الطفل والصبي
«رباني نغم يهمس في البرية، وتعلمت الحب، بين الأزهار.»
للطفل في قلب هلدرلين وشِعره ونثره حبٌّ غريب وعميق. هو الزهرة التي تمد الجذور وتنشر العطور. هو الصورة الحيَّة للأمل، واليقين المرئي للخير. هو الذي ينطوي على سرِّ الأصل والمبدأ. فما أكثر ما يتجلَّى أعظم الكائنات في أصغرها! «إن أول صور الوحدة التي نحتفظ بها في عقولنا تظهر لنا من جديد في خلجات قلوبنا المسالمة وتعبر عن نفسها في وجه الطفل …»
والطفل خالد:
وليس في هذه الفكرة رجوع بالعاطفة إلى الوراء، بل فيها معرفة بحقيقة الطفولة التي تنمو مع الإنسان، وتعيش في أعماقه بعيدًا عن الوعي والشعور. إنها تظهر فجأةً عندما يتم اللقاء بين الإنسان والآلهة:
وتشتد جسارة هذه الفكرة التي يأباها المنطق ولكن يقبلها الوجدان عندما يعود إليها الشاعر ليصفَ طفلًا نائمًا؛ وما أكثر ما أحبَّ هذه الصورة من كل قلبه:
وترجع الصورة مرةً أخرى في أنشودة تقية يتجه بها إلى العذراء:
«أبصرتُ من عهدٍ قريب صبيًّا راقدًا على جانب الطريق. كانت الأم التي تسهر عليه قد نشرت فوقه بعنايةٍ وحنان غطاءً يتيح له النوم في الظل ويقيه ضوء الشمس. غير أن الطفل لم يشأ أن يخلد للسكون فأزاح عنه الغطاء، ورأيته وهو يحاول النظر إلى الضوء الودود، ويعود للمحاولة مرةً بعد مرةٍ حتى آلمته عيناه وأطرق بوجهه إلى الأرض باكيًا …
قلتُ لنفسي: يا للولد المسكين! .. ليس غيره بأفضل منه، وكدت أنفض يدي من هذا التطفل الجريء، لكني لم أستطع، لم أجد أن ذلك يليق بي .. لا بدَّ أن يخرج هذا السر العظيم، الذي تعطيني الحياة إياه أو يعطينيه الموت …»
والصورة دقيقةٌ مرسومة بعنايةٍ. جمع الشاعر في ملامحها كل الخطوط والألوان التي يرسم بها القدر وجه الطفل، فيصبح أسطورةً يتغنَّى بها الشاعر في أناشيده. إن الأم تريد أن تنشر الغطاء على الطفل، تريد أن تحميه من وهج النور، لكن الطفل نفسه جزء من هذا النور؛ ولذلك فلا بد أن يحاول لقاءه، ولا بد أن يحييه ويبتسم له مهما آذى عينَيه.
لنتجه الآن إلى طفولة هلدرلين وصباه. وسيدهشنا كل هذا النقاء، كل هذه البراءة التي ستحدد موقفه من الوجود، وتطبع تجربته المؤمنة الورعة الفياضة بالطاعة والاستسلام. ها هي ذي أبيات من قصيدة كتبها في السادسة عشرة من عمره، وكان يجلس مع صديقٍ له يُدعى كارل على شاطئ نهر «النيكار» ويعاين القداسة الماثلة في الطبيعة ويحس رجفتها في صدره:
كل شيء في هذه القصيدة الساذجة الحلوة يشهد بعاطفة الإيمان الصادقة؛ الرعشة الإلهية التي تعرو الصبي، الانصراف عن لهو الصبا وألعابه إلى منبع الوجود وسره، عهد الوفاء للقَسم المقدس وإخلاص النية من القلب الخاشع والنظرة التقية. وكلمات تتردد هنا في حياء لتعلن عن نفسها بعد ذلك في قصائده الكبرى: الجد والقداسة والحياء والنقاء والبراءة. والقلم الموهوب القادر على إضفاء اللون البارز على اللوحة كلها بعبارةٍ واحدة:
«كان النقاء، كانت البراءة هي التي نطقت بها قلوبنا الصبية …»
وهنا تكمن بذرة الخلاف العميق الذي أحسَّه هلدرلين طوال حياته مع الدين التقليدي في عصره، والصراع الذي عاناه من الكنيسة التي أرادت أن يؤمن بالوصايا والقوانين، في الوقت الذي راح يستمدُّ فيه إيمانه بالله من لقائه مع الأرض والنور والزهرة والنسيم.
ويكفي أن نستمع إلى أغنية أنشدها الصبي في عيد السلام …
إنه يُصغي في يوم الراحة لسكون الزهور وخرير الجداول والينابيع. من بعيد يتردد صوت الجوقة من حناجر «الكبار» وهم يرتلون نشيد الصلاة في الكنيسة .. كان هذا النشيد يهدئ همومه وشكوكه. ومع ذلك فقد ظلَّ فيه شيءٌ غامض لم يستطع أن يفهمه أبدًا … لقد دخل الطفل بعد ذلك إلى الكنيسة، وأصبح قَدَره في أيدي الكهنة والقساوسة، وبقي سؤاله الحائر الأليم يتردد: «لماذا؟» .. لماذا كُتب عليه أن يغشى الظلام عينيه ويسد الطريق على النظرة الحرة؟ لماذا قُدِّر عليه أن يُحرم من أفراح الأرض والسماء كأنما صارت الفرحة بمعجزاتهما إثمًا من الآثام؟ أليست روح الله كامنةً في التحول الدائم والصيرورة التي لا يتوقف نهرها عن الجريان؟ ألا تتدفق من الينابيع الحية وتزدهر في الأزهار الساكنة؟ أمن الضروري أن تقيده الكنيسة والتقاليد في حين نجد الإيمان يهفو إليه بالحرية والحياة في الجداول والوردة والنور؟ لن يسكت هذا السؤال المعذب الذي نطق به الصبي في يوم عيدٍ:
غير أنه يسمع صوت الجوقة المخيف يأتيه من بعيد .. إنه صوت المصلين في كنيسة القرية .. كان هذا الصوت في الماضي أشبه بالنبيذ المقدس. وكانت الكلمات الحبلى بالأسرار أقدم عهدًا وأشد قوةً، تنحدر من السماوات وتنمو في الصيف. وكانت تهدئ همومه وآلامه .. لكنه لا يدري ما الذي جرى له وجعل الشك يطبق عليه وهو الذي لم يكد يُولَد بعدُ:
وتعود النغمة الحزينة في أغنية أخرى (لعلَّه أراد في البداية أن يضعها في روايته هيبريون ثم عدل عن رغبته). إن سطورها الأولى ترجع بنا إلى صباه، وتصور لنا صراخ البشر ورنين سياطهم من ناحية، كما ترسم لنا من ناحيةٍ أخرى صورة الطفل الذي يلعب في سلام مع الأزهار والأنسام، ويهبُّ الإله لنجدته وينقذه من أيدي البشر ومما في أيديهم:
والشاعر يستعير لهذا اللعب الطيب الغني بالنعمة والخير صورةً شعرية ساحرة يحنُّ لها ويلجأ إليها في حبٍّ وشغف، صورة النبات الذي يمدُّ ذراعَيه للشمس:
إن الشاعر يستمد صوره بطبيعة الحال من كنز الأساطير اليونانية الذي لا يفنى. فالأب هو هليوس (الشمس)، وهو نفسه شبيه بأنديميون؛ ذلك الفتى الجميل الذي أنعم عليه زيوس كبير الآلهة بالنعاس الحلو والشباب الخالد وأمر القمر أن يزوره كل ليلةٍ. والصبي غارقٌ في هذا الحلم السعيد، كالزهرة الملفوفة في نومها العذب، المتفتحة مع ذلك لأفراح الشمس والقمر والآلهة.
ثم تنتهي هذه المقدمة الراقصة وتبلغ الأغنية ذروتها الأولى حين يقول الشاعر:
من الروح الحييَّة الوديعة ينطلق هذا الاعتراف. لكنها لا تلبث أن تحول نظرها عن هذه الذروة العالية التي تحيط بها هالة السكون الإلهي العميق إلى منطقةٍ بشرية يسودها العقل البارد الجاد:
إلا أن هذه المعرفة العاقلة تُخفي وراءها معرفةً أليمة بالناس، وخيبة أملٍ في البشر. وتصل القصيدة إلى ذروتها الثانية حين تقول:
ومع ذلك فهناك عزاءٌ عن هذا الألم القاسي، يجده الشاعر الوحيد عندما يتجه إلى السماء بحثًا عن الخلاص، وعندما تلعب معه الأنسام ويسعده النور، كما يجده في أنغام الرياح الهامسة لأشجار البرية، وفي الأزهار التي علمته الحب:
إنه يتعلم من سكون الأثير ما يغنيه عن تعليم البشر، ويؤمن بأن التربية الحقيقية تأتي من الإنصات الخاشع لصوت البرية، وأن الطاعة الحقيقية لا تكون إلا لقوة تتنزل من أعلى. في هذا السكون ينمو الحنان. ويزدهر الحب، وتصبح الطبيعة هي المدرسة الخالدة. وليس عجيبًا بعد هذا أن تنتهي القصيدة البسيطة المتواضعة نهاية كلها اعتزاز وكبرياء:
فهو لم ينمُ بين أحضان الآلهة فحسب، بل ترعرع واشتدَّ عوده وعرف سر العظمة الكامنة في نفسه ووجد ما يزهده في البشر ويغنيه عن صراخهم وسياطهم.
هكذا ترسم لنا القصيدة عالَم الطفولة عند الشاعر .. وتصوِّر ملامحه البارزة. صحيح أن ذكريات الطفولة هي الجذور التي تتفرع منها شجرة الوجود عند أي إنسان أو أي شاعر. ولكنها عند هلدرلين بوجهٍ خاص بالغة الدلالة على كل أبعاد حياته المقبلة، وكل ملامح هذه الحياة ماثلةٌ يمكن أن تُقرأ في ملامح طفولته.
هنا نجد «النعاس» العبقري الشفاف، والقدرة على الاهتزاز مع أرجوحة الانسجام الكوني، بحيث يصبح الشِّعر «أكثر الأعمال براءةً» وأشبه الأشياء بلعب الأطفال. وهنا نجد اللقاء المستمر مع الأم التي يدفعها الحنان إلى أن تسحب الغطاء على وجه الطفل، فيدفعه الشوق إلى النور للتحديق في الشمس التي تؤذي عينيه.
هنا الوفاء للتجربة الدينية الأصيلة التي تلمسها الروح في لقائها مع الأرض والنور والنسيم. وهنا الخشوع والإنصات لسماع أنغام الحقيقة، والشك المعذب الذي يساور الشاعر أينما وجد نفسه مع الناس. وهنا أخيرًا كل معالم الدروب التي سنصحب فيها هذا الشاعر الوحيد لنتعرف على حياته وشِعره.
علينا الآن أن نكمل الصورة ببعض الخطوط البارزة في لوحة صباه. فقد زار الشاعر المدرسة اللاتينية في مدينة نورتنجن، وقضى العام الأخير فيها مع صديق عمره الفيلسوف المثالي شيلنج الذي كان يصغره بخمس سنوات، والذي طالما حماه هلدرلين الرقيق من عبث الصغار به وسخريتهم من قِصر قامته وغروره بنفسه.
وفي الرابعة عشرة تقدَّم الشاعر لامتحان تُجريه منطقة «فبرتمبورج» وتختار الناجحين فيه لدخول إحدى مدارس الأديرة التي تؤهلهم ليكونوا من رجال الدين.
نجح هلدرلين في الامتحان ودخل في خريف سنة ١٧٨٤م مدرسة «دنكندورف» التي تبعد عن نورتنجن بمسيرة ساعة ونصف ساعة، وتقع على مقربةٍ من نهر النيكار. وقضى سنتين في هذا الدير الصغير الوحيد، الراقد كالناسك المعتزل بين جدرانٍ صخرية وعرة، وعلى كنيسته وأشجاره ودروبه وبستانه وبركته الصغيرة غلالةٌ منسوجة من خيوط الأحلام والأساطير. ثم انتقل إلى مدرسة دير «ماولبرون» القديم الشهير الواقع وسط غابةٍ مخيفة، ليقاسي فيه حياةً صارمةً متقشفةً مليئة بالحرمان. ولنقرأ ما يقوله الشاعر عن تجربته فيه: «أودُّ بالمناسبة أن أعترف بأن نصيبي من القهوة والسكر قد نفد وأنني كنت أشتاق أحيانًا إلى طعام الإفطار عندما أستيقظ مبكرًا من نومي، وكنتُ أعاني من آلام صداعٍ شديد في رأسي. وقد تحاملتُ على نفسي أخيرًا، وكانت معدتي خاويةً، لأتناول الحساء الذي يمجُّه أشد الكادحين جوعًا؛ عندئذٍ أصابني ألمٌ بشع حتى أوشكت من غضبي أن أقذف الطبق عرض الحائط …»
إذا أردنا أن نتحدث عن الشخصيات والعناصر الأدبية التي أثرت على هلدرلين في هذه الفترة، كان أولها هو تأثير ذلك الشاعر العبقري المتهور الذي قضى معظم حياته بين المنفى والزنزانة، وأطلقت الأغلال لسانه بشِعرٍ وطنيٍّ مفعم بالعاطفة المتأججة والأنغام الشعبية الصادقة؛ هذا الشاعر هو كرستيان شوبارت (١٧٣٩–١٧٩١م) الذي عرفه هلدرلين سنة ١٧٨٩م، وقال إنه لقي منه الحنان الأبوي .. ولا شك أنه تأثر بحبه الفياض للوطن «القريب والبعيد»، ونزعته الدينية المؤمنة، ولكنه لم يسترح لنبرته العالية وصوته الجهير وعاطفته الصاخبة.
بيد أن تجربته العميقة بالطبيعة ربما كانت أبقى أثرًا من كل الشعراء والأدباء الذين قرأ لهم في هذه الفترة من حياته. وقد أشرتُ من قبلُ إلى صلاته الخاشعة مع صديقه على ضفة نهر النيكار (كان النهر يجري في بريق المساء …) ويمكن أن أشير أيضًا إلى تجربته الروحية على شاطئ نهر الراين في منطقة «شباير»، وقد كانت تجربةً لا تُنسى. ولعل كلماتٍ قليلة من مذكرات رحلاته التي كتبها لأمه وهو في الثامنة عشرة من عمره أن تكون كافية للتعبير عن إحساسه عند مشاهدة نهر الراين لأول مرة، وهو الإحساس الذي سيعبر عنه بعد ذلك في قصائده الكبرى عند منبع الدانوب، والراين والأستر: «نهر يزيد في اتساعه ثلاث مرات على نهر النيكار، وتظلل الغابات ضفتَيه وهو ينحدر من مجراه الأعلى، ويمتد على مدى البصر امتدادًا يوشك أن يصيب المرء بالإغماء والدوار، كان منظرًا لن أنساه أبدًا، أثَّر على نفسي أبلغ تأثير. وأخيرًا أقبل الملاحون على الشاطئ، كانت المراكب التي يعبر بها الناس إلى الضفة الأخرى بحيث تتسع لعربتَين بخيولهما كما تتسع لعددٍ كبير من العابرين … ومرت نصف ساعة ووجدت نفسي على شاطئ الشباير …»
كان أعزُّ أصدقائه وأصفاهم وأقربهم إلى قلبه هو «إمانويل جوتلوب ناست» الذي يكبره بسنةٍ واحدة. وكان هذا الصديق أشبه بالوعاء الذي يصب فيه همومه وعذابه وأسراره واعترافات روحه البريئة الساذجة. فهو يُسِرُّ له ذات مرة أنه رأى قدره فجأة أمام عينَيه، ووجد أنه يريد بعد إتمام دراسته في الجامعة أن يصبح ناسكًا. وقد أعجبته الفكرة، ولكنه أخذ يناشد الصديق أن يخفي رسالته عن أعين الغرباء حتى لا يضحكوا عليه ويصفوه بالحمق والجنون .. بل إنه ليشك في قدرة الصديق على مشاركته هذا الإحساس فيقول: «يا عزيزي، إنك لا تكاد تعرفني …»
والواقع أن هذه الصداقة لم تكن من القوة بحيث يُكتب لها الدوام. فقد بقيت على هامش قصة الحب الأولى في حياة شاعرنا، وتصادف أن كانت هذه الحبيبة من أقارب «ناست» من جهة أبيه، كان اسمها «لويزة ناست»؛ مخلوقةٌ رقيقة، صافية، تقية القلب نقية الوجدان. أحبها هلدرلين — والحب الأول ناريٌّ عذب، حلوٌ مر كما تقول «سافو»! — وكتب إليها رسائل قليلة وبادلته رسائله، وحملت كلتاهما أشواق القلوب التي يلمسها الحب لأول مرة، وأحزان العشاق ودموعهم التي يريقونها من أجل الحب نفسه لا من أجل الحبيب.
ولم تلبث الأيام أن كشفت عن بُعد الشُّقة بين المحبَّين، بل عن غربة روحيهما وتنافر طبعهما .. كانت لويزة تحب بفطرة الأنثى الخالدة التي تبحث عن «الرجل» و«البيت» .. ولم يكن هلدرلين، الذي بدأت عبقريته تتفتَّح وتتدفَّق بالقلق والحيرة والعذاب، يدري ماذا يبحث عنه .. ولعله كان يتصور مثالًا آخر للمرأة يتخيله الشعراء ويحوطونه بالغموض والأسرار، ولكنه يبعدهم دائمًا عن المرأة كما يبعد عنهم المرأة الواقعية بفطرتها .. وهكذا لم يكن بدٌّ من التحلل من هذا الرباط. وكتب إليها (في مارس سنة ١٧٩٠م) بالقرار الذي صمَّم عليه .. فقد اختار أن يتحرر من هذا الحب، وإن اقترن هذا الاختيار بما يخجل الرجولة أو يعيبها. ولكنه لم ينسَ أن يقدم لها صداقته ووده، ويعدها على الرغم من كل شيء بإخلاصه ووفائه الأبدي!