نظرية التوقع
عثرنا — أنا وعاموس — على الخلل الأساسي في نظرية برنولي من خلال مزيج محظوظ من المهارة والجهل؛ فبناء على اقتراح من عاموس، قرأت فصلًا في كتابه وصف فيه تجارب قام فيها علماء بارزون بقياس منفعة المال من خلال مطالبة الناس باتخاذ اختيارات تتعلق بمراهنات قد يفوز فيها المشارك أو يخسر بضعة بنسات. كان القائمون على التجربة يقيسون منفعة الثروة من خلال تعديل قيمة الثروة في حدود ما يقل عن دولار واحد، وكان هذا ما أثار التساؤلات: هل من المنطقي أن نفترض أن الناس يقيِّمون المراهنات عن طريق اختلافات بالغة الصغر في الثروة؟ كيف يمكن للفرد أن يتمنى التعرف على الفيزياء النفسية للثروة من خلال دراسة ردود الأفعال إزاء مكاسب وخسائر البنسات؟ لقد أشارت التطورات الأخيرة في النظرية النفسية الفيزيائية إلى أنك إذا أردت دراسة القيمة الذاتية للثروة، فعليك توجيه أسئلة مباشرة عن الثروة، وليس عن التغيرات في الثروة. ولم يكن لدي معرفة كافية بنظرية المنفعة لكي أكون معصوب العينين باحترامي لها، وانتابتني الحيرة.
حين التقيت وعاموس في اليوم التالي، أبلغته بما واجهته من صعوبات كفكرة غامضة، وليس كاكتشاف. توقعت منه أن يمنحني الحقائق ويشرح لي سبب منطقية التجربة التي حيرتني، ولكنه لم يفعل شيئًا من هذا؛ فقد كانت صلة علم النفس الفيزيائي بالأمر واضحة له بشكل مباشر. كان يتذكر أن عالم الاقتصاد هاري ماركويتز، الذي فاز فيما بعد بجائزة نوبل عن أعماله في الاقتصاد، كان قد قدم نظرية ارتبطت فيها المنافع بتغيرات الثروة وليس بحالات الثروة. ظلت فكرة ماركويتز موجودة لنحو ربع قرن دون أن تجذب الكثير من الانتباه، ولكننا سرعان ما خلصنا إلى أن هذا هو الاتجاه الذي علينا أن نسلكه، وأن النظرية التي كنا نخطط لتطويرها سوف تعرِّف النتائج باعتبارها مكاسب وخسائر وليس كحالات للثروة. وقد ساهم كلٌّ من معرفتنا بإدراك الأمر وجهلنا فيما يتعلق بنظرية القرار في اتخاذنا خطوة كبيرة إلى الأمام في بحثنا.
وسرعان ما أدركنا أننا قد تغلبنا على حالة خطيرة من العمى الناتج عن النظرية؛ لأن الفكرة التي كنا قد رفضناها لم تعد تبدو الآن خاطئة وحسب، بل وساذجة أيضًا. وأسعدنا أن ندرك أننا لم نكن قادرين على تقييم ثروتنا الحالية بصيغة عشرات الآلاف من الدولارات. وبدت فكرة اشتقاق توجهات إزاء التغيرات الصغيرة من منفعة الثروة حينها فكرةً يتعذر الدفاع عنها؛ فأنت تعلم أنك قد أحرزت تقدمًا نظريًّا حين لا يعود بإمكانك إعادة ترتيب الأسباب المفسرة لفشلك على مدى فترة طويلة في رؤية ما هو واضح وبديهي، ولكن الأمر استغرق منا سنوات لاستكشاف تداعيات التفكير في النتائج باعتبارها مكاسب وخسائر.
في نظرية المنفعة، تقيَّم منفعة أي مكسب من خلال مقارنة منافع حالتين للثروة؛ فعلى سبيل المثال، المنفعة الناتجة عن الحصول على ٥٠٠ دولار إضافية حين تكون ثروتك مليون دولار هي الفارق بين منفعة مليون دولار وخمسمائة ومنفعة مليون دولار. وإذا امتلكت المبلغ الأكبر، فإن انعدام المنفعة الناتج عن خسارة ٥٠٠ دولار يمثل مرة أخرى الفارق بين منافع حالتي الثروة. في هذه النظرية، لا يُسمح باختلاف منافع المكاسب والخسائر إلا في العلامات (+ أو −)، فلا توجد طريقة لتجسيد حقيقة أن انعدام المنفعة الناتج عن خسارة ٥٠٠ دولار يمكن أن يكون أكبر من المنفعة الناتجة عن الفوز بنفس المبلغ؛ على الرغم من أن الأمر كذلك بالطبع. وكما قد يكون متوقعًا في موقف يحكمه العمى الناتج عن النظرية، لم يحدث توقع أو دراسة للفروق المحتملة بين المكاسب والخسائر، وكان مفترضًا أن تكون هذه الفروق المحتملة غير ذات أهمية، ومن ثم لم يكن هناك جدوى من دراستها وفحصها.
لعلك كنت متجنبًا للمخاطرة في الإشكالية الأولى مثل الغالبية العظمى من الناس. فالقيمة الذاتية لمكسب قيمته ٩٠٠ دولار بالتأكيد أكبر من احتمال الحصول على مكسب ١٠٠٠ دولار بنسبة ٩٠٪. ومن ثم لم يكن اختيار تجنب المخاطرة ليمثل مفاجأة لبرنولي.
الآن تأمل تفضيلك في الإشكالية الثانية. إذا كنتَ مثل معظم الناس، فقد اخترت الرهان في هذه الإشكالية. وتفسير هذا الاختيار الساعي للمخاطرة هو الصورة المعكوسة للتفسير المبرر لتجنب المخاطرة في الإشكالية الأولى: أن القيمة (السالبة) لخسارة قيمتها ٩٠٠ دولار أكبر بكثير من القيمة (السالبة) لاحتمال خسارة قدرها ١٠٠٠ دولار بنسبة ٩٠٪. فالخسارة الأكيدة منفِّرة للغاية، مما يدفعك لخوض المخاطرة. وسنرى فيما بعد أن تقييمات الاحتمالات (٩٠٪ مقابل ١٠٠٪) تساهم أيضًا في كلٍّ من تجنب المخاطرة في الإشكالية الأولى وتفضيل خوض الرهان في الإشكالية الثانية.
يمكنك بسهولة أن تؤكد أنه في إطار الحالات النهائية للثروة — وهو الشيء الأهم في نظرية برنولي — أن الإشكاليتين ٣ و٤ متطابقتان؛ ففي كلتا الحالتين عليك الاختيار بين نفس الخيارين: بإمكانك أن تكون على يقين من أنك ستصبح أكثر ثراء مما أنت عليه حاليًّا بمقدار ١٥٠٠ دولار، أو تقبل بالمراهنة، والتي يكون لديك فيها فرص متساوية أن تكون أغنى مما أنت عليه الآن ﺑ ١٠٠٠ دولار أو ﺑ ٢٠٠٠ دولار؛ لذا فالإشكاليتان في نظرية برنولي يُفترض أن يثيرا تفضيلات متشابهة. استفتِ حدسك وسوف تخمِّن على الأرجح ما فعله الآخرون.
-
في الاختيار الأول فضَّل غالبية من سُئِلوا الشيء المضمون.
-
في المثال الثاني فضَّل غالبية من سُئِلوا خوض الرهان.
كان في إيجاد تفضيلات مختلفة في الإشكاليتين ٣ و٤ مثالٌ مضادٌّ حاسمٌ للفكرة الأساسية لنظرية برنولي؛ فإذا كانت منفعة الثروة هي كل ما يهم، فمن المفترض إذن أن تفرز النصوص المترادفة بشكل صريح لنفس الإشكالية اختيارات متطابقة. وتُبرز المقارنة بين الإشكاليات الدور بالغ الأهمية للنقطة المرجعية التي تُقيَّم منها الخيارات. فالنقطة المرجعية أعلى من مقدار الثروة الحالية بألف دولار في الإشكالية رقم ٣، وبألفي دولار في الإشكالية رقم ٤؛ لذلك فإن زيادة ثروتك بمقدار ١٥٠٠ دولار تعد مكسبًا قدره ٥٠٠ دولار في الإشكالية رقم ٣ وخسارة في الإشكالية رقم ٤. ومن السهل بالطبع اشتقاق أمثلة أخرى من نفس النوع. وقد كان لقصة أنطوني وبيتي نفس البنية.
ما قدر الانتباه الذي أوليتَهُ لمنحة الألف أو الألفي دولار التي «مُنحتَ» إياها قبل اتخاذ اختيارك؟ إذا كنتَ مثل معظم الناس، فعلى الأرجح أنك لم تلاحظها. والواقع أنه لم يكن هناك سبب لديك للانتباه إليها؛ لأن المنحة مدرجة ضمن النقطة المرجعية، والنقاط المرجعية يتم تجاهلها بشكل عام. أنت تعرف شيئًا عن تفضيلاتك لا يعرفها واضعو نظريات المنفعة؛ وهو أن سلوكك نحو المخاطرة لم يكن ليختلف لو أن القيمة الصافية لثروتك أعلى أو أقل ببضعة آلاف من الدولارات (ما لم تكن تعاني من فقر مدقع)، وتعرف كذلك أن توجهاتك نحو المكاسب والخسائر ليست مستمدة من تقييمك لثروتك؛ فالسبب وراء إعجابك بفكرة كسب ١٠٠ دولار ونفورك من فكرة خسارة ١٠٠ دولار ليس أن هذه المبالغ تغير من قيمة ثروتك، فأنت فقط تحب الفوز وتكره الخسارة، وبالتأكيد تكره الخسارة أكثر من حبك للفوز.
تبرز الإشكاليات الأربع ضَعف نموذج برنولي؛ فنظريته بسيطة أكثر من اللازم وتفتقر لجزء مؤثر، وهذا المتغير المفقود هو «النقطة المرجعية»؛ أي الحالة المسبقة التي يتم على أساسها تقييم المكاسب والخسائر. في نظرية برنولي أنت لا تحتاج إلا لمعرفة حالة الثروة لتحديد منفعتها، أما في نظرية التوقع، فتحتاج أيضًا لمعرفة الوضع المرجعي؛ ومن ثم تعد نظرية التوقع أكثر تعقيدًا من نظرية المنفعة. والتعقيد في العلم يعتبر تكلفة لا بد من تبريرها بمجموعة ثرية بما يكفي من التكهنات الجديدة والمثيرة بالحقائق التي لا يمكن للنظرية القائمة تفسيرها. وكان هذا هو التحدي الذي اضطررنا لمواجهته.
على الرغم من أن عاموس وأنا لم نكن نعمل بنموذج نظامَي العقل، فقد اتضح الآن أن هناك ثلاث سمات معرفية في قلب نظرية التوقع، وهي تلعب دورًا أساسيًّا في تقييم النتائج والعواقب المالية، كما أنها شائعة في العديد من العمليات التلقائية للإدراك والحكم والعاطفة، ويجب اعتبارها كخصائص تشغيلية للنظام ١.
-
يتعلق التقييم بنقطة مرجعية محايدة، يشار إليها في بعض الأحيان ﺑ «مستوى التكيف». ويمكنك بسهولة أن تنشئ مثالًا توضيحيًّا جذابًا لهذا المبدأ. ضع ثلاثة أوانٍ عميقة من الماء أمامك. ضع ماء مثلجًا في الإناء على الناحية اليسرى، وماء دافئًا في الإناء على الناحية اليمنى، مع مراعاة ضرورة أن يكون الماء في الإناء الأوسط في درجة حرارة الغرفة. اغمر يديك في الماء البارد والدافئ لمدة دقيقة تقريبًا، ثم اغمس كلتا يديك في الإناء الأوسط. سوف تشعر بدرجة الحرارة عينها على صورة حرارة في إحدى يديك وعلى صورة برودة في اليد الأخرى. إن النقطة المرجعية المعتادة بالنسبة للنتائج المالية هي الوضع الراهن، ولكن من الممكن أيضًا أن تتمثل في النتيجة التي تتوقعها، أو ربما النتيجة التي تشعر بأنك منوط بتحقيقها، مثل العلاوة أو الأرباح التي يتلقاها زملاؤك. والنتائج التي تأتي أفضل من النقاط المرجعية تعتبر مكاسب، أما النتائج دونها فتعتبر خسائر.
-
ينطبق مبدأ تناقص الحساسية على كلٍّ من الأبعاد الحسية وتقييم تغيرات الثروة. إن إشعال ضوء خافت يكون له تأثير كبير في غرفة مظلمة، ولكن نفس الزيادة في الضوء قد لا يمكن ملاحظتها في غرفة ذات إضاءة مبهرة. بالمثل نجد أن الفارق الذاتي بين ٩٠٠ دولار و١٠٠٠ دولار أصغر بكثير من الفارق بين ١٠٠ دولار و٢٠٠ دولار.
-
المبدأ الثالث هو تجنب الخسارة؛ فالخسائر تبدو أكبر من المكاسب حين تُقارَن أو تُقيَّم بشكل مباشر مع إحداها الأخرى. وهذا الاختلاف بين قوة التوقعات أو الخبرات الإيجابية والسلبية له تاريخ تطوري. فالكائنات التي تتعامل مع التهديدات باعتبارها أهم من الفرص يكون لديها فرصة أفضل للبقاء والتكاثر.
تجنب الخسارة
لحسم هذا الاختيار، لا بد أن توازن الفائدة السيكولوجية للحصول على ١٥٠ دولارًا مقابل التكلفة السيكولوجية لخسارة ١٠٠ دولار. ما شعورك إزاء المقارنة؟ على الرغم من أن القيمة المتوقعة للرهان إيجابية بشكل واضح؛ لأنك من المحتمل أن تربح أكثر مما يمكنك خسارته، فمن المرجح أنك تبغضه؛ كحال معظم الناس. إن رفض هذا الرهان هو من أفعال النظام ٢، ولكن المدخلات الحرجة هي استجابات عاطفية تتولد عن طريق النظام ١. فالخوف من خسارة ١٠٠ دولار بالنسبة لمعظم الناس أكثر حدة وقوة من رجاء الفوز ﺑ ١٥٠ دولارًا. وقد استنتجنا من العديد من مثل هذه الملاحظات أن «الخسائر تبدو أضخم من المكاسب»، وأن الناس «ينزعون لتجنب الخسارة».
يمكنك قياس درجة تجنبك للخسائر بأن تطرح على نفسك سؤالًا: ما أصغر مكسب أحتاجه لمعادلة احتمال مساوٍ لخسارة ١٠٠ دولار؟ إن الإجابة على هذا السؤال لدى الكثير من الناس هي ٢٠٠ دولار؛ أي ضعف الخسارة. وقد قدرت «نسبة تجنب الخسارة» في العديد من التجارب، وعادة ما تكون في نطاق ما بين ١٫٥ إلى ٢٫٥. وتعد هذه بالطبع نسبة متوسطة؛ فبعض الناس أكثر تجنبًا للخسارة بكثير من الآخرين. أما المخاطرون المحترفون في الأسواق المالية، فهم أكثر قدرة على تحمل الخسائر؛ ربما لأنهم لا يُظهرون استجابة انفعالية لكل تقلب يحدث. وحين كان يتم توجيه المشاركين في تجربة ما «للتفكير بعقلية المضارب في البورصة»، كانوا يصبحون أقل تجنبًا للخسارة، وكان رد فعلهم الانفعالي إزاء الخسائر (والذي كان يقاس عن طريق مؤشر فسيولوجي للإثارة الانفعالية) ينخفض بشكل حاد.
-
فكر في رهان تتساوى فيه احتمالات المكسب والخسارة، والذي قد تخسر فيه ١٠ دولارات. ما أصغر مكسب يجعل الرهان مغريًا؟ إذا قلت ١٠ دولارات، إذن فأنت لا تبالي بالمخاطرة، وإذا أعطيت رقمًا أقل من ١٠ دولارات، فأنت تسعى للمخاطرة، أما إذا جاءت إجابتك بأكثر من ١٠ دولارات، فأنت متجنب للمخاطرة.
-
ماذا عن خسارة محتملة قدرها ٥٠٠ دولار على قذف عملة؟ ما المكسب المحتمل الذي تحتاج له لموازنتها؟
-
ماذا عن خسارة قدرها ٢٠٠٠ دولار؟
بينما تُجري هذا التمرين، ربما تكون قد وجدت أن معامل تجنب الخسارة لديك يميل للزيادة حين ترتفع درجة المخاطرة، ولكن ليس إلى حد كبير. بالطبع لن تجازف إذا كان من المحتمل أن تكون الخسارة المحتملة مدمرة، أو إذا كان هناك تهديد لأسلوبك المعيشي. فمعامل تجنب الخسارة يكون كبيرًا للغاية في مثل هذه الحالات وقد يكون حتى غير محدود؛ وهناك مخاطر لن تتقبلها، بغض النظر عن كم الملايين التي من المحتمل أن تفوز بها إذا حالفك الحظ.
-
في المراهنات المختلطة، حيث يكون احتمالا الخسارة والمكسب قائمين، يخلق تجنب الخسارة اختيارات متجنبة للخسارة بشكل مبالغ.
-
في الاختيارات السيئة، حيث تقارَن خسارة مؤكدة بخسارة أكبر محتملة فحسب، يثير تناقص الحساسية سعيًا نحو المخاطرة.
لا يوجد أي تناقض؛ ففي الحالة المختلطة تبدو الخسارة المحتملة أكبر مرتين من المكسب المحتمل، كذلك يمكنك أن ترى من خلال مقارنة منحنيات دالة القيمة لكلٍّ من الخسائر والمكاسب. أما في الحالة السيئة، فإن التواء منحنى القيمة (تناقص الحساسية) يخلق سعيًا نحو المخاطرة. فألم خسارة ٩٠٠ دولار أكبر من ألم احتمال خسارة ١٠٠٠ دولار بنسبة ٩٠٪. وهاتان الرؤيتان هما جوهر نظرية التوقع.
•••
احتمال بنسبة ٥٠٪ لخسارة ١٠٠ دولار واحتمال بنسبة ٥٠٪ للفوز ﺑ ٢٠٠ دولار.
احتمال بنسبة ٥٠٪ لخسارة ٢٠٠ دولار واحتمال بنسبة ٥٠٪ للفوز ﺑ ٢٠٠٠٠ دولار.
ولكن بالطبع لا أحد في كامل قواه العقلية سوف يرفض هذا الرهان! في مقال غزير وممتع كتباه عن الموضوع، علق ماثيو رابين وريتشارد تالر قائلين إن المقامرة الكبرى «لها عائد متوقع قدره ٩٩٠٠ دولار مع فرصة قدرها صفر لخسارة أكثر من ٢٠٠ دولار. وحتى أسوأ المحامين يمكنه أن يثبت أنك مجنون بصورة رسمية إذا رفضت الإقدام على مثل هذه المقامرة.»
وقد أنهيا مقالهما، مدفوعين بحماسهما على الأرجح، باستدعاء المشهد الهزلي لمونتي بايثون، والذي يحاول فيه عميل محبط إعادة ببغاء نافق إلى أحد محال بيع الحيوانات الأليفة، فيستخدم العميل سلسلة طويلة من العبارات لوصف حالة الطائر، تصل لذروتها في عبارة «إنه ببغاء سابق». ومضى رابين وتالر ليقولا إنه قد «حان الوقت للاقتصاديين لإدراك أن المنفعة المتوقعة هي فرضية سابقة.» وقد رأى الكثير من علماء الاقتصاد هذه العبارة أقرب للكفر. غير أن العمى الناتج عن النظرية، والذي يكتنف مسألة قبول منفعة الثروة كتفسير للسلوكيات إزاء الخسائر الصغيرة، يعد هدفًا مشروعًا للتعليقات الساخرة.
النقاط العمياء لنظرية التوقع
لقد بقيت حتى هذا الجزء من الكتاب وأنا أمجد في مزايا نظرية التوقع وأنتقد النموذج العقلاني ونظرية المنفعة المتوقعة، وحان الوقت لبعض التوازن.
لقد سمع معظم خريجي الاقتصاد عن نظرية التوقع وتجنب الخسارة، ولكن من غير المحتمل أن تجد هذه المصطلحات في فهرس نص تمهيدي في علم الاقتصاد. وأحيانًا ما أتألم من هذا الحذف والتجاهل، ولكنه في الواقع منطقي إلى حد كبير؛ نظرًا للدور المحوري للعقلانية في النظرية الاقتصادية الأساسية. فافتراض أن الاقتصاديين لا يرتكبون أخطاء حمقاء هو بالفعل أسهل طريقة لشرح وتفسير المفاهيم القياسية والنتائج التي تدرَّس للطلاب. وهذا الافتراض ضروري بحق، وكان سيقوَّض بإدخال عنصر البشر الخاص بنظرية التوقع، الذين تتسم تقييماتهم للنتائج بقصر النظر بشكل غير معقول.
ثمة أسباب وجيهة لاستبعاد نظرية التوقع من النصوص التمهيدية الاقتصادية؛ فالمفاهيم الأساسية لعلم الاقتصاد هي أدوات فكرية أساسية، ليس من السهل فهمها حتى ولو بافتراضات مبسطة وغير واقعية حول طبيعة الفاعلين الاقتصاديين الذين يتعاملون في الأسواق. وطرح التساؤلات حول هذه الافتراضات، حتى في وقت تقديمها، كان سيسبب ارتباكًا، وربما إحباطًا. ومن المنطقي أن تكون الأولوية لمساعدة الطلاب على اكتساب الأدوات الأساسية للمجال. أضف إلى ذلك أن إخفاق العقلانية التي تعد جزءًا أساسيًّا من نظرية التوقع غالبًا ما لا يكون ذا صلة بتكهنات النظرية الاقتصادية، والتي تعمل بإحكام وإتقان رائعين في بعض المواقف، وتقدم مقاربات جيدة في العديد من المواقف الأخرى. غير أن الفارق في سياقات أخرى يصبح كبيرًا: فالبشر الوارد وصفهم في نظرية التوقع يوجههم التأثير الانفعالي الفوري للخسائر والمكاسب، وليس احتمالات الثروة والمنفعة الشاملة.
وقد أكدت على العمى الناتج عن النظرية في مناقشتي لعيوب نموذج برنولي الذي ظل بلا تفنيد لأكثر من قرنين، ولكن العمى الناتج عن النظرية بالطبع ليس قاصرًا على نظرية المنفعة المتوقعة؛ فنظرية التوقع لها عيوبها، وانعدام رؤية هذه العيوب بفعل النظرية ساهم في قبولها باعتبارها البديل الأساسي لنظرية المنفعة.
تأمل فرضية نظرية التوقع، التي نصت على أن النقطة المرجعية، التي غالبًا ما تكون هي الوضع الراهن، قيمتها صفر. إن هذا الافتراض يبدو منطقيًّا، ولكنه يؤدي إلى بعض النتائج العبثية. ألقِ نظرة متأنية على الاحتمالات التالية. كيف سيكون الحال إذا امتلكتها؟
-
(أ)
احتمال واحد في المليون للفوز بمليون دولار.
-
(ب)
احتمال ٩٠٪ للفوز ﺑ ١٢ دولارًا واحتمال ١٠٪ لعدم الفوز بأي شيء.
-
(جـ)
احتمال ٩٠٪ للفوز بمليون دولار واحتمال ١٠٪ لعدم الفوز بأي شيء.
إن عدم الفوز بأي شيء هي نتيجة محتملة في الرهانات الثلاثة، ونظرية التوقع تعيِّن نفس القيمة لتلك النتيجة في الحالات الثلاث، وهي تعتبر هنا النقطة المرجعية وقيمتها تساوي صفرًا. هل هذه العبارات تتوافق مع تجربتك؟ بالطبع لا. فعدم الفوز حدث ليس له قيمة في الحالتين الأوليين، وتعيين قيمة له قدرها صفر أمر منطقي. بينما في المقابل، نجد أن الفشل في الفوز في السيناريو الثالث محبط بشدة؛ فمثل زيادة في الراتب يُوعَد بها بشكل غير رسمي، تنشئ الاحتمالية الكبيرة للفوز بالمبلغ الضخم نقطة مرجعية مؤقتة جديدة. وفيما يتعلق بتوقعاتك، سيكون شعور من لم يفز بشيء كخسارة كبيرة. ولا تستطيع نظرية التوقع مواكبة هذه الحقيقة؛ لأنها لا تسمح لقيمة أي نتيجة (والتي تتمثل في هذه الحالة في عدم الفوز) بالتغير حين تكون مستبعدة إلى حد كبير، أو حين يكون البديل قيمًا للغاية. بعبارة بسيطة، لا تستطيع نظرية التوقع التعامل مع خيبة الأمل. غير أن خيبة الأمل وتوقع خيبة الأمل أمور حقيقية، والإخفاق في الاعتراف بهما يعد عيبًا واضحًا، كالأمثلة المضادة التي استدعيتها لانتقاد نظرية برنولي.
قارن الألم المتوقع المرتبط باختيار الرهان وعدم الفوز فيه في كلتا الحالتين. إن الفشل في الفوز يُعدُّ خيبة أمل في كلتا الحالتين، ولكن الألم المتوقع يتضاعف في الإشكالية رقم ٧، من خلال معرفة أنك إذا اخترت الرهان وخسرت فسوف تندم على هذا القرار الذي يتسم ﺑ «الطمع» الذي اتخذته برفض منحة مضمونة قدرها ١٥٠ ألف دولار. وفي الندم، تعتمد تجربة نتيجة ما على خيار كان بإمكانك أن تتبناه ولكنك لم تفعل.
وقد قدم العديد من الاقتصاديين وعلماء النفس نماذج لصنع القرار قائمة على عاطفتَي الندم وخيبة الأمل. ومن الإنصاف أن نقول إن تأثير هذه النماذج كان أقل من تأثير نظرية التوقع، والسبب في ذلك يحمل فائدة وتوجيهًا. إن عاطفتَي الندم وخيبة الأمل حقيقيتان، ولا شك أن صانعي القرار يتوقعون هاتين العاطفتين عند تحديد اختياراتهم. المشكلة أن نظريات الندم تضع بضع تكهنات لافتة للنظر من شأنها أن تميزها عن نظرية التوقع التي تتميز بكونها أكثر بساطة. وقد كان تعقيد نظرية التوقع أكثر قبولًا في تنافسها مع نظرية المنفعة؛ لأنها تكهنت بملاحظات لم تستطع نظرية المنفعة المتوقعة تفسيرها.
إن وضع افتراضات أكثر ثراء وواقعية لا يكفي لإنجاح أي نظرية؛ فالعلماء يستخدمون النظريات كحقيبة أدوات عمل، ولن يتحملوا عبء حمل حقيبة أكثر ثقلًا ما لم تكن الأدوات الجديدة مفيدة للغاية. ولم يكن تقبُّل العديد من العلماء لنظرية التوقع بسبب أنها «صحيحة»، وإنما لأن المفاهيم التي أضافتها لنظرية المنفعة، والتي من أبرزها النقطة المرجعية وتجنب الخسارة، كانت تستحق الجهد؛ فقد أفرزت تكهنات جديدة اتضح أنها صحيحة. لقد كنا محظوظين.
في الحديث عن نظرية التوقع
«إنه يعاني من تجنب مفرط للخسارة يجعله يرفض كل الفرص المواتية.»
«إن استجابتها الانفعالية للمكاسب والخسائر التافهة ليس لها معنى بالنظر إلى ثروتها الطائلة.»
«إنه يقدر الخسائر بضعف المكاسب مرتين، وهو أمر طبيعي.»