب الأولويات. تنتقل جميع المخاطر الأخرى، والطرق الأخرى التي يمكن من خلالها استخدام الموارد للصالح العام، إلى الخلفية.
ركَّز كوران وسنستاين على مثالين لا يزالان يثيران الكثير من الجدل؛ وهما كارثة لاف كنال، وما كان يُطلق عليه ذعر آلار. في منطقة لاف كنال، ظهرت نفايات سامة كانت مدفونة خلال موسم ممطر في عام ١٩٧٩؛ ما تسبب في تلوث المياه فيما تجاوز المعدلات القياسية، فضلًا عن الرائحة الكريهة. كان سكان المنطقة غاضبين وخائفين، وكان أحدهم، لويس جيبس، نشطًا للغاية في محاولة لفت الأنظار إلى المشكلة. تجلت متتالية التوفر بتفاصيلها الكاملة. في ذروة الحدث، كانت هناك قصص إخبارية يومية حول منطقة لاف كنال، بينما جرى تجاهل أو إسكات العلماء الذين زعموا أن المخاطر مُبالغ فيها، كما أذاعت محطة إيه بي سي نيوز الإخبارية برنامجًا عنوانه «الأرض القاتلة»، وسارت أعداد من المتظاهرين بأكفان رمزية لأطفال رضع أمام المجلس التشريعي. تم إجلاء عدد كبير من سكان المنطقة إلى مناطق أخرى على نفقة الحكومة، وصارت السيطرة على النفايات السامة الموضوع البيئي الأكبر في ثمانينيات القرن العشرين. نشأ بموجب القانون الذي نص على ضرورة تطهير المواقع السامة — المعروف باسم قانون الاستجابة والتعويض والمسئولية البيئية الشاملة — صندوق ائتماني، ويعتبر هذا القانون إنجازًا مهمًّا في مجال التشريعات البيئية. كان ذلك مكلفًا، ورأى البعض أن الأموال التي أُنفقت كان من الممكن استغلالها لإنقاذ حياة أعداد أكثر من الأشخاص لو وُجهت نحو أولويات أخرى. لا تزال الآراء حول ما جرى بالفعل في لاف كنال منقسمة انقسامًا حادًّا، ولا يبدو أن ادعاءات الضرر الحقيقي للصحة تم إثباتها. كتب كوران وسنستاين قصة لاف كنال باعتبارها حدثًا مصطنعًا، بينما على الجانب الآخر من النقاش، لا يزال البيئيون يتحدثون عن «كارثة لاف كنال».
تنقسم الآراء أيضًا حول المثال الثاني الذي استخدمه كوران وسنستاين لتوضيح مفهوم متتالية التوفر؛ واقعة آلار، والمعروفة لمنتقدي الاهتمامات البيئية باسم «ذعر آلار» في عام ١٩٨٩. آلار مادة كيميائية كانت تُرش على التفاح لتنظيم عملية نموه وتحسين مظهره. بدأ الذعر من خلال قصص صحفية أشارت إلى أن المادة الكيميائية، عند استخدامها بكميات ضخمة، تتسبب في حدوث أورام سرطانية في الفئران والجرذان. أثارت هذه القصص الخوف بين الناس، ودعت هذه المخاوف إلى المزيد من التغطية الإعلامية، وهي الآلية الأساسية لأي متتالية توفر. هيمن الموضوع على الأخبار وتمخَّضت عنه أحداث إعلامية درامية، مثل شهادة الممثلة ميريل ستريب أمام الكونجرس. تكبَّدت صناعة التفاح خسائر فادحة مع تحول التفاح ومنتجات التفاح إلى مصادر للخوف. استشهد كوران وسنستاين بمواطن أجرى مكالمة هاتفية يسأل فيها «عما إذا كان أكثر أمانًا رمي عصير التفاح في البالوعة أو التخلص منه في مستودع للنفايات السامة.» سحب المصنع المنتج من السوق، وحظرته هيئة الأغذية والدواء الأمريكية. بينما أكدت البحوث اللاحقة أن مادة آلار ربما تشكِّل خطرًا ضئيلًا جدًّا كمادة محتملة مسببة للسرطان، إلا أن واقعة آلار كانت لا شك تمثل ردة فعل مبالغًا فيها تجاه مشكلة صغيرة. كان الأثر الإجمالي للواقعة على الصحة العامة وخيمًا؛ نظرًا لاستهلاك كميات أقل من التفاح الطيب.
تشير قصة آلار إلى وجه قصور أساسي في قدرة عقولنا على التعامل مع المخاطر الصغيرة. فنحن نتجاهل المخاطر الصغيرة كليةً أو نمنحها أهمية أكثر مما ينبغي، دون التوسط بين هذا وذاك. سيدرك كل ولي أمر ظل مستيقظًا في انتظار عودة ابنته المراهقة التي تأخرت في الرجوع من حفلةٍ؛ هذا الشعور. فرغم أنك قد تدرك عدم وجود (تقريبًا) ما يمكن أن تقلق بشأنه في هذا الشأن، إلا أنك لا تستطيع التحكم في ورود صور الكوارث إلى العقل. مثلما أشار سلوفيك، لا يتناسب حجم القلق مع احتمالية وقوع الأذى. إنك تفكِّر في البسط — القصة المأساوية التي شاهدتها في الأخبار — ولا تفكِّر في المقام. صاغ سنستاين مصطلح «تجاهل الاحتمالية» للإشارة إلى هذا النمط. يؤدي مزيج تجاهل الاحتمالية مع الآليات الاجتماعية لمتتاليات التوفر إلى مبالغة هائلة في مصادر التهديد الصغيرة، وهو ما يفضي أحيانًا إلى تداعيات مهمة.
في عالم اليوم، يعتبر الإرهابيون أهم ممارسي فن توليد متتاليات توفر. باستثناء بعض الأمثلة الرهيبة مثل هجمات الحادي عشر من سبتمبر، يعتبر عدد الوفيات جراء الهجمات الإرهابية صغيرًا جدًّا مقارنةً بأسباب الوفاة الأخرى. حتى في الدول التي كانت ولا تزال هدفًا للحملات الإرهابية المكثفة، مثل إسرائيل، لم يقترب العدد الأسبوعي للوفيات جراء العمليات الإرهابية أبدًا من عدد الوفيات جراء حوادث الطرق. يتمثل الفرق في توفر الخطرين؛ أي سهولة ورود الأحداث إلى العقل ومعدل تكرارها. تسبب الصور البشعة، التي تتكرر بصورة لانهائية في وسائل الإعلام، في أن يشعر الجميع بالتوتر. مثلما أعرف من واقع الخبرة، من الصعوبة بمكان الانتقال إلى حالة من الهدوء التام. يخاطب الإرهاب النظام ١ مباشرةً.
أين أقع في هذا الجدال الدائر بين أصدقائي؟ تعتبر متتاليات التوفر حقيقية وهي لا شك تشوه الأولويات في تخصيص الموارد العامة. ربما يسعى كاس سنستاين إلى اكتشاف الآليات التي تعزل صانعي القرار عن ضغوط العامة؛ ما يجعل عملية تخصيص الموارد بيد خبراء موضوعيين يمتلكون رؤية عامة واسعة لجميع المخاطر والموارد المتاحة لتقليصها. يثق بول سلوفيك في الخبراء بدرجة أقل وفي العامة بصورة أكبر إلى حد ما مما يثق سنستاين، ويشير إلى أن عزل الخبراء عن مشاعر العامة يسفر عن سياسات سترفضها العامة، وهو موقف غير ممكن في دولة ديمقراطية. يتميز كل من سلوفيك وسنستاين بالعقلانية البالغة، وأتفق مع كليهما.
أشارك سنستاين عدم الشعور بالراحة إزاء تأثير المخاوف غير العقلانية ومتتاليات التوفر على السياسة العامة في مجال المخاطر. في المقابل، أشارك سلوفيك أيضًا الاعتقاد في أن المخاوف العامة، حتى لو لم تكن معقولة، يجب ألا يتجاهلها صنَّاع السياسات. فسواء أكان عقلانيًّا أم لا، يعتبر الخوف مؤلمًا ومستنفدًا للطاقة، ويجب على صناع السياسات السعي لحماية العامة من الخوف، لا فقط من مصادر الخطر الحقيقية.
يركِّز سلوفيك عن حق على ضرورة مقاومة العامة لفكرة اتخاذ خبراء غير منتخبين وغير خاضعين للمحاسبة للقرارات. بالإضافة إلى ذلك، ربما توجد فوائد طويلة المدى لمتتاليات التوفر من خلال جذب الانتباه إلى مخاطر معينة، ومن خلال زيادة الحجم الإجمالي للأموال المخصصة لتقليص تلك المخاطر. فبينما تسببت واقعة لاف كنال في تخصيص موارد زائدة لإدارة المخلفات السامة، كان لها أيضًا أثر أكثر عمومية في رفع مستوى أولوية القضايا البيئية. الديمقراطية فوضوية حتمًا، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن عمليات استدلال التوفر والاستدلال العاطفي، التي توجه معتقدات ومواقف المواطنين، تعتبر انحيازية حتمًا، حتى لو كانت تشير بشكل عام في الاتجاه الصحيح. يجب أن يدلي علم النفس بدلوه في تصميم سياسات المخاطر التي تمزج بين معرفة الخبراء ومشاعر العامة وأفكارهم الحدسية.
في الحديث عن متتاليات التوفر
«هي تتكلم بحماسة عن تقنية لها فوائد جمة وليس لها عيوب. أظن أنها تخضع للاستدلال العاطفي.»
«هذا مثال على متتالية التوفر: حادث غير مهم على الإطلاق، جرى تضخيمه عبر وسائل الإعلام والعامة، حتى يملأ شاشات التليفزيون ويصير الشغل الشاغل للجميع.»