وهم الفهم
يمكن اعتبار المتعامل في الأسهم والفيلسوف والإحصائي نسيم طالب عالمَ نفس أيضًا. في كتابه «البجعة السوداء» قدَّم طالب فكرة «المغالطة السردية» للإشارة إلى الطريقة التي تشكِّل بها قصص الماضي الخاطئة رؤانا للعالم وتوقعاتنا حيال المستقبل. تنشأ المغالطات السردية حتمًا من محاولتنا المستمرة لتفسير العالم؛ فالقصص التفسيرية التي يجدها الأشخاص جذابة هي تلك التي تكون بسيطة؛ ماديةً أكثر منها مجردة، وتفسح مجالًا أكبر للموهبة، والغباء، والنوايا أكثر من الحظ، كما تركِّز على أحداث مدهشة قليلة وقعت بدلًا من التركيز على العدد اللانهائي للأحداث التي لم تقع. فأي حدث بارز حديث مرشح لأن يصبح نواة قصة سببية. يشير طالب إلى أننا — نحن البشر — نخدع أنفسنا باستمرار من خلال بناء تفسيرات واهية للماضي والاعتقاد بأنها صحيحة.
تقدِّم القصص الجيدة تفسيرًا بسيطًا ومتماسكًا لأفعال ونوايا الناس؛ فأنت مستعد دائمًا لتفسير السلوك كتمثيل للسمات الشخصية والميول العامة؛ أي الأسباب التي يمكنك مضاهاتها مع الآثار. يرجع تأثير الهالة الذي تمت مناقشته قبل ذلك إلى التماسك؛ لأنه يجعلنا نميل لمطابقة رؤيتنا لكل سمات أي شخص مع حكمنا على إحدى السمات التي لها أهمية خاصة. فإذا كنا نعتقد أن أحد لاعبي البيسبول — على سبيل المثال — وسيم وقوي البنية، فمن المحتمل أن نصنفه بشكل أفضل في رمي الكرة أيضًا. يمكن أن يكون تأثير الهالة أيضًا سلبيًّا؛ فإذا كنا نرى أحد اللاعبين قبيحًا، فمن المحتمل أن نصنف قدراته الرياضية بشكل أقل. يساعد تأثير الهالة على الحفاظ على بساطة وتماسك القصص التفسيرية، وذلك بالمبالغة في تقدير اتساق التقييمات: فالأشخاص الجيدون يقومون بأفعال جيدة فقط والأشخاص السيئون يقومون بأفعال سيئة فقط. إن عبارة أن «هتلر كان يحب الكلاب والأطفال الصغار» صادمة، بغض النظر عن عدد المرات التي سمعتها فيها؛ وذلك لأن أي لمحة طيبة في شخص شرير جدًّا تتعارض مع التوقعات التي تنتج عن تأثير الهالة. فعدم الاتساق يقلل من يسر أفكارنا ووضوح مشاعرنا.
تدعم أي قصة جذابة وَهْمَ الحتمية. خذ على سبيل المثال قصة تحوُّل جوجل إلى أحد عمالقة صناعة التكنولوجيا. أتى طالبا دراسات عليا مبتكران في قسم علوم الكمبيوتر في جامعة ستانفورد بطريقة عظيمة للبحث عن المعلومات على الإنترنت. سعى الطالبان إلى تمويل وحصلا عليه لبدء شركة، ثم اتخذا عدة قرارات أفضت إلى نتائج طيبة. خلال سنوات قليلة، صارت أسهم الشركة التي أسساها ضمن أكثر الأسهم قيمة في أمريكا، وأصبح طالبا الدراسات العليا السابقان ضمن أكثر الأشخاص ثراءً على الإطلاق في العالم. في مناسبة لا تُنسى، كانا محظوظين، وهو ما يجعل القصة أكثر تشويقًا: فبعد عام من تأسيس جوجل، بينما كانا راغبين في بيع الشركة بقيمة أقل من مليون دولار، قال المشتري: إن السعر المعروض مرتفع جدًّا. يجعل ذكر الحدث الوحيد الموفق من السهل بمكان التقليل من قدر الطرق العديدة التي يؤثِّر الحظ من خلالها على النتيجة.
من شأن التأريخ المفصل أن يسرد قرارات مؤسسي جوجل، لكن يكفي الآن القول إن أي قرار اتخذاه تقريبًا ترتَّب عليه نتيجة طيبة. ربما تشير القصة الأكثر تفصيلًا إلى أعمال الشركات التي تغلبت عليها جوجل. ربما اتسمت أعمال المنافسين غير المحظوظين بالتهور، والبطء، وعدم الملاءمة على الإطلاق في التعامل مع الخطر الذي أدى في نهاية المطاف إلى هزيمتهم.
أتعمد هنا أن أسرد هذه القصة بصورة مجردة دون تفاصيل شائقة، لكنك تستطيع أن تدرك الفكرة الأساسية هنا؛ ألا وهي أن ثمة قصة جيدة جدًّا هنا. بسردها بمزيد من التفصيل، يمكن أن تمنحك القصة الشعور بفهم السبب وراء نجاح جوجل، كما ستجعلك القصة تشعر بأنك تعلمت درسًا عامًّا قيِّمًا عما يجعل الشركات تنجح. لسوء الحظ، يوجد سبب وجيه في أن شعورك بالفهم والتعلم من قصة جوجل يعتبر إلى حد كبير شعورًا مضللًا. يتمثَّل الاختبار النهائي في أي تفسير فيما إذا كان سيجعل أي حدث يمكن توقعه بشكل مسبق. لن تنجح أي قصة تفسِّر نجاح جوجل غير المتوقع في الاختبار؛ نظرًا لعدم توفر أي قصة تشمل الأحداث العديدة التي كانت ستفضي إلى نتيجة مختلفة. لا يتعامل العقل البشري جيدًا مع أحداث لم تقع. لعل حقيقة وقوع الكثير من الأحداث المهمة التي تتضمَّن الانتقاء بين الخيارات تدفعك دفعًا إلى المبالغة في دور المهارة والتقليل من الدور الذي لعبه الحظ في النتيجة؛ نظرًا لأن كل قرار حاسم أفضى إلى نتيجة طيبة، يشير التاريخ إلى قدرة على التبصر لا غبار عليها، مع إغفال الحظ السيئ الذي كان سيؤدي حال تحققه ربما إلى عدم تحقق أيٍّ من القرارات المهمة الناجحة. بالإضافة إلى ذلك، يضفي تأثير الهالة اللمسات النهائية، وهو ما يُسبغ هالة من قوة لا تقهر على أبطال القصة.
مثل مشاهدة أحد قائدي القوارب الماهرين يتخطَّى عائقًا وراء آخر أثناء عبوره منحدرًا نهريًّا، يعتبر كشف تفاصيل قصة جوجل مثيرًا؛ نظرًا للمخاطرة المستمرة بوقوع مشكلة كبرى في أي وقت. لكن هناك فرقًا كبيرًا بين الحالتين؛ ففي حالة قائد القارب الماهر، اعتاد قائد القارب على قيادة القارب عبر المنحدر النهري مئات المرات. تعلَّم قائد القارب تقدير درجة المخاطرة في المياه العاصفة أمامه وتوقع وجود عقبات، وتعلَّم أيضًا تغيير وضع جسده تغييرًا طفيفًا للحفاظ على وضع جسده قائمًا. هناك فرص أقل للشباب لتعلم طريقة تأسيس شركة كبرى، بل وفرص أقل لتفادي المخاطر الخفية؛ مثل ظهور ابتكار عبقري على يد إحدى الشركات المنافسة. بالطبع، بينما كان هناك قدر كبير من المهارة في قصة جوجل، لعب الحظ دورًا أكثر أهمية في الأحداث الفعلية أكثر مما جرى ذكره في القصة نفسها. وكلما كان ثمة حظ في وقوع الأحداث، قلَّ ما يمكن تعلمه منها.
تسري قاعدة «ما تراه هو كل ما هناك» القوية هنا. لا يمكنك الحيلولة دون التعامل مع المعلومات المحدودة المتوفرة لديك كما لو كانت هي كل المعلومات المتوفرة لمعرفتها. تُبنى أفضل القصص الممكنة من خلال المعلومات المتوفرة لديك، وإذا كانت قصة جيدة، فتصدقها. بصورة متناقضة، من الأسهل بمكان بناء قصة متماسكة عندما تعرف القليل من المعلومات؛ عندما توجد أجزاء صغيرة من المعلومات تصلح أن تضعها معًا لتكون جزءًا من الصورة الأكبر الناقصة. يعتمد شعورنا المريح بالاقتناع بأن العالم منطقي على أساس آمن، ألا وهو قدرتنا غير المحدودة تقريبًا على تجاهل جهلنا.
سمعت عن أشخاص كثيرين «كانوا يعرفون قبل وقوع الأزمة المالية في عام ٢٠٠٨ أنها كانت حتمية.» تتضمَّن هذه الجملة كلمة مرفوضة إلى حد كبير، وهي كلمة يجب التخلص منها في مفرداتنا في المناقشات التي تدور حول الأحداث الكبرى. الكلمة هي — بالطبع — «يعرف». بينما اعتقد بعض الأشخاص اعتقادًا عميقًا مسبقًا أن ثمة أزمة ستقع، لم يعرف هؤلاء بأنها ستقع. يقول هؤلاء الآن إنهم كانوا يعرفون ذلك نظرًا لأن الأزمة وقعت بالفعل، وهو ما يمثِّل إساءة استخدام لمفهوم مهم. في اللغة اليومية، نستخدم كلمة «يعرف» فقط عندما يكون ما هو معروف صحيحًا ويمكن إثبات صحته. نعرف شيئًا فقط إذا كان حقيقيًّا وقابلًا للمعرفة. في المقابل، لم يستطع الأشخاص الذين اعتقدوا أن ثمة أزمة ستقع (وهناك عدد أقل منهم حاليًّا لا يزال يتذكر اعتقاده في ذلك) إثبات ذلك بصورة حاسمة في ذلك الوقت. كان كثير من الأشخاص الأذكياء والمطلعين مهتمين غاية الاهتمام بمستقبل الاقتصاد، ولم يعتقدوا بوقوع كارثة وشيكة. أستنتج من هذه الحقيقة أن الأزمة لم تكن قابلة للمعرفة. ربما ليس الأمر غير المقبول بشأن استخدام كلمة «يعرف» في هذا السياق أن بعض الأشخاص أشير إليهم بالفضل في قدرتهم على استباق الأحداث وهو ما لم يكونوا يستحقونه. بل إن اللغة نفسها تنطوي على معنى أن العالم أكثر قابلية للمعرفة مما هو في حقيقة الأمر، وهو ما يساعد على الاستمرار في الاعتقاد في وهم ضار.
يتمثل جوهر الوهم هنا في اعتقادنا أننا نفهم الماضي، وهو ما ينطوي على الاعتقاد بأن المستقبل أيضًا قابل للمعرفة، لكننا نفهم الماضي في حقيقة الأمر بصورة أقل مما نعتقد. ولا يقتصر الأمر على كلمة «يعرف» التي تدعم هذا الوهم؛ ففي الاستخدام الشائع، يقتصر استخدام كلمتَيْ «حدس» و«هاجس» أيضًا على الأفكار الماضية التي أثبتت صحتها فيما بعد. تبدو عبارة «كان لديَّ هاجس في أن الزواج لن يدوم، لكنني كنت مخطئًا» غريبة، مثلما تبدو أي جملة أخرى حول شعور حدسي ما ثبت خطؤه لاحقًا. حتى يتسنى التفكير بوضوح حيال المستقبل، يجب علينا أن ننقي اللغة التي نستخدمها في وسم المعتقدات التي كنا نتبناها في الماضي.
العواقب الاجتماعية للإدراك المتأخر
يمثِّل العقل الذي يبتدع القصص حول الماضي عضوًا صانعًا للمنطق؛ فعندما يقع حادث غير متوقع، نضبط رؤيتنا للعالم على الفور لاستيعاب المفاجأة. تصوَّر نفسك قبل مباراة كرة قدم بين فريقين يحظيان بالسجل نفسه لعدد مرات الفوز والخسارة. الآن، انتهت المباراة وسحق أحد الفريقين الفريق الآخر. في نموذجك المعدَّل للعالم، يصبح الفريق الفائز أكثر قوة من الفريق الخاسر، وتتغيَّر رؤيتك للماضي — فضلًا عن المستقبل — عبر هذا الإدراك الجديد. بينما تعتبر عملية التعلم من المفاجآت شيئًا منطقيًّا، ربما يترتب عليها بعض العواقب الوخيمة.
يتمثل أحد أوجه القصور العامة للعقل البشري في قدرته غير الكاملة على إعادة بناء الحالات الماضية للمعرفة، أو المعتقدات التي تغيَّرت. بمجرد تبنِّي رؤية جديدة للعالم (أو لأي جزء منه)، تفقد على الفور جانبًا كبيرًا من قدرتك على استدعاء ما اعتدت على الاعتقاد فيه قبل تغيُّر وجهة نظرك.
درس كثير من علماء النفس ما يجري عندما يغير الأشخاص من وجهة نظرهم. باختيار موضوع لم يقرر الأشخاص وجهة نظرهم بالكامل بعدُ حياله — لنقل مثلًا عقوبة الإعدام — يقيس القائم على التجربة بعناية مواقف المشاركين في التجربة، ثم يرى أو يسمع المشاركون رسالة مقنعة مؤيِّدة أو معارِضة للموضوع، ثم يقيس القائم على التجربة بعد ذلك مواقف المشاركين مرة أخرى. هنا، تقترب مواقف المشاركين عادةً أكثر من الرسالة المقنعة التي عُرضت عليهم. أخيرًا، يشير المشاركون إلى الرأي الذي كانوا يعتقدونه قبلًا. يتضح عند إجراء هذه التجربة أنها شديدة الصعوبة بصورة مدهشة. عندما يطلب منهم استعادة معتقداتهم السابقة، يستعيد المشاركون معتقداتهم الحالية بدلًا من معتقداتهم السابقة — وهو مثال على عملية استبدال — ولا يستطيع عدد كبير من المشاركين تصديق أن مشاعرهم السابقة حيال الأمر نفسه كانت مختلفة.
ستُفضي بك عدم قدرتك على استعادة المعتقدات السابقة حتمًا إلى التقليل من قدر الدرجة التي فاجأتك بها الأحداث السابقة. كان باروخ فيسكوف أول من أشار إلى أثر «كنت أعرف ذلك طوال الوقت» هذا، أو «انحياز الإدراك المتأخر»، عندما كان طالبًا في القدس. بالاشتراك مع روث بيث (وهي إحدى طالباتنا)، أجرى فيسكوف استطلاعًا قبل زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون للصين وروسيا في عام ١٩٧٢. وضع المشاركون في الاستطلاع احتمالات لخمس عشرة نتيجة ممكنة لمبادرات نيكسون الدبلوماسية. هل سيوافق ماو تسي تونج على لقاء نيكسون؟ هل ستعترف الولايات المتحدة بالصين دبلوماسيًّا؟ بعد عقود من العداوة، هل تستطيع الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الاتفاق على أي شيء ذي بالٍ؟
بعد عودة نيكسون من رحلاته، طلب فيسكوف وروث من المشاركين أنفسهم تذكُّر الاحتمالية التي وضعوها قبلًا لكلٍّ من النتائج الخمس عشرة الممكنة. كانت النتائج جلية. إذا كان ثمة حادث وقع حقيقةً، فكان المشاركون يبالغون في حجم الاحتمالية التي كانوا قد وضعوها قبلًا، وإذا لم يقع أحد الأحداث المحتملة، فكان المشاركون يتذكرون بصورة خاطئة أنهم كانوا يعتبرون أن هذا الحدث لم يكن أبدًا محتملًا. أثبتت التجارب اللاحقة أن المشاركين كانوا مدفوعين بالمبالغة في التعبير عن الدقة، ليس فقط دقة توقعاتهم الأصلية، بل توقعات الآخرين أيضًا. أظهرت نتائج مشابهة بالنسبة إلى الأحداث الأخرى التي أثارت انتباه الناس؛ مثل محاكمة أو جيه سيمبسون لاتهامه بالقتل وسحب الثقة من الرئيس بيل كلينتون. يفضي الميل إلى مراجعة سجل المعتقدات في ضوء ما حدث بالفعل إلى وهم إدراكي قوي.
يؤثر انحياز الإدراك المتأخر تأثيرًا سلبيًّا على عمليات تقييم متخذي القرار. فهو يُفضي بالملاحظين إلى تقييم نوعية أحد القرارات، لا من خلال كون عملية اتخاذ القرار صائبة أم خاطئة، بل من خلال كون نتيجة القرار جيدة أم سيئة. خذ على سبيل المثال عملية تدخل جراحي منخفضة المخاطرة تقع فيها حادثة غير متوقعة تتسبب في موت المريض. ستميل هيئة المحلفين إلى الاعتقاد — بعد وقوع الحادث — بأن العملية كانت تنطوي في حقيقة الأمر على مخاطرة مرتفعة، وأن الطبيب الذي أمر بإجرائها كان يجب أن يكون أكثر حيطة. يجعل الانحياز للنتيجة هذا من المستحيل بمكان تقييم أحد القرارات بصورة مناسبة — في إطار المعتقدات التي كانت تتسم بالعقلانية عندما اتُّخذ القرار.
لا يُعتبر الإدراك المتأخر رءوفًا بمتخذي القرارات نيابة عن الآخرين؛ مثل الأطباء، والمستشارين الماليين، ومدربي القاعدة الثالثة في لعبة البيسبول، ورؤساء مجالس الإدارات، والأخصائيين الاجتماعيين، والدبلوماسيين، والساسة. فنحن نميل إلى إلقاء اللوم على صانعي القرار بالنسبة إلى القرارات الجيدة التي أفضت إلى نتائج سيئة، ولا ندين لهم إلا بأقل قدر من الفضل عند اتخاذ إجراءات صحيحة لا تبدو واضحة إلا بعد تحققها. إن «الانحياز للنتيجة» واضح للغاية هنا؛ فعندما تكون النتائج سيئة، يلقي العملاء باللائمة عادةً على وكلائهم لعدم قدرتهم على التنبؤ بالأحداث، ناسين أنها كانت غير واضحة في حينها وصارت كذلك فقط بعدها. قد تتَّسم الأفعال التي بدت رزينة قبل وقوع الحدث بالتقاعس غير المسئول من خلال الإدراك المتأخر. بناءً على قضية قانونية واقعية، سُئل عدد من الطلاب في كاليفورنيا عما إذا كان يجب على مدينة دولوث، مينيسوتا، تحمل التكلفة الهائلة لتعيين أحد مراقبي الجسور بدوام كامل لدرء مخاطر تراكم المخلفات؛ ما يفضي إلى منع سريان المياه. عُرض على إحدى المجموعات الدلائل المتوفرة فقط في وقت اتخاذ قرار مجلس المدينة: شعر ٢٤٪ من هؤلاء المشاركين بوجوب تحمل مدينة دولوث تكلفة تعيين أحد مراقبي مستويات تدفق المياه. قيل للمجموعة الثانية إن المخلفات أدت إلى إغلاق مجرى النهر، ما تسبب في ضرر كبير جراء فيضان المياه. قال ٥٦٪ من هؤلاء المشاركين إن مجلس المدينة كان يتوجَّب عليه تعيين أحد المراقبين، على الرغم من التنبيه عليهم بشكل مباشر بألا يدعوا الإدراك المتأخر يؤثر على أحكامهم.
كلما كانت النتيجة أسوأ، كان انحياز الإدراك المتأخر أكبر. في حالات الكوارث — مثل هجمات الحادي عشر من سبتمبر — كُنَّا مستعدين بوجه خاصٍّ للاعتقاد بأن المسئولين الذين فشلوا في توقع الأحداث كانوا مقصرين أو عميانًا لم يتبيَّنوا ما كان جليًّا. في ١٠ يوليو ٢٠٠١، حصلت وكالة الاستخبارات المركزية على معلومات مفادها أن تنظيم القاعدة ربما كان يخطط لتنفيذ هجوم كبير ضد الولايات المتحدة. قدَّم جورج تينيت — مدير وكالة الاستخبارات — هذه المعلومات ليس إلى الرئيس جورج دبليو بوش بل إلى كوندليزا رايس — مستشارة الأمن القومي. عندما ظهرت الحقائق تدريجيًّا لاحقًا، أعلن بين برادلي — المحرر التنفيذي الأسطوري لصحيفة «واشنطن بوست» — قائلًا: «يبدو لي من الأمور الأساسية أنك إذا توفرت لديك القصة التي ستتصدر المشهد التاريخي، فيتوجب عليك التوجه إلى الرئيس مباشرةً.» في المقابل، يوم ١٠ يوليو، لم يكن أحد يعرف — أو لم يكن يستطيع أن يعرف — أن هذه المعلومة الاستخبارية الصغيرة كانت ستتصدَّر المشهد التاريخي.
نظرًا لصعوبة انتقاد الالتزام بإجراءات التشغيل القياسية من خلال الإدراك المتأخر، يتجه متخذو القرار الذين يتوقعون انتقاد قراراتهم من خلال الإدراك المتأخر إلى الحلول البيروقراطية، وإلى مقاومة شديدة لاتخاذ خطوات تنطوي على مخاطرة. مع تزايد عدد قضايا سوء الممارسة، غيَّر الأطباء من إجراءات ممارسة مهامهم بطرق عديدة؛ فعلى سبيل المثال؛ أمر الأطباء بإجراء المزيد من الاختبارات، وأحالوا عددًا أكبر من الحالات إلى المتخصصين، وطبَّقوا الوسائل العلاجية التقليدية حتى لو لم يكن من المحتمل أن تساهم في تحقيق نتائج حقيقية. ساهمت هذه الإجراءات في حماية الأطباء أكثر من تحقيق فائدة للمرضى؛ وهو ما أفضى إلى تعارض مصالح محتمل. إن زيادة القابلية للمحاسبة ليست شرًّا مطلقًا أو خيرًا مطلقًا.
على الرغم من أن الإدراك المتأخر والانحياز للنتيجة يدعمان بصورة عامة تجنُّب المخاطرة، فإنهما يعودان بفوائد على الساعين إلى المخاطر المتهوِّرين، مثل جنرال في الجيش أو رائد أعمال ممن اتخذ خطوة ذات مخاطر كبرى ونجح. لا يُعاقَب القادة المحظوظون أبدًا لاتخاذهم خطوات تنطوي على مخاطرة مرتفعة. بدلًا من ذلك، يُعتقد أن هؤلاء يمتلكون الحدس والتبصر الكافيين لتوقع النجاح، بينما يُنظر إلى العقلانيين الذين شككوا في أفعال هؤلاء بعد نجاح المخاطرة باعتبارهم محدودي الكفاءة، ولا يتسمون بالجرأة، وضعفاء. ربما تتوِّج بعضُ الخطوات الموفقة التي تنطوي على مخاطرة كبيرة قائدًا متهورًا بهالة من القدرة على استباق الأحداث والجرأة.
وصفات النجاح
تجعلنا آلية عقلنة الأمور الخاصة بالنظام ١ نرى العالم باعتباره أكثر تنظيمًا، وبساطة، وتماسكًا أكثر مما هو حقيقةً. يغذي الوهم بأن المرء فهم الماضي وهمًا آخر بأن المرء يستطيع التنبؤ بالمستقبل والتحكم فيه. تُعتبر مثل هذه الأوهام مريحة؛ فهي تقلل من الشعور بالقلق الذي نمر به إذا أفسحنا المجال لأنفسنا أن نقرَّ بالكامل بحالات عدم اليقين في الوجود. نحتاج جميعًا إلى الرسالة المطمئنة بأن أفعالنا يترتب عليها آثار ملائمة، وأن النجاح سيكون عائد الحكمة والشجاعة. توضع كثير من كتب التجارة والأعمال خصِّيصَى لإشباع هذه الحاجة.
هل يؤثر القادة والممارسات الإدارية على نتائج الشركات في السوق؟ بالطبع نعم، ولقد جرى تأكيد الآثار المترتبة من خلال البحث المنهجي الذي قيَّم بصورة موضوعية خصائص رؤساء مجالس إدارة الشركات وقراراتهم، وعقدت علاقة بينها وبين النتائج اللاحقة للشركة. في إحدى الدراسات، جرى وصف رؤساء مجالس الإدارات من خلال استراتيجية الشركات التي كانوا يرأسونها قبل تعيينهم في مناصبهم الحالية، فضلًا عن القواعد والإجراءات الإدارية المُتبناة بعد تعيينهم في مناصبهم. بينما يؤثر رؤساء مجالس الإدارات على الأداء، تعتبر الآثار المترتبة على قراراتهم وممارساتهم أقل كثيرًا مما تشير إليه كتب التجارة والأعمال.
هب أنك تنظر في أزواج عديدة من الشركات. بينما تتشابه الشركتان في كل زوج من الأزواج بصورة عامة، يُعتبر رئيس مجلس الإدارة في إحداها أفضل من نظيره في الشركة الأخرى. كم مرة ستجد أن الشركة التي يرأسها رئيس مجلس إدارة أفضل أكثر نجاحًا من الشركة الأخرى؟
في عالم منظَّم جيدًا وقابل للتوقع، سيكون معامل الترابط مثاليًّا (أي قدره ١)، وسيُرى أن رئيس مجلس الإدارة الأفضل سيرأس الشركة الأكثر نجاحًا في ١٠٠٪ من الشركات. إذا كان النجاح النسبي للشركات المتشابهة يجري تحديده بصورة كاملة من خلال عوامل لا يتحكم بها رئيس مجلس الإدارة (سمِّها حظًّا، إذا كنت ترغب في ذلك)، فستجد أن رئيس مجلس الإدارة الأقل كفاءة يرأس ٥٠٪ من الشركات الأكثر نجاحًا. يشير معامل الترابط الذي تبلغ قيمته ٠٫٣٠ إلى أن رئيس مجلس الإدارة الأفضل يرأس الشركة الأقوى في حوالي ٦٠٪ من الشركات، وهو تحسُّن يبلغ ١٠٪ فقط مما يجاوز التخمين العشوائي، ما لا يغذي التأليه البطولي لرؤساء مجالس الشركات مثلما نرى كثيرًا.
إذا توقعت أن تكون هذه القيمة أعلى — وهو ما يتوقعه معظمنا — فيجب أن تأخذ ذلك باعتباره إشارة إلى أنك تميل أكثر للمبالغة في درجة قابلية توقُّع العالم الذي تعيش فيه. في المقابل، لا تخطئ في وضع الأمور في نصابها. يُعتبر تحسين فرص النجاح من نسبة ١ : ١ إلى ٣ : ٢ ميزة كبرى، سواءٌ في مضمار السباق أو في مجال الأعمال. لكن من منظور معظم الكتَّاب المتخصصين في مجال التجارة والأعمال، لا يعتبر رئيس مجلس الإدارة الذي لا يتحكم كثيرًا في الأداء مبهرًا حتى لو كان أداء شركته جيدًا. فمن الصعوبة بمكان تصوُّر أشخاص يصطفون صفوفًا في مكتبات المطارات لشراء كتاب يصف في حماسة بالغة ممارسات قادة الأعمال الذين — في المتوسط — لا يتجاوز أداؤهم في كفاءته ما تفعله المصادفة. يتوق المستهلكون كثيرًا إلى رسالة واضحة حول عوامل النجاح والفشل في مجال الأعمال، ويحتاجون إلى قصص تقدِّم لهم شعورًا بالفهم، مهما كان هذا الفهم وهميًّا.
في كتابه الرائع «تأثير الهالة»، يشير فيليب روزنتسفايج — أستاذ بكلية تجارة في سويسرا — إلى طريقة تلبية الطلب على اليقين الوهمي من خلال نوعين منتشرين من كتب التجارة والأعمال، ألا وهما كتب تاريخ الصعود (عادةً) والسقوط (أحيانًا) لأفراد وشركات محددة، وكتب تحليل الاختلافات بين الشركات الناجحة والأقل نجاحًا. يختتم روزنتسفايج عرضه مشيرًا إلى أن قصص النجاح والفشل تبالغ بصورة واضحة في أثر أسلوب القيادة والممارسات الإدارية على نتائج الشركات؛ ومن ثم لا تعتبر الرسائل المستخلصة من هذه القصص مفيدة إلا نادرًا.
حتى يتسنَّى وضع الأمور في نصابها، تخيَّل أن خبراء التجارة والأعمال، مثل رؤساء مجالس الإدارات الآخرين، طُلب منهم التعليق على سمعة رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات. يعرف هؤلاء جيدًا ما إذا كانت الشركة تؤدي أداءً في اتجاه صاعد أم هابط مؤخرًا. مثلما رأينا سابقًا في حالة جوجل، تفضي هذه المعرفة إلى تأثير الهالة. من المحتمل أن يُطلَق على رئيس مجلس إدارة شركة ناجحة أوصاف مثل: مرن، ومنهجي، وحاسم. تخيَّل مرور عام تحولت الأمور فيه إلى الأسوأ. سيوصف رئيس مجلس الإدارة نفسه — وفق الأوضاع الحالية — باعتباره مرتبكًا، وغير مرن، وسلطويًّا. تبدو مجموعتا الأوصاف مناسبة كلٌّ في حينه. فيبدو عبثيًّا وصف قائد ناجح بأنه غير مرن ومرتبك، وقائد يصارع من أجل البقاء بالمرونة والمنهجية.
في حقيقة الأمر، يُعتبر تأثير الهالة قويًّا لدرجة تجد نفسك عنده تقاوم فكرة أن الشخص نفسه والسلوكيات نفسها تبدو منهجية عندما تسير الأمور على ما يرام، وغير مرنة عندما لا تسير الأمور على ما يرام. بسبب تأثير الهالة، نفهم العلاقة السببية بطريقة عكسية: فنميل إلى الاعتقاد بأن الشركة تُبلي بلاءً غير طيب نظرًا لأن رئيس مجلس إدارتها غير مرن، بينما يبدو رئيس مجلس الإدارة غير مرن في حقيقة الأمر نظرًا لأن الشركة تمضي إلى الأسوأ. هكذا تُولَّد أوهام الفهم.
يجتمع تأثير الهالة والانحياز للنتيجة معًا لتفسير الجاذبية الاستثنائية للكتب التي تسعى إلى استخلاص دروس عملية من الدراسة المنهجية للشركات الناجحة. من أبرز الأمثلة على هذا النوع من الكتب كتاب «شركات أنشئت لتبقى» لجيم كولينز وجيري آي بوراس. يتضمن الكتاب تحليلًا عميقًا لثمانية عشر زوجًا من الشركات المتنافسة، التي تكون إحدى الشركات في كل زوج أكثر نجاحًا من الشركة الأخرى. تتمثَّل بيانات هذه المقارنات في عمليات تقييم للأوجه المتنوعة للثقافة المؤسسية، والاستراتيجية، والممارسات الإدارية. يشير المؤلفان قائلَيْن: «نعتقد أن على كل رئيس مجلس إدارة، ومدير، ورائد أعمال، قراءةَ هذا الكتاب. فتستطيع بناء شركة ذات استراتيجية بعيدة النظر.»
تتمثل الرسالة الأساسية لهذا الكتاب والكتب الأخرى المشابهة في أن الممارسات الإدارية الجيدة يمكن تحديدها، وأن الممارسات الجيدة ستُفضي إلى نتائج جيدة. توجد مبالغة في كلتا الرسالتين. تُعتبر المقارنة بين الشركات التي كانت ناجحة بصورة أو بأخرى إلى درجة كبيرة مقارنة بين شركات كانت بصورة أو بأخرى شركات محظوظة. بمعرفة أهمية الحظ، يجب أن تتشكك عندما تبرز أنماط متكررة بصورة كبيرة عند مقارنة الشركات الناجحة والأقل نجاحًا. وفي ظل العشوائية، لا تعتبر الأنماط المتكررة سوى سراب.
نظرًا لأن الحظ يلعب دورًا كبيرًا، لا يمكن استنباط كفاءة القيادة وجودة الممارسات الإدارية بصورة موثوق فيها من خلال رصد حالات النجاح. وحتى في حال توفر معرفة سابقة كاملة بأن أحد رؤساء مجالس الإدارات يتمتع برؤية رائعة وكفاءة استثنائية، لن تكون قادرًا على التنبؤ بأداء الشركة بدرجة دقة أكثر من دقة توقع سقوط العملة على أحد وجهيها. في المتوسط، تتقلَّص الفجوة في ربحية الشركات والعوائد على الأسهم بين الشركات فائقة النجاح والشركات الأقل نجاحًا التي جرى دراستها في كتاب «شركات أنشئت لتبقى» إلى لا شيء تقريبًا في الفترة التي تلت الدراسة؛ فقد انخفض متوسط ربحية الشركات المشار إليها في كتاب «البحث عن التميز» الشهير بشدة في غضون فترة قصيرة. ووجدت دراسة لمجلة «فورتشن» ضمن تصنيف «أكثر الشركات إثارة للإعجاب» أنه — خلال فترة تتجاوز عشرين عامًا — حققت الشركات ذات التصنيف الأسوأ عوائد أعلى من أسهمها من أكثر الشركات إثارة للإعجاب.
ربما يغريك التفكير في تفسيرات سببية لهذه الملاحظات؛ فربما صارت الشركات الناجحة أكثر رضاءً عن أدائها ولم تسعَ لتطوير أدائها، فيما حاولت الشركات الأقل نجاحًا تطوير أدائها بصورة أكثر جدية. لكن هذه طريقة خاطئة للتفكير بشأن ما حدث. يجب أن يتقلَّص متوسط الفجوة؛ نظرًا لأن الفجوة الأصلية كانت ترجع في جانب كبير منها إلى الحظ، وهو ما أسهم في تفسير نجاح أفضل الشركات وفي الأداء المتخاذل للشركات الأخرى. صادفنا بالفعل هذه الحقيقة الإحصائية في الحياة من قبل؛ ألا وهي الارتداد إلى المتوسط.
تمس قصص صعود وسقوط الشركات وترًا لدى القراء من خلال تقديم ما يحتاج إليه العقل البشري؛ ألا وهو رسالة بسيطة للنجاح أو الفشل تحدِّد أسبابًا واضحة وتتجاهل القوة الحتمية للحظ وحتمية الارتداد إلى المتوسط. تُفضي هذه القصص إلى — وتُبقي على — وهم الفهم، باعثة برسائل لا تستمر قيمتها طويلًا إلى قرَّاء تواقين إلى تصديقها أكثر مما ينبغي.
في الحديث عن الإدراك المتأخر
«يبدو الخطأ واضحًا، لكن الأمر لا يعدو كونه إدراكًا متأخرًا. فلم تكن لتعرف بالأمر سلفًا.»
«لعله يستخلص دروسًا أكثر مما ينبغي من قصة النجاح هذه، التي تعتبر مثالية أكثر مما ينبغي. لقد سقط في شَرَك مغالطة سردية.»
«لا تملك دليلًا على القول إن الشركة تُدار بصورة سيئة، إن كل ما تعرفه هو أن أسعار أسهمها انخفضت، وهذا الرأي نتيجة للانحياز، فجزء منه يرجع إلى الإدراك المتأخر وجزء آخر إلى تأثير الهالة.»
«دعنا لا نقع في شرك الانحياز للنتيجة. كان ذلك قرارًا غبيًّا على الرغم من تحقيق نتائج طيبة.»