محرك الرأسمالية
تعتبر مغالطة التخطيط واحدة فقط ضمن آثار الانحياز التفاؤلي المنتشر بشكل كبير. ينظر معظمنا إلى العالم باعتباره أكثر رفقًا مما هو حقيقةً، وإلى صفاتنا باعتبارها أكثر إيجابية مما هي في واقع الأمر، وإلى المقاصد التي نضعها باعتبارها أكثر قابلية للتحقيق مما هي على الأرجح. نميل أيضًا إلى المبالغة في قدرتنا على توقع المستقبل، الذي يدعم الثقة المفرطة متفائلة الطابع. بالنظر إلى تأثيره على القرارات، ربما يعتبر الانحياز التفاؤلي أكثر الانحيازات الإدراكية أهمية، ونظرًا لأن هذا الانحياز يمكن أن يكون نعمة ونقمة معًا، يجب أن ينتاب المرء شعور بالسعادة والحذر معًا إذا كان بطبعه متفائلًا.
المتفائلون
التفاؤل أمر طبيعي، لكن بعض الأشخاص المحظوظين يكونون أكثر تفاؤلًا من بقيتنا. إذا كنت تنعم جينيًّا بانحياز تفاؤلي، فلن تحتاج إلى أن يُقال لك إنك شخص محظوظ؛ إذ تشعر بالفعل بأنك محظوظ. تجري وراثة الشعور بالتفاؤل بصورة كبيرة، وهو جزء من ميل عام للسعادة، التي قد تتضمَّن أيضًا تفضيلًا لرؤية الجانب المشرق في كل شيء. إذا سُمح لك بالتعبير عن أمنية واحدة لطفلك، ففكِّر جديًّا في أن تتمنى أن يكون طفلك من المتفائلين. يتسم الأشخاص المتفائلون عادةً بانشراح الصدر والسعادة؛ ومن ثم يتمتعون بشعبية. فيتميز هؤلاء بالمرونة في التكيف مع حالات الفشل والمصاعب، وتنخفض فرص إصابتهم بالاكتئاب الإكلينيكي، ويتميز جهازهم المناعي بقوة أكثر، ويهتمون أكثر بصحتهم، ويشعرون بالصحة أكثر من غيرهم، بل على الأرجح يعيشون حياة أطول. أظهرت دراسة حول الأشخاص الذين يبالغون في توقعات عمرهم فيما يتجاوز التوقعات الإحصائية أن هؤلاء يعملون عدد ساعات أطول، ويتميَّزون بالتفاؤل أكثر حيال دخلهم المستقبلي، ويتزوجون على الأرجح مرة أخرى بعد طلاقهم (تحقيقًا لمقولة «انتصار الأمل على التجربة» الكلاسيكية)، ويتميزون بميل أكثر للمخاطرة بشراء أسهم فردية. بالطبع، تتوفر الجوانب المضيئة للتفاؤل فقط للأشخاص الذين يتميزون بانحياز طفيف فقط، والذين يستطيعون «التأكيد على الجانب الإيجابي» دون فقدان الاتصال بالواقع.
يلعب الأشخاص المتفائلون دورًا في تشكيل حياتهم لا يتناسب أبدًا مع قدراتهم. تصنع قرارات هؤلاء فرقًا؛ فهم يمثِّلون المخترعين، ورواد الأعمال، والقادة السياسيين والعسكريين، لا الأشخاص العاديين. بلغ هؤلاء الأشخاص مكانتهم الحالية من خلال مواجهة التحديات والمخاطرة. وهم يتميزون بالموهبة ويتمتعون بالحظ، فهم بالتأكيد أكثر حظًّا مما يقرون به. وهم ربما يتميزون بالتفاؤل بطبعهم. خلصت دراسة لمؤسسي عدد من الشركات الصغيرة بأن رواد الأعمال أكثر تفاؤلًا من مديري الإدارة الوسطى حيال الحياة بصورة عامة. دعَّمت تجارب نجاح هؤلاء إيمانهم بأحكامهم وبقدرتهم على السيطرة على مجريات الأحداث. تترسَّخ ثقتهم الذاتية من خلال إعجاب الآخرين بهم. تفضي طريقة التفكير هذه إلى فرضية: يميل الأشخاص الذي يؤثرون أكبر الأثر على حياة الآخرين إلى التفاؤل والثقة المفرطة، وإلى المخاطرة أكثر مما يمكن تحقيقه.
•••
تشير الدلائل إلى أن الانحياز التفاؤلي يلعب دورًا — مهيمنًا في بعض الأحيان — متى يخاطر الأفراد أو المؤسسات مخاطرات كبيرة طوعًا. في كثير من الأحيان، يقلل الأشخاص الذين يخاطرون من حجم التحديات التي يواجهونها، ولا يبذلون جهدًا كافيًا في معرفة هذه التحديات. ونظرًا لأنهم يسيئون قراءة المخاطر، يعتقد رواد الأعمال المتفائلون بأنهم يتمتعون بالحصافة، حتى لو لم يكونوا كذلك. تدعم ثقتهم في نجاحهم المستقبلي التمتع بمزاج إيجابي يسهم في حصولهم على موارد من الآخرين، ويرفع الروح المعنوية لموظفيهم، ويزيد من فرص نجاحهم. عند الحاجة إلى القيام بعمل ما، ربما يكون التفاؤل — وإن كان من النوع الذي ينطوي على أوهام طفيفة — أمرًا طيبًا.
أوهام رواد الأعمال
تبلغ نسبة استمرار شركة صغيرة في ممارسة نشاطها مدة خمس سنوات في الولايات المتحدة حوالي ٣٥٪. في المقابل، لا يعتقد الأشخاص الذين يؤسسون هذه الشركات أن هذا الرقم الإحصائي ينطبق عليهم. وجد أحد الاستطلاعات أن رواد الأعمال الأمريكيين يميلون إلى الاعتقاد بأنهم على الجانب الواعد من الأعمال. بلغ متوسط تقديرهم لفرص نجاح «أي شركة كشركتهم» ٦٠٪، وهو ما يبلغ ضعف القيمة الحقيقية تقريبًا. كان الانحياز أوضح كثيرًا عندما قيَّم الأشخاص فرص نجاح شركاتهم الخاصة. وضعت نسبة ٨١٪ من رواد الأعمال فرص نجاحهم عند مستوى ٧ من عشرة أو أكثر، في حين حدد ٣٣٪ من المستطلعين نسبة فشلهم عند مستوى صفر.
ليس اتجاه الانحياز مثيرًا للدهشة؛ فإذا أجريت مقابلة مع أحد الأشخاص الذي افتتح مطعمًا إيطاليًّا مؤخرًا، لن تتوقع منه تقليل تقديره لفرص نجاحه أو أن ينظر إلى قدرته كصاحب مطعم نظرة سلبية. في المقابل، يجب أن تتساءل: هل كان ذلك الشخص سيظل مصرًّا على استثمار المال والوقت حال بذله جهدًا معقولًا في معرفة فرص النجاح، أو إذا كان يعرف فرص النجاح (تغلق ٦٠٪ من المطاعم الجديدة أبوابها بعد ثلاث سنوات من افتتاحها)؟ فهل كان سيوليها انتباهًا؟ ربما لم تبدر فكرة تبنِّي الرؤية الخارجية إلى ذهنه.
أفضت الأخبار المحبطة بنصف المخترعين إلى الانصراف كليةً عن الابتكار بعد تلقي درجة توقعت بصورة لا لبس فيها فشل أفكارهم. في المقابل، واصل ٤٧٪ فقط من المخترعين جهودهم في التطوير حتى بعد أن قيل لهم إن ابتكاراتهم لا رجاء منها، وفي المتوسط ضاعف هؤلاء الأشخاص المثابرون (أو العنيدون) من خسائرهم الأولى قبل أن يستسلموا. من اللافت بشدة، أن كانت المثابرة بعد نتيجة محبطة شائعة نسبيًّا بين المخترعين الذين حققوا نتيجة مرتفعة في مقياس الشخصية للتفاؤل، وهو المقياس الذي يسجِّل المخترعون فيه بصورة عامة نتيجة أعلى من نتيجة عموم الأشخاص. إجمالًا، كان العائد على الابتكارات الخاصة ضئيلًا، «أقل من العائد على الأسهم الخاصة وعلى السندات عالية المخاطر.» بصورة أكثر عمومية، تعتبر الفوائد المالية من التوظيف الذاتي متوسطة. فبالنظر إلى المؤهلات نفسها، يحقق الأشخاص متوسط عوائد أعلى من خلال بيع مهاراتهم لأرباب الأعمال من استخدامها في بدء مشاريع خاصة. تشير الدلائل المتوفرة إلى أن التفاؤل يتميز بالانتشار، والمثابرة الشديدة، والتكلُفة الكبيرة.
أكَّد علماء النفس أن معظم الأشخاص يعتقدون حقيقة أنهم أفضل كثيرًا من الآخرين فيما يتعلق بالسمات الإيجابية؛ فهم لا يمانعون في المخاطرة باستثمارات محدودة لإثبات هذه المعتقدات معمليًّا. في السوق — بالطبع — يترتب على الاعتقادات بتفوق المرء على الآخرين نتائج هائلة. يجازف قادة الشركات الكبرى في بعض الأحيان مجازفات هائلة في تنفيذ عمليات دمج واستحواذ كبيرة، معتمدين على الاعتقاد الخاطئ أنهم يستطيعون إدارة أصول شركة أخرى أفضل من ملَّاكها الحاليين. تستجيب سوق الأسهم عادةً لذلك من خلال تخفيض قيمة الشركة المستحوذة؛ نظرًا لأن الخبرة أظهرت أن جهود دمج الشركات الكبيرة تفشل أكثر مما تنجح. جرى تفسير عمليات الاستحواذ غير الرشيدة من خلال «فرضية التكبر»، المتمثلة في أن المسئولين التنفيذيين للشركة المستحوذة أقل كفاءة مما يعتقدون.
حدَّد عالما الاقتصاد أولريك مالمندير وجيوفري تيت رؤساء مجالس الإدارة المتفائلين من خلال حجم أسهم الشركة التي امتلكوها شخصيًّا، ولاحظا أن القادة المتفائلين بشدة يخاطرون مخاطرة مفرطة. كان رؤساء مجالس الإدارات هؤلاء يتحملون الديون بدلًا من طرح الأسهم للبيع، وكانوا أكثر ميلًا من غيرهم «للمبالغة في قيمة الشركات المُبتغى شراؤها، ويقررون عمليات دمج تؤثر تأثيرًا بالغًا على قيمة أسهم شركاتهم.» بصورة لافتة، كانت أسهم الشركة المستحوذة تتأثر أكثر في عمليات الدمج إذا كان رؤساء مجالس الإدارات مغالين في تفاؤلهم وفق مقياس الباحثين. من الواضح أن سوق الأسهم يمكنه تحديد رؤساء مجالس الإدارات أصحاب الثقة المفرطة. تبرئ هذه النتيجة ساحة رؤساء مجالس الإدارات من إحدى التهم، فيما تشير إليهم بأصابع الاتهام في تهمة أخرى. لا يجازف قادة الشركات الذين يتخذون قرارات استثمارية تنطوي على مخاطر هائلة لأنهم يجازفون بأموال الآخرين. على العكس، يجازف هؤلاء بشكل أكبر عندما تنطوي المخاطرة على مجازفة شخصية. يتضاعف الضرر الذي تسببت الثقة المفرطة لرؤساء مجالس الإدارة فيه عندما تنظر الصحافة إليهم باعتبارهم مشاهير: تشير الدلائل إلى أن الجوائز الصحفية المرموقة لرؤساء مجالس الإدارة تؤدي لتحقيق الشركة لخسائر مما يقع على عاتق حملة الأسهم. كتب الباحثان قائلين: «وجدنا أن الشركات التي حصل رؤساء مجالس إداراتها على جوائز صحفية تبلي بلاءً أقل من المتوقع فيما بعد، بالنظر إلى أداء الأسهم أو العمليات الإجرائية. في الوقت نفسه، تزداد مكافآت رؤساء مجالس الإدارات، ويقضون وقتًا أكبر في مزاولة أنشطة خارج مجال عمل الشركة مثل تأليف الكتب والاشتراك في عضوية مجالس إدارات شركات أخرى، بل ويزيد احتمال قيامهم بالتلاعب في تحديد قيمة الأرباح من أجل الحفاظ على صورته وصورة أسهم الشركة.»
•••
منذ سنوات كثيرة مضت، كنا — زوجتي وأنا — نقضي عطلة في جزيرة فانكوفر، نبحث عن مكان للإقامة فيه. وجدنا نزلًا صغيرًا جذابًا لكنه على طريق شبه مهجور في وسط إحدى الغابات. كان ملَّاك النزل زوجين شابين ساحرين، لم يكن ينقصهما سوى تشجيعهما قليلًا ليرويا قصتهما. كان الزوجان يعملان معلمين في مقاطعة ألبرتا، وقد قررا تغيير حياتهما، فاستعانا بمدخراتهما لشراء ذلك النزل، الذي كان قد جرى بناؤه قبل اثني عشر عامًا. أخبرنا الزوجان — في غير سخرية أو وعي بما يقولان — أنهما تمكَّنا من شراء النزل بسعر زهيد؛ «نظرًا لأن ستة أو سبعة مالكين قبلهما فشلوا في استغلاله.» أخبرنا الزوجان أيضًا عن خططهما في الاقتراض لجعل النزل أكثر جاذبية من خلال بناء مطعم إلى جواره. لم يشعر الزوجان بحاجة إلى تفسير السبب في إيمانهما بإمكانية نجاحهما فيما فشل فيه ستة أو سبعة أشخاص آخرون غيرهما. هناك خيط مشترك من الجرأة والتفاؤل يربط بين من يديرون الأعمال، من ملاك النزل الصغير إلى رؤساء مجالس الإدارات الكبار.
تسهم المخاطرة التي تتسم بالتفاؤل لرواد الأعمال — لا شك — في المرونة الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي، حتى إذا انتهى المطاف بمعظم من يخاطرون بخيبة الأمل. في المقابل، أشارت مارتا كويليو — الأستاذة بكلية لندن للاقتصاد — إلى موضوعات السياسة الشائكة التي تنشأ عندما يطلب أصحاب الشركات الصغيرة من الحكومة دعمهم في اتخاذ القرارات التي ربما تنتهي على الأرجح بصورة سيئة. هل يجب أن تقدِّم الحكومة قروضًا لرواد الأعمال المحتمَلين الذين ربما يفلسون جراء قراراتهم في غضون سنوات قليلة؟ يشعر الكثير من علماء الاقتصاد السلوكيين بالراحة حيال الإجراءات «الأبوية الليبرتارية» التي تسهم في مساعدة الأشخاص على زيادة مدخراتهم فيما يتجاوز مقدرتهم على الادخار بأنفسهم. لكن مسألة ما إذا كانت الحكومة ستدعم الشركات الصغيرة أم لا، وكيفية عمل ذلك، ليس لها إجابة مرضية بالمثل.
إهمال المنافسة
-
نركِّز على هدفنا، ونلتزم بتنفيذ خطتنا، ونهمل المعدلات الأساسية ذات الصلة، وهو ما يعرضنا لمغالطة التخطيط.
-
نركِّز على ما نرغب في عمله وما نستطيع عمله، متغاضين عن خطط ومهارات الآخرين.
-
في تفسيرنا للماضي وتوقعنا للمستقبل، نركِّز على الدور السببي للمهارة ونهمل دور الحظ؛ من ثم نميل إلى الوقوع في شرك «وهم السيطرة».
-
نركِّز على ما نعرف ونتغاضى عما لا نعرف، وهو ما يجعلنا نثق ثقة مفرطة في معتقداتنا.
يعتبر السؤال الأول سهلًا، وترد الإجابة عليه سريعًا؛ فيجيب معظم السائقين عليه بالإيجاب. يعتبر السؤال الثاني أكثر صعوبة، وتعتبر الإجابة عليه بصورة جدية وصحيحة شبه مستحيلة بالنسبة إلى معظم من يجري سؤالهم إياه؛ نظرًا لأن هذا السؤال يتطلب تقييمًا لمتوسط قدرة السائقين. مع بلوغنا هذه المرحلة من الكتاب، لا يُعد من قبيل المفاجأة أن يستجيب الأشخاص إلى سؤال صعب بالإجابة على سؤال أسهل. يقارن هؤلاء أنفسهم بالمتوسط دون حتى التفكير في المتوسط. يتمثَّل الدليل على التفسير الإدراكي لأثر الأفضلية الوهمية في أنه عندما يجري توجيه سؤال للأشخاص عن مهمة يجدونها صعبة (بالنسبة لكثير منا ربما يكون هذا السؤال: «هل تتجاوز المتوسط في بدء الحديث مع غرباء؟») يضع الأشخاص أنفسهم في مرتبة أقل من المتوسط. يترتب على كل ذلك أن الأشخاص يميلون إلى الشعور المفرط بالتفاؤل حيال وضعهم النسبي فيما يتعلق بأي نشاط يؤدونه على نحو جيد نسبيًّا.
مررت بمناسبات عديدة سمحت لي بتوجيه سؤال إلى مؤسسي عدد من الشركات الناشئة المبتكرة والمشاركين فيها؛ ألا وهو: إلى أي درجة ستعتمد نتيجة جهودك على ما تقوم به في شركتك؟ يعتبر هذا سؤالًا سهلًا بداهةً؛ فترد الإجابة عليه سريعًا، وفي العينة الصغيرة التي اتخذتُها لم تنخفض هذه النسبة عن ٨٠٪. حتى عندما كان المشاركون غير واثقين في نجاحهم، يعتقد هؤلاء الأشخاص الشجعان أنهم يتحكمون في مصائرهم بصورة شبه كاملة. يُخطئ هؤلاء تمامًا: يعتمد نجاح أي شركة ناشئة على إنجازات منافسيها وعلى التحولات في السوق قدر ما يعتمد على جهود الشركة نفسها. في المقابل، يؤدي مبدأ «ما تراه هو كل ما هناك» دوره، ويركِّز أصحاب الشركات عادةً على ما يعرفونه أكثر من أي شيء آخر؛ ألا وهو خططهم وأعمالهم والتهديدات والفرص الأكثر مباشرة، مثل توفر مصادر التمويل. لا يعرف هؤلاء الكثير عن منافسيهم، ومن ثم يجدون من الطبيعي تصوُّر مستقبل تلعب المنافسة فيه دورًا محدودًا.
التكبر. التكبر. إذا فكَّرت فقط في عملك الخاص، فستحدِّث نفسك قائلًا: «لديَّ قسم تأليف جيد، ولديَّ قسم تسويق جيد، فدعنا نفعل هذا.» ولا تفكِّر أبدًا في أن الجميع يفكِّرون بالطريقة ذاتها. في أي عطلة نهاية أسبوع في أي عام من الأعوام ستُعرض خمسة أفلام دفعة واحدة، وبالتأكيد لن يوجد ما يكفي من الناس لمشاهدتها.
بينما تشير هذه الإجابة الصريحة إلى التكبر، فإنها لا تعبِّر عن أي خيلاء، أو غرور التفوق على الشركات المنافسة. ليست المنافسة ببساطة جزءًا من القرار الذي يُستبدل سؤال أسهل مرة أخرى من خلاله بسؤال صعب. يتمثَّل السؤال الذي يتطلب إجابة في السؤال التالي: مع الأخذ في الاعتبار ما سيفعله الآخرون، كم عدد الأشخاص الذين سيشاهدون فيلمنا؟ يعتبر السؤال الذي طرحه مسئولو الشركة التنفيذيون أبسط، ويشير إلى المعرفة المتوفرة لهم غالبًا؛ ألا وهو: هل لدينا فيلم جيد ومؤسسة جيدة لتسويقه؟ ينشأ عن عمليات النظام ١ المألوفة لمبدأ «ما تراه هو كل ما هناك» وعملية الاستبدال إهمال المنافسة وأثر الأفضلية الوهمية. يترتب على إهمال المنافسة زيادة مفرطة في عدد المنافسين؛ إذ يدخل عدد أكبر من المنافسين مما يستطيع السوق تحقيق أرباح من ورائه، لذا سيكون الناتج هو خسارة الجميع. ورغم أن هذا الناتج مخيب بالنسبة للمنضمين الجدد إلى السوق، فإن الأثر على الاقتصاد ككل قد يكون إيجابيًّا. في حقيقة الأمر، يُطلِق جيوفاني دوزي ودان لوفالو على الشركات التي لا تستمر لكنها تفتح أسواقًا جديدة لمنافسين أكثر كفاءة «الشهداء المتفائلين»، وهو ما يمثِّل شيئًا طيبًا بالنسبة إلى الاقتصاد وغير طيب بالنسبة إلى المستثمرين.
الثقة المفرطة
لعدد من السنوات، أجرى الأساتذة في جامعة ديوك استطلاعًا قدَّر فيه رؤساء القطاعات المالية لعدد من الشركات الكبرى عوائد أسهم مؤشر ستاندرد آند بورز خلال العام التالي. جمع أساتذة جامعة ديوك ١١٦٠٠ تقدير وبحثوا دقتها. كانت النتيجة مباشرة؛ لم يكن لرؤساء القطاعات المالية في الشركات الكبرى أدنى فكرة عن مستقبل سوق الأسهم على المدى القصير. فبلغ معامل الترابط بين تقديرات هؤلاء والقيمة الحقيقية أقل قليلًا من الصفر! عندما قال رؤساء القطاعات المالية إن السوق في طريقها إلى الهبوط، كان هناك احتمال أكبر قليلًا أن السوق في طريقها إلى الصعود. ليست هذه النتائج مفاجأة. ولعل أسوأ ما في الأمر أن هؤلاء الأشخاص لم يبدُ أنهم يعرفون أن توقعاتهم كانت بلا قيمة.
بالإضافة إلى تقديراتهم حيال عوائد أسهم مؤشر ستاندرد آند بورز، وضع المشاركون قيمتين تقديريتين أخريين؛ ألا وهما: قيمة «كانوا متأكدين بنسبة ٩٠٪ أنها قيمة مرتفعة أكثر مما ينبغي»، وقيمة أخرى «كانوا متأكدين بنسبة ٩٠٪ أنها قيمة منخفضة أكثر مما ينبغي». يُطلَق على النطاق الواقع بين القيمتين «نطاق ٨٠٪ ثقة»، ويُطلَق على النتائج التي تقع خارج هذا النطاق «مفاجآت». يتوقع الشخص الذي يضع نطاقات ثقة في عدد من المناسبات أن تبلغ نسبة المفاجآت في النتائج ٢٠٪. مثلما يحدث كثيرًا في تمارين كتلك، هناك مفاجآت أكثر مما يمكن إحصاؤه. بلغت نسبة تحقق المفاجآت ٦٧٪، وهو ما يزيد ثلاث مرات عن المتوقع. يؤكد ذلك على ثقة رؤساء القطاعات المالية المفرطة حيال قدرتهم على توقع اتجاهات السوق. تعتبر «الثقة المفرطة» إحدى العواقب الأخرى لمبدأ «ما تراه هو كل ما هناك». فعندما نقدِّر قيمة كمية ما، نعتمد على المعلومات التي ترد إلى العقل ونبني قصة متماسكة يصبح للقيمة التقديرية الموضوعة معنى. لا يعتبر إفساح المجال أمام المعلومات التي لا ترد إلى العقل — ربما لأن المرء لم يعرفها قط — ممكنًا.
حسب الباحثان نطاقات الثقة التي كانت ستخفِّض من معدلات حدوث المفاجآت إلى نسبة ٢٠٪. كانت النتائج مدهشة. للحفاظ على معدل المفاجآت عند المستوى المرغوب، كان يجب على رؤساء القطاعات المالية أن يقولوا — عامًا بعد عام — «هناك فرصة بنسبة ٨٠٪ أن تقع عوائد أسهم مؤشر ستاندرد آند بورز في العام التالي بين نسبتَي −١٠٪ و+٣٠٪.» يبلغ نطاق الثقة الذي يعكس بصورة حقيقية معرفة رؤساء القطاعات المالية (أو بالأحرى، غطرستهم) أكثر من أربعة أضعاف النطاقات التي ذكروها.
يظهر علم النفس الاجتماعي في الصورة هنا؛ نظرًا لأن الإجابة التي يقدمها أحد رؤساء القطاعات المالية الأمناء ستكون إجابة مثيرة للسخرية؛ فرئيس القطاع المالي الذي يخبر زملاءه أن «ثمة فرصة طيبة أن تقع عوائد أسهم مؤشر ستاندرد آند بورز بين نسبتَي −١٠٪ و+٣٠٪»، يمكن أن يتوقع أن يُجبَر على مغادرة الغرفة مطرودًا وسط سخرية الجميع. يعتبر نطاق الثقة المتسع اعترافًا بالجهل، وهو ما لا يُعد مقبولًا اجتماعيًّا بالنسبة لمن يتلقى راتبًا نظير تقديره للأمور المالية. حتى في حال إدراكهم لضآلة ما يعرفون، سيجري عقاب المسئولين التنفيذيين لاعترافهم بذلك. كان الرئيس ترومان يبحث عن «اقتصادي صاحب قول واحد» له موقف واضح؛ إذ كان ترومان قد سئم وكَلَّ من الاقتصاديين الذين ما فتئوا يقولون بعد الانتهاء من الإدلاء بآرائهم: «على الجانب الآخر …»
على المؤسسات التي تعتمد على آراء الخبراء ممن يثقون ثقة مفرطة في أحكامهم توقع عواقب مكلفة. أظهرت دراسة رؤساء القطاعات المالية أن أولئك الذين كانوا أكثر ثقةً وتفاؤلًا حيال عوائد أسهم مؤشر ستاندرد آند بورز كانوا أيضًا يتمتعون بثقة مفرطة وبالتفاؤل حيال مستقبل أداء شركاتهم التي مضت تخاطر أكثر من الشركات الأخرى. مثلما أشار نسيم طالب، تؤدي عملية التقدير غير الملائمة لحالة عدم اليقين في البيئة حتمًا بالفاعلين الاقتصاديين إلى مخاطرات كان يجب تجنُّبها. في المقابل، يقدِّر التفاؤل تقديرًا مرتفعًا، اجتماعيًّا وسوقيًّا. فيكافئ الأشخاص والشركات من يقدمون معلومات مضللة بصورة خطيرة أكثر مما يكافئون من يقولون الحقيقة. يتمثَّل أحد الدروس المستفادة من الأزمة المالية التي أفضت إلى الركود العظيم في أن هناك فترات تخلق المنافسة فيها، بين الخبراء والمؤسسات، قوى قوية تفضِّل حالة من العماء الجماعي تجاه المخاطرة وعدم اليقين.
لا تقتصر الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي تفضِّل الثقة المفرطة على التوقعات المالية؛ إذ يجب على المهنيين الآخرين التعامل مع حقيقة أن الخبير الذي يستحق إطلاق هذا اللقب عليه من المتوقع أن تكون لديه ثقة مفرطة في أحكامه. أشار بيتر تيتلوك إلى أن الخبراء الذين يتمتعون أكثر من غيرهم بالثقة المفرطة كانوا أكثر من غيرهم ميلًا إلى استعراض خبراتهم عندما تتم دعوتهم في البرامج الإخبارية. يبدو أن الثقة المفرطة تنتشر في المجال الطبي أيضًا. قارنتْ دراسةٌ حول المرضى الذين توفوا في وحدات الرعاية المركَّزة نتائجَ التشريح مع التشخيصات التي قدمها الأطباء بينما كان المرضى لا يزالون أحياءً. عبَّر الأطباء أيضًا عن ثقتهم في تشخيصاتهم، وكانت النتيجة هي: «كان الأطباء الإكلينيكيون الذين كانوا «متأكدين تمامًا» من تشخيصاتهم قبل الوفاة مخطئين بنسبة ٤٠٪.» مرة أخرى، يشجع العملاء على الثقة المفرطة لدى الخبراء: «عمومًا، يعتبر من قبيل الضعف وعلامة على قلة الحيلة أن يبدو الإكلينيكيون غير واثقين. توضع الثقة في مرتبة أعلى من عدم اليقين، وهناك نقد عام سائد ضد التعبير عن عدم اليقين للمرضى.» ربما على الخبراء الذين يقرون بكامل جهلهم توقع إحلال منافسين أكثر ثقة منهم مكانهم، منافسين أكثر قدرة على اكتساب ثقة العملاء. بينما تعتبر عملية التقدير غير المنحازة لحالة عدم اليقين ركنًا أساسيًّا للعقلانية، لا يعتبر ذلك ما يريده الناس أو المؤسسات. تفضي حالة عدم اليقين الشديدة إلى حالة من الشلل في ظل ظروف خطيرة، كما يعتبر الإقرار بأن المرء لا يملك إلا التخمين غير مقبول بشكل خاص عندما يرتفع سقف المخاطرة. يعتبر التصرف بناءً على المعرفة المُدعاة حلًّا مفضلًا عادةً.
عندما تجتمع معًا، تمثِّل العوامل الشعورية، والإدراكية، والاجتماعية، التي تدعم التفاؤل المبالغ فيه مزيجًا مغيِّبًا، وهو ما يؤدي في بعض الأحيان إلى أن يخاطر الأشخاص فيما كانوا سيتجنبون تلك المخاطرات لو كانوا يعلمون فرص النجاح. لا يوجد أي دليل على أن من يخاطرون في المجال الاقتصادي تتوفر لديهم رغبة غير عادية في المخاطرة الشديدة؛ بل هم فقط أقل وعيًا بالمخاطر من الأشخاص الآخرين الأقل شجاعة. وقد صغنا — دان لوفالو وأنا — عبارة «توقعات جريئة وقرارات متواضعة» للإشارة إلى خلفية عملية المخاطرة.
•••
بينما تعتبر الآثار المترتبة على التفاؤل الكبير عند اتخاذ القرارات — في أفضل الأحوال — نقمة ونعمة في آنٍ واحد، لا شك في أن إسهام التفاؤل في التنفيذ الجيد يعتبر إيجابيًّا. تتمثل الفائدة الرئيسية للتفاؤل في الثبات في وجه العقبات. وفق مارتن سليجمان — مؤسس علم النفس الإيجابي — يؤدي «أسلوب التفسير التفاؤلي» إلى الثبات من خلال الدفاع عن الصورة الذاتية أمام الآخرين. جوهريًّا، ينطوي الأسلوب التفاؤلي على نَسْب الشخص النجاحات لنفسه وعدم تحمله إلا قليلًا من اللوم في حالات الفشل. يمكن تعليم هذا الأسلوب، على الأقل بدرجة ما، وقد وثَّق سليجمان الآثار المترتبة على التدرُّب على ممارسة مهن متنوعة تتميز بمعدلات فشل مرتفعة، مثل عمليات بيع بوليصات التأمين عبر التواصل العشوائي (وهي ممارسة كانت شائعة قبل ظهور الإنترنت). فعندما تغلق ربة منزل غاضبة الباب في وجه أحد مندوبي المبيعات، يغلُب التفكير في أن تلك «المرأة بغيضة للغاية» على الاعتقاد في «أنني مندوب مبيعات غير كفء». كنتُ — ولا أزال — أعتقد دومًا أن البحث العلمي يمثِّل مجالًا آخر يعتبر فيه توفر أحد أشكال التفاؤل أمرًا أساسيًّا لتحقيق النجاح. لم ألتقِ بعدُ عالمًا ناجحًا يفتقر إلى القدرة على المبالغة في أهمية ما يفعله، وأعتقد أن الشخص الذي يفتقر إلى إحساس مضلل بالأهمية سيصيبه الوهن في مواجهة تجارب متكررة من حالات الفشل الصغيرة المتعددة والنجاحات النادرة، وهو مصير معظم الباحثين.
أسلوب تشريح الوضع الاستباقي: علاج جزئي
هل يمكن التغلب على التفاؤل والثقة المفرطة من خلال التدريب؟ أنا لست متفائلًا. كانت هناك محاولات عديدة لتدريب الأشخاص على ذكر نطاقات الثقة التي تعكس عدم دقة أحكامهم، في ظل وجود حالات نجاح متواضع. يتمثَّل أحد الأمثلة الأكثر شيوعًا في هذا الشأن في أن الجيولوجيين في شركة رويال دَتش شل أصبحوا أقل ثقةً في تقييماتهم حول مواقع الحفر الممكنة بعد تلقيهم التدريب على حالات سابقة متعددة كانت نتيجتها معروفة. في حالات أخرى، كان يجري التخفيف من قدر الثقة المفرطة (وإن كان لا يجري القضاء عليها) عند تشجيع القضاة على النظر في الفرضيات المتنافسة. في المقابل، تعتبر الثقة المفرطة إحدى النتائج المترتبة المباشرة عن خصائص النظام ١ التي يمكن ترويضها، وإن كان لا يمكن القضاء عليها. تتمثل العقبة الرئيسية في أن الثقة الذاتية يحددها تماسك القصة التي جرى بناؤها، وليس نوعية وحجم المعلومات التي تدعمها.
ربما تكون المؤسسات أكثر قدرة على ترويض التفاؤل والأفراد من الأفراد أنفسهم. لعل أفضل فكرة اقترحها أحد للقيام بهذا وردت من جانب جاري كلاين، «زميلي اللدود» الذي يدافع بصورة عامة عن عملية اتخاذ القرار الحدسية إزاء الادعاءات بوجود انحيازات، ويعادي بشكل أساسي استخدام الصيغ الخوارزمية. يُطلِق كلاين على مقترحه تعبير «تشريح الوضع الاستباقي». الأسلوب بسيط؛ عندما توشك المؤسسة على اتخاذ قرار مهم لكنها لم تلزم نفسها به رسميًّا، يقترح كلاين عقد جلسة قصيرة بين مجموعة من الأفراد الذين يعرفون تفاصيل القرار معرفة جيدة. يتمثل جوهر الجلسة القصيرة في طرح قصير؛ ألا وهو: «تخيَّل أننا بعد عام من الآن، وقد نفَّذنا الخطة كما هي الآن، وكانت النتيجة كارثية. رجاءً اكتب في خمس إلى عشر دقائق وصفًا موجزًا لتلك النتيجة الكارثية.»
تثير فكرة جاري كلاين حول أسلوب تشريح الوضع الاستباقي عادةً حماسًا آنيًّا. بعد عرضي الفكرة في إحدى جلسات منتدى دافوس، همهم أحد الأشخاص خلفي قائلًا: «لقد استحق الأمر المجيء إلى دافوس من أجل هذه الفكرة فقط!» (لاحظت فيما بعد أن المتحدث كان رئيس مجلس إدارة شركة دولية كبرى.) تتوفر ميزتان في هذا الأسلوب: فهو يتغلب على عملية التفكير الجماعي التي تتأثر بها فرق كثيرة عندما يبدو أن قرارًا قد اتُّخذ، ويُطلِق هذا الأسلوب خيال الأفراد المطلعين في اتجاه مرغوب ومطلوب بشدة.
مع اقتراب أفراد إحدى الفرق من اتخاذ قرار ما — خاصةً عندما يكشف قائد الفريق عن القرار — يجري قمع الشكوك العامة حيال حكمة الخطوة المُخطط لها كما يجري التعامل معها باعتبارها دليلًا على الولاء المنتقص للفريق وقادته. تسهم عملية قمع الشكوك في بروز مشاعر الثقة المفرطة في الفريق الذي يبدو أن الداعمين للقرار المُتخذ فيه فقط لهم الصوت الأعلى. إن الميزة الأساسية لهذا الأسلوب هو أنه يعطي شرعية للشكوك. علاوةً على ذلك، فهو يشجع حتى داعمي القرار على البحث عن تهديدات محتملة لم يتم بحثها قبل ذلك. إن هذا الأسلوب ليس علاجًا شافيًا للثقة المفرطة، كما أنه لا يوفر إجراءات حماية كافية في مواجهة المفاجآت غير السارة، لكنه يعمل بدرجة كبيرة على تقليص الأضرار المترتبة على الخطط التي تخضع لانحيازات مبدأ «ما تراه هو كل ما هناك» والتفاؤل المطلق.
في الحديث عن التفاؤل
«لديهم وَهْم سيطرة؛ فهم يقللون بصورة كبيرة من حجم العقبات.»
«يبدو أنهم يعانون من حالة حادة من حالات إهمال المنافسة.»
«هذه إحدى حالات الثقة المفرطة. يبدو أنهم يصدقون أنهم يعرفون أكثر مما يعرفون حقيقةً.»
«يجب أن نعقد جلسة نستخدم فيها أسلوب تشريح الوضع الاستباقي. ربما يشير أحد إلى تهديد تجاهلناه.»