الثائر
«نحن كذلك أغنياء بالأفكار فقراء في الأعمال.»
هكذا صوَّر هلدرلين نفسه فيما بعدُ، عندما أطبق عليه ليل الجنون المظلم ما يقرب من نصف حياته.
أخفق حبه الأول كما رأينا، وكتب إلى حبيبته الأولى رسالة فيها من العذاب بقدر ما فيها من الكبرياء .. ولكنه اضطر كذلك إلى تبرير تصرفه أمام أمه التي ظلت تتمنى له الراحة والدفء والاستقرار. فبعث إليها بسطور يقول فيها إنه صمم منذ سنوات على عدم الزواج. وسواء جاء هذا التصميم عن خيبته في الحب أو سوء حظه أو غيبة الظروف والفرص المواتية، فلا شك أنه كان يتفق مع طبيعته وينبع من إحساسه بنفسه، ولا شك أيضًا أنه بقي وحيدًا في رحلة الحياة والعذاب. ولعله كان يشعر شعورًا قويًّا بالقدر المظلم الذي ينتظره، ويعتز بالهدف الذي رسمه له وحيه ووجدانه. ها هو ذا يستطرد في رسالته إلى أمه ويقول: «إن طبعي العجيب، وأهوائي المتقلِّبة، وميلي إلى المشروعات البعيدة، (ولأعترف لك بالحقيقة كاملة) وطموحي، كلها ملامح لا يمكن أن تُمحى من الوجود بغير آثارٍ خطيرة، وهي لا تجعلني أتوقع السعادة في الزواج الهادئ …»
ولكنه لا يريد أن يزيد الأم حزنًا على حزن، فيختم رسالته بقوله: «ومع هذا فقد يغير المستقبل ذلك.» ولم يغير المستقبل شيئًا، لأن العبارة لم تُكتب إلا رحمةً بالأم.
والطموح الذي يذكره هلدرلين في هذه الرسالة بما يشبه الاعتذار يدل في الحقيقة على الصراع الذي كان يعانيه وهو يحسُّ إرادته تتمرد على وجدانه، وروحه تصطدم بجدران الكآبة المتسلطة عليه. ولا بد أنه كان يريد التعبير عن هذا الصراع حين وصف طبعه بأنه عجيب، وحين قال عن نفسه في صباه المبكر إنه أحمق وطائش وهو قول لا يملك مَن يعرف الآن قصة حياته إلا أن يرتعش لسماعه وتختلج كل جارحةٍ فيه.
ويكتب إلى صديقه «نويفر» إنه أصبح عاجزًا عن البهجة، ويتوسل إليه أن يُسرِّي عنه كلما اشتدت محنته، ولا ينسى وهو يرجوه الكتابة إليه عن أحواله أن يقول «ربما بعث هذا نورًا يبدِّد ظلامي.» وتبلغ الشكوى ذروتها في كل كلمة من كلمات هذه العبارة: «… هكذا أجلس بين جدراني المظلمة، وأحسب كم أنا فقير من بهجة القلب فقر الشحاذين، وأعجب من زهدي وصدودي!» هنا نجد جدران السجن الذي يطويه والظلام الذي لا يقوى على الخلاص منه، والتفكير الذي لا ينقطع في فقره، والعجب الذي لا ينقضي من زهده وصده وتخليه. وما أشد المرارة والسخرية جميعًا في هذه الكلمات!
لم يدخر هلدرلين وسعًا في تعذيب نفسه، وتلك سمة المنطوين والمنعزلين المتوحدين. ولكننا نخطئ إن حاولنا تفسير ذلك تفسيرًا نفسيًّا أو مرضيًّا. صحيح أنه وصف نفسه وهو في الثانية والعشرين من عمره بأنه شاعر مريض .. ولكنه قال عن نفسه كذلك إنه فقير كالشحاذ، وهو قول لا يُستغرَب من إنسان يسعى إلى الحقيقة ويكافح من أجلها، ويحتمل العذاب والحرمان والهوان في حجِّه إليها. إن الفقر هو زاد الباحث عن الحقيقة، والتجرد عصاه على الطريق. وبحثه عن الحقيقة بحث عن المطلق. ووجود هلدرلين كله تحرر وانطلاق من أشكال الحياة المألوفة، من التقاليد الدينية، من الأنظمة والمذاهب الفكرية، من المفاهيم الفنية الشائعة في بيئته .. وهو يبني حياته وشِعره بعيدًا عن كل التصورات المألوفة على عهده. ولا يركن إلى شيء أو إنسان حتى يتحرر منه ويفلت من أَسره. وكأنه المسافر الغريب أبدًا، قد يمدُّ يده لعابر طريق، ولكن ليلتقط أنفاسه ويستأنف رحلته .. فإذا طال السلام والكلام، ووجد أن الغريب سيهدد حريته أو يعطل سفره، نبَّهه قدره أو وحيه، وأعاده من جديد إلى فقره. ستكون هذه اللقاءات العابرة في أواخر حياته هي المصائب والمحن التي تضفي عليه سمت الأنبياء وتجعل لأغانيه رنين الوحي الملهم من ربات الفن وآلهة الأوليمب. وستكون في سنوات شبابه أشبه بتكسر الأغلال على صوت الضحكات، ليخرج منها الشاب أشد حريةً وجسارة.
استمع إليه وهو يعبر عن هذا في قصيدته عن نهر الراين:
وكلمات القصيدة خشنةٌ قاسية، ولكنها تعبر عن جموح الشباب وكبريائه .. فهناك الحيات الملتوية التي لا تجرؤ على مواجهته فتتسلل على جانبَيه، وتحاول جاهدةً أن تشده وتجذبه. إنها تريد أن تصيده، وهو الحر، وتشتاق أن تروي عطشها من صفائه .. فالراين هو الشاب الذي تستمد حياتها منه، بل هو «هرقل» الذي تذكر الأسطورة الإغريقية أنه مزق الحيات التي التفَّت حوله بذراعَيه الجبارتين. وكأن هذا النهر القوي الرائق قد استحال قدرًا من أقدار الطبيعة .. والفكاك من قيود القدر لا يتم بغير تضحيةٍ ومرارة وعذاب.
والكآبة بطبعها ملازمة للجمود وعدم الاكتراث .. وقد طالما شكا أصدقاء هلدرلين من فتوره معهم، وقطيعته لهم بغير سببٍ معروف. إن «إمانويل ناست» الذي جمعته به في صباه أواصر الود والمحبة، يكتب إليه في رسالة لا نعرف أنه كتب له رسالةً أخرى بعدها: «لست أدري إن كان من الواجب عليَّ أن أتعارك معك أو أتوسل إليك لتتعارك معي … وداعًا يا أخي العزيز .. البارد؟ .. وتأكد أن بقاء تلك الصداقة القديمة الدافئة أمرٌ يتوقف عليك …»
ولم تُجدِ كل الآلام التي قاستها حبيبته الأولى «لويزة ناست» ولا كل العتاب الذي وجهته إليه من تغيير قراره بالبُعد عنها. إن حبها لم يستطع أن يشبع شوقه إلى الحب الحقيقي الذي ستُعبِّر عنه هذه الأبيات من قصيدته السابقة عن الراين:
والجواب عسير عن هذا السؤال، ولكنه يشير إلى جانب من طبيعته المظلمة الملغزة في نظر أصدقائه ومعارفه، ويعبر عن حيرته من نفسه التي لا تطمئن لشيء ولا تستطيع أن ترتبط بإنسان بحيث تعطيه وتضحي من أجله وتفنى فيه.
كان هلدرلين في هذه الأثناء قد انتقل إلى المعهد الديني في مدينة «توبنجن» فدخله في أكتوبر سنة ١٧٨٨م. واستطاع بعد سنتين أن يحصل على شهادة الماجستير. وكانت دراسته الأولى في هذا المعهد تشمل المنطق والفلسفة العملية وما بعد الطبيعة، والتاريخ والرياضة والفيزياء واللغتين اليونانية والعبرية. ثم اتجه بعد إتمامها إلى اللاهوت الخالص فأخذ يتعلم الأصول والجدل وتفسير النصوص والأخلاق، وأصبح من حقِّه أن تصرف له كل يوم قنينة من النبيذ بشرط أن يدرس معها اللاهوت!
وكان هذا المعهد الديني في صرامته وجهامته أشبه بالدير، بل كان في الأصل أحد الأديرة الأوغسطينية الرابضة عند أقدام «الشلوسبرج». إن أسواره أشبه بأسوار السجون، وغرفه العتيقة الخشنة أشبه بالزنزانات الرطبة التي تنفذ إليها الريح والمطر والثلج. والطلبة يتكوَّم بعضهم بجانب بعض اتقاءً للبرد؛ إذ لم تكن التدفئة تصل إلَّا لثلاث عشرة غرفةً في المعهد كله، بحيث لم يكن الواحد منهم يستطيع أن يكتب خطابًا بغير أن تلتهمه عين جاره .. وكان نظام التربية يقضي بالتجسس على الطلبة ومراقبتهم مراقبةً شديدة، وكان هذا يثير ثائرة هلدرلين ويجرح شعوره بالفردية والكبرياء جرحًا عميقًا .. ومع ذلك فقد ظلَّ يحتمل هذه الحياة القاسية ويصبر على قيودها ومكارهها، مستجيبًا لتوسلات أمه المسكينة التي لولاها ما قضى في هذا الدير يومًا واحدًا. ها هو ذا يعبر عن سخطه على الوصاية المفروضة عليه فيقول:
وكانت هذه القيود والسدود هي التي ألهبت في نفس الجيل الجديد شعلة التحرر والانطلاق من أَسر الأنظمة الجامدة، وجعلته يتطلع إلى فجر الحرية والشباب والمعرفة الحقة، ويطالب بنظرةٍ جديدة للتاريخ وشكلٍ جديد للدولة والدين. واستمدَّ هؤلاء الشباب الشجاعة والأمل من شخصية إمبراطور النمسا العظيم يوسف الثاني الذي حاول أن يحقق حلم الدولة المطلقة المستنيرة التي تكاد تشبه حلم اليوتوبيا القديم؛ مما جعل الشاعر الكبير «كلوبشتوك» يعبر عن حلمه بيوتوبيا أكاديمية سماها «جمهورية العلماء الألمان» سرعان ما تبنَّى الشباب فكرتها والتفُّوا حولها.
وتسنَّى لهلدرلين واثنين من رفاقه في الدير — وهما نويفر وماجيناو — أن يجتمعوا على الحب العميق، حتى قال شاعرنا المنعزل عن صديقه «نويفر»: «لقد كان أول مَن علمني كيف أسعد بالصداقة سعادةً حقيقية أصيلة.» كما استطاع هذا الصديق أن يكون على مدى سنواتٍ طويلة نورًا يشعُّ بالأمل لروحه المعتمة الحائرة، وأن يتحكم في أهوائه ونزواته «وكل الأرواح الشريرة التي تسومه العذاب»، ويجد عنده الاتزان والمثابرة اللذين افتقدهما في نفسه، بمثل ما وجد التواضع والسخرية والمرح عند صديقه الآخر ماجيناو.
كان من عادتهم أن يجتمعوا كل يوم على زجاجة من الجعة أو النبيذ، وكراسة يقرأ منها كلٌّ منهم ما جادت به عليه ربات الفن والشِّعر .. وانضم إليهم الشاعر فريدريش ماتيسون (١٧٦١–١٨٣١م) الذي لم يكد يسمع أنشودة هلدرلين «إلى روح الجسارة» حتى ألقى بنفسه بين ذراعَيه وراح يضمه بعنف إلى صدره … كانت هذه الأنشودة — مثلها مثل سائر الأناشيد التي كتبها في هذه المرحلة من شبابه — قريبة في العاطفة والفكرة من روح شيلر. وكان شيلر هو الخبز اليومي على مائدة هؤلاء الأصدقاء .. فحديثهم عنه لا ينقطع، وإعجابهم بإنسانيته ونُبله ومثاليته وشجاعته وطاقته الهائلة لا يقف عند حدٍّ .. وكان لشيلر في هذه المرحلة وفيما سيأتي من مراحل العمر أثر لا يقدر على حياة هلدرلين؛ فهو الذي تعاطف معه ولمس موهبته ووجَّهه في رفق إلى تدارك عيوبه، وهو الذي أمده بالثقة في نفسه، وساعده على التغلب على تردده والمضي إلى إتمام رسالته، ونصحه بالتمسك بالقيم الموضوعية، واستشراف الآمال البعيدة الجسورة، والبعد عن «الذاتية العنيفة» .. وكانت قصائده في هذه الفترة التي قضاها في توبنجن تعبر عن الجهد الذي يبذله في البناء والصنعة، ولكنها تفتقر إلى ذلك الشيء الذي يجعل الفن حياةً، أعني الضرورة الباطنة التي تدفع للكتابة فكأنما يستجيب الإنسان لقدرٍ لا فكاك منه، ويضع نفسه ودمه في كل حرف تخطُّه ريشته. غير أنها ظلت قصائد فخمة اللغة، موغلة في التحليق، شديدة التشتت، مغتصبة التعبيرات والصور، بعيدة عن النغمة الوديعة الهامسة المنكسرة التي تميز أجمل شعره وأبقاه. انظر إلى هذه المقطوعات من قصيدته إلى روح الجسارة أو شيطانها العبقري وستلمس مدى التعب والضنى الذي تكبده الشاعر في مثل هذه القصائد التي كتبها أيام شبابه في توبنجن:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
قصيدة محلقة في سماء الأساطير، مفعمة بجلال الروح اليوناني القديم وقداسته، مزدحمة بأسماء الآلهة والأبطال، معبرة عن جهد الشاعر في الصنعة والبناء. ومع ذلك فهي لا تخلو من كلماتٍ رقيقةٍ هامسة تلمع في ثناياها كما تلمع زهرات البرق وسط العواصف والأنواء. كلمات من لغة الشاعر التي تميزه عن غيره كالبراءة والسلام والطفل والصوت الهامس الخفيض، وكلها أوتار سيعزف عليها أناشيده وأغانيه المقبلة، لتلمس القلب بهدوئها وانكسارها ووداعتها وانطوائها على آلامها وجراحها.
لم يكد هلدرلين يغادر مدينة توبنجن حتى توارت هذه اللغة الفخمة المحلقة التي تكاد تغتصب الصور والكلمات. ها هو ذا يقول في شهر أبريل سنة ١٧٩٤م عن قصيدةٍ أخرى كتبها في تلك الفترة من حياته وسماها «قصيدة إلى القدر» قال: «لم أعد أقوى على احتمالها» … لقد بدأت تسود أشعاره الأنغام النقية الرفافة التي تميزه حقًّا. كما بدأت تجربته الفكرية تتضح وتكتمل لتصبح رسالة شاعر يريد أن يربي ويتنبأ ويبشر بالطهر والقداسة والبراءة والجلال.
وبدأ إحساسه بسرِّ عبقريته وقدره يلقي ظلالًا حزينة على علاقته بالأصدقاء .. لقد فتحوا له الطريق إلى سر الصداقة نفسه، فما حاجته الآن إليهم؟ هكذا أخذوا ينتقلون إلى منطقة الظل، وما أكثر ما تلقى العبقرية من ظلال على حياة صاحبها وصلته بمَن حوله من الأهل والأحباب .. وتراجع الصديقان ماجيناو ونويفر من حياته شيئًا فشيئًا حتى خرجا من دائرتها تمامًا. وأخذت الدائرة تضيق شيئًا فشيئًا على الشاعر نفسه قبل أن تطبق عليه في النهاية وتخنقه يد الجنون. وها هو ذا الأمر يتخذ الآن صورةً أسطورية ويلتف في وشاحٍ غيبي. إنه يقول عن علاقته بأصدقائه: «القدر يدفعنا للأمام ويدور بنا في دائرة، ونحن لا نملك الوقت الكافي للبقاء مع صديق، وكأننا أشبه بالفارس الذي انطلقت به الجياد.» لقد حملته العاصفة وبعدت به عن صديقَيه. ربما عبر عن إعجابه بثبات صديقه: «ومع ذلك فأنت تملك الهدوء والاطمئنان .. وبودِّي أن أملكهما.» ولكنه يدرك أن قدره يطارده ويحكم عليه بالقلق الذي يتمكن من الشاعر الحق؛ ولذلك فسوف يتلفَّت حوله مع نهاية القرن فلا يجد أحدًا من أصدقائه.
ولعلَّ أبرز الأصدقاء وأنشطهم وأشدهم أثرًا عليه في هذه الفترة من حياته هو جوتهولد فريدريش شتويدلين (١٧٥٨–١٧٩٦م) وكان بتربيته من رجال القانون، وبطبعه المكافح الهادئ صحفيًّا من أنصار الثورة الفرنسية والعاملين على نشر مبادئها في وطنه. إن هلدرلين يشكر اللحظة التي أتاحت له أن يلقى «هذا الرجل الرائع حقًّا»، وأن «يعثر على قلبه». استطاع هذا الصديق النبيل الذي كان يكبره باثنتي عشرة سنةً أن يؤدي له خدماتٍ جليلة. فقد نشر له عددًا من قصائده التي كتبها خلال وجوده في توبنجن في الحولية التي أصدرها في سنتي ١٧٩٢م و١٧٩٣م، وعرفه في صيف سنة ١٧٩٣م بالشاعر «ماتيسون» الذي سبقت الإشارة إليه، وسعى إلى لقائه بشيلر الذي كان لإنسانيته وفكره أعظم الأثر على حياته وتطوره. ولا بدَّ أن هذه العبارة التي قالها في ذروة تحمُّسه للثورة الفرنسية قد كُتبت تحت تأثير شتويدلين: «يجب علينا أن نضرب المثل للوطن وللعالم على أننا لم نخلق لكي يعبث بنا التعسف كما يشاء.» ولا بد أن كفاح هذا الصديق المثالي في سبيل الحرية، ودعوته للأصدقاء أن يعملوا في هدوء من أجل هذه القضية الكبرى، ثم اضطهاد الحكومة له وطرده من البلاد، ويأسه الذي أدى به إلى إلقاء نفسه في مياه الراين سنة ١٧٩٦م … لا بد أن هذا كله لم يعدم أثره القوي على وجدان هلدرلين … بيد أنه ظل بعيدًا عن الثائرين المتطرفين من شباب توبنجن وصخبهم ومظاهراتهم، على الرغم من إيمانه بقضية الحرية وتحمسه لها وعمله من أجلها. وكانت تجمعه بأحد هؤلاء الثائرين علاقة ودٍّ خالص حميم. وكان هذا الصديق — وهو كرستيان فريدريش هيلر (١٧٦٩–١٨١٧م) شابًّا مرحًا نقي السريرة صافي البصيرة، يؤمن بالحرية والسلام أعمق الإيمان، ويصون قلبه وعينَيه من سحابات اليأس والأحزان. إن الشاعر يصفه في هذه الأبيات القليلة بقوله:
ولكنه لم يشأ أن يشاركه عنفه وثورته مع غيره من الشباب في أسواق المدينة وشوارعها. لا لأنه كان بطبعه هادئًا عاكفًا على نفسه، بل لأن الانضمام إلى الجمعيات والاشتراك في المظاهرات كانا من أبغض الأشياء إليه.
وربما كانت أجمل الذكريات التي يحملها هلدرلين لصديقه هو قيامهما معًا في صحبة صديقٍ ثالث كان يدرس الطب (ميمنجر) برحلة للتعرف على سويسرا «بلد الحرية الإلهية» التي اجتمع فيها الكفاح الأبي مع السلام الرعوي الجميل.
تجول الأصدقاء الثلاثة في أنحاء سويسرا، وملئوا عيونهم بمباهجها ومجاليها، وكشفت البحوث الحديثة منذ حوالي عشر سنوات عن زيارتهم لواحد من أشهر رجالات العصر، وهو يوهان كاسبار لافاتر (١٧٤١–١٨٠١م) الكاتب الشاعر المتدين، مؤسس علم الطباع، وأحد رواد حركة العصف والاندفاع، المكافحين ضد الظلم والطغيان في بلاده، المتحمسين للثورة الفرنسية وصديق جوته وهردر وهامان. ولا بد أن هذه الزيارة تركت أثرًا لا يُمحى في نفس الشاعر وخياله، ولا بد أن العالم المرموق قد أدرك بإحساسه وثاقب بصره سر «النار المركزية» — فهكذا كان يسمي العبقرية! — التي تتوهج في كيان هلدرلين. ولا بد أنه استعان بنظرياته في علم الطباع فقرأ ملامح وجهه، وحسب أبعاد رأسه، وعرف أن هذا الشاب الوديع المنكسر الذي يقف أمامه شاعر حق، بل هو الشعر نفسه مجسدًا في كيان إنسانٍ مسكين. ومَن يدري؟ فلعل هذه الزيارة أن تكون من بين الأسباب التي دفعته إلى كتابة قصيدةٍ رائعة عن سويسرا أهداها إلى صديقه هيلر وحيَّا فيها بلد الحرية وأبطالها المقدسين، وتذكر رحلته إليها مع هذا الصديق الذي يقول له بعد الأبيات التي قرأتها منذ قليلٍ:
كان هلدرلين إذن يشارك أصدقاءه وأبناء جيله حماسهم لمبادئ الثورة الفرنسية وسخطهم على المهانة والطغيان في بلادهم، وشوقهم إلى حكمٍ جمهوريٍّ حر يخلصهم من المستبدين. ولكنه لم يكن من أنصار العنف والشغب وتحطيم النوافذ والأبواب والتماثيل .. كانوا جمهوريين بالجسد والحياة، وكان جمهوريًّا بالعقل والحقيقة .. صحيح أن حياته الأولى في مدينة توبنجن الحالمة الصغيرة لم تخلُ من تصرفات تنم عن النزق والطيش وقد تصل إلى حد المغامرة .. غير أن هذه الميول المتهورة بدأت تنطوي إلى الباطن شيئًا فشيئًا وتصبح جزءًا من حلمٍ أسطوريٍّ كبير يؤرق صاحبه بالحسرة والشوق إلى عالم الآلهة والأبطال والقديسين الخالدين. وبدأ الإحساس بهذا العالم والتنبؤ به والبكاء عليه يستولي على قلبه، وينأى به عن المشاغبين والمتظاهرين المؤمنين بالتحرك والفعل؛ مما جعله يقول في قصيدته الشهيرة «إلى الألمان» (١٧٩٩م) إنه من أولئك الأغنياء في الفكر، الفقراء في الفعل …
وهو في هذه القصيدة يعبر عن موجة من موجات الثورة الباطنة التي اندفعت به إلى شاطئ النضج والتحرر والطهر. إنه يناجي فيها «الروح الخلَّاق» و«العقل المربي» هذا الروح الخلَّاق المربي هو في الحقيقة روح الوطن الذي يدعوه أن يتجلى لأبنائه التائهين. وهو روح هادئ ساكن لا يكاد يظهر للشاعر حتى يخرس أشد أوتاره خفوتًا. وهو يختلف عن ذلك «الجديد» المقبل بالصخب والعنف على أيدي الشباب المتحمس، الجديد الذي يحطم الآلات القديمة ويخنق العزف والغناء. إن الروح الخلَّاق سيظهر لأبنائه فتسكت الأوتار، وتستحيل الهمسات صمتًا وصلاةً، ويذوب النغم الهامس في فرحة الروح … اقرأ معي بعض مقطوعات هذه القصيدة الهامة التي تبدأ بهذه الأبيات المشهورة:
ثم لا يلبث أن يسأل سؤالًا يكشف عن شكِّه في قدرة الفكر وإيمانه به وبالحرف المكتوب في آنٍ واحد:
ويرى الصمت المخيم على الشعب فيحس بوجدان الشاعر وقدرته على التنبؤ أنه الصمت الذي يؤذن بمقدم الإله:
ويتذكر رحلة عذابه في البحث عن هذا الإله أو هذا الروح، وضياعه بين الشك والحيرة والحنين:
ويعود إلى الإحساس الذي كان يشده على الدوام إلى هذا الروح، وهو إحساسٌ عذب، لكنه ممزوج بالعذاب، إحساس المحب الذي ينتظر القادم ويستشرف ساعته، وإن كان لا يعرف حقيقة هذا الحب والانتظار والاستشراف:
ثم يعرف حقيقة دعائه ونجواه، ويدرك أن الروح الذي يبتهل إليه أن يظهر للفانين هو روح شعبه الذي سيركع أمامه ليسأله الصفح عن شكِّه وجحوده، ويقدم له صلاة الشكر والعرفان:
تلك هي الفرحة الحرة الصافية المنبعثة من أعماق الروح، الفرحة التي لن تتم حتى يتجلَّى الإله في سماء الوطن، ويشمل جباله ووديانه وأفئدة أبنائه الفانين بالطهر والبراءة والسكون .. وهي كذلك الفرحة التي تتألق بنور المحبة والصداقة التي جمعته بأصحابه المتحمسين لمبادئ العدل والحرية والمساواة التي بشَّرت بها الثورة الفرنسية الكبرى …
صحيح أن هذه الصداقة بطبعها قصيرة العمر، محدودة إذا قيست بأعمار الأمم والشعوب:
ولكن قصر الأجل لا يمنع الرؤية، وتعاسة الفناء لا تحول بيننا وبين الوقوف على الشاطئ والتطلع عبر حاضرنا المحدود، وترقب الموعودين الذين نأمل فيهم، وننتظر أن يدفئوا أيدينا بمحبتهم:
فهل سيقدر له حقًّا أن يتدفأ بيد الصديق؟ هل يجد الروح التي تستمع للروح؟
لقد سبقت الإشارة إلى هذه الصداقة التي ألَّفت بينه وبين صاحبيه «نويفر» و«ماجيناو» أيام (التلمذة) في دير ماولبرون بمدينة توبنجن، ثم لم تلبث أن بهتت ورانت عليها الظلال. ولكن هذه الصداقة بلغت ذروتها في تلك الأيام مع رجلَين آخرَين ذاع صيتهما بعد ذلك وحفر اسمهما في سجل العبقرية، وهما الفيلسوفان هيجل وشيلنج. ولا بدَّ أن نتكلم عنها الآن قبل أن تبهت هي الأخرى وترين عليها ظلال النسيان …
بدأت هذه الصداقة الحميمية بين هلدرلين وهيجل وشيلنج في خريف سنة ١٧٩٠م وانتهت سنة ١٧٩٣م. صحيحٌ أنها استمرت قائمة بينه وبين هيجل حتى نهاية القرن، ولكنها سرعان ما ذبلت بينه وبين شيلنج وحلَّ محلها شيء أقرب إلى التباعد والتقدير والاحترام …
ولقد كانت الصداقة بين هلدرلين وهيجل أشد عمقًا وأطول عمرًا من صداقته بشيلنج. ولم يكن السبب في ذلك هو أنهما من سنٍّ واحدة فحسب (كان شيلنج يصغرهما بأربع سنوات) بل لعلَّه يرجع إلى اختلاف موهبتهما وطباعهما — والضد يسعى إلى ضده كما يقولون — كما يرجع إلى عاطفة الحب الحنون الجارف الذي يحمله كلٌّ منهما لصاحبه.
كان من قدر هذه الصداقة الحميمة — وفي كل صداقة عظيمة جانب من القَدَر! — أن تؤثر على روح العصر كله، كما أثرت على الحياة الشخصية والعقلية للشاعر والفيلسوف. كانت بالنسبة لهيجل أكثر الصداقات دفئًا في شبابه. وكان هلدرلين يحس بالراحة والهناء كلما التقى بهيجل. وليس أجمل من تواضعه حين يعترف بذلك فيقول: «إنني أحبُّ رجال العقل الهادئين؛ إذ يستطيع الإنسان أن يهتدي برأيهم كلما التبس عليه الأمر في علاقته بنفسه وبالعالَم.»
وليس من المبالغة أن يقال من ناحيةٍ أخرى إن الأساس الوجودي في فلسفة هيجل لا يمكن أن يُفهم إلا إذا فُهمت صلته الشخصية بهلدرلين. أما هلدرلين نفسه فيعترف في رسالة له إلى هيجل بأنهما على يقين من استمرار صداقتهما إلى الأبد. ثم يقول في حسرة: «كثيرًا ما كنتَ روحي الملهم؛ أشكرك جزيل الشكر. إني أشعر بهذا منذ فراقنا شعورًا تامًّا .. لا زلت أتمنى أن أتعلم منك أشياء، وأخبرك في بعض الأحيان بأحوالي … يجب علينا من حينٍ إلى حين أن نتنبه إلى أن لكل منا عند صاحبه حقوقًا واجبة …»
وقد يدهش القارئ إذا عرف أن الفيلسوف الذي لا يكاد يقرأ له حتى يتصبب العرق على جبينه قد أهدى صديقه الشاعر قصيدة تحمل من الرقة والحنان والدفء ما يندر أن نجده في كتاباته المعقدة المخيفة .. استمع إليه وهو يقول:
أما صلة هلدرلين بشيلنج فكانت أكثر تعقيدًا. صحيح أنها استمرت — في الظاهر على الأقل — فترةً أطول من صلته بهيجل، كما كانت عميقة الجذور في حياة كلٍّ منهما، غير أن اعتداد شيلنج بنفسه من ناحية، وخجل هلدرلين الفطري وعكوفه على ذاته من ناحيةٍ أخرى، قد عملا على قطع أسباب الصداقة بينهما بعد انتهاء سنوات الطلب في توبنجن .. ويبدو أن شيلنج لم يستطع أن ينسى صديق شبابه كل النسيان. فهو يكتب في سنة ١٧٩٥م إلى هيجل ويقول: «هلدرلين! … إنني أصفح عن مزاجه المتقلب الذي لم يجعله يفكر فينا أبدًا.» وهي كلمات تعبر بوضوح عن الإشفاق على الصديق المسكين، الصديق الذي تشده الوحدة دائمًا من أحضان أصحابه:
وقد تذكَّر هلدرلين صديقه فكتب إليه في سنة ١٧٩٩ يرجوه أن يسهم في مشروع صحيفةٍ أدبية كان يفكر في إصدارها. إلا أن شيلنج لم يردَّ على رسالته ولم يشارك في المشروع الخيالي الذي لم يعرف النور. ومن الظلم أن نتهمه بالجحود أو الجفاء، لأن مشاركته في ذلك المشروع الفاشل لم تكن لتُقدِّم أو تؤخر. ويكفي أن نقول إنه تألَّم ألمًا لا حدَّ له عندما بلغته أخبار المرض الأخير الذي أودى بعقله، وهو ما سنعرض له في فصلٍ قادم.
سار الأصدقاء كلٌّ في طريقه كما قلت، لكنهم اشتركوا في نسيجٍ واحد أو شبكةٍ واحدة قدَّم لها كلٌّ منهم خيوطه. ويصعب أن نُسمي هذا النسيج المشترك باسمٍ محدد. ولكن لعلنا لا نجاوز الصواب كثيرًا إذا سميناه «الفكر الديالكتيكي»، على الرغم مما في هذه الكلمة الأخيرة من رنينٍ مخيف! أسهم كلٌّ منهم في هذا النسيج بالخيط الذي يميزه عن صاحبه؛ هلدرلين بالورع والخشوع المطلق، وشيلنج بالفكر الجسور الدقيق الحاد، وهيجل بالبناء الضخم والقدرة الخارقة على الاستدلال والتمحيص.
تأثَّر الثلاثة في مبدأ الأمر بلغة هردر (١٧٤٤–١٨٠٣م) المتدفقة ومنهجه العضوي الحي في التفكير، ثم شجعتهم فلسفة «فشته» المثالية المطلقة ونظريته الضخمة المتعسفة عن العلم (وكان يقصد به الفلسفة) وأمدتهم بالمران والقدرة على مواجهة الحياة على اختلاف صورها. وليس التفكير الديالكتيكي إلا مواجهة الحياة المتطورة المتغيرة من خلال التوتر بين قطبَين متضادَّين؛ أي إدراك الصيرورة والتحول الناجم عن الصراع بين طرفَين بحيث يتحقق الطرف أو المبدأ الثالث الذي يصالح بينهما ويتجاوزهما.
لم يكن هذا التفكير الديالكتيكي أو الجدلي منهجًا طبَّقه الأصدقاء الثلاثة كلٌّ في مجاله، بقدر ما كان الفعل الفكري الأصيل الذي جمع بينهم. ومن طبيعة هذا الفكر المتغير المتطور تطور الحياة نفسها أن يفهم العقل أو الروح فهمًا تاريخيًّا. أي أنه لا يتم إلا في التاريخ، لأن التاريخ جوهره وقوامه.
يقول هلدرلين في قصيدته عن «عيد السلام»: «إن الروح العظيم يفضُّ صورة الزمان.» ويقول هيجل: «إن الروح يشرح أو يفسر نفسه في التاريخ.» كما يطرق شيلنج نفس المعنى حين يقول: «كل لحظةٍ خاصة من لحظات الزمان هي كشف عن جانبٍ خاص من الله، يكون مطلقًا في كل واحد منها.»
هكذا يفضي التوتر بين المرحلة الأولى (مرحلة الوجود الخالص البسيط الذي لم يتميز أو لم يتفتح بعدُ) والمرحلة الثانية (وهي مرحلة الوجود الذي يتفكر في ذاته ويتبلور على نفسه) إلى مرحلةٍ ثالثة يتم فيها التصالح والسلام في الوجود. وهكذا أيضًا نستطيع أن نتصور هذا الطريق بخطواته الثلاث التي سارها هيجل وشيلنج وهلدرلين كلٌّ على طريقته، بالتأمل أو الرؤية أو الشِّعر. ولا شك أن هذا تبسيط مخلٌّ بهذا الطريق المعقَّد المتنوِّع الذي لا حدَّ لتعدد صوره ومستوياته. ولكن الذي يعنينا في هذا السياق هو أن الأصدقاء الثلاثة — كلٌّ على طريقته وبقدر طاقته وملكاته كما قلت — يشتركون في الغاية الأخيرة، وهي السلام الذي ينتهي عنده موكب الصراع، وتتحقق أمنية العقل والقلب.
ونعود فنسأل: كيف سيبدو هذا السلام السماوي الهادئ الجبار كما يسميه هلدرلين؟ وفي أي مكان أو زمان يفي بوعده ويبني بيته؟
سيقول الأصدقاء الثلاثة «في مملكة الله». وسيراها كلٌّ منهم على طريقته في الرؤية والتفكير …
إن هلدرلين يكتب إلى هيجل في صيف سنة ١٧٩٤م — وبعد تسعة شهور من وداعهما لمدينة توبنجن — فيذكره بكلمة السر التي افترقا عليها، ويؤكد له أنها ستجمعهما بعد كل تحوُّلٍ وتغير واغتراب. ولم تكن كلمة السر هذه سوى «مملكة الله». ولم تكن مملكة الله في تصورهم شيئًا مجردًا متعاليًا غريبًا عن الواقع، بل شيئًا يستطيع كل واحد منهم أن يشارك فيه بجهده وإيمانه وحبه وأمله. ها هو ذا هيجل يصف هذه المملكة الإلهية الصغيرة فيقول إنها دائرة الحب والأفئدة التي تتنازل عن حقوقها الخاصة بعضها تجاه بعض فلا يجمع بينها غير الإيمان المشترك والأمل المشترك.
ويبحث الأصدقاء الثلاثة عن نواة هذه المملكة الإلهية فيجدونها في الفكرة التي قال بها قبلهم «لوثر» و«كانْت» و«هردر» عن «الكنيسة غير المنظورة». ويتلقفون الفكرة ويتعمَّقونها كلٌّ من جانبه. ويكتب هيجل إلى شيلنج في سنة ١٧٩٥م فيقول: «لتأتِ مملكة الله، ولنعمل بأيدينا على تحقيقها ولا ندعها تسترخي فارغةً في حجرنا. ليبقَ العقل والحرية دائمًا قدرنا وكلمة السر بيننا، ولتكن الكنيسة غير المنظورة هي النقطة التي نلتقي عندها …»
ومملكة الله هذه لا صلة لها بمملكة الأرض ودولتها …
ولكن متى يتم هذا؟ عندما تبزغ الكنيسة الجديدة، حبيبة الزمان، أجمل بناته وأصغرها من بين الأشكال القديمة البالية، عندما يستيقظ الإحساس بالإله في قلب الإنسان فيعيد إليه الشعور بألوهيته وشبابه ونضارته. إن هلدرلين لا يستطيع أن يبشِّر بها، بل يعترف أنه لا يحس بها ولا يمكنه أن يتنبأ بموعدها ولكنه على يقين من أنها ستأتي. فالموت هو رسول الحياة. وما دمنا نرقد اليوم كالمرضى ونحس دبيب الموت في أجسامنا ونفوسنا، فهذا بشير باليقظة القريبة، بشير بالربيع الجديد:
إن هلدرلين يطالب أحبابه وبني وطنه وعصره بالسكون والهدوء. فالسكون هو شرط التجديد الروحي المأمول. وكلاهما موصولٌ بالقدرة على الإنصات وحُسن الاستماع لصوت الوجود الحق، أو صوت الخالدين السماويين الذين لا يفنون ولا يبخلون. ولا بد للاتحاد مع الخالدين أن نكون قادرين على الانسجام معهم، أي أن يتجانس الصوت البشري مع الصوت الإلهي في نغمٍ واحد وسرٍّ واحد … ولا بد أيضًا أن نحسن الإنصات لندخل في الحوار الشجي، ومَن لا يحسن الإنصات فلن يحسن إلا النزاع والخلاف:
ولكنهم لا يكادون يتبادلون «الكلمة» حتى يتم الصلح بينهم:
وتبلغ المحبة ذروتها في «الحديث» والحوار. إنه روح الحياة وحياة الروح:
ستتحقق مملكة الله على الأرض ويتحقق معها الروح الشامل عندما تتحد النغمة الوحيدة في النغم العام، ويذوب وفاء الفرد في تطور الكل ونمائه:
هنالك يزدهر الروح حولنا نحن البشر. وحين تأتي هذه الساعة تتسع شريعة المحبين فتصبح هي شريعة السلام:
عبَّر هلدرلين عن هذه المملكة المقبلة بشِعره المنبعث من القلب كما عبَّر عنها صديقاه بالتأمل المجرد أو بالحدس والرؤية.
ولكن مملكة الحق والخير والعدل لن تهبط من السماء، بل لا بدَّ أن تنبع من إرادة الفرد، ولا بد أن يبنيها بجهده وعرقه وفكره .. لا بالثرثرة كما يتخيل الكثيرون …