التفكير بشأن الحياة
يثير هذا الرسم البياني ضحكات عصبية لدى الجماهير، ومن السهل إدراك سبب العصبية: فالأشخاص الذين يقررون الزواج، رغم كل شيء، يفعلون ذلك إما لتوقعهم أن الزواج سيجعلهم أكثر سعادة، أو أملًا منهم أن يحتفظوا بحالة السعادة الحالية التي يَهنئُون بها بإضفاء صفة الدوام على علاقة ما. وباستخدام المصطلح المفيد الذي قدمه دانيال جيلبرت وتيموثي ويلسون، يعكس قرار الزواج، في نظر العديد من الناس، خطأ جسيمًا من «التنبؤ العاطفي». ففي يوم الزفاف، يكون العريس والعروس على علم بارتفاع معدلات الطلاق وبارتفاع معدل حدوث الإحباط الزوجي، ولكنهما لا يصدقان أن هذه الإحصائيات تنطبق عليهما.
يمكننا استبدال إجابات العديد من الأسئلة البسيطة بتقييم شامل للحياة. لعلك تتذكر تلك الدراسة التي أفاد فيها الطلاب الذين سئلوا عن عدد المواعدات التي حظوا بها في الشهر الماضي أنهم «سعداء هذه الأيام»، وكأن المواعدة كانت الحقيقة الوحيدة المهمة في حياتهم. وفي تجربة أخرى معروفة في نفس الاتجاه، قام نوربرت شفارتز وزملاؤه بدعوة أفراد التجربة إلى المعمل لاستكمال نموذج استطلاع رأي عن مستوى الرضا عن الحياة. ولكن قبل البدء في مهمتهم، طلب منهم تصوير ورقة من أجله. وجد نصف المستطلعين قطعة نقود بعشرة سنتات على آلة التصوير، وُضعت هناك بواسطة القائم بالتجربة. وقد أحدثت هذه الواقعة السعيدة البسيطة تحسنًا ملحوظًا في مستوى الرضا الذي أورده أفراد التجربة عن حياتهم بشكل عام! إن الطريقة الاستدلالية للحالة المزاجية تعد إحدى الطرق للإجابة عن الأسئلة الخاصة بمستوى الرضا عن الحياة.
لقد أظهر كلٌّ من استطلاع المواعدة وتجربة العملة على آلة التصوير، كما كان مزمعًا، أن إجابات الأسئلة الخاصة بالمستوى العام للسعادة لا ينبغي أن تؤخذ بشكل حرفي. ولكن حالتك المزاجية الحالية بالطبع ليست الشيء الوحيد الذي يتبادر إلى الذهن عندما يُطلب منك تقييم حياتك. فمن المحتمل أن تتذكر أحداثًا مهمة في ماضيك أو مستقبلك القريب؛ أو مخاوف متكررة، مثل الحالة الصحية لشريك الحياة أو رفقة السوء التي يرافقها ابنك المراهق؛ أو الإنجازات المهمة والإخفاقات الموجعة. أفكار قليلة فقط تتعلق بالسؤال هي التي ستخطر لك، ولكن الكثير من الأفكار الأخرى لن تخطر لك ببال. حتى عندما لا يتأثر التقدير الذي تمنحه سريعًا لحياتك بأحداث غير ذات صلة تمامًا، فإنه يتحدد بعينة صغيرة من الأفكار المتاحة بشكل كبير، وليس بتقدير دقيق لجوانب الحياة.
يوضح الشكل مستوى عاليًا بشكل غير معهود من الرضا عن الحياة يدوم عامين أو ثلاثة أعوام من الزواج. غير أن هذه الطفرة الواضحة إذا كانت تعكس الفترة الزمنية التي تستغرقها عملية تنقيب أو استكشاف من أجل الإجابة عن السؤال، فإن ما يمكننا معرفته عن السعادة أو عن عملية التكيف مع الزواج قليل؛ فلا يمكننا أن نستنبط منها أن أي موجة مَدٍّ من السعادة الوفيرة تمتد سنوات عدة وتنحسر تدريجيًّا. حتى الأشخاص الذين يسعدون بتذكيرهم بزواجهم حين يُطرح عليهم سؤال بشأن حياتهم ليس بالضرورة أن يكونوا أكثر سعادة بقية الوقت. وما لم تراودهم أفكار سعيدة بشأن زواجهم معظم اليوم، فلن يؤثر بشكل مباشر على سعادتهم. حتى حديثو الزواج ممن يحظون بالاستمتاع بحالة من الاستغراق المشمول بالسعادة بأحبائهم سوف يعودون في النهاية إلى الواقع، وتعود سعادتهم المستشعرة مرة أخرى للاعتماد على البيئة المحيطة وأنشطة اللحظة الحالية، كما هو الحال بالنسبة لبقيتنا.
في الدراسات الخاصة بطريقة إعادة إحياء اليوم، لم يكن هناك اختلاف كلي في مستوى السعادة المستشعرة بين النساء اللاتي يعشن مع زوج، والنساء اللاتي لا يعشن مع زوج. والتفاصيل الخاصة بكيفية استخدام المجموعتين لوقتهن فسرت النتيجة؛ فالنساء اللاتي لديهن زوج يقضين وقتًا أقل بمفردهن، وهو ما يعد أمرًا رائعًا، ولكنهن يقضين وقتًا أقل بكثير مع الأصدقاء. ويقضين مزيدًا من الوقت في ممارسة الحب، وهو ما يعد أمرًا رائعًا، ولكنهن يقضين أيضًا مزيدًا من الوقت في إنجاز الأعمال المنزلية، وإعداد الطعام، والعناية بالأطفال، والتي تعد جميعًا أنشطة غير محببة نسبيًّا. ولا شك أن كم الوقت الكبير الذي تقضيه السيدات المتزوجات مع أزواجهن يكون أكثر متعة بكثير بالنسبة للبعض من الأخريات. إن السعادة المستشعرة في المتوسط لا تتأثر بالزواج؛ ليس لأن الزواج لا يُحدث فارقًا بالنسبة للسعادة، ولكن لأنه يغيِّر بعض جوانب الحياة للأفضل وجوانب أخرى للأسوأ.
•••
أحد أسباب قلة التلازمات بين ظروف الفرد ومستوى رضاه عن حياته أن كلًّا من السعادة المستشعرة والرضا عن الحياة يتحدد إلى حد بعيد بجينات المزاج الشخصي؛ فالميل للسعادة وراثي شأنه شأن الطول أو الذكاء، كما اتضح من دراسات أجريت على توائم تم الفصل بينهم عند الولادة. والأشخاص المتساوون في حظوظهم يختلفون فيما بينهم إلى حد بعيد في مدى ما ينعمون به من سعادة. وفي بعض المواقف، كما في حالة الزواج، تقل التلازمات مع السعادة بسبب التأثيرات الموازنة؛ فنفس الموقف قد يكون جيدًا لبعض الناس وسيئًا للبعض الآخر، والظروف الجديدة لها فوائد وتكاليف على حد سواء. وفي حالات أخرى، مثل ارتفاع الدخل، تكون التأثيرات على مستوى الرضا عن الحياة إيجابية عمومًا، ولكن الصورة تتعقد نتيجة لأن الناس يختلفون فيما بينهم من حيث اهتمامهم بالمال.
أوضحت دراسة واسعة النطاق عن تأثير التعليم العالي — كانت قد أجريت لغرض آخر — دليلًا مذهلًا عن التأثيرات المستمرة للأهداف التي يضعها الشباب لأنفسهم. كانت البيانات ذات الصلة مستمدة من نماذج استطلاعات رأي تم جمعها في الفترة ما بين ١٩٩٥–١٩٩٧ مما يقرب من ١٢ ألف شخص بدءوا تعليمهم العالي في كليات الصفوة في عام ١٩٧٦. حين كان المشاركون في الدراسة في سن ١٧ أو ١٨ عامًا، قاموا بملء نموذج الاستطلاع الذي قدروا فيه الهدف الخاص بتحقيق «الثراء المادي الوافر» على مقياس من صفر إلى ٤ يتراوح ما بين «غير مهم» إلى «أساسي». وقد قاموا باستكمال استطلاع للرأي بعد ذلك بعشرين عامًا حول قياسات لدخولهم في عام ١٩٩٥ وقياسًا عامًّا لمستوى رضاهم عن حياتهم.
إن الأهداف تصنع فارقًا كبيرًا؛ فبعد تسعة عشر عامًا من البدء في تحقيق طموحاتهم المادية، نجح كثير من الأشخاص ممن كانوا يرغبون في تحقيق دخل مرتفع في إدراكه. فمن بين اﻟ ٥٩٧ طبيبًا وآخرين من المتخصصين في المجال الطبي في العينة، على سبيل المثال، ارتبطت كل نقطة إضافية على مقياس أهمية المال بزيادة تربو على ١٤٠٠٠ دولار في الدخل الوظيفي بقيمة الدولار في عام ١٩٩٥! كذلك كان يرجح أن تكون النساء المتزوجات غير العاملات قد أشبعن طموحاتهن المالية. فقد ترجمت كل نقطة على المقياس إلى أكثر من ١٢٠٠٠ دولار دخل عائلي إضافي لأولئك السيدات، بالطبع من خلال عائدات أزواجهن.
وقد كان للأهمية التي علقها هؤلاء على الدخل في سن ١٨ عامًا أثر في توقع مستوى رضاهم عن دخلهم كبالغين. فقد قارنَّا مستوى الرضا عن الحياة لدى مجموعة ذات دخل مرتفع (بدخل عائلي يزيد على ٢٠٠٠٠٠ دولار) بمجموعة ذات دخل منخفض إلى متوسط (أقل من ٥٠٠٠٠ دولار). وكان تأثير الدخل على مستوى الرضا عن الحياة أكبر بالنسبة لهؤلاء الذين أدرجوا اليسر المادي هدفًا أساسيًّا: ٠٫٥٧ نقطة على مقياس من ٥ نقاط. وكان الفارق الموازي بالنسبة لهؤلاء الذين أشاروا إلى أن المال لم يكن مهمًّا ٠٫١٢ نقطة فقط. وكان الأشخاص الذين أرادوا المال وحصلوا عليه أكثر رضا من المستوى المتوسط بشكل ملحوظ؛ أما هؤلاء الذين أرادوا المال ولم يحصلوا عليه فكانوا أكثر سخطًا بشكل ملحوظ. نفس المبدأ ينطبق على الأهداف الأخرى؛ فتحديد أهداف صعبة المنال يعتبر وصفة سحرية لحياة يسودها النقم والسخط عند الكبر. وبالقياس بمستوى الرضا عن الحياة، كان أقل الأهداف الواعدة التي يمكن لشاب أن يحظى بها «التفوق في أحد فنون الأداء». فأهداف المراهقين تؤثر على ما يحدث لهم، وما ينتهون إليه ومدى ما يشعرون به من رضا.
كانت هذه النتائج سببًا جزئيًّا في تغيير رأيي بشأن تعريف السعادة. فالأهداف التي يحددها الناس لأنفسهم لها أهمية بالغة لما يفعلونه وكيفية شعورهم حياله، حتى إنه لم يعد من الممكن التمسك بتركيز حصري على السعادة المستشعرة. فلا يمكننا التمسك بمفهوم للسعادة يتجاهل ما يريده الناس. على الجانب الآخر، لا يمكن أيضًا التمسك بمفهوم للسعادة يتجاهل شعور الناس وهم يمارسون حياتهم ويركز فقط على شعورهم حين يفكرون في حياتهم. ولا بد أن نتقبل تعقيدات رؤية مهجنة توضع فيها سعادة كلتا النفسين في الاعتبار.
وهم التركيز
لا شيء في الحياة له نفس الأهمية التي تعتقدها حينما تفكر به.
يعود أصل هذه الفكرة إلى مناقشة عائلية بشأن الانتقال من كاليفورنيا إلى برينستون، ادعت خلالها زوجتي أن الناس أكثر سعادة في كاليفورنيا من الساحل الشرقي. فجادلت بأن المناخ ليس من العوامل المحددة المهمة للسعادة؛ فالدول الاسكندنافية على الأرجح هي أسعد الدول في العالم. لقد لاحظتُ أن ظروف الحياة الدائمة لها تأثير محدود على السعادة، وعبثًا حاولت إقناع زوجتي بأن بداهاتها بشأن سعادة سكان كاليفورنيا كانت خطأ من أخطاء التنبؤ العاطفي.
بعد ذلك بفترة قصيرة، وبينما لا تزال هذه المناقشة في ذهني، شاركت في ورشة عمل عن التأثير الاجتماعي للاحتباس الحراري. طرح أحد الزملاء جدالًا قائمًا على رؤيته فيما يتعلق بسعادة سكان كوكب الأرض خلال القرن القادم، فجادلت بأنه من المحال التنبؤ بشكل الحياة على كوكب أكثر حرارة في الوقت الذي لا نعرف فيه حتى شكل الحياة في كاليفورنيا. بعد هذا الحوار بفترة وجيزة، تلقيت أنا وزميلي ديفيد شكيد تمويلًا بحثيًّا لدراسة سؤالين: هل المقيمون في كاليفورنيا أكثر سعادة من الآخرين؟ وما المعتقدات الشائعة بشأن السعادة النسبية للكاليفورنيين؟
قمنا بتجنيد عينات كبيرة من الطلاب في كبرى الجامعات الرسمية في كاليفورنيا وأوهايو وميشيجان، وحصلنا من بعضهم على تقرير تفصيلي عن مدى رضاهم عن مختلف جوانب حياتهم، وحصلنا من آخرين على تنبؤ بشأن الكيفية التي يمكن لشخص «له نفس اهتماماتك وقيمك» ويعيش في مكان آخر أن يكمل بها نفس الاستطلاع.
وبينما كنا عاكفين على تحليل المعلومات، صار واضحًا أنني قد فزت في الجدال العائلي الذي دار مع زوجتي؛ فكما هو متوقع، اختلف الطلاب في المنطقتين اختلافًا كبيرًا في موقفهم تجاه مناخهم: فكان الكاليفورنيون يستمتعون بمناخهم بينما سكان الغرب الأوسط يتبرمون منه. ولكن المناخ لم يكن عاملًا محدِّدًا مهمًّا للسعادة، بل لم يكن هناك اختلاف يُذكر بين مستوى الرضا عن الحياة بين الطلاب في كاليفورنيا وأولئك في الغرب الأوسط. ووجدنا كذلك أن زوجتي لم تكن وحدها في اعتقادها بأن الكاليفورنيين ينعمون بقدر أكبر من السعادة من غيرهم؛ فقد شاركها الطلاب في كلتا المنطقتين نفس الرؤية الخاطئة، واستطعنا أن نعزو هذا الخطأ إلى إيمان مغالًى فيه بأهمية المناخ، وقمنا بوصف هذا الخطأ بمسمى «وهم التركيز».
ما قدر المتعة التي تستمدها من سيارتك؟
ثمة إجابة تبادرت إلى ذهنك في الحال؛ فأنت تعرف كم تحب سيارتك وتستمتع بها. الآن تأمل سؤالًا مختلفًا: «متى تستمد متعة من سيارتك؟» قد تفاجئك إجابة هذا السؤال، ولكنها بسيطة ومباشرة: إنك تحصل على متعة (أو سخط) من سيارتك حين تفكر في سيارتك، وهو ما لا يحدث كثيرًا على الأرجح؛ ففي الظروف العادية، لا تقضي الكثير من الوقت في التفكير في سيارتك أثناء قيادتك لها، فأنت تفكر في أشياء أخرى أثناء القيادة، وحالتك المزاجية تتحدد بما تفكر فيه أيًّا كان. ها أنت ذا مرة أخرى تجيب عن سؤال أكثر ضيقًا بكثير عندما حاولت تقدير مدى استمتاعك بسيارتك؛ ألا وهو: «ما قدر المتعة التي تستمدها من سيارتك عندما تفكر فيها؟» لقد جعلك الاستبدال تتجاهل حقيقة أنك نادرًا ما تفكر بشأن سيارتك، وهو ما يعد شكلًا من أشكال تجاهل المدة. والمحصلة هي وهم تركيز. فإذا كنت تحب سيارتك، فمن المرجح أن تبالغ في تقدير المتعة التي تستمدها منها، وهو ما من شأنه تضليلك عند التفكير في مزايا سيارتك الحالية، وكذلك عند التفكير في شراء واحدة جديدة.
ثمة انحياز مشابه يشوِّه الأحكام بشأن سعادة سكان كاليفورنيا. حين تُسأل عن سعادة الكاليفورنيين، من المرجح أنك تستحضر في ذهنك صورة لشخص يولي اهتمامه بجانب مميز من تجربة العيش في كاليفورنيا، مثل التنزه سيرًا على الأقدام في الصيف أو الإعجاب بطقس الشتاء المعتدل. إن وهم التركيز يظهر لأن الكاليفورنيين يقضون بالفعل وقتًا محدودًا في الانتباه لهذه الجوانب من حياتهم. إلى جانب ذلك، من المستبعد أن يتم تذكير الكاليفورنيين الذين يعيشون بها منذ أمد طويل بالمناخ حين يُطلب منهم تقييم شامل لحياتهم. فإذا كنت تعيش هناك طوال حياتك ولا تسافر كثيرًا، فإن العيش في كاليفورنيا يكون أشبه بامتلاك عشرة أصابع في قدميك: شيء لطيف، ولكنه ليس بالشيء الذي يتوقف عنده المرء كثيرًا. والأفكار بشأن أي جانب من جوانب الحياة أكثر ميلًا للاتضاح بشدة إذا توفر بديل مناقض بشكل كبير.
كم من اليوم يقضيه المصابون بالشلل السفلي في حالة مزاجية سيئة؟
لقد دفعك هذا السؤال على الأرجح للتفكير في شخص مصاب بشلل سفلي يفكر في الوقت الحالي في أحد جوانب حالته؛ ولذا من المرجح أن يكون تخمينك بشأن الحالة المزاجية لمريض بالشلل السفلي دقيقًا في الأيام الأولى عقب حادث ينتج عنه عجز؛ إذ لفترة بعد وقوع الحادث، لا يفكر ضحايا الحوادث في أي شيء آخر إلا قليلًا. ولكن بمرور الوقت — فيما عدا بعض الاستثناءات — ينحسر الانتباه عن أي موقف جديد مع الاعتياد عليه. والاستثناءات الأساسية من ذلك تشمل الألم المزمن، والتعرض المستمر للضوضاء العالية، والاكتئاب الحاد. فالألم والضوضاء جُبلا بيولوجيًّا على أن يكونا إشارات تجذب الانتباه، كما أن الاكتئاب ينطوي على دائرة ذاتية التعزيز من الأفكار البائسة؛ ومن ثم لا يوجد أي تكيُّف مع هذه الحالات. غير أن الشلل السفلي لا يدخل في عداد الاستثناءات: فثمة ملاحظات تفصيلية تبين أن مرضى الشلل السفلي يكونون في حالة مزاجية جيدة إلى حد ما لأكثر من نصف الوقت بعد مرور شهر على الحادث؛ وإن كانت الكآبة تسيطر على حالتهم المزاجية بالتأكيد حين يفكرون فيما هم عليه. غير أن مرضى الشلل السفلي، لمعظم الوقت، يعملون، ويقرءون، ويستمتعون بالدعابات والأصدقاء، ويغضبون حين يقرءون عن السياسة في الصحف، وحين ينخرطون في أيٍّ من هذه الأنشطة، لا يختلفون كثيرًا عن أي شخص آخر، ويمكننا أن نتوقع أن تكون السعادة المستشعرة لدى مرضى الشلل السفلي قريبة من الطبيعي لمعظم الوقت. والتأقلم على أي موقف جديد، سواء أكان جيدًا أم سيئًا، يكمن إلى حد بعيد في الحد من التفكير بشأنه أكثر فأكثر. وفي هذا الإطار، تكون معظم الظروف الحياتية التي تستمر طويلًا، بما فيها الشلل السفلي والزواج، عبارة عن حالات غير دائمة يسكنها المرء فقط حين ينتبه إليها.
إحدى ميزات التدريس في جامعة برينستون هي الفرصة التي تتاح لك لتوجيه طلاب نوابغ عبر أطروحة بحثية. وكانت إحدى تجاربي المفضلة في هذا الإطار مشروعًا قامت خلاله بيروريا كون بجمع وتحليل بيانات من إحدى شركات دراسات المسح واستطلاع الرأي، كانت قد طلبت من المستطلعين تقدير نسبة الوقت الذي يقضيه مرضى الشلل السفلي في حالة مزاجية سيئة. فقد قامت بتقسيم المستطلعين إلى مجموعتين: فقيل للبعض إن الحادث الذي أدى إلى العجز قد وقع منذ شهر، فيما قيل للبعض الآخر إنه قد وقع منذ عام. بالإضافة إلى ذلك، فقد أشار كل مستطلع إلى ما إذا كان لديه معرفة شخصية بمريض بالشلل السفلي. وقد اتفقت المجموعتان إلى حد بعيد في حكمهما بشأن الأشخاص حديثي الإصابة بالشلل السفلي: فقد قدَّر هؤلاء ممن يعرفون مريضًا بالشلل السفلي بصفة شخصية بأنهم يقضون ٧٥٪ من الوقت في حالة مزاجية سيئة؛ أما من اضطروا لتخيل مريض بالشلل السفلي، فقالوا ٧٠٪. في المقابل، اختلفت المجموعتان بشكل حاد في تقديراتهما للحالة المزاجية لمرضى الشلل السفلي بعد عام من الحادث المتسبب في الإصابة: فكان تقدير هؤلاء الذين يعرفون مريضًا بالشلل السفلي لنسبة الوقت الذي يقضونه في تلك الحالة المزاجية السيئة ٤١٪، فيما بلغ متوسط تقديرات هؤلاء ممن لم يكن لديهم معرفة شخصية بمريض بالشلل السفلي ٦٨٪. كان واضحًا أن أولئك الذين كانوا على معرفة بمريض بالشلل السفلي قد لاحظوا الانحسار التدريجي للانتباه عن الحالة، ولكن الآخرين لم يتنبئوا بأن هذا التكيف سوف يحدث. وقد أظهرت الأحكام بشأن الحالة المزاجية للفائزين بجوائز اليانصيب بعد مرور شهر وبعد مرور سنة من الحدث نفس النمط تمامًا.
يمكننا أن نتوقع انخفاض مستوى الرضا عن الحياة لدى مرضى الشلل السفلي والمصابين بحالات مرضية أخرى مزمنة ومرهقة بالنسبة لسعادتهم المستشعرة؛ نظرًا لأن مطالبتهم بتقييم حياتهم سوف تذكِّرهم حتمًا بحياة الآخرين والحياة التي كانوا يحيونها. وفيما يعد توافقًا مع هذه الفكرة، أظهرت الدراسات الحديثة التي أُجريت على المرضى الذين خضعوا لجراحة فغر القولون تناقضات مثيرة بين مستوى السعادة المستشعرة للمرضى وتقييماتهم لحياتهم. وتبيِّن طريقة اختيار عينات من التجارب عدم وجود اختلاف في السعادة المستشعرة بين هؤلاء المرضى وبين أفراد أصحاء. غير أن مرضى فغر القولون سيكونون على استعداد لمقايضة سنوات من حياتهم مقابل حياة أقصر بدون فغر القولون. إلى جانب ذلك، يتذكر المرضى الذين خضعوا لجراحة لعكس فغر القولون الفترة التي أمضوها في تلك الحالة كفترة بشعة، حتى إنهم ليتنازلون عما تبقى من حياتهم كيلا يضطروا للعودة إليها. هنا يبدو أن النفس المتذكرة عرضة لوهم تركيز ضخم بشأن الحياة التي تتحملها النفس المستشعرة بيسر ودون تعب.
قام دانيال جيلبرت وتيموثي ويلسون بإدخال كلمة «سوء الرغبة» لوصف الاختيارات السيئة التي تنشأ عن أخطاء التنبؤ العاطفي. وهذه الكلمة جديرة بأن تكون ضمن اللغة اليومية الدارجة. ويُعتبر وهم التركيز (الذي يُطلِق عليه جيلبرت وويلسون الارتساء) مصدرًا غنيًّا لسوء الرغبة؛ فهو يجعلنا، على نحو خاص، عرضة لتضخيم تأثير المشتريات المهمة أو الظروف المتغيرة على سعادتنا المستقبلية.
قارِن بين التزامين سوف يغيران بعضًا من جوانب حياتك: شراء سيارة جديدة مريحة والانضمام لمجموعة تلتقي أسبوعيًّا؛ كنادٍ للبوكر أو نادٍ للكتاب. كلتا التجربتين سوف تكونان جديدتين ومثيرتين في البداية. والاختلاف الأساسي بينهما يكمن في أنك في النهاية سوف تولي القليل من الانتباه للسيارة بينما تقوم بقيادتها، ولكنك سوف تنتبه دائمًا للتفاعل الاجتماعي الذي ألزمت به نفسك. وبمقتضى مبدأ «ما تراه هو كل ما هناك»، من المحتمل أن تضخم من الفوائد طويلة المدى للسيارة، ولكن من غير المحتمل أن ترتكب نفس الخطأ بالنسبة لمحفل اجتماعي أو أنشطة تتطلب الانتباه بطبيعتها مثل التنس أو تعلم العزف على التشيلو. إن وهم التركيز يخلق تحيزًا لصالح السلع والخبرات التي تكون مثيرة في البداية، حتى وإن كانت جاذبيتها إلى زوال في النهاية؛ فهناك تجاهل للوقت، مما يجعل الخبرات التي سوف تحتفظ بانتباهك على المدى الطويل تحظى بتقدير أقل مما تستحق.
الوقت ثم الوقت
تكرَّر التأكيد على دور الوقت في هذا الجزء من الكتاب؛ فمن المنطقي أن نَصِف حياة النفس المستشعرة كسلسلة من اللحظات، لكل منها قيمة. وقيمة أي فترة من الحياة — وقد أطلقت عليها مجموع مقياس اللذة — هي ببساطة مجموع قيم لحظاتها. ولكن ليست هذه هي الطريقة التي يصور بها العقل الحلقات؛ فالنفس المتذكرة — كما وصفتها — تروي قصصًا وتتخذ اختيارات هي الأخرى، والقصص والاختيارات كلتاهما لا تمثلان الوقت على النحو الملائم؛ ففي نمط سرد القصص، يتم تمثيل أي حدث ببعض اللحظات الحاسمة، خاصة البداية، والذروة، والنهاية، وفي وسط ذلك يحدث تجاهل للمدة. وقد رأينا هذا التركيز على اللحظات الفردية في كلٍّ من تجربة اليد الباردة وقصة فيوليتا.
وقد رأينا شكلًا مختلفًا من تجاهل المدة في نظرية التوقع، يكون فيها تمثيل حالة ما بالانتقال إليها. فالفوز بجائزة اليانصيب يخلق حالة جديدة من الثروة سوف تبقى بعض الوقت، ولكن منفعة القرار تماثل القوة المتوقعة لرد الفعل تجاه خبر الفوز. ويحدث إهمال لانحسار الانتباه والتكيفات الأخرى مع الحالة الجديدة حيث لا يكون هناك اعتبار إلا لهذه الشريحة من الوقت. ويوجد نفس التركيز على الانتقال للحالة الجديدة ونفس التجاهل للوقت والتكيف في التنبؤات الخاصة برد الفعل إزاء الأمراض المزمنة، وبالطبع في وهم التركيز. والخطأ الذي يرتكبه الناس في وهم التركيز يتضمن الانتباه للحظات المختارة وتجاهل ما يحدث في أوقات أخرى؛ فالعقل يؤدي أداء جيدًا مع القصص، ولكن لا يبدو أنه مصمَّم بشكل جيد لمعالجة الوقت.
خلال السنوات العشر الأخيرة تعرفنا على الكثير من الحقائق الجديدة بشأن السعادة، ولكننا عرفنا أيضًا أن كلمة «السعادة» ليس لها معنى بسيط، ولا ينبغي أن تستخدم وكأنها بسيطة المعنى. أحيانًا ما يتركنا التقدم العلمي أكثر حيرة من ذي قبل.
في الحديث عن التفكير بشأن الحياة
«لقد كانت تعتقد أن شراء سيارة فارهة سوف يجعلها أكثر سعادة، ولكن تبين أنه خطأ من أخطاء التنبؤ العاطفي.»
«لقد تعطلت سيارته وهو في طريقه إلى العمل هذا الصباح وهو في حالة مزاجية مقيتة. إن اليوم غير مناسب لسؤاله عن مدى رضاه عن وظيفته!»
«إنها تبدو مبتهجة للغاية لمعظم الوقت، ولكن حين تُسأل تقول إنها في غاية التعاسة. لا بد أن السؤال يجعلها تفكر في طلاقها الذي وقع مؤخرًا.»
«إن شراء منزل أكبر قد لا يجعلنا أكثر سعادة على المدى الطويل. ربما نعاني من وهم تركيز.»
«لقد اختار أن يقسم وقته بين مدينتين، ربما تكون تلك حالة خطيرة من سوء الرغبة.»