نفسان
كان لمصطلح «منفعة» معنيان مختلفان على مدار تاريخه الطويل. وقد استهل جيرمي بنتام كتابه «مقدمة لمبادئ الأخلاق والتشريع» بالعبارة الشهيرة: «لقد وضعتِ الطبيعة بني البشر تحت سيطرة حاكمَيْن ذوَي سلطة مطلقة؛ هما الألم واللذة؛ فإليهما فقط تئول سلطة الإشارة لما ينبغي أن نفعله، وكذا تحديد ما سوف نفعله.» وفي حاشية كتبت على عجالة، اعتذر بنتام عن استخدام كلمة «منفعة» مع هذه الخبرات، قائلًا إنه لم يستطع إيجاد كلمة أفضل. ولتمييز تأويل بنتام للمصطلح، سوف أطلق عليه «المنفعة المستشعرة».
وعلى مدار المائة عام الماضية، استخدم علماء الاقتصاد نفس الكلمة للإشارة إلى معنى آخر؛ فالمصطلح وفقًا لاستخدام علماء الاقتصاد ومنظِّري نظريات القرار يعني «المرغوبية»؛ فيما أطلقت عليها أنا «منفعة القرار». فنظرية المنفعة المتوقعة، على سبيل المثال، تتعلق بالكامل بقواعد العقلانية التي ينبغي أن تحكم منافع القرار؛ ولا علاقة لها مطلقًا بالخبرات التلذذية. بالطبع سوف يتلاقى مفهوما المنفعة إذا رغب الناس فيما سوف يستمتعون به، واستمتعوا بما اختاروه لأنفسهم؛ وهذا الافتراض الخاص بالالتقاء هو افتراض ضمني في الفكرة العامة القائلة إن الفاعلين الاقتصاديين يتسمون بالعقلانية. ويُتوقع من الفاعلين العقلانيين أن يكونوا على دراية بميولهم، الحاضرة والمستقبلية، ومن المفترض أن يتخذوا قرارات جيدة من شأنها تعظيم هذه المصالح.
المنفعة المستشعَرة
إن انبهاري بالاختلافات المحتملة بين المنفعة المستشعرة ومنفعة القرار تعود إلى زمن بعيد. فبينما كنت أنا وعاموس لا نزال عاكفين على نظرية الاحتمالات، قمت بتأليف لغز كان كالآتي: تخيل شخصًا يأخذ حقنة مؤلمة كل يوم. لا يوجد أي تعود؛ فالألم واحد من يوم إلى يوم. هل سيضفي الناس نفس القيمة على خفض عدد الحقن المزمعة من ٢٠ إلى ١٨ كالتي يضفونها على خفضها من ٦ إلى ٤؟ هل يوجد أي تبرير لوجود اختلاف؟
لم أقم بجمع أي بيانات؛ لأن النتيجة كانت واضحة. فبوسعك أن تثبت لنفسك أنك كنت ستدفع أكثر لتقليل عدد الحقن بمقدار الثلث (من ٦ إلى ٤) مما كنت ستدفع لتقليله بمقدار العشر (من ٢٠ إلى ١٨). إن منفعة القرار الخاص بتجنب حقنتين أعلى في الحالة الأولى من الثانية، وسوف يدفع الجميع مقابل الخفض الأول أكثر من الثاني. ولكن هذا الفارق منافٍ للعقل. فإذا كان الألم لا يتغير من يوم ليوم، فما الذي يمكن أن يبرر تخصيص منافع مختلفة لتخفيض القدر الإجمالي للألم بمقدار حقنتين، اعتمادًا على عدد الحقن السابقة؟ كان هذا اللغز، في إطار ما نستخدمه اليوم، مدخلًا لفكرة أن المنفعة المستشعَرة يمكن قياسها بعدد الحقن. وأشار أيضًا إلى أن المنفعة المستشعَرة، على الأقل في بعض الحالات، هي المقياس الذي يجب تقييم أي قرار على أساسه. وصانع القرار الذي يدفع مبالغ مختلفة لتحقيق نفس العائد من المنفعة المستشعرة (أو تجنب نفس الخسارة) إنما يرتكب خطأ. ربما تجد هذه الملحوظة بديهية، ولكن الأساس الوحيد في نظرية القرار للحكم بأن قرارًا ما خاطئ هو التناقض مع التفضيلات الأخرى. وقد ناقشت أنا وعاموس هذه الإشكالية، ولكننا لم نواصل. وبعد عدة سنوات عدنا إليها.
التجربة والذكرى
كيف يمكن قياس المنفعة المستشعرة؟ كيف لنا أن نجيب عن أسئلة على غرار «ما حجم الألم الذي عانت منه هيلين خلال الإجراء الطبي؟» أو «ما قدر المتعة التي حظيت بها من العشرين دقيقة التي قضتها على الشاطئ؟» أعمل الاقتصادي البريطاني فرانسيس إيدجورث تفكيره بشأن هذا الموضوع في القرن التاسع عشر، واقترح فكرة «مقياس اللذة»، وهي أداة تخيلية مناظرة للأجهزة المستخدمة في محطات الرصد الجوي، تقيس مستوى اللذة أو الألم الذي يشعر به الفرد في أي لحظة.
المنفعة المستشعرة تتباين في درجتها، مثلما تتباين درجة الحرارة أو الضغط البارومتري، وتُخطَّط النتائج كدالة زمنية. وعليه كانت الإجابة عن السؤال الخاص بحجم الألم أو اللذة الذي استشعرته هيلين أثناء إجرائها الطبي أو إجازتها ستصبح «المنطقة أسفل المنحنى». ويلعب الوقت دورًا بالغ الأهمية في فكرة إيدجورث. فإذا كانت هيلين تمكث على الشاطئ مدة أربعين دقيقة بدلًا من ٢٠، ويظل استمتاعها بنفس القوة، يكون إجمالي المنفعة المستشعرة لهذه الواقعة مضاعفًا، مثلما تؤدي مضاعفة عدد الحقن إلى جعل برنامج الحقن سيئًا بمقدار الضعف. كانت هذه هي نظرية إيدجورث، ولدينا الآن فهم دقيق للشروط التي بموجبها تصح نظريته.
تأمل بعد ذلك هذا السؤال السهل: بافتراض أن المريضين قد استخدما مقياس الألم على نحو متشابه، فأي المريضين كانت معاناته أكبر؟ لا مجال للمنافسة. فهناك اتفاق عام في الرأي على أن المريض (ب) قد واجه معاناة أصعب. فقد قضى المريض (ب)، على أقل تقدير، نفس الفترة التي قضاها المريض (أ) عند أي مستوى من الألم، و«المنطقة أسفل المنحنى» أكبر بشكل واضح بالنسبة للمريض (ب) من المريض (أ). والعامل الرئيسي هنا بالطبع هو أن الإجراء الخاص بالمريض (ب) استمر فترة أطول كثيرًا. وسوف أُطلق على القياسات القائمة على تقارير الألم اللحظي «إجماليات مقياس اللذة».
-
قاعدة الذروة-النهاية: أمكن التنبؤ بالتقييم الرجعي العام من خلال متوسط مستوى الألم الذي تمت الإفادة به في أسوأ لحظة من التجربة وفي نهايتها.
-
تجاهل المدة: لم يكن لمدة الإجراء أي تأثير إطلاقًا على تقييمات الألم الإجمالي.
يمكنك الآن تطبيق هاتين القاعدتين على الصورة العامة لتجربة المريضين (أ) و(ب). كان أسوأ تقييم (٨ على مقياس العشر نقاط) واحدًا بالنسبة لكلا المريضين، ولكن التقييم الأخير قبل نهاية الإجراء كان ٧ بالنسبة للمريض (أ) و١ فقط بالنسبة للمريض (ب). ولذا كان متوسط الذروة-النهاية ٧٫٥ للمريض (أ) مقابل ٤٫٥ فقط للمريض (ب). وكما هو متوقع، احتفظ المريض (أ) بذكرى أسوأ بكثير للواقعة من المريض (ب). فقد كان من سوء طالع المريض (أ) أن الإجراء قد انتهى في لحظة سيئة، تاركًا لديه ذكرى غير سارة.
-
إذا كان الهدف هو الحد من ذكرى الألم لدى المرضى، فإن تقليل الشدة القصوى للألم يمكن أن يكون أهم من تقليل مدة الإجراء. وبنفس المنطق، قد يكون التخفيف التدريجي للألم مفضلًا عن التخفيف المفاجئ إذا كان المرضى يحتفظون بذكرى أفضل حين يكون الألم في نهاية الإجراء معتدلًا نسبيًّا.
-
إذا كان الهدف هو الحد من حجم الألم المستشعر فعليًّا، فإن تنفيذ الإجراء سريعًا قد يكون ملائمًا، حتى إذا كان القيام بذلك من شأنه زيادة شدة ذروة الألم ويترك لدى المريض ذكرى بشعة.
أي من الهدفين وجدته أكثر جذبًا؟ لم أقم بإجراء استطلاع رأي ملائم، ولكن انطباعي هو أن الغالبية العظمى سوف تقرر دعم تخفيف ذكرى الألم. وأجد من المفيد التفكير في هذه المعضلة كصراع مصلحة بين نفسين («لا» توازيان النظامين المعروفين). «النفس المستشعِرة» هي تلك التي تجيب عن سؤال «هل يسبب هذا ألمًا الآن؟» أما «النفس المتذكرة»، فهي تلك التي تجيب عن سؤال «كيف كان ذلك في المجمل؟» والذكريات هي كل ما يتسنى لنا الاحتفاظ به من تجربتنا في العيش، ومن ثم فإن المنظور الوحيد الذي يمكننا تبنيه بينما نفكر في حياتنا هو منظور النفس المتذكرة.
ويوضح لنا أحد التعليقات التي سمعتها من أحد أفراد الجمهور عقب إحدى المحاضرات مدى صعوبة تمييز الذكريات عن التجارب. فقد روى أنه استمع في نشوة إلى سيمفونية طويلة على قرص مدمج كان به خدش قرب نهايته، مما أحدث صوتًا صادمًا، وأفاد أن النهاية السيئة قد «دمرت التجربة بأكملها». ولكن التجربة لم تدمر فعليًّا، إنما ذكراها فقط. فالنفس المستشعرة حظيت بتجربة كانت جيدة جودة شبه تامة، ولم تستطع النهاية السيئة أن تلغيها؛ لأنها كانت قد حدثت بالفعل. لقد وضع سائلي درجة رسوب للواقعة بأكملها لأنها انتهت على نحو في غاية السوء، ولكن هذه الدرجة في الواقع تجاهلت ٤٠ دقيقة من النشوة الموسيقية. أليس للتجربة الفعلية أي قيمة؟
إن الخلط بين التجربة وذكراها يعد وهمًا معرفيًّا قهريًّا؛ وهذا الخلط المتبادل هو ما يجعلنا نعتقد أن تجربة ماضية قد دُمِّرت. إن النفس المستشعرة ليس لها صوت. والنفس المتذكرة أحيانًا ما تخطئ، ولكنها النفس التي تسجل النقاط وتتحكم فيما نتعلمه من الحياة، وهي النفس التي تصنع القرارات. إن ما نتعلمه من الماضي هو تعظيم سمات ذكرياتنا المستقبلية، وليس تعظيم سمات تجربتنا المستقبلية بالضرورة. تلك هي استبدادية النفس المتذكرة.
أي نفس ينبغي أن يكون لها الاعتبار؟
لإثبات سلطة النفس المتذكرة في صنع القرار، قمت مع زملائي بتصميم تجربة، باستخدام شكل بسيط من التعذيب سوف أطلق عليه موقف اليد الباردة (واسمه التقني القبيح هو رفع الضغط بالبرودة). يُطلب من المشاركين في هذه التجربة أن يُبقوا أيديهم حتى الرسغ في مياه شديدة البرودة حتى يُطلب منهم رفعها، وتقدَّم لهم منشفة دافئة. وقد استخدم أفراد العينة في تجربتنا يدهم الحرة للتحكم في أسهم على لوحة مفاتيح لتسجيل الألم الذي يتحملونه باستمرار، فيما يعد اتصالًا مباشرًا من النفس المستشعرة. وقد اخترنا درجة حرارة تتسبب في ألم متوسط ولكنه محتمل: وبالطبع كان للمشاركين المتطوعين الحرية في نزع أيديهم من الماء في أي وقت، ولكن أيًّا منهم لم يختر القيام بذلك.
تألفت النوبة الأولى القصيرة من ٦٠ ثانية من غمس اليد في ماء درجة حرارته ١٤ درجة مئوية، التي كانت تجربة البرودة فيها مؤلمة ولكنها محتملة. وفي نهاية اﻟ ٦٠ ثانية، وجَّه القائم بالتجربة المشاركَ لرفع يده من الماء وقدَّم له منشفة دافئة.
استمرت النوبة الطويلة مدة ٩٠ ثانية، وكانت اﻟ ٦٠ ثانية الأولى منها مطابقة للنوبة القصيرة. ولم يقل القائم بالتجربة أي شيء مطلقًا في نهاية اﻟ ٦٠ ثانية، ولكنه قام بفتح أنبوب سمح بماء أدفأ قليلًا بالتدفق داخل الحوض. خلال اﻟ ٣٠ ثانية الأخرى، ارتفعت درجة الحرارة بحوالي درجة مئوية واحدة، وهو ما كان كافيًا لمعظم المشاركين لإيجاد انخفاض طفيف في شدة الألم.
كان مشاركونا قد أُبلِغوا بأنهم سيمرون بثلاث تجارب من تجربة اليد الباردة، ولكنهم في الواقع لم يخضعوا إلا للنوبة الطويلة والقصيرة فقط، كل بيد مختلفة عن الأخرى. وكان الفاصل بين التجربتين سبع دقائق. وبعد سبع دقائق من التجربة الثانية، مُنح المشاركون اختيارًا بشأن الخضوع لتجربة ثالثة، وأُخبروا بأن واحدة من تجاربهم سوف يتم تكرارها كما هي بالضبط، وأن لهم الحرية في اختيار تكرار التجربة التي خاضوها بيدهم اليمنى أو بيدهم اليسرى. وبالطبع خضع نصف المشاركين للتجربة القصيرة بيدهم اليسرى، والنصف الآخر باليد اليمنى، ونصفهم خاض التجربة القصيرة أولًا، والنصف الآخر بدأ بالتجربة الطويلة، وهكذا. لقد كانت تجربة موجهة بشكل دقيق.
صُممت هذه التجربة لخلق صراع بين مصالح النفس المستشعرة والنفس المتذكرة، وكذا بين المنفعة المستشعرة ومنفعة القرار. من منظور النفس المستشعرة، كانت التجربة الطويلة أسوأ بشكل واضح، وتوقعنا أن يكون للنفس المتذكرة رأي آخر. فقاعدة الذروة-النهاية تتنبأ بذكرى أسوأ للتجربة القصيرة من التجربة الطويلة، فيما تتنبأ قاعدة تجاهل المدة بأن يكون الفارق بين ٩٠ ثانية من الألم و٦٠ ثانية من الألم سوف يتم تجاهله. وعليه فقد تنبأنا بأن تكون لدى المشاركين ذكرى أكثر إيجابية (أو أقل سلبية) للتجربة الطويلة ويختارون تكرارها. وقد كان؛ فقد اختار ٨٠٪ من المشاركين الذين أفادوا بأن شعورهم بالألم قد تقلص خلال المرحلة النهائية من النوبة الأطول تكرار النوبة الثانية، معلنين بذلك استعدادهم لمواجهة ألم لا داعي له لمدة ٣٠ ثانية في التجربة الثالثة المرتقبة.
لم يكن الأفراد الذين فضلوا التجربة الأطول ماسوشيين، ولم يختاروا عن عمد تعريض أنفسهم للتجربة الأسوأ؛ لقد ارتكبوا خطأ فقط. فلو كنا قد سألناهم: «هل تفضل غمس يدك مدة ٩٠ ثانية كاملة أم الجزء الأول من التجربة فقط؟» كانوا بالتأكيد سيختارون الخيار الأقصر. غير أننا لم نستخدم تلك الكلمات، وأقدم أفراد التجربة على ما هو تلقائي: لقد اختاروا تكرار النوبة التي كانت ذكراهم عنها أقل نفورًا. لقد كان أفراد التجربة يعلمون جيدًا أيًّا من التجربتين أطول — حيث سألناهم عن ذلك — ولكنهم لم يستغلوا هذه المعرفة. لقد كان قرارهم محكومًا بقاعدة بسيطة للاختيار البديهي: اختر الخيار الأكثر استساغة، أو الأقل بغضًا لديك. وقواعد التذكر حددت مدى بغضهم للخيارين، وهو بدوره ما حدد اختيارهم. لقد أظهرت تجربة اليد الباردة، شأنها شأن لغز الحقن القديم الخاص بي، اختلافًا بين منفعة القرار والمنفعة المستشعرة.
وتعد التفضيلات الأخرى التي لاحظناها في هذه التجربة مثالًا آخر لتأثير «الأقل أفضل» الذي واجهناه في مواقف سابقة. أحد هذه المواقف كان دراسة كريستوفر شي التي أدى فيها إضافة أطباق لمجموعة مكونة من ٢٤ طبقًا إلى تقليل القيمة الإجمالية؛ نظرًا لتحطم بعض الأطباق التي تمت إضافتها. موقف آخر هو موقف ليندا الناشطة التي حُكِمَ بأنها أقرب لأن تكون صراف بنك وناشطة من كونها صراف فقط. وهذا التشابه ليس من قبيل المصادفة؛ فنفس السمة التشغيلية للنظام ١ تفسر المواقف الثلاثة جميعًا: فالنظام ١ يمثل المجموعات من خلال المتوسطات، والمقاييس، والنماذج النمطية، وليس بمبالغ. وكل نوبة من نوبتَي تجربة اليد الباردة عبارة عن مجموعة من اللحظات، تختزنها النفس المتذكرة كلحظة نمطية، وهو ما يؤدي إلى صراع. فبالنسبة لمراقب موضوعي يقيِّم النوبة من إفادات النفس المستشعرة، فإن ما يهم هو «المنطقة أسفل المنحنى» التي تقوم بتجميع الألم على مدار الوقت؛ إذ إن لها صفة مجموع. أما الذكرى التي تحتفظ بها النفس المتذكرة، في المقابل، فتعتبر لحظة تجسيدية تتأثر بقوة بلحظتَي الذروة والنهاية.
بالطبع كان بإمكان التطور أن يصمم ذاكرة الحيوانات بحيث تخزن الكل الصحيح، كما تفعل بالتأكيد في بعض الحالات. فمن المهم بالنسبة للسنجاب أن «يعرف» القدر الكلي للطعام الذي قام بتخزينه، ووجود تجسيد أو تمثيل لمتوسط حجم حبات الجوز لن يكون بالبديل المناسب. غير أن التكاملات الصحيحة للألم أو المتعة على مدار الوقت قد تكون أقل أهمية بيولوجيًّا. فنحن نعرف، على سبيل المثال، أن الفئران تُظهر تجاهلًا للمدة بالنسبة لكل من المتعة والألم. وفي إحدى التجارب، كانت الفئران تتعرض بشكل متواصل لتسلسل كان فيه ظهور الضوء بمنزلة إشارة إلى قرب التعرض لصدمة كهربائية. وسرعان ما تعلم الفئران الخوف من الضوء، وأمكن قياس شدة خوفهم عن طريق العديد من الاستجابات الفسيولوجية. كانت النتيجة الأساسية لهذه التجربة أن مدة الصدمة لها تأثير محدود، أو ليس لها تأثير على الإطلاق على الخوف؛ فكل ما يهم هو الشدة المؤلمة للمثير.
وقد أظهرت دراسات كلاسيكية أخرى أن التحفيز الكهربائي لمناطق بعينها في مخ الفئران (ولمناطق مناظرة في مخ الإنسان) يولد إحساسًا قويًّا باللذة، وفي بعض الحالات يكون قويًّا إلى حد أن الفئران التي تستطيع تحفيز مخها بالضغط على رافعة ما يمكن أن تموت جوعًا دون أخذ فترة راحة لإطعام نفسها. ويمكن توليد التحفيز الكهربائي المتسبب في المتعة في دفعات تختلف من حيث الشدة والمدة. ومرة أخرى لا يهم هنا سوى الشدة. ولدرجة ما، لا يبدو أن زيادة مدة أي دفعة من التحفيز تؤدي إلى زيادة لهفة الحيوان للحصول عليها. والقواعد التي تحكم النفس المتذكرة للبشر لها تاريخ تطوري طويل.
البيولوجيا في مقابل العقلانية
كانت الفكرة الأكثر نفعًا في لغز الحقن الذي كان يشغلني منذ سنوات أن المنفعة المستشعرة لسلسلة من الحقن المؤلمة بنفس القدر يمكن قياسها ببساطة عن طريق عد الحقن. فإذا كانت الحقن منفرة بنفس القدر، فإن ٢٠ منها ستكون أسوأ مرتين من ١٠ حقن، وسيكون التقليل من ٢٠ إلى ١٨ مساويًا من حيث القيمة للتقليل من ٦ إلى ٤. وإذا كانت منفعة القرار لا تتشابه مع المنفعة المستشعَرة، إذن فهناك خطأ ما يشوب القرار. وقد ظهر نفس المنطق في تجربة اليد الباردة: فنوبة من الألم تستمر لمدة ٩٠ ثانية أسوأ من اﻟ ٦٠ ثانية الأولى من تلك النوبة. وإذا اختار الأفراد طواعية تحمل النوبة الأطول، فإن هناك ما يعيب قرارهم. في لغزي السابق، نشأ الاختلاف بين القرار والتجربة من تناقص الحساسية: فالفارق بين ١٨ و٢٠ حقنة أقل تأثيرًا، ويبدو أنه أقل قيمة، من الفارق بين ٦ و٤ حقن. في تجربة اليد الباردة، يعكس الخطأ مبدأين من مبادئ الذاكرة: تجاهل المدة وقاعدة الذروة-النهاية. قد تختلف الآليات ولكن النتيجة واحدة: قرار لا يتوافق بشكل صحيح مع التجربة.
والقرارات التي لا تولد أفضل تجربة ممكنة والتكهنات الخاطئة بالمشاعر المستقبلية؛ كلتاهما بمنزلة نبأ سيئ لمن يؤمنون بعقلانية الاختيار. فقد أظهرت دراسة اليد الباردة أننا لا نستطيع أن نثق ثقة تامة في أن تفضيلاتنا تعكس اهتماماتنا، حتى لو كانت قائمة على تجربة شخصية، وحتى لو كانت ذكرى تلك التجربة قد تشكلت خلال الربع الأخير من الساعة! فالميول والقرارات تتشكل بالذكريات، والذكريات يمكن أن تكون خاطئة. ويقدم الدليل بذلك تحديًا عويصًا لفكرة أن البشر لهم تفضيلات متوافقة ويعرفون كيفية تعظيمها، وهو ما يعد حجر زاوية لنموذج الفاعل العقلاني. إن عدم التوافق جزء أساسي من تركيب عقولنا. ولدينا تفضيلات قوية فيما يتعلق بمدة خبرات الألم والمتعة التي نمر بها. ونرغب للألم أن يكون قصيرًا وللمتعة أن تستمر. ولكن ذاكرتنا، التي تعد وظيفة من وظائف النظام ١، قد تطورت لتجسد أقوى لحظات نوبة من الألم أو المتعة (الذروة) والمشاعر حين تصل النوبة لنهايتها. والذاكرة التي تتجاهل المدة لن تخدم تفضيلاتنا لمتعة طويلة الأمد وآلام قصيرة.
في الحديث عن النفسين
«أنت تفكر في زيجتك الفاشلة كليًّا من منظور النفس المتذكرة. إن الطلاق مثل سيمفونية يصدر في نهايتها صوت صرير؛ فحقيقة أنها انتهت نهاية سيئة لا تعني أنها كانت سيئة بالكامل.»
«هذه حالة سيئة من حالات تجاهل المدة، فأنت تمنح الجزء الجيد والسيئ من تجربتك وزنًا متساويًا، على الرغم من أن الجزء الجيد استمر فترة أطول عشر مرات من الجزء السيئ.»