الأطر والواقع
تنافست كلٌّ من إيطاليا وفرنسا في نهائي كأس العالم عام ٢٠٠٦، والجملتان التاليتان تصفان نتيجة المباراة: «فازت إيطاليا»، «خسرت فرنسا». هل هاتان العبارتان لهما نفس المعنى؟ تعتمد الإجابة كليًّا على ما تعنيه بكلمة «معنى».
من منطلق التفكير المنطقي، يعتبر هذان الوصفان لنتيجة المباراة قابلين للتبادل؛ لأنهما يحددان نفس الحالة التي عليها العالم. وكما يقول الفلاسفة، فإن اشتراطات صحتهما متماثلة: فإذا كانت إحدى العبارتين صحيحة، تكون الأخرى صحيحة كذلك. تلك هي الكيفية التي يستوعب بها الاقتصاديون الأمور؛ إذ تتقيد معتقداتهم وتفضيلاتهم بالواقع. والأشياء التي يختارونها، على نحو خاص، تعد حالات للعالم لا تتأثر بالكلمات المختارة لوصفها.
ثمة نظرة أخرى لكلمة «معنى»، ووفقها لا تتساوى عبارتا «فازت إيطاليا» و«خسرت فرنسا» على الإطلاق. وفق هذه النظرة، فإن معنى أي عبارة هو ما يحدث في آليتك الترابطية بينما تفهمها. فتستدعي العبارتان تداعيات مختلفة بشكل ملحوظ؛ فتستدعي عبارة «فازت إيطاليا» أفكارًا عن الفريق الإيطالي وما فعله من أجل تحقيق الفوز، فيما تستدعي عبارة «خسرت فرنسا» أفكارًا عن الفريق الفرنسي وما فعله وتسبب له في الخسارة، بما في ذلك ضربة الرأس المشهودة التي تلقاها لاعب إيطالي من النجم الفرنسي زيدان. وفي إطار التداعيات التي تستدعيانها للعقل — كيفية استجابة النظام ١ لهما — فإن العبارتين «تعنيان» في الواقع أشياء مختلفة. وحقيقة أن العبارات المترادفة منطقيًّا تثير ردود أفعال مختلفة تجعل من المستحيل بالنسبة للبشر أن يكونوا عقلانيين بشكل يعول عليه مثل الاقتصاديين.
التأطير العاطفي
هل كنت ستقبل رهانًا يقدم لك احتمال ١٠٪ للفوز ﺑ ٩٥ دولارًا، واحتمال ٩٠٪ لخسارة ٥ دولارات؟
هل كنت ستدفع ٥ دولارات للاشتراك في مسابقة يانصيب تقدم لك احتمال ١٠٪ للفوز ﺑ ١٠٠ دولار واحتمال ٩٠٪ للفوز بلا شيء؟
أولًا: استغرقْ لحظة لإقناع نفسك بأن السؤالين متماثلان. فلا بد أن تقرر في كلٍّ منهما ما إذا كنت تقبل توقعًا غير مؤكد سوف يتركك إما أكثر ثراء ﺑ ٩٥ دولارًا أو أكثر فقرًا ﺑ ٥ دولارات. إن شخصًا تتقيد تفضيلاته بالواقع كان سيُدلي بنفس الإجابة لكلا السؤالين، ولكن مثل هؤلاء الأفراد نادرون. والواقع أن إحدى نسختي السؤال تجذب المزيد من الإجابات الإيجابية، وهي النسخة الثانية. فالنتيجة السيئة تكون أكثر قبولًا إذا صيغت في صورة تكلفة تذكرة يانصيب لم تفُز عما إذا وصفت ببساطة كخسارة لرهان. لا ينبغي أن نندهش من ذلك: ﻓ «الخسائر» تثير مشاعر سلبية أقوى من «التكاليف». والاختيارات ليست مقيدة بالواقع؛ لأن النظام ١ غير مقيد بالواقع.
لقد تأثر السؤال الذي قمنا بصياغته بما تعلمناه من ريتشارد تالر، الذي أخبرنا بأنه حين كان طالبًا في الدراسات العليا كان يعلق على سبورته بطاقة مكتوبًا عليها إن التكاليف ليست خسائر. وفي مقاله عن سلوك المستهلك، وصف تالر الجدال الدائر بشأن ما إذا كان سيسمح لمحطات الوقود بأن تضع أسعارًا مختلفة للمشتريات التي تدفع نقدًا أو على بطاقة الائتمان. ضغط اللوبي المؤيد للدفع ببطاقة الائتمان بقوة من أجل تجريم التسعير التفاضلي، ولكن كان لديه خطة بديلة: فسوف يطلق على الفارق — إذا سمح به — خصمًا نقديًّا، لا رسمًا إضافيًّا على البطاقة الائتمانية. وقد كان تحليلهم السيكولوجي سليمًا: فالناس سوف يجدون سهولة أكبر في التنازل عن خصم نقدي عن دفع رسوم إضافية. قد يكون الاثنان متساويين اقتصاديًّا، ولكنهما ليسا متساويين نفسيًّا.
يطلب من فرد البحث أولًا أن يتخيل أنه قد تلقى مبلغًا من المال، يقدر في هذه التجربة ﺑ ٥٠ جنيهًا استرلينيًّا.
بعد ذلك يُطلب من فرد البحث الاختيارُ بين نتيجة مضمونة ورهان على عجلة حظ. فإذا توقفت العجلة عند اللون الأبيض، «يتلقى» المبلغ كاملًا؛ وإذا توقفت عند اللون الأسود لا يحصل على أي شيء. أما النتيجة المضمونة، فتتمثل ببساطة في القيمة المتوقعة للرهان، وهي في هذه الحالة عبارة عن مكسب قدره ٢٠ جنيهًا استرلينيًّا.
كما هو موضح، يمكن تأطير نفس النتيجة المضمونة بطريقتين مختلفتين: كاحتفاظ ﺑ ٢٠ جنيهًا استرلينيًّا، أو كخسارة ٣٠ جنيهًا استرلينيًّا. والنتائج الموضوعية متطابقة تمامًا في الإطارين، وسوف يستجيب أي اقتصادي مقيد بالواقع لكلتيهما بنفس الطريقة — باختيار إما الشيء المضمون أو الرهان بغض النظر عن الإطار — ولكننا نعرف مسبقًا أن عقل البشر ليس مقيدًا بالواقع. فالنزعات نحو الاقتراب أو التجنب تثيرها الكلمات، ونحن نتوقع أن يتحيز النظام ١ للخيار المضمون حين يطلق عليه «احتفاظ» وأن ينحاز ضد نفس الخيار حين يطلق عليه «خسارة».
تألفت التجربة من العديد من التجارب الفرعية، وواجه كل مشترك العديد من إشكاليات الاختيار في كلٍّ من إطار الاحتفاظ وإطار الخسارة، غير أن عينات البحث ليست متماثلة جميعها؛ فبعضهم يميل إلى التأثر بشدة بتأطير الإشكالية، بينما اختار آخرون نفس الاختيار بغض النظر عن الإطار، وهو ما يُفترض أن يقوم به الفرد المقيد بالواقع. وعليه قام المؤلفون بوضع ترتيب لعينات البحث، وعددهم عشرون شخصًا، ومنحوا هذا الترتيب مسمى مثيرًا للدهشة؛ ألا وهو مؤشر العقلانية.
- (١)
تجارب تطابَق فيها اختيار عينة البحث مع الإطار:
-
تفضيل الشيء المضمون في نسخة «احتفاظ».
-
تفضيل الرهان في نسخة «خسارة».
-
- (٢)
تجارب لم يتطابق فيها اختيار عينة البحث مع الإطار.
-
إحدى مناطق المخ التي ترتبط عادة بالاستثارة العاطفية (وهي لوزة المخ) كانت أكثر ميلًا للنشاط حين تتطابق اختيارات أفراد التجربة مع الإطار. وهذا بالضبط ما كنا سنتوقعه إذا أفرزت كلمتا «احتفاظ» و«خسارة» المشحونتان عاطفيًّا نزعة فورية للاقتراب من الشيء المضمون (حين يكون التأطير في صورة مكسب) أو تجنبه (حين يكون كخسارة). فلوزة المخ يتم الوصول إليها بسرعة بالغة عن طريق المثيرات العاطفية؛ وهناك شك بأنها تشترك في عمل النظام ١.
-
ثمة منطقة من المخ معروف أنها مرتبطة بالصراع وضبط النفس (هي القشرة الحزامية الأمامية)، كانت أكثر نشاطًا حين كان أفراد التجربة لا يفعلون ما هو معتاد؛ أي حين كان يقع اختيارهم على الشيء المضمون على الرغم من كونه مسمى «خسارة». فمقاومة نزعة النظام ١ تنطوي على صراع بشكل واضح.
-
أظهر أكثر أفراد التجربة عقلانية — أي هؤلاء الذين كانوا أقل تأثرًا بآثار التأطير — نشاطًا معززًا في منطقة أمامية من المخ متورطة في دمج العاطفة مع التفكير لتوجيه القرارات. وعلى نحو لافت للنظر، لم يكن الأفراد «العقلانيون» هم من أظهروا أقوى دليل عصبي على وجود صراع. فيبدو أن هذه النخبة المميزة من المشاركين كانوا (في الغالب وليس دائمًا) مقيدين بالواقع بقليل من الصراع.
وعن طريق ربط ملاحظات الاختيارات الفعلية بتخطيط النشاط العصبي، تقدم هذه الدراسة مثالًا جيدًا يوضح كيف أن العاطفة التي تثيرها كلمة يمكن أن «تتسرب» إلى الاختيار النهائي.
أنت تعلم النتائج بالفعل: كانت الجراحة أكثر شيوعًا بكثير في الإطار الأول (حيث اختارها ٨٤٪ من الأطباء) عنها في الإطار الأخير (حيث فضل ٥٠٪ من الأطباء الإشعاع). إن التساوي المنطقي بين الوصفين واضح، وصانع القرار المقيد بالواقع من شأنه اتخاذ نفس الاختيار بغض النظر عن أي نسخة من النسختين رأى. ولكن النظام ١ — كما عرفناه — نادرًا ما لا يكترث للكلمات العاطفية: فالموت أمر سيئ والبقاء أمر جيد، ووقع الحديث عن نسبة بقاء ٩٠٪ مشجع، فيما يتسم الحديث عن نسبة وفيات ١٠٪ بوقع مخيف. ولعل من إحدى النتائج المهمة للدراسة أن الأطباء كانوا عرضة لتأثير التأطير شأنهم شأن الأشخاص المفتقدين للمعرفة الطبية (مرضى المستشفيات والطلاب الجامعيين في كلية لإدارة الأعمال). ومن الواضح أن التدريب الطبي لا يعتبر حصنًا ضد قوة التأطير.
يتمثل الاختلاف بين دراسة «الاحتفاظ-الخسارة» وتجربة البقاء-الوفاة في جانب مهم؛ فقد خاض المشاركون في دراسة التصوير الدماغي عدة تجارب واجهوا فيها مختلف الأطر. وكانت لديهم فرصة لإدراك تأثيرات الأطر المشتِّتة وتبسيط مهمتهم بتبني إطار شائع، ربما بتحويل المبلغ الوارد في إطار «الخسارة» إلى مكافئ له في جانب «الاحتفاظ». والأمر يتطلب شخصًا ذا ذكاء وفطنة (ونظام ٢ منتبه) لتعلم القيام بذلك، وعلى الأرجح أن المشاركين القلائل الذين نجحوا في تحقيق هذا الإنجاز كانوا ضمن الفاعلين «العقلانيين» ممن حددهم القائمون على التجربة. في المقابل، لم يكن لدى الأطباء الذين قرءوا الإحصائيات عن العلاجين في إطار معدلات البقاء أي سبب للتشكك في أنهم كانوا سيتخذون اختيارًا مختلفًا لو كانوا قد سمعوا نفس الإحصائيات مُصاغَة في إطار معدل الوفيات. فإعادة التأطير أمر شاق، والنظام ٢ كسول بطبيعته. وما لم يكن هناك سبب واضح للقيام بغير ذلك، يتقبل معظمنا إشكاليات القرارات في إطارها كما هي على نحو سلبي؛ ولذا نادرًا ما تواتينا الفرصة لاكتشاف مدى تقيد تفضيلاتنا ﺑ «الإطار» وليس ﺑ «الواقع».
البداهات الفارغة
تختار أغلبية كبيرة من المشاركين البرنامج (أ)؛ فهم يفضلون الخيار المضمون عن الرهان.
إن الاختيارات المختلفة في الصياغتين تتوافق مع نظرية التوقع، التي تحسم فيها الاختيارات بين المراهنات والأشياء المضمونة بأسلوب مختلف، اعتمادًا على ما إذا كانت النتائج جيدة أم سيئة. فيميل صناع القرار إلى تفضيل الشيء المضمون على المراهنة (أي يميلون لتجنب الخسارة) حين تكون النتائج جيدة، فيما يميلون إلى رفض الشيء المضمون وقبول المراهنة (أي يسعون للمخاطرة) حين تكون كلتا النتيجتين سيئة. وهذه الاستنتاجات ثابتة ووطيدة بالنسبة للخيارات على صعيد المراهنات والأشياء المضمونة في مجال المال. وتوضح إشكالية المرض أن نفس القاعدة تسري حين تقاس النتائج في شكل حياة أشخاص تُنقَذ أو تضيع. وفي هذا السياق أيضًا تُظهر تجربة التأطير أن التفضيلات المتجنبة للمخاطرة والساعية للمخاطرة ليست مقيدة بالواقع؛ فالتفضيلات ما بين نفس النتائج الموضوعية تنقلب للنقيض مع اختلاف الصياغات.
أطلعني عاموس على تجربة أضافت بعدًا كئيبًا للقصة. كان عاموس قد دُعي لإلقاء خطاب لمجموعة من المتخصصين في مجال الصحة العامة؛ وهم الأشخاص الذين يتخذون القرارات الخاصة باللقاحات والبرامج الأخرى، واستغل الفرصة لتعريفهم بإشكالية المرض الآسيوي: فاطلع نصفهم على نسخة «الناجون»، بينما أجاب الآخرون عن السؤال الخاص ﺑ «الوفيات». وكشأن الآخرين، كان هؤلاء المتخصصون عرضة لآثار التأطير. ومن المقلق نوعًا ما أن يكون المسئولون عن صناعة القرارات التي تمس صحة الجميع ممن يتأثرون بمثل هذا التلاعب الظاهري؛ ولكن لا بد أن نعتاد فكرة أن حتى القرارات المهمة تتأثر بالنظام ١، إن لم يتم التحكم فيها.
والأمر الأكثر إزعاجًا هو ما يحدث حين يواجَه الناس بتناقضهم: «لقد اخترت أن تنقذ حياة ٢٠٠ شخص بشكل مؤكد في إحدى الصياغتين، واخترت المراهنة بدلًا من قبول ٤٠٠ حالة وفاة في الأخرى. الآن وقد عرفت أن هذين الاختيارين متناقضان، ماذا ستقرر؟» عادة ما يكون الصمت المربك هو الإجابة عن هذا السؤال؛ فالبداهات التي حددت الاختيار الأساسي جاءت من النظام ١ ولم يكن له أي قواعد أخلاقية أكثر مما كان لتفضيل الاحتفاظ ﺑ ٢٠ استرلينيًّا أو تجنب خسارة ٣٠ استرلينيًّا. وإنقاذ الأرواح بشكل مؤكد أمر جيد، وحالات الوفاة أمر سيئ. فمعظم الناس لا يجدون لنظامهم رقم ٢ أي بداهات أخلاقية خاصة به للإجابة عن السؤال.
هل ينبغي أن يكون إعفاء الطفل الضريبي أكبر بالنسبة للأثرياء عنه بالنسبة للفقراء؟
هناك احتمال كبير أن تكون بداهاتك الخاصة هي نفسها بداهات طلاب شيلينج: فقد وجدوا أن فكرة تمييز الأثرياء بإعفاء أكبر أمر غير مقبول تمامًا.
هل ينبغي أن يدفع الفقراء بلا أطفال ضريبة إضافية كبيرة مثل الأثرياء بلا أطفال؟
من المحتمل هنا أن تتفق مرة أخرى مع ردة فعل الطلاب تجاه هذه الفكرة التي رفضوها بنفس الحدة التي رفضوا بها الفكرة الأولى. ولكن شيلينج بيَّن لطلابه أنهم لا يستطيعون منطقيًّا رفض كلا المقترحين. لنضع الصيغتين إحداهما بجوار الأخرى، وسنجد أن الفارق بين الضريبة المستحقة على أسرة بلا أطفال وأسرة لديها طفلان يوصف على أنه تخفيض ضريبي في النسخة الأولى وزيادة في النسخة الثانية. فإذا أردت في النسخة الأولى أن يتمتع الفقراء بنفس ميزة وجود أطفال (أو أكبر) مثل الأثرياء، إذن لا بد أن ترغب في أن يدفع الفقراء — على الأقل — نفس الضريبة التي يدفعها الأثرياء لكونهم بلا أطفال.
يمكننا إدراك تأثير النظام ١؛ فهو يُصدر استجابة فورية لأي سؤال عن الفقراء والأثرياء: حين تكون في ريبة، تحيز للفقراء. ولعل الجانب المدهش من إشكالية شيلينج هو أن هذه القاعدة الأخلاقية البسيطة بشكل واضح لا تعمل بشكل يُعتمد عليه؛ فهي تولِّد إجابات متناقضة لنفس الإشكالية، اعتمادًا على كيفية صياغة أو تأطير الإشكالية. ولا شك أنك تعرف بالفعل السؤال الذي سيأتي بعد ذلك. الآن وقد رأيت أن ردود أفعالك تجاه الإشكالية تتأثر بالإطار، ما هي إجابتك عن السؤال: كيف ينبغي أن يتعامل قانون الضرائب مع أطفال الفقراء والأثرياء؟
مرة أخرى، ربما تجد نفسك مذهولًا. إن لديك بداهاتك الأخلاقية بشأن الفروق بين الأثرياء والفقراء، ولكن هذه البداهات تعتمد على نقطة مرجعية اعتباطية، ولا تتعلق بالإشكالية الحقيقية. وهذه الإشكالية — السؤال الخاص بالحالات الفعلية للعالم — تتمثل في قدر الضريبة التي ينبغي أن تدفعها الأسر الفردية؛ كيف نملأ الخانات في مصفوفة قانون الضرائب. أنت لا تملك بداهات أخلاقية مقنعة لترشدك في حل هذه الإشكالية، ومشاعرك الأخلاقية مرتبطة بالأطر؛ بتوصيفات للواقع وليس بالواقع ذاته. والرسالة بشأن طبيعة التأطير صارمة: لا ينبغي أن يُنظر إلى التأطير كتدخل يُخفي أو يحرف تفضيلًا ضمنيًّا؛ فلا يوجد تفضيل ضمني يخفيه الإطار أو يحرفه، على الأقل في هذا المثال، وكذلك في إشكاليتَي المرض الآسيوي والجراحة في مقابل الإشعاع لعلاج سرطان الرئة. فتفضيلاتنا تتعلق بإشكاليات مؤطرة، وبداهاتنا الأخلاقية تتعلق بالتوصيفات، وليس بالجوهر.
الأطر الجيدة
اشترت سيدة تذكرتين للمسرح مقابل ٨٠ دولارًا للواحدة، حين وصلت إلى المسرح، وفتحت محفظتها اكتشفت أنها فقدت التذكرتين. هل ستشتري تذكرتين أخريين لتشاهد المسرحية؟
ذهبت سيدة إلى المسرح عازمة على شراء تذكرتين تكلفة الواحدة ٨٠ دولارًا، وعندما وصلت إلى المسرح، فتحت محفظتها وصدمت حين اكتشفت أن مبلغ اﻟ ١٦٠ دولارًا الذي كانت ستشتري به التذكرتين قد ضاع. بإمكانها أن تستخدم بطاقتها الائتمانية. فهل ستشتري التذكرتين؟
يتوصل المشاركون الذين يرون نسخة واحدة فقط من الإشكالية إلى استنتاجات مختلفة، اعتمادًا على الإطار المصاغة فيه؛ فيعتقد الغالبية أن السيدة في القصة الأولى سوف تعود إلى المنزل بدون مشاهدة العرض إذا فقدت التذاكر، ويعتقد الغالبية أنها سوف تشتري تذاكر العرض ببطاقة الائتمان إذا فقدت النقود.
من المفترض أن يكون تفسير ذلك معروفًا؛ فهذه الإشكالية تنطوي على الحساب الذهني ومغالطة التكلفة الغارقة. والأطر المختلفة تستدعي حسابات ذهنية مختلفة، وفداحة الخسارة تعتمد على الحساب الذي تقيد عليه. فحين تضيع تذاكر لعرض معين، من الطبيعي أن نقيدها على الحساب المرتبط بتلك المسرحية. فالتكلفة تبدو وقد تضاعفت، وقد تكون الآن أكبر مما تستحق التجربة. في المقابل، يقيد المال الضائع على حساب «للدخل العام»؛ فزبونة المسرح أفقر قليلًا مما كانت تعتقد، والسؤال الذي يحتمل أن تطرحه على نفسها هو ما إذا كان النقص المحدود الذي سيطرأ على ثروتها سوف يغير من قرارها بشأن دفع ثمن التذاكر أم لا، وقد اعتقد معظم المشاركين أنه لن يفعل.
تؤدي النسخة التي فُقدت فيها النقود إلى قرارات أكثر عقلانية. وهي تعد إطارًا أفضل؛ لأن الخسارة، حتى إذا كانت التذاكر قد فُقدت، «غارقة»، والتكاليف الغارقة لا بد من تجاهلها. ليس للتاريخ صلة بالأمر، والمسألة الوحيدة ذات الأهمية هنا هي مجموع الخيارات المتاحة أمام زبونة المسرح الآن، وعواقبها المحتملة. وأيًّا كان ما فُقد منها، فإن الحقيقة المتصلة بالموضوع الآن هي أنها أصبحت أقل ثراء مما كانت عليه قبل أن تفتح محفظتها. وهذا هو ما كنت سأخبر به السيدة التي فقدت التذاكر لو طلبت نصيحتي: «هل كنتِ ستشترين التذاكر لو كنتِ قد فقدت المبلغ المساوي لها نقدًا؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فلتشتري تذكرتين جديدتين.» فالأطر الأوسع والحسابات الشاملة تؤدي بشكل عام إلى قرارات أكثر عقلانية.
يتحول آدم من سيارة تستهلك وقودًا بمعدل ١٢ ميلًا لكل جالون إلى سيارة أقل التهامًا للوقود بعض الشيء حيث تستهلك وقودًا بمعدل ١٤ ميلًا لكل جالون.
تتحول بث الملتزمة بيئيًّا من سيارة تستهلك وقودًا بمعدل ٣٠ ميلًا لكل جالون إلى سيارة تستهلك وقودًا بمعدل ٤٠ ميلًا لكل جالون.
لنفترض أن كلا السائقين يقطعان نفس المسافات على مدار عام. أيهما سيوفر المزيد من الوقود من خلال عملية التحول؟ من المرجح أنك تشارك الحدس الرائج من أن تصرف بث أكثر تأثيرًا من تصرف آدم: فقد قللتْ من معدل استهلاك الميل لكل جالون بمقدار ١٠ أميال بدلًا من ميلين، وبمقدار الثلث (من ٣٠ إلى ٤٠) بدلًا من السدس (من ١٢ إلى ١٤). الآن أشرك نظامك رقم ٢ وقم بإعماله. إذا كان مالكا السيارتين يقودان لمسافة ١٠٠٠٠ ميل، فسوف يقلل آدم من استهلاكه من معدل كارثي يبلغ ٨٣٣ جالونًا إلى معدل صادم أيضًا يبلغ ٧١٤ جالونًا، موفرًا ١١٩ جالونًا. وسوف ينخفض معدل استهلاك بث من الوقود من ٣٣٣ جالونًا إلى ٢٥٠، موفرة ٨٣ جالونًا فقط. إن صيغة ميل لكل جالون خاطئة، وينبغي أن يحل محلها صيغة الجالونات لكل ميل (أو لترات لكل ١٠٠ كيلومتر وهي الصيغة المستخدمة في معظم الدول الأخرى). وكما يشير لاريك وسول، فإن البداهات المضللة التي تدعمها صيغة ميل لكل جالون من المحتمل أن تضلل صناع السياسة وكذلك مشتري السيارات.
عمل كاس سنستاين، في عهد الرئيس أوباما، مديرًا لمكتب المعلومات والشئون التنظيمية، وشارك مع ريتشارد تالر في تأليف كتيب «الوكزة»، وهو دليل إرشادي أساسي لتطبيق الاقتصاد السلوكي في مجال السياسة. ولم يكن من قبيل المصادفة أن ملصق «توفير الوقود والبيئة» الذي سيوضع على كل سيارة جديدة يبدأ تشغيلها في عام ٢٠١٣ سيتضمن لأول مرة في الولايات المتحدة معلومة الجالونات لكل ميل. ولكن لسوء الحظ ستكون الصياغة الصحيحة بخط صغير، فيما ستكون معلومة ميل لكل جالون الأكثر شيوعًا بخط كبير، ولكن الخطوة ذاتها في الاتجاه الصحيح. ومن المحتمل أن تكون فترة الخمس سنوات الفاصلة بين نشر كتاب «وهم الميل لكل جالون» وتطبيق تصحيح جزئي لصياغة بمنزلة رقم قياسي للسرعة في تطبيق مهم للعلوم السيكولوجية في السياسة العامة.
تحوي رخصة القيادة الخاصة بالسائقين في العديد من الدول ملحوظة إرشادية حول التبرع بالأعضاء في حالة حوادث الموت. وتعد صياغة هذه الملحوظة الإرشادية حالة أخرى يتفوق فيها إطار على الآخر بشكل واضح؛ فقليل من الناس هم من سيجادلون بأن قرار التبرع بالأعضاء من عدمه غير ذي أهمية، ولكن ثمة دليلًا قويًّا على أن معظم الناس يحسمون اختيارهم بلا تفكير. ويأتي هذا الدليل من مقارنة لمعدل التبرع بالأعضاء في الدول الأوروبية، التي توضح فروقًا تثير الفزع بين الدول المجاورة والدول المتشابهة ثقافيًّا. فقد أشار مقال نشر في عام ٢٠٠٣ إلى أن معدل التبرع بالأعضاء اقترب من ١٠٠٪ في النمسا، ولكنه لم يزد عن ١٢٪ في ألمانيا، وبلغ في السويد ٨٦٪ فيما لم يتجاوز ٤٪ فقط في الدنمارك.
إن هذه الفروق الهائلة تعد من تأثيرات التأطير، الذي يحدث بسبب صياغة السؤال الحاسم في هذا الأمر. لدى الدول الأوروبية التي ترتفع فيها معدلات التبرع بالأعضاء نموذج اختيار عدم المشاركة، حيث يتعين على الأفراد الذين لا يرغبون في التبرع أن يضعوا علامة على المربع المناسب. وما لم يتخذوا هذا الإجراء البسيط، يعتبر ذلك دلالة على الاستعداد للتبرع. أما الدول التي تنخفض فيها معدلات التبرع، فلديها نموذج لاختيار المشاركة: فلا بد أن تؤشر على أحد المربعات لكي تصبح متبرعًا. هذا كل ما في الأمر. ولعل أفضل مؤشر للتنبؤ بما إذا كان الناس سيتبرعون بأعضائهم أم لا هو تحديد الاختيار الافتراضي الذي سيتم تبنيه دون الاضطرار للتأشير على مربع.
وعلى عكس تأثيرات التأطير الأخرى التي عزيت إلى سمات النظام ١، فإن أفضل تفسير لتأثير التبرع بالأعضاء هو خمول النظام ٢. فالناس سوف يؤشرون على المربع إذا كانوا قد قرروا بالفعل أنهم يرغبون في التبرع. وإذا لم يكونوا متأهبين للسؤال، فإنهم يضطرون لتحمل مشقة التفكير فيما إذا كانوا يرغبون في التأشير على المربع. أتخيل نموذج تبرع بالأعضاء يُطلب فيه من الأشخاص حل مسألة رياضية في المربع الذي يتوافق مع قرارهم. يحتوي أحد المربعات على مسألة ٢ + ٢ = ؟ أما المسألة في المربع الآخر، فهي ١٣ × ٣٧ = ؟ ولا شك أن معدل التبرعات سيتأرجح.
وحين يتم الاعتراف بدور الصياغة، يظهر سؤال يخص السياسة: أي صياغة ينبغي تبنيها؟ والإجابة في هذه الحالة واضحة وبسيطة. إذا كنت تعتقد أن وجود مخزون كبير من الأعضاء المتبرع بها أمر إيجابي بالنسبة للمجتمع، فلن تقف على الحياد بين صياغة تسفر عن تبرعات تقترب من اﻟ ١٠٠٪ وبين صياغة أخرى تنتزع تبرعات من ٤٪ من قائدي السيارات.
كما رأينا مرارًا، فإن أي اختيار مهم يكون محكومًا بسمة غير مهمة تمامًا للموقف. وهذا أمر مربك؛ فلا يتمثل الأمر في الكيفية التي نرغب في اتخاذ القرارات المهمة بها، كما أنه ليس الطريقة التي نختبر بها إعمالات عقلنا، ولكن الدليل على وجود هذه الأوهام المعرفية واضح لا يمكن إنكاره.
ولنعتبر ذلك نقطة ضد نظرية الفاعل العقلاني. فأي نظرية تستحق هذا الاسم تؤكد أن هناك أحداثًا بعينها مستحيلة؛ فهي لن تحدث إذا كانت النظرية صحيحة. وحين يتم رصد حدث «مستحيل»، تكون النظرية زائفة. وبإمكان النظريات أن تبقى وتعيش فترة طويلة بعد ظهور دليل قاطع يثبت كذبها وزيفها، ونموذج الفاعل العقلاني بقي بالتأكيد بالرغم من الأدلة التي رأيناها، وغيرها الكثير من الأدلة الأخرى.
تبين قضية التبرع بالأعضاء أن الجدال بشأن عقلانية الإنسان يمكن أن يكون له تأثير كبير في العالم الواقعي. ولعل من أهم الاختلافات بين من يؤمنون بنموذج الفاعل العقلاني والمتشككين الذين يفنِّدونه ويشككون فيه أن المؤمنين به يسلمون بديهيًّا بأن صياغة أي اختيار لا يمكنها أن تحدد التفضيلات في الإشكاليات المهمة، بل إنهم لن يهتموا حتى ببحث الإشكالية وفحصها؛ وبناء عليه غالبًا ما نُترك بنتائج دون المستوى.
والمشككون في العقلانية لا تساورهم أي دهشة؛ فهم مدربون على الحساسية تجاه قوة العوامل التافهة كعناصر حاسمة ومحددة للتفضيل؛ وأملي أن يكون قراء هذا الكتاب قد اكتسبوا هذه الحساسية.
في الحديث عن الأطر والواقع
«سوف يشعرون بشعور أفضل تجاه ما حدث إذا تمكنوا من صياغة النتيجة في إطار كم المال الذي احتفظوا به بدلًا من كم ما خسروه.»
«دعنا نُعِدْ تأطير المشكلة بتغيير نقطة المرجعية. تخيل أننا لم نمتلكه؛ كم كان سيساوي في اعتقادك؟»
«قيِّد الخسارة على حسابك الذهني «للدخل العام»، وسوف تشعر بتحسن!»
«إنهم يطلبون منك التأشير على المربع لاختيار الخروج من قائمة بريدهم. لقد كانت قائمتهم ستتقلص لو أنهم طلبوا منك التأشير على مربع للاشتراك فيها!»