تأثير المنحة
يتعلم الطلاب في المحاضرات التمهيدية لعلم الاقتصاد أن كل نقطة على الخريطة تحدد توليفة معينة من الدخل وأيام الإجازات. ويربط كل «منحنى تساوٍ» توليفات السلعتين اللتين تحظيان بنفس الدرجة من المرغوبية؛ إذ إن لهما نفس المنفعة. وتتحول المنحنيات إلى خطوط مستقيمة متوازية إذا كان الأفراد على استعداد ﻟ «بيع» أيام الإجازات مقابل دخل إضافي بنفس الثمن، بغض النظر عن قدر الدخل وقدر فترة الإجازة التي يملكونها. ويشير الشكل المحدب إلى تناقص المنفعة الحدية: فكلما كان لديك فترة إجازات أكبر، قلَّ اهتمامك بالحصول على يوم إضافي منها، وتقل قيمة كل يوم مضاف عن اليوم الذي يسبقه. بالمثل، كلما كان دخلك أكبر، قل اهتمامك بالحصول على مزيد من المال، ويزداد المبلغ الذي تكون مستعدًّا للتخلي عنه مقابل يوم إجازة إضافي.
وجميع النقاط على منحنى التساوي مغرية بالقدر نفسه، وهذا هو ما تعنيه كلمة التساوي حرفيًّا: ألا تهتم بموقعك على منحنى التساوي. وبناء عليه إذا كانت (أ) و(ب) على نفس منحنى التساوي بالنسبة لك، فأنت في موضع محايد بينهما، ولن تحتاج إلى حافز للانتقال من نقطة إلى الأخرى أو إلى الوراء. وقد ظهرت نسخة من هذا الشكل في كل كتاب دراسي في الاقتصاد تم تأليفه خلال المائة عام الأخيرة، واطلع عليه عدة ملايين من الطلاب، ولكن لم يلحظ العنصر المفقود فيه سوى قلة. ومرة أخرى هنا منعتْ قوة وتميُّز النموذج النظري الطلاب والعلماء عن رؤية قصور خطير.
إن العنصر المفقود من الشكل هو وجود إشارة إلى الدخل وفترة الإجازات الحاليَّيْن للفرد؛ فإذا كنت موظفًا براتب ثابت، فإن شروط توظيفك تحدد راتبًا وعددًا من أيام الإجازات، والذي يمثل نقطة على الخريطة. تلك هي نقطتك المرجعية؛ أي وضعك الراهن، ولكن الشكل لا يبينها. وبعجزه عن توضيحها، يحثك المنظِّرون الذين يقومون برسم هذا الشكل على الاعتقاد بأن النقطة المرجعية ليست ذات أهمية، ولكنك الآن تعرف أنها مهمة بالطبع. ها هو خطأ برنولي يظهر مجددًا؛ فشكل منحنيات التساوي يفترض ضمنًا أن منفعتك في أي لحظة بعينها تتحدد كليًّا بموقفك الحالي، وأن الماضي لا صلة له بالأمر، وأن تقييمك لوظيفة محتملة لا يعتمد على شروط وظيفتك الحالية. وهذه الافتراضات غير واقعية تمامًا في هذه الحالة وفي كثير من الحالات الأخرى.
ويعد حذف النقطة المرجعية من خريطة التساوي حالة مثيرة للدهشة من العمى الناتج عن النظرية؛ لأننا كثيرًا ما نواجه حالات تمثل فيها النقطة المرجعية أهمية واضحة؛ ففي مفاوضات العمل، يتفهم كلا الطرفين جيدًا أن النقطة المرجعية هي العقد القائم، وأن المفاوضات سوف تركز على المطالب المتبادلة بتقديم تنازلات فيما يتعلق بتلك النقطة المرجعية. ودور تجنب المخاطر في المساومات مفهوم جيدًا أيضًا: فتقديم التنازلات يؤلم. وأنت تملك الكثير من الخبرة الشخصية بدور النقطة المرجعية، فإذا كنت قد غيرت وظيفتك أو موقعك، أو حتى فكرت في إجراء مثل هذا التغيير، فلا شك أنك تتذكر أن ملامح المكان الجديد كانت تمثل نقاطًا إيجابية أو سلبية، مقارنة بالمكان الذي كنت فيه. ربما تكون قد لاحظت كذلك أن المساوئ بدت أكبر من المزايا في هذا التقييم؛ فقد كان تأثير تجنب الخسارة ساريًا. ومن الصعب تقبُّل التغييرات للأسوأ. على سبيل المثال، سيكون متوسط الحد الأدنى للأجر الذي يقبله العاطلون عن العمل في عمل جديد ٩٠٪ من أجرهم السابق، وينخفض بنسبة أقل من ١٠٪ على مدار فترة قدرها عام واحد.
إن النظرية القياسية الممثلة في الشكل تفترض أن التفضيلات تظل ثابتة على مدار الوقت. فالوضعان (أ) و(ب) مغريان بنفس القدر لكلا التوءمين، وسوف يحتاجان إلى حافز بسيط، أو لن يحتاجا لأي حافز لتغيير وظيفتيهما. وفي تناقض حاد، تؤكد نظرية التوقع أن كلا التوءمين سوف يفضل بشكل قاطع البقاء كما هو. وهذا التفضيل للوضع الراهن هو نتيجة من نتائج الميل لتجنب المخاطرة.
لقد واجهت للتو التجربة الشخصية لتجنب الخسارة. يمكنك أن تشعر بذلك: فخصم ١٠٠٠٠ دولار من الراتب نبأ في غاية السوء. حتى لو كان الحصول على ١٢ يومًا إجازة أمرًا مبهرًا شأنه شأن الحصول على ١٠٠٠٠ دولار، فإن نفس التحسن على صعيد فترة الإجازات لا يكفي لتعويض خسارة ١٠٠٠٠ دولار. ومن ثم سوف يظل ألبرت في الوضع (أ)؛ لأن مساوئ الانتقال منه تفوق مزاياه. نفس الاستنتاج ينطبق على بن، الذي سيرغب أيضًا في الاحتفاظ بوظيفته الحالية؛ نظرًا لأن خسارة فترة الإجازات، التي تعد الآن شيئًا ثمينًا، تفوق فائدة الدخل الإضافي.
يُبرز هذا المثال جانبين للاختيار لا يتكهن بهما نموذج منحنيات التساوي: الأول أن الميول ليست ثابتة؛ فهي تتباين مع النقطة المرجعية. أما الجانب الثاني، فهو أن مساوئ أي تغيير تبدو أضخم من مزاياه، مما يولد انحيازًا يفضل الوضع الراهن. بالطبع لا يعني تجنب الخسارة أنك لا تفضل مطلقًا تغيير وضعك؛ ففوائد فرصة ما قد تتجاوز حتى الخسائر الزائدة. إن تجنب الخسارة يعني فقط أن الاختيارات تنحاز بقوة لصالح الموقف المرجعي (وتنحاز بشكل عام للتغييرات الصغيرة وليست الكبيرة).
ثمة افتراض خاطئ يجمع بين خرائط التساوي التقليدية وتمثيل برنولي للنتائج كحالات للثروة؛ ألا وهو أن منفعتك فيما يتعلق بظروف معينة تعتمد فقط على تلك الظروف ولا تتأثر بماضيك. وقد كان تصحيح هذا الخطأ واحدًا من إنجازات الاقتصاد السلوكي.
تأثير المنحة
غالبًا ما يكون من الصعب الإجابة على السؤال الخاص بتوقيت انطلاق أحد المناهج أو الحركات، ولكن من الممكن تحديد أصول ما يعرف الآن بالاقتصاد السلوكي بدقة. في بداية السبعينيات من القرن الماضي، بدأ ريتشارد تالر، الذي كان في ذلك الوقت طالب دراسات عليا في قسم الاقتصاد شديد المحافظة بجامعة روشستر؛ بدأ في حيازة أفكار هرطقية. لطالما كان تالر يحظى بذكاء حاد ونزعة للسخرية، وحين كان طالبًا كان يسلي نفسه بجمع ملاحظات عن السلوكيات التي لم يكن بإمكان نموذج السلوك الاقتصادي العقلاني تفسيرها، وكان يجد متعة خاصة في التدليل على انعدام العقلانية الاقتصادية بين أساتذته، ووجد من بينهم واحدًا كان لافتًا للنظر بشكل خاص.
كان البروفيسور آر (والذي تبين الآن أنه ريتشارد روزيت، الذي أصبح بعد ذلك عميد كلية الدراسات العليا لإدارة الأعمال بجامعة شيكاجو) من أشد المؤمنين بالنظرية الاقتصادية القياسية، وكان أيضًا خبيرًا متمرسًا في الخمور. لاحظ تالر أن بروفيسور آر كان يرفض بيع أي زجاجة من مجموعته الخاصة، حتى ولو مقابل ١٠٠ دولار، الذي كان سعرًا مرتفعًا آنذاك (بقيمة الدولار عام ١٩٧٥!) كان بروفيسور آر يشتري زجاجات الخمر من المزادات، ولكنه لم يكن ليدفع أكثر من ٣٥ دولارًا مقابل زجاجة من أجود الأنواع. ولم يكن ليبيع أو يشتري في إطار أسعار تتراوح ما بين ٣٥ و١٠٠ دولار. وتلك الفجوة الكبيرة لا تتوافق مع النظرية الاقتصادية، التي يتوقع بناء عليها أن يكون لدى البروفيسور قيمة واحدة للزجاجة. فإذا كانت زجاجة معينة تساوي لديه ٥٠ دولارًا، فمن المفترض أن يكون على استعداد لبيعها مقابل أي مبلغ يفوق الخمسين دولارًا. وإذا لم يكن يملك الزجاجة، فمن المفترض أن يكون على استعداد لدفع أي مبلغ حتى ٥٠ دولارًا مقابلها. كان من المفترض أن يكون الحد الأدنى المقبول لسعر البيع والحد الأدنى المقبول لسعر الشراء متماثلين، ولكن في الواقع كان الحد الأدنى لسعر البيع (١٠٠ دولار) أعلى بكثير من الحد الأقصى لسعر الشراء (٣٥ دولارًا). فكان يبدو أن امتلاك السلعة يزيد من قيمتها.
وجد ريتشارد تالر العديد من الأمثلة لما أطلق عليه «تأثير المنحة»، لا سيما بالنسبة للسلع التي لا تتداول بشكل مستديم. يمكنك بسهولة أن تتخيل نفسك في موقف مشابه. افترض أنك تحمل تذكرة لحفل موسيقي نفذت كل تذاكره لفرقة موسيقية شهيرة، والتي اشتريتها بسعرها العادي الذي يقدر ﺑ ٢٠٠ دولار. أنت من أشد عشاق هذه الفرقة وعلى استعداد لدفع حتى ٥٠٠ دولار مقابل التذكرة. أنت الآن تملك تذكرتك، وعلمت من الإنترنت أن جماهير أكثر ثراء أو استماتة يعرضون ٣٠٠٠ دولار مقابل الحصول على تذكرة، هل ستبيع؟ إذا كنت تشبه معظم الجماهير في الفعاليات التي نفدت تذاكرها، فلن تبيع. فأقل سعر بيع بالنسبة لك يفوق الثلاثة آلاف دولار، وأقصى سعر شراء هو ٥٠٠ دولار. هذا مثال لتأثير المنحة من شأنه أن يثير الحيرة لدى أي شخص يؤمن بالنظرية الاقتصادية القياسية؛ وهي نظرية المنفعة المتوقعة. ومضى تالر يبحث عن سبب يمكنه أن يفسر هذا النوع من الألغاز.
تدخلت الصدفة حين التقى تالر بواحد من طلابنا السابقين في أحد المؤتمرات، وحصل منه على مسودة أولية لنظرية التوقع. يقول تالر إنه قد قرأ المسودة وبداخله قدر كبير من الإثارة؛ لأنه سرعان ما أدرك أن دالة القيمة للشخص المتجنب للخسارة في نظرية التوقع، استطاعت تفسير تأثير المنحة وبعض الألغاز الأخرى التي جمعها في بحثه. كان الحل هو التخلي عن الفكرة التقليدية من أن بروفيسور آر كان لديه منفعة فريدة فيما يتعلق «بامتلاك» زجاجة معينة من الخمر. فقد أشارت نظرية التوقع إلى أن الاستعداد لشراء أو بيع الزجاجة يعتمد على النقطة المرجعية؛ وهي امتلاك البروفيسور للزجاجة من عدمه في الوقت الحالي. فإذا كانت بحوزته، فإن تفكيره ينصب على ألم «التنازل» عن الزجاجة. أما إذا لم تكن بحوزته، فإن تفكيره يتجه لمتعة «الحصول» على الزجاجة. لم تكن القيمتان متساويتين بسبب تجنب الخسارة: فألم التخلي عن زجاجة من الخمر الفاخر يفوق متعة الحصول على زجاجة على نفس القدر من الجودة. تذكر الرسم البياني الذي يوضح الخسائر والمكاسب في الفصل السابق. إن منحنى الدالة يكون أكثر انحدارًا في النطاق السالب؛ فالاستجابة للخسارة أقوى من الاستجابة للمكسب الموازي له. وقد كان هذا هو تفسير تأثير المنحة الذي كان تالر يبحث عنه. وقد اتضح الآن أن أول تطبيق لنظرية التوقع كان علامة بارزة في تطور الاقتصاد السلوكي.
رتب تالر لقضاء عام واحد في ستانفورد حين علم أنني وعاموس سنكون هناك. وخلال تلك الفترة المثمرة، تعلمنا الكثير أحدنا من الآخر وأصبحنا أصدقاء. وبعد سبعة أعوام أتيحت لي وله فرصة أخرى لقضاء عام معًا واستكمال الحوار بين علم النفس وعلم الاقتصاد. وقدمت مؤسسة راسل سيج، والتي ظلت لفترة طويلة الراعي الرئيسي للاقتصاد السلوكي، لتالر واحدة من أولى مِنحها لقضاء عام معي في فانكوفر. وخلال هذا العام عملنا عن كثب مع عالم اقتصاد محلي، هو جاك نيتش، الذي شاركناه اهتمامًا قويًّا بتأثير المنحة، وقواعد العدالة الاقتصادية، والطعام الصيني الحار.
كانت نقطة الانطلاق لبحثنا هي أن تأثير المنحة ليس عامًّا. فإذا طلب منك أحدهم استبدال عملة ورقية فئة خمسة دولارات بخمس ورقات فئة دولار واحد، فإنك تناوله الخمسة دولارات دون أي شعور بالخسارة. ولا يكون هناك الكثير من تجنب الخسارة حين تتسوق لشراء حذاء. فالتاجر الذي يمنحك الحذاء مقابل المال بالتأكيد لا يشعر بأي خسارة. بل إن الحذاء الذي يناولك إياه كان دائمًا، من وجهة نظره، عبئًا مزعجًا مقابل مال كان يتمنى جمعه من أحد المستهلكين. علاوة على ذلك، ربما لا تستشعر تجربة دفع المال للتاجر كخسارة؛ لأنك في الواقع كنت تحمل المال كبديل للحذاء الذي انتويت شراءه. وهذه الحالات من التعامل التجاري الروتيني لا تختلف بالضرورة عن استبدال ورقة عملة فئة خمسة دولارات بخمس ورقات عملة فئة دولار واحد. فلا يوجد تجنب للخسارة على كلا طرفي التبادلات التجارية الروتينية.
ما الذي يميز هذه المعاملات السوقية عن عزوف بروفيسور آر عن بيع زجاجات الخمر الخاصة به، أو عزوف حاملي تذاكر مباريات السوبر بول عن بيعها، ولو بسعر باهظ للغاية؟ إن السمة المميزة هي أن كلًّا من الحذاء الذي يبيعك التاجر إياه والمال الذي تنفقه من ميزانيتك مقابل الحذاء قد خصصا «للتبادل»؛ فقد أعدا لغرض المقايضة مقابل سلع أخرى. هناك سلع أخرى، مثل الخمور وتذاكر السوبر بول، تخصص «للاستخدام»؛ أي لاستهلاكها أو الاستمتاع بها بأي شكل آخر. والإجازات أو أوقات الفراغ والمستوى المعيشي الذي يدعمه دخلك غير معدَّين أيضًا للبيع أو التبادل.
شرعنا — أنا ونيتش وتالر — في تصميم تجربة من شأنها إلقاء الضوء على التباين بين السلع المخصصة للاستخدام وللتبادل، واستعرنا جانبًا من تصميم تجربتنا من فيرنون سميث، مؤسس الاقتصاد التجريبي، والذي شاركته جائزة نوبل بعد ذلك بعدة سنوات. في هذه الطريقة يتم توزيع عدد محدود من التذكارات على المشاركين في إحدى «الأسواق». وأي مشترك يمتلك أحد هذه التذكارات في نهاية التجربة يمكنه رده مقابل نقد. وتختلف قيم الاسترداد باختلاف الأشخاص، وذلك لتوضيح حقيقة أن السلع المتداولة في الأسواق أكثر قيمة لبعض الناس عن غيرهم. فنفس التذكار قد تساوي ١٠ دولارات بالنسبة لك و٢٠ دولارًا بالنسبة لي، وأي تبادل بأي سعر بين هذه القيم سوف يكون مفيدًا لكل منا.
ابتكر سميث أمثلة توضيحية للكيفية التي تعمل بها آليات العرض والطلب بشكل جيد؛ إذ يقوم الأفراد بتقديم عروض عامة متتابعة لبيع أو شراء تذكار ما، ويستجيب الآخرون علانية لهذا العرض. فيشاهد الجميع هذه المقايضات ويرون السعر الذي تنتقل به التذكارات من يد ليد، وتأتي النتائج مألوفة مثل نتائج أي مثال توضيحي في الفيزياء. فمثلما يتدفق الماء لأسفل عبر المنحدرات حتمًا، ينتهي الحال بالأفراد الذين يملكون تذكارًا لا يحمل قيمة كبيرة بالنسبة لهم (نظرًا لانخفاض قيمهم الاسترادادية) ببيع تذكارهم بربح لشخص يقدره أكثر. وعندما تنتهي عملية التبادل، تكون التذكارات في أيدي هؤلاء الذين يستطيعون الحصول على أكبر قدر من المال كمقابل لها من القائم على التجربة. لقد آتى سحر الأسواق تأثيره! علاوة على ذلك، تتكهن النظرية الاقتصادية بشكل صحيح بالسعر النهائي الذي سيستقر عنده السوق، وعدد التذكارات التي ستدخل في التداول؛ فلو تم توزيع تذكارات بشكل عشوائي على نصف المشاركين في السوق، فإن النظرية تتنبأ بأن نصف التذكارات سوف يتم تداولها من يد ليد.
وقد استخدمنا شكلًا مختلفًا لطريقة سميث في تجربتنا؛ فكانت كل جلسة تبدأ بعدة جولات من التبادلات التجارية للتذكارات، والتي تطابقت ونتائج سميث على نحو مثالي. كان العدد المقدر للتبادلات التجارية قريبًا جدًّا أو مماثلًا للمبلغ الذي تكهنت به النظرية القياسية. بالطبع كان للتذكارات قيمة فقط لأنه أمكن مبادلتها مقابل نقود من القائم على التجربة؛ فلم يكن لها قيمة في الاستخدام. بعد ذلك أجرينا تجربة لسوق مشابهة لشيء توقَّعنا أن يجد الناس قيمته في استخدامه: كوب قهوة جذاب مزين بشارة الجامعة التابعة لأي مكان كنا نجري فيه التجارب. كان الكوب حينئذ يساوي حوالي ٦ دولارات (ويساوي اليوم حوالي ضعف هذا المبلغ). كانت الأكواب توزع عشوائيًّا على نصف المشاركين، فكان البائعون يضعون أكوابهم أمامهم فيما يُدعى المشترون لإلقاء نظرة على كوب الشخص المجاور له؛ وكانوا جميعًا يظهرون السعر الذي سيجرون به عملية التبادل. وكان على البائعين أن يستخدموا أموالهم الخاصة للحصول على كوب. وجاءت النتائج مثيرة: كان متوسط سعر البيع حوالي ضعف متوسط سعر الشراء، وكان العدد المقدر لعمليات التبادل التجاري أقل من نصف العدد الذي تكهنت به النظرية القياسية، فلم يكن لسحر السوق تأثير في سلعة توقَّع مقتنوها أن يستخدموها.
وقد أجرينا سلسلة من التجارب باستخدام أشكال مختلفة من نفس الإجراء، وكانت النتائج دائمًا واحدة. ولعل تجربتي المفضلة هي تلك التي أضفنا فيها إلى جانب البائعين والمشترين مجموعة ثالثة؛ وهي المنتقون. على عكس البائعين، الذين كان عليهم إنفاق أموالهم لاقتناء السلعة، كان يمكن للمنتقين استلام إما كوب أو مبلغ من المال، وكانوا يشيرون للمبلغ المالي الذي يتساوى مع السلعة في مرغوبيته لديهم. وكانت هذه هي النتائج:
البائعون | ٧٫١٢ دولارات |
المنتقون | ٣٫١٢ دولارات |
المشترون | ٢٫٨٧ دولار |
إن الفجوة بين البائعين والمنتقين ملحوظة؛ لأنهم في الواقع يواجهون نفس الاختيار! فإذا كنت بائعًا، يمكنك العودة إلى المنزل إما بكوب أو بنقود، وإذا كنت منتقيًا، يكون لديك نفس الخيارين بالضبط. كذلك فإن الآثار طويلة المدى للقرار تكون متماثلة للمجموعتين. الفارق الوحيد يكمن في عاطفة اللحظة؛ فالسعر المرتفع الذي يحدده البائعون يعكس النفور من التخلي عن شيء يمتلكونه بالفعل، ذلك النفور الذي يمكن رؤيته لدى الأطفال الرضع الذين يتشبثون بلعبة بعنف ويدخلون في نوبة هياج شديدة حين تؤخذ منهم. فتجنُّب الخسارة جزء أساسي من التقييمات التلقائية للنظام ١.
يحدد المشترون والمنتقون قيمًا نقدية، على الرغم من أن المشترين عليهم الدفع مقابل الكوب الذي يعتبر سلعة مجانية للمنتقين. وهذا هو ما نتوقعه إذا لم يكن المشترون يستشعرون إنفاق المال على الكوب كخسارة. والأدلة المستمدة من صور أشعات المخ تؤكد هذا الفارق؛ فبيع السلع التي يستخدمها الفرد بطبيعة الحال ينشط مناطق المخ المرتبطة بمشاعر الاشمئزاز والألم، والشراء أيضًا ينشط نفس المناطق، ولكن فقط حين تشعر أن الأسعار مرتفعة للغاية؛ حين تشعر بأن البائع يأخذ نقودًا تتجاوز قيمة عملية التبادل. كذلك تشير تسجيلات المخ إلى أن الشراء بأسعار منخفضة بشكل خاص يعد حدثًا سارًّا.
إن القيمة النقدية التي يحددها البائعون للكوب تعادل في ارتفاعها القيمة التي يحددها المنتقون والمشترون بأكثر من الضعف قليلًا. وتعد هذه النسبة قريبة للغاية لمعامل تجنب الخسارة في الاختيار المحفوف بالمخاطر، مثلما قد نتوقع إذا كانت نفس دالة القيمة بالنسبة للمكاسب والخسائر المالية تنطبق على كل من القرارات الخالية من المخاطر والمحفوفة بالمخاطر. وقد ظهرت نسبة تقدر ﺑ ١:٢ في الدراسات الخاصة بالمجالات الاقتصادية المتنوعة، بما في ذلك استجابة الأسر للتغيرات في الأسعار. وكما قد يتوقع الاقتصاديون، يميل المستهلكون لزيادة مشترياتهم من البيض، أو عصير البرتقال، أو الأسماك حين تنخفض الأسعار، وخفض مشترياتهم عند ارتفاع الأسعار؛ ولكن على عكس تكهنات النظرية الاقتصادية، فإن تأثير زيادات الأسعار (الخسائر بالنسبة للسعر المرجعي) يعادل تأثير المكاسب بمقدار الضعف.
ظلت تجربة الأكواب المثال التوضيحي القياسي لتأثير المنحة، إلى جانب تجربة أبسط نقلها جاك نيتش في نفس الوقت تقريبًا؛ فقد طلب نيتش من طلاب فصلين ملء استمارة استبيان وكافأهم بهدية ظلت أمامهم طوال مدة التجربة. في إحدى الجلسات، كانت الجائزة عبارة عن قلم باهظ الثمن، وفي جلسة أخرى كانت قطعة من الشيكولاتة السويسرية. وفي نهاية المحاضرة أظهر القائم على التجربة الهدية البديلة وسمح للجميع بمقايضة هديته مقابل أخرى. فقط ١٠٪ من المشاركين اختاروا مبادلة هديتهم؛ إذ اختار معظم هؤلاء الذين حصلوا على القلم الاحتفاظ بالقلم، وكذلك لم يتزحزح هؤلاء الذين حصلوا على قطعة الشيكولاتة عن موقفهم.
التفكير كتاجر
تتمثل الأفكار الأساسية لنظرية التوقع في أن النقاط المرجعية موجودة، وأن الخسائر تبدو أكبر من المكاسب الموازية لها. وتوضح الملاحظات التي تم جمعها على مدار السنين قوة هذه المفاهيم. وقد أسفرت دراسة سوقية لشقق الملكيات العقارية المشتركة في بوسطن خلال إحدى فترات الانكماش الاقتصادي عن نتائج واضحة بشكل خاص؛ إذ قارن القائمون على هذه الدراسة سلوك ملَّاك وحدات متشابهة اشتروا مساكنهم بأسعار مختلفة. بالنسبة للفاعل العقلاني، يعتبر سعر الشراء قصة غير ذات أهمية؛ فكل ما يهم هو القيمة السوقية الحالية. ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للبشر في سوق إسكان متدهورة؛ فالملاك الذين ترتفع النقطة المرجعية لديهم، ومن ثم يواجهون خسائر مرتفعة؛ يحددون سعرًا أعلى لمسكنهم، ويقضون فترة أطول في محاولة بيع منازلهم، وفي النهاية يحصلون على مزيد من المال.
وقد كان المثال التوضيحي الأصلي للتباين بين أسعار البيع وأسعار الشراء (أو بين البيع والانتقاء لمزيد من الإقناع) ذا أهمية بالغة في القبول المبدئي لأفكار النقطة المرجعية وتجنب الخسارة، غير أنه من المفهوم جيدًا أن النقاط المرجعية غير مستقرة وخاضعة للتغيير، لا سيما في الظروف المعملية غير المألوفة، وأن تأثير المنحة يمكن التخلص منه بتغيير النقطة المرجعية.
لا يُتوقع وجود تأثير للمنحة حين ينظر الملاك إلى سلعهم كحاملات للقيمة للتبادلات التجارية المستقبلية، وهو توجه واسع النطاق في التجارة الروتينية وفي الأسواق المالية. وقد وجد عالم الاقتصاد التجريبي جون ليست، الذي درس التبادل التجاري في فعاليات بطاقات البيسبول، أن التجار الجدد كانوا يعزفون عن التخلي عن البطاقات التي يحوزونها، ولكن هذا العزوف اختفى مع خبرة التبادل التجاري. والأكثر دهشة ما وجده ليست من تأثير ضخم لخبرة التبادل التجاري على تأثير المنحة بالنسبة للسلع الجديدة.
في أحد الفعاليات عرض ليست إعلانًا يدعو الناس للمشاركة في استطلاع قصير على أن تتم مكافأتهم عليه بهدية صغيرة: كوب قهوة أو قطعة شيكولاتة بقيمة مساوية. تم توزيع الهدايا بشكل عشوائي. وبينما كان المتطوعون على وشك المغادرة، أخبر ليست كل واحد منهم قائلًا: «لقد أعطيناكم كوبًا [أو قطعة شيكولاتة]، ولكن بإمكانكم أن تستبدلوا به قطعة شيكولاتة [أو كوبًا] إذا شئتم.» وفي استنساخ دقيق لتجربة جاك نيتش السابقة، وجد ليست أن ١٨٪ فقط من التجار غير المحنكين كانوا على استعداد لمبادلة هديتهم بالهدية الأخرى. وعلى نقيض حاد، لم يُظهر التجار المحنكين أي أثر لتأثير المنحة؛ إذ خاض ٤٨٪ منهم عملية التبادل. على الأقل في بيئة سوقية كان فيها التبادل التجاري هو النظام الطبيعي، لم يظهروا أي عزوف عن التبادل التجاري.
أجرى جاك نيتش كذلك تجارب أدت فيها بعض المناورات المتقنة إلى اختفاء تأثير المنحة؛ فكان المشاركون يظهرون تأثير المنحة فقط إذا كانت لديهم حيازة مادية للسلعة لفترة قبل أن تُذكر إمكانية التبادل التجاري. قد يستهوي الاقتصاديون ذوو القناعات التقليدية القول بأن نيتش قد قضى وقتًا أكثر من اللازم مع علماء النفس؛ لأن مناورته التجريبية أظهرت اهتمامًا بالمتغيرات التي يتوقع علماء النفس الاجتماعيون أن تكون ذات أهمية. والواقع أن الاهتمامات المنهجية المختلفة لعلماء الاقتصاد التجريبي وعلماء النفس كانت جلية إلى حد كبير في النقاش المستمر حول تأثير المنحة.
لقد تعلم التجار المحنكون بشكل جلي أن يطرحوا السؤال الصحيح، وهو «إلى أي مدى أرغب في «اقتناء» هذا الكوب، مقارنة بالأشياء التي كان يمكنني اقتناؤها بدلًا منه؟» هذا هو السؤال الذي يطرحه الاقتصاديون، وفي وجود هذا السؤال لا يكون هناك وجود لتأثير المنحة؛ لأن التباين بين متعة الحصول على الشيء وألم التخلي عنه ليس ذا صلة بالموضوع.
وتشير دراسات حديثة لسيكولوجية «اتخاذ القرار تحت ظروف الفقر» إلى أن الفقراء هم مجموعة أخرى لا نتوقع أن نجد بينها تأثير المنحة. فالفقر في نظرية التوقع يعني العيش تحت مستوى نقطتك المرجعية. وهناك سلع يحتاج إليها الفقراء ولا يستطيعون شراءها، ومن ثم فهم دائمًا «في جانب الخسائر». ولذلك ينظر إلى المبالغ المالية الصغيرة التي يتلقونها كخسارة مخففة، لا كمكسب. فالمال يساعد الفرد على الصعود قليلًا نحو النقطة المرجعية، ولكن الفقراء دائمًا ما يبقون على الطرف المنحدر لدالة القيمة.
إن الفقراء يفكرون كتجار، ولكن الآليات مختلفة إلى حد كبير؛ فعلى عكس التجار، يهتم الفقراء بالاختلافات بين المكسب والتخلي عن الشيء. فمشكلتهم تنحصر في أن جميع الاختيارات المتاحة لهم هي اختيارات بين خسائر؛ فالمال الذي ينفق على سلعة هو خسارة لسلعة أخرى كان من الممكن شراؤها بدلًا منها، والتكاليف بالنسبة للفقراء هي عبارة عن خسائر.
جميعًا نعرف أشخاصًا يشعرون بالألم لإنفاق المال، على الرغم من أنهم ميسورو الحال إلى حد كبير. كذلك قد يكون هناك فوارق ثقافية في توجه الأفراد إزاء المال، ولا سيما إزاء إنفاق المال على الأهواء والرفاهيات الصغيرة، مثل شراء كوب مزخرف. ومثل هذا الفارق قد يكون من شأنه تفسير التعارض الكبير بين نتائج «دراسة الأكواب» في الولايات المتحدة ونتائجها في المملكة المتحدة. فأسعار البيع والشراء تختلف بشكل جوهري في التجارب التي تجرى على عينات البحث من الطلاب الأمريكيين، ولكن الفوارق تكون أصغر كثيرًا بين الطلاب الإنجليز. ولا يزال هناك الكثير مما يجب معرفته عن تأثير المنحة.
في الحديث عن تأثير المنحة
«إنها لم تكن تعبأ بأي من المكتبين ستحصل عليه، ولكن بعد يوم من ظهور الإعلان، لم تعد راغبة في المبادلة. إنه تأثير المنحة!»
«هذه المفاوضات لن تسفر عن شيء؛ لأن كلا الطرفين يجد صعوبة في تقديم تنازلات، حتى وإن كان بإمكانهما الحصول على شيء في المقابل. فالخسائر تبدو أكبر من المكاسب.»
«حين قاموا برفع أسعارهم، توقف الطلب.»
«إنه يكره فكرة بيع منزله بمبلغ أقل مما دفعه في شرائه. إنه تأثير تجنب الخسارة.»
«إنه بخيل ويتعامل مع أي دولار ينفقه كخسارة.»