الوطن
«وسأبقى ابنًا للأرض، للحب خُلقت وللألم.»
يقول سيِّد شعراء الألمان «جوته» في مقدمة دراساته وتعليقاته على ديوانه الشرقي: «مَن أراد أن يفهم الشاعر فليذهب إلى وطن الشاعر.» فكيف يبدو وطن شاعرهم العبقري المسكين هلدرلين؟ وكيف أثَّرت عليه طبيعة هذا الوطن، وسماؤه الصافية، وتلاله الوديعة، وغاباته الغامضة، وأنهاره الهادئة الحنون؟
والوطن كذلك مملكةٌ مسحورة، أنغامه وعطوره لا تبارح ذاكرة الطفل. فإذا ما صحت صحا الوطن كله في خياله كأنما مسَّته عصًا سحرية:
والمدينة التي وُلد فيها الشاعر بقعةٌ مقدسة، يحج إليها بالكلمة في تقوى وخشوعٍ:
في بلدة «لاوفن» الصغيرة، على ضفة نهر النيكار في منطقة «شفابن»، وفي ديرٍ قديم يسمِّيه الفلاحون هناك «القرية الصغيرة»، وُلد هلدرلين في العشرين من شهر مارس سنة ١٧٧٠م …
هناك كان وطنه المقدس الحبيب …
عرف هلدرلين الوطن، وأحبَّه واشتاق دائمًا للرجوع إليه. ومع هذا فلم يعرف (قبل أن يصيبه الجنون على الأقل) مكانًا يستريح إليه أو يقيم فيه. فهو دائمًا الغريب والمتجول الوحيد. لهذا تحمل كلماته التي يثني فيها على الوطن نغمة الكآبة والأنين. لقد أحب الوطن وصبر على الجراح العميقة من أجله وأعطاه كل ما يستطيع الإنسان أن يعطيه من قلبه وضميره. وظلَّ هذا الوطن بالنسبة إليه عالَمًا يفوح بالعطر ويموج بالسحر وترفرف عليه أجنحة الأساطير وأرواح الخالدين والأبطال. ولكنه لم يجد «البيت» الذي يهدأ تحت سقفه، ويشعر بالاطمئنان أمام موقده. شاء له القدر أن يبقى غريبًا، قلقًا، لا يكاد يستريح إلى مكان حتى يهجره إلى غيره. هو دائمًا التائه الذي يتردد نداؤه: إلى أين؟ وهو الغريب بلا وطنٍ ولا سكن. يفتقد السعادة والزوجة والدفء والأمان. يفتقد الأرض الراسخة تحت قدميه. وتتكرر في شعره صورة الغريب الذي قُدِّر عليه أن يقضي حياته بلا جذور، ويطارد كالوحش الجريح الذي لا يجد ظلًّا يأوي إليه ولا نبعًا يبل فيه جراحه. وهو لهذا يتحسر على الحياة البعيدة كالحلم:
هو المتجول الوحيد المسكين، يشعر أن روحه تنطفئ وتخبو، وأنه مهما تغنَّى بالأرض والوطن فسيبقى بلا وطنٍ ولا بيت ولا حبٍّ. أكان هذا إحساسًا منه بأن جذوة العقل ستنطفئ بعد توهُّج؟ أكان تنبؤًا منه بليل الجنون الذي سيحاصره نصف حياته على الأرض؟
والكنز المقدس الذي يحمله الغريب في صدره ويحرص عليه ويرعاه هو كنز العذاب. والعذاب هدية السماء لكل مَن يجسر على اقتحام مملكة الشِّعر والحب. وجرح الحب المحروم يدمي قلبه ويبدد راحته، ويشرده في الآفاق، ينفي عنه الاطمئنان لشيء أو التعلق بإنسان. فإذا عاد يومًا إلى وطنه أحسَّ لأيام أو شهورٍ قليلة كأنه يعود لنفسه. وإذا أبصر ضفاف نهره الغالي شعر من جديد بأنه «عذابه المقدس ممتدٌ بلا ضفافٍ»:
ثم يناجي الجدول الرطب، والنهر الذي يهدهد السفن كالأمِّ التي تهدهد أطفالها في المهد، والجبال الحبيبة التي رعته ذات يومٍ، والأم والأشقَّاء الذين سيعانقونه ويقبلونه ويشفون قلبه. ثم يعود فيقول إنه يعلم أن عذاب قلبه ليس له شفاء، وأنه سيظل محرومًا من أغنية المهد التي يترنم بها الفانون للعزاء:
هكذا يصبح الوطن هو الأم التي تُغني أغنية المهد، فتربي وترعى وتعانق وتشفي من الداء. وتكتسب الأم البعيدة كل ما في الأسطورة من عمقٍ وسكون وجلال. بيْد أنه يعلم أنه في صميم قلبه مطاردٌ غريب، لا تستطيع أغنية المهد أن تعزيه عن حزنه ولا الأنغام أن تُسكِّن ألمه … إن حبَّه مطلقٌ وبغير حدود. ومتى عرف الحب الحقيقي شفاء أو عزاء؟!
هذه النغمة البريئة الطاهرة، هذا الصوت البعيد عن جفاف العقل وإسراف العاطفة، هذا النقاء والصفاء هو أهم ما يميز شعر هلدرلين وحياته.
«الحياة تتغذَّى بالعذاب …»
«كوني أكثر مرحًا يا أمي الحبيبة …»
لكنَّه هو نفسه كان يفنى في الألم والعذاب كل الفناء. يكفي أن نقرأ هذه السطور من روايته الوحيدة «هيبريون» لنعرف مدى عمق جراحه: «أجل .. أجل! إن الألم جدير بأن يرقد على قلوب البشر ويكون أليفك، يا أيتها الطبيعة .. لأنه هو وحده الذي يقودنا من بهجةٍ إلى بهجة، وليس لنا من رفيق سواه …»
وهو حزن مَن لا يملك أن يخفف من أحزان غيره. فقد كانت أمه التقية الهادئة دائمة الاكتئاب، حتى بعد زواجها الثاني من عمدة مدينة نورتنجن المجاورة. وما أكثر ما فعل هلدرلين مرضاةً لخاطرها! وما أكثر ما احتمل من آلام لكيلا يخيب أملها فيه أو يزيدها حزنًا على حزنٍ! وفي إنتاج كل أديب، بل في حياة كل رجل، بصمات لا تُنكر من أمه. لكن الأم الحزينة تصبح بلمسة الفن صورة وشكلًا وكيانًا أسطوريًّا. إنها تتحول في يد الشاعر فتصبح هي الأرض والطبيعة والسماء. وتذوب تجربة الأمومة في تجربة الأرض والطبيعة، بحيث تصبح الأرض والطبيعة هي جسد الأم الحي. وتكتسب الأبيات التي يقولها عن الأرض الأم وشاحها الأسطوري الذي يكسو كل شِعره ويلفه برداء السر والجلال. ويصبح الشاعر هو الكاهن الذي يقدِّم فروض العبادة للأم؛ يقدِّمها على استحياء، لأنه يقترب من صورتها كأنما يقترب من سر الغابة الأزلية: