آلية التداعي
وقع الكثير لك خلال الثانية أو الثانيتين الأخيرتين. مررت بخبرة مشاهدة صور وذكريات غير سارة؛ فقد انبعج وجهك قليلًا تعبيرًا عن الاشمئزاز، وربما دفعت هذا الكتاب لاشعوريًّا بعيدًا عنك. ازدادت ضربات قلبك، وانتصب الشعر في ذراعك قليلًا، ونشطت غدد عرقك. باختصار، استجبت إلى الكلمات المثيرة للاشمئزاز بطريقة معدلة للطريقة التي كنت ستستجيب بها لحادثة حقيقية مثل هذه. كان كل ما جرى آليًّا، خارجًا عن سيطرتك.
بينما لم يكن ثمة سبب محدد لعمل ذلك، افترض عقلك آليًّا وجود متتابعة زمنية وعلاقة سببية بين كلمتَيِ «الموز» و«تقيؤ»، مكونًا سيناريو عامًّا يتسبب فيه الموز في الغثيان. بناءً عليه، تمر بخبرة نفور مؤقت من الموز (لا تقلق، سينقضي هذا النفور). تغيرت حالة ذاكرتك بطرق أخرى. أنت الآن مستعد بصورة غير عادية لإدراك والاستجابة إلى أشياء ومفاهيم ترتبط ﺑ «التقيؤ»؛ مثل مرض، عفن، أو غثيان، وكلمات مرتبطة ﺑ «الموز»؛ مثل أصفر، وفاكهة، وربما تفاح وتوت.
يحدث التقيؤ عادةً في سياقات محددة؛ مثل حالات الإسراف في تناول الخمر وسوء الهضم. ستكون أيضًا أكثر استعدادًا بشكل غير عادي لإدراك كلمات ترتبط بأسباب أخرى لعملية التقيؤ غير المريحة. بالإضافة إلى ذلك، لاحظ النظام ١ أن تجاور الكلمتين غير مألوف؛ ربما لم تصادف هذا التجاور بين هاتين الكلمتين من قبل؛ ولذلك مررت بخبرة دهشة طفيفة.
وقعت هذه المجموعة المعقدة من الاستجابات سريعًا، آليًّا، ودون جهد. لم ترغب بها ولم تستطع وقفها. كانت تلك إحدى عمليات النظام ١. وقعت الأحداث التي جاءت نتيجة رؤيتك الكلمتين من خلال عملية يطلق عليها «التنشيط الترابطي»؛ حيث تفضي الأفكار التي جرى استثارتها إلى أفكار أخرى كثيرة، في متتالية من النشاط في دماغك. تتمثل السمة الجوهرية لهذه المجموعة المعقدة من الأحداث العقلية في تماسكها. فجميع العناصر متصلة ببعضها، وكل عنصر يدعم ويقوي العناصر الأخرى. تثير الكلمة الذكريات، التي تثير المشاعر، التي بدورها تثير تعبيرات الوجه والاستجابات الأخرى، مثل الشعور بالتوتر العام والميل للابتعاد. يكثِّف تعبير الوجه وحركة الابتعاد المشاعر التي ترتبط بها، وتدعم المشاعر بدورها الأفكار المتوافقة معها. يحدث كل ذلك بسرعة، مرة واحدة، ويؤدي إلى نمط مدعم ذاتيًّا من الاستجابات الإدراكية والشعورية والبدنية التي تتميز بالتنوع والتكامل، والذي يشار إليه بأنه «متماسك ترابطيًّا».
خلال ثانية — أو ما يقرب من ذلك — حققت، آليًّا ولاشعوريًّا، إنجازًا مميزًا. بادئًا من حادثة غير متوقعة على الإطلاق، فسَّر النظام ١ الموقف على قدر المستطاع — كلمتان بسيطتان متجاورتان بطريقة غريبة — من خلال ربط الكلمات في قصة سببية. فتولى النظام ١ عملية تقييم التهديد الممكن (والذي تتراوح درجته بين طفيف إلى متوسط)، وأنشأ سياقًا للتطورات المستقبلية عن طريق إعدادك للمرور بأحداث صار وقوعها أكثر احتمالًا. وأنشأ النظام ١ أيضًا سياقًا للحدث الجاري من خلال تقييم درجة إدهاشه. انتهى بك المطاف أكثر دراية بالماضي واستعدادًا للمستقبل قدر المستطاع.
يتمثل ملمح غريب فيما حدث في أن النظام ١ الخاص بك تعامل مع ربط الكلمتين باعتبارهما تمثيلًا للواقع. استجاب جسدك بنسخة مخففة من رد فعلك إزاء الموقف الواقعي، وكانت الاستجابة الشعورية والابتعاد الجسدي جزأين من عملية تفسير الحدث. مثلما أكد علماء علم النفس الإدراكي في السنوات الأخيرة، فإن الإدراك يتجسد؛ فالإنسان يفكر بجسده، لا بدماغه فقط.
عُرفت الآلية التي تتسبب في وقوع هذه الأحداث العقلية منذ فترة طويلة؛ ألا وهي آلية «تداعي الأفكار». نفهم جميعًا من واقع الخبرة أن الأفكار يتبع بعضها بعضًا في عقلنا الواعي بطريقة منظمة إلى حد ما. بحث الفلاسفة البريطانيون في القرنين السابع عشر والثامن عشر عن القواعد التي تفسِّر هذه المتتاليات. في كتاب «بحث حول الفهم الإنساني»، الذي نُشر عام ١٧٤٨، اختزل الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم مبادئ تداعي الأفكار في ثلاثة مبادئ: التشابه، التلازم في الزمان والمكان، والسببية. وبينما تغيَّر مفهومنا للتداعي جذريًّا منذ أيام هيوم، لا تزال هذه المبادئ الثلاثة تمثل بداية جيدة.
سأتبنى رؤية واسعة لطبيعة الفكرة. قد تكون الفكرة ملموسة أو مجردة، كما يمكن التعبير عنها بطرق عديدة؛ كأن تكون فعلًا، أو اسمًا، أو صفة، أو في صورة قبضة مضمومة. ينظر علماء النفس إلى الأفكار باعتبارها عقدًا في شبكة واسعة، يُطلق عليها «الذاكرة الترابطية»؛ حيث ترتبط كل فكرة بأفكار أخرى كثيرة. هناك أنواع مختلفة من الروابط. ترتبط الأسباب بالنتائج (الفيروس والإصابة بالبرد)، والأشياء بخصائصها (الليمون واللون الأخضر)، والأشياء بالتصنيفات التي تنتمي إليها (الموز والفواكه). تتمثل أحد أوجه تجاوزنا لأفكار هيوم في أننا لم نعد نفكر في العقل باعتباره يمر خلال سلسلة من الأفكار الواعية، فكرة واحدة في كل مرة. فوفق الرؤية الحالية لطريقة عمل الذاكرة الترابطية، يحدث الكثير في آن. فلا تقتصر الفكرة التي جرى تنشيطها على إثارة فكرة أخرى، بل تنشِّط أفكارًا أخرى عديدة، التي بدورها تنشِّط أفكارًا أخرى. بالإضافة إلى ذلك، لن يجري تسجيل سوى عدد محدود فقط من الأفكار المنشَّطة في الوعي. يجري معظم عمل التفكير الترابطي في صمت، في خفاء عن ذواتنا الواعية. تعتبر فكرة أن لدينا قدرة محدودة على معرفة آليات عمل عقولنا فكرةً يصعُب قبولها؛ نظرًا لأنها فكرة غريبة عن خبرتنا لكنها فكرة صحيحة. فنحن نعرف أقل بكثير عن أنفسنا مما نشعر أننا نعرف.
عجائب الاستباق
تمثَّل أحد الاكتشافات المهمة الأخرى في فهمنا للذاكرة في اكتشاف أن عملية الاستباق لا تقتصر على المفاهيم والكلمات فقط. بطبيعة الحال، بينما لا يمكن للمرء بالتأكيد معرفة هذا من خلال الخبرة الواعية، يجب قبول الفكرة الغريبة القائلة بأن أفعال ومشاعر الإنسان يمكن أن تستبقها أحداث لا يكون المرء حتى واعيًا بها. في تجربة صارت مثالًا كلاسيكيًّا، طلب عالم النفس جون بارج وزملاؤه من بعض طلاب في جامعة نيويورك — تتراوح أعمار معظمهم بين ثمانية عشر واثنين وعشرين عامًا — أن يؤلفوا جملًا من أربع كلمات من خلال مجموعة من خمس كلمات (على سبيل المثال، «وجد أصفر هو الشيء فورًا»). بالنسبة إلى إحدى مجموعات الطلاب، اشتملت نصف الجمل غير المرتبة على كلمات ترتبط بكبار السن، مثل «فلوريدا»، «نَسيٌّ»، «أصلع»، «رمادي»، أو «تجعيد». عندما انتهى الطلاب الشباب من أداء التمرين، أُرسلوا لأداء تجربة أخرى في مكتب على الجانب الآخر من الممر الذي توجد فيه القاعة التي كانوا بها. كان سير هذه المسافة القصيرة في حقيقة الأمر هو التجربة نفسها. قام الباحثون بقياس الوقت الذي استغرقه المشاركون للانتقال من أحد أطراف الممر إلى الآخر خفيةً. مثلما توقع بارج، سار المشاركون الشباب الذين كانوا قد ألفوا جملًا من كلمات تتضمن موضوعات عن كبار السن عبر الممر بمعدل أبطأ كثيرًا من الآخرين.
يتضمن «أثر فلوريدا» مرحلتين من الاستباق؛ أولًا: تستبق مجموعة الكلمات أفكار العمر المتقدم، على الرغم من عدم ذكر كلمة «عجوز» على الإطلاق. ثانيًا: تستبق هذه الأفكار سلوكًا — السير ببطء — يرتبط بالعمر المتقدم. يجري كل ذلك دون أن تكون هناك دراية به. عند سؤالهم لاحقًا، لم يذكر أي من الطلاب ملاحظة أن الكلمات يجمعها موضوع مشترك، كما أصر جميعهم على أن لا شيء مما فعلوه بعد التجربة الأولى قد تأثَّر بالكلمات التي صادفوها. بينما لم ترد فكرة العمر المتقدم إلى فكرهم الواعي، تغيرت أفعالهم بالرغم من ذلك. تُعرف ظاهرة الاستباق اللافتة هذه — أي تأثُّر أحد الأفعال بفكرة — باسم «أثر الفعل اللاإرادي الناشئ عن فكرة». على الرغم من عدم وعيك بالعملية بالتأكيد، فإن قراءة هذه الفقرة أحدثت الأثر عينه عليك. فإذا كنت في حاجة إلى الوقوف للحصول على كوب مياه، ستكون أبطأ قليلًا من المعتاد في النهوض من مقعدك، إلا إذا صدف أنك لا تحب كبار السن، وفي هذه الحالة يشير الباحثون إلى أنك قد تكون أسرع في حركتك من المعتاد!
يعمل رابط الفعل اللاإرادي الناشئ عن فكرة بطريقة عكسية أيضًا. كانت تجربة قد أُجريت في جامعة ألمانية بمثابة صورة معكوسة من التجربة التي أجراها بارج وزملاؤه في نيويورك. طُلب من الطلاب أن يسيروا في غرفة مدة خمس دقائق بمعدل ٣٠ خطوة لكل دقيقة، وهو ما كان يمثِّل ثلث المعدل العادي لهم. بعد هذه التجربة القصيرة، كان المشاركون أسرع كثيرًا في التعرف على الكلمات التي تتعلق بالعمر المتقدِّم، مثل «نسيٌّ»، «عجوز»، و«وحيد». تميل آثار الاستباق التبادلية إلى انتاج رد فعل متماسك. فإذا جرى استباقك للتفكير في العمر المتقدم، فستميل إلى التصرف على نحو ما يفعل كبار السن، وسيؤدي التصرف على هذا النحو إلى ترسيخ فكرة العمر المتقدم.
يشيع وجود الروابط التبادلية في الشبكة الترابطية. على سبيل المثال، المرء الذي يشعر بالاستمتاع يرغب في الابتسام، ويميل الابتسام إلى أن يجعل المرء مستمتعًا. هيا خذ قلمًا، واحمله بين أسنانك لثوان معدودة بحيث تشير الممحاة في القلم إلى يمينك، ويشير سن القلم إلى يسارك. احمل القلم الآن بحيث يكون سن القلم أمامك، من خلال ضم شفتيك حول طرف الممحاة. ربما لم تدرِ أن أحد هذه الأعمال أجبرَ وجهك على التقطيب فيما أجبره الآخر على الابتسام. طُلب من طلاب جامعات تقييم درجة الفكاهة في الرسوم الكرتونية لجاري لارسون في سلسلة «الجانب البعيد» أثناء وضع أقلام في أفواههم. وجد أولئك الذين كانوا «يبتسمون» (دون أي وعي منهم بذلك) الرسوم الكرتونية أكثر إضحاكًا من أولئك الذين كانوا «مقطبين». في تجربة أخرى، أظهر الأشخاص الذين تقطبت وجوههم (عن طريق ضم حاجبيهم معًا) استجابات شعورية فيَّاضة تجاه صور مزعجة، مثل صور أطفال يتضورون جوعًا، وأشخاص يتجادلون، وضحايا حادثة مصابين إصابات بالغة.
ربما تؤثر الإيماءات البسيطة الشائعة أيضًا بصورة لاواعية على أفكارنا ومشاعرنا. في إحدى التجارب، طُلب من المشاركين الاستماع إلى رسائل عبر سماعات رأس جديدة. قيل لهؤلاء إن الغرض من التجربة هو اختبار جودة السماعات، كما طُلب منهم تحريك رءوسهم كثيرًا للتأكد من عدم وجود أي عيوب في الصوت. بينما طُلب من نصف المشاركين هز رءوسهم إلى أعلى وإلى أسفل، طُلب من النصف الآخر هز رءوسهم إلى الجانبين. كانت الرسائل التي كان يستمع إليها المشاركون عبارة عن تعليقات على الأحداث في الراديو. فبينما مال أولئك الذين أَوْمَئُوا برءوسهم (إيماءة الموافقة) إلى قبول الرسالة التي استمعوا إليها، مال أولئك الذين هزوا رءوسهم إلى الجانبين إلى رفض الرسالة. مرة أخرى، لم يكن ثمة وعي بذلك؛ بل مجرد علاقة اعتيادية بين موقف الرفض أو القبول والتعبير البدني الشائع عنه. ربما ترى لماذا تعتبر نصيحة «ضرورة التصرف بهدوء وبود بغض النظر عما تشعر به» نصيحة جيدة؛ إذ إنك على الأرجح ستُكافأ نظير ذلك بأن تشعر بالفعل بالهدوء والود.
عمليات الاستباق التي تقودنا
أدت دراسات آثار الاستباق إلى اكتشافات تهدد ثقتنا في صورتنا الذاتية باعتبارنا مسئولين واعين ومستقلين عن أحكامنا وخياراتنا. على سبيل المثال، يرى معظمنا أن عملية التصويت تمثل عملًا واعيًا يعكس قيمنا وتقييماتنا للسياسات، ولا تتأثر بالعوامل غير ذات الصلة. بينما لا يجب أن يتأثر تصويتنا بموقع لجنة الاقتراع — على سبيل المثال — فإن ذلك يحدث في الواقع. أظهرت دراسة لأنماط التصويت في بعض الدوائر الانتخابية بولاية أريزونا في عام ٢٠٠٠ أن دعم مقترحات زيادة تمويل المدارس كان أكبر بكثير عندما كانت لجنة الاقتراع تقع في مدرسة مما لو كانت تقع في موقع قريب. أظهرت تجربة منفصلة أن تعرُّض الناس لصور الفصول الدراسية والخزائن المدرسية زاد أيضًا من ميل المشاركين في التجربة لدعم أي مبادرة تتعلق بالمدارس. كان أثر الصور أكبر من الفرق بين الآباء والمصوِّتين الآخرين! لقد قطعت دراسة عملية الاستباق شوطًا كبيرًا بعد التجارب الأولية التي كانت تتضمن الافتراض القائل بأن تذكير المشاركين بالعمر المتقدم يجعلهم يسيرون بصورة أبطأ. فنحن نعلم الآن أن آثار الاستباق قد تبلغ أي جزء من حياتنا.
تؤدي الإشارات التي تذكِّر بالمال إلى بعض الآثار المزعجة. كانت تُعرَض قائمة من أربع كلمات على المشاركين في إحدى التجارب ومنها كان يُطلب منهم إنشاء عبارة تتألف من ثلاث كلمات حول موضوع المال («عالي الراتب مكتب القيمة» تصير «الراتب عالي القيمة»). كانت هناك استباقات أقل وضوحًا؛ مثل وجود شيء في الخلفية ليست له علاقة مباشرة بالمال، مثل كومة من أموال لعبة مونوبولي على طاولة، أو كمبيوتر يُظهر شاشة توقف تعرض صورة دولارات طافية على سطح الماء.
يصبح الأشخاص الذين يجري استباقهم بتعبيرات أو إشارات للمال أكثر استقلالًا مما لو لم تتوفر مثل هذه التعبيرات أو الإشارات الترابطية. ثابر هؤلاء أكثر بمقدار الضعف تقريبًا في الوقت في محاولة حل مشكلة شديدة الصعوبة قبل أن يلجئوا إلى القائم على التجربة للمساعدة، وهو نموذج واضح على الاعتماد المتزايد على الذات. يتميز هؤلاء الأشخاص أيضًا بأنهم أكثر أنانية؛ فكان هؤلاء أقل ميلًا لقضاء بعض الوقت في مساعدة طالب آخر تظاهر بالارتباك في ممارسة تمرين في أحد التجارب. عندما أسقط القائم على التجربة حزمة من الأقلام بطريقة عشوائية، التقط هؤلاء (عن غير وعي) أقلامًا أقل. في تجربة أخرى ضمن هذه السلسلة من التجارب، قيل للمشاركين إنهم سيشاركون في حوار للتعرف على شخص آخر بعد فترة قصيرة، كما طُلب منهم وضع كرسييْن فيما كان القائم على التجربة يستدعي ذلك الشخص. اختار المشاركون الذين يفكرون في المال الجلوس على مسافة أبعد بكثير عن محاوريهم من الذين لا يفكرون في المال (١١٨ سنتيمترًا في مقابل ٨٠ سنتيمترًا). أظهر طلاب المرحلة الجامعية الذين يفكرون في المال تفضيلًا أكبر للبقاء وحدهم.
يتمثل الموضوع العام لهذه النتائج في أن فكرة المال تستبق الفردانية؛ أي عدم الميل للانخراط مع الآخرين، أو الاعتماد عليهم، أو قبول طلبات منهم. كبحت عالمة النفس التي أجرت هذا البحث اللافت، كاثلين فوس، على نحو يدعو إلى الثناء؛ جماحَ مناقشة تداعيات نتائج بحثها بصورة مباشرة، تاركةً ذلك إلى قرائها. تتميز تجارب فوس بالعمق. فتشير نتائج بحوثها إلى أن العيش في ثقافة تحيطنا بأشياء تذكرنا بالمال ربما يشكِّل سلوكنا ومواقفنا بطرق لا نعلم عنها شيئًا، وبطرق ربما لا نشعر بالفخر حيالها. تقدِّم بعض الثقافات أشياء متكررة تذكِّر بالاحترام، وتذكر ثقافات أخرى أعضاءها بالله بشكل مستمر، فيما تستبق بعض المجتمعات الطاعة من خلال وضع صور كبيرة لرئيسها الديكتاتور. هل يمكن أن يكون ثمة شك في أن الصور المنتشرة في كل مكان للزعماء في المجتمعات الديكتاتورية لا يوصل فقط الشعور بأن «الأخ الأكبر يراقب»، بل يؤدي أيضًا إلى الاختزال الفعلي للتفكير التلقائي والعمل المستقل؟
تتعلق عملية التطهير بصورة محددة للغاية بأجزاء الجسد التي شاركت في ارتكاب خطيئة. طُلب من مشاركين «الكذبُ» على شخص متخيَّل، سواء في الهاتف أو عبر البريد الإلكتروني. في اختبار تالٍ للرغبة في شراء المنتجات المتنوعة، فضَّل الأشخاص الذين كذبوا عبر الهاتف غسول الفم على الصابون، فيما فضَّل أولئك الذين كذبوا عبر البريد الإلكتروني الصابون على غسول الفم.
عندما أقدِّم دراسات الاستباق إلى الحاضرين، يكون رد الفعل عادةً عدم التصديق. ليس في ذلك مفاجأة. يعتقد النظام ٢ أنه المسئول وأنه يعلم أسباب خياراته. ربما تقفز الأسئلة إلى ذهنك أيضًا؛ كيف يمكن أن يؤدي التلاعب الطفيف في السياق إلى هذه الآثار الكبرى؟ هل تبين هذه التجارب أننا نقع تمامًا تحت رحمة أي شيء يوجد في البيئة المحيطة في أي لحظة؟ بالطبع لا. بينما تتسم آثار الاستباقات بأنها قوية إلا أنها ليست كبيرة بالضرورة. ضمن مائة مصوِّت، سيصوت عدد قليل ممن كانت تفضيلاتهم الأولية غير مؤكدة بصورة مختلفة حول أحد الموضوعات المتعلقة بالمدارس إذا كان موقع لجنتهم للاقتراع موجودًا في مدرسة بدلًا من كنيسة، لكن تستطيع نسبة طفيفة أن تغيِّر نتيجة أي انتخابات.
في المقابل، تتمثل الفكرة التي يجب التركيز عليها في أن عدم التصديق لا يُعد خيارًا. لم يجر اصطناع النتائج كما أنها ليست عوارض إحصائية. لا يوجد لديك خيار سوى القبول بأن النتائج الرئيسية لهذه الدراسات صحيحة. الأكثر أهمية، يجب أن تقبل أنها نتائج صحيحة «عنك». إذا شاهدت شاشة توقف تعرض دولارات طافية، فستلتقط أنت أيضًا أقلامًا أقل لمساعدة شخص غريب أخرق. إنك لا تصدق أن هذه النتائج تنطبق عليك؛ نظرًا لأنها لا تماثل شيئًا في خبرتك الذاتية. لكن خبرتك الذاتية تتألف بصورة أساسية من القصة التي يتلوها النظام ٢ الخاص بك نفسه عما يجري. تنشأ ظاهرة الاستباق عن النظام ١، ولا توجد لديك قدرة على الاطلاع الواعي عليها.
في الأسبوع الأول من التجربة (الذي تستطيع أن تلاحظه في أسفل الشكل) التي يحدق فيها زوجان من الأعين المتسعة في شاربي القهوة والشاي، كانت متوسط مساهمتهم ٧٠ بنسًا لكل لتر لبن. في الأسبوع الثاني الذي يظهر المُلصق فيه زهورًا، انخفض فيه متوسط المساهمات إلى حوالي ١٥ بنسًا. يتواصل هذا الاتجاه. في المتوسط، ساهم مستخدمو المطبخ بمقدار يزيد ثلاث مرات في «أسابيع صور العيون» عما في «أسابيع صور الزهور». مما يبدو جليًّا، أنَّ وجود شيء رمزي يذكر المشاركين بأنهم مراقبون قد يحثهم على تحسين سلوكهم. مثلما نتوقع عند هذه النقطة، يحدث الأثر دون وجود أي وعي به. هل تصدق الآن أنك تتبع النمط نفسه أيضًا؟
منذ بضع سنوات، كتب عالم النفس تيموثي ويلسون كتابًا يحمل عنوانًا مثيرًا «غرباء عن أنفسنا». جرى الآن تقديمك إلى ذلك الغريب داخل نفسك، وهو من قد يكون متحكمًا في كثير مما تفعل، على الرغم من ندرة شعورك به. يوفر النظام ١ الانطباعات التي تتحول عادةً إلى معتقداتك، ويعتبر مصدرًا للدوافع التي تصير عادةً خياراتك وأفعالك. يقدِّم النظام ١ تفسيرًا ضمنيًّا لما يجري لك وما يحدث حولك، رابطًا الحاضر بالماضي القريب وبالتوقعات حيال المستقبل القريب. يتضمن النظام ١ نموذجًا للعالم يقيِّم الأحداث على الفور باعتبارها إما طبيعية أو مدهشة. وهو يمثل مصدر أحكامك الحدسية السريعة والدقيقة عادةً. وهو يقوم بكل ذلك دون معرفتك الواعية بأنشطته. وهو أيضًا، مثلما سنرى في الفصول التالية، مصدر الكثير من الأخطاء المنهجية في أحكامك الحدسية.
في الحديث عن الاستباق
«لا تؤدي رؤية جميع هؤلاء الأشخاص الذين يرتدون زيًّا موحدًا إلى استباق فكرة الإبداع.»
«لا يوجد معنى كثيرًا في العالم كما تظن. ينبع التماسك في معظم الأحيان من الطريقة التي يعمل عقلك بها.»
«جرى استباقهم للعثور على أوجه قصور، وهو ما وجدوه تحديدًا.»
«ألَّف النظام ١ الخاص به قصة، وصدقها النظام ٢ الخاص به، يحدث هذا الأمر للجميع!»
«أرغمت نفسي على الابتسام وها أنا أشعر حقيقةً بأني أفضل حالًا!»