الوحيد
«لكن إلى أين أذهب؟»
كان لدى هلدرلين إحساسٌ فريد بالنماء والنضوج. ويكاد المرء يصدق أنه كان يسمع «النمو وهو يفور»، وينصت للقوى التي تحرك الحياة من الجذور. إن الفنان قريب من مبدأ الخلق نفسه الذي «يجدد الأزمان»، وهو يحيا في جذور الوجود «حيث تدبر الطبيعة الأيام الآتية»، وحيث «تنمو الأعوام» وتمتزج الساعات والأيام. وقربه من الحركة المطلقة والقوى التي تسيرها هو الذي يعطيه الحق في التصرف في قوانين الزمان والمكان، وحرية المزج والتقريب بينها كما يقضي بذلك فكره ويوحي به شِعره.
والشاعر يتمتع بهذه الحرية نفسها في تصوره للمكان. إنه يقول في إحدى قصائده المتأخرة التي لم تتم:
والشاعر القريب من مبدأ الوجود المطلق والنماء والتغير لن يكون الوطن عنده مكانًا ضيقًا تحده الحدود والسدود، بل حقلًا تزدهر فيه قوى الحياة وتترعرع، وقلبًا وبستانًا وأرضًا للحب والإلهام:
فالهواء هو عنصر الفنان المبدع الخلَّاق الذي لا يبدأ شيئًا ولا يتمه إلا في ظل الحرية.
فالانفتاح مغامرة مَن يريد أن يجرب كل شيء، ويعرف كل شيء، ويذوق كل شيء .. وعليه بعد ذلك أن يتعلم الشكر والعرفان لكل النعم المنبثة حوله أو فيه:
والانطلاق هنا بمعنى الانفتاح على كل جديدٍ ممكن، والتهيؤ للسفر والتنقل والرحيل. وليست حرية الرحيل التي يتحدث عنها الشاعر شيئًا هينًا يمكنه أن يقوم به ببساطة على أي نحو شاء. إنما هو شيء يستلزم الفهم الدقيق، ويتطلب من الإنسان عناء التعلم الجاد.
قضى هلدرلين السنوات القصيرة التي تمتع فيها بقواه العقلية في سفرٍ ورحيل لا ينقطع. ففي الرابعة عشرة من عمره غادر بيت أمه إلى بلدة دنكندورف، وفي السادسة عشرة انتقل إلى «ماولبرون»، وفي الثامنة عشرة إلى مدينة توبنجن، حيث استجاب لتوسلات أمه بدراسة اللاهوت، وعاش في مدرسة الدير خمس سنوات. وفرغ من دراسته فترك المدينة الصغيرة الحالمة على ضفة «النيكار» وأقام ما يقرب من العام في بلدة فالترزهاوزن ثم غادرها ليقيم ستة شهور في مدينة «يينا» التي كانت كعبة الفلسفة المثالية حينذاك. وفي ديسمبر سنة ١٧٩٥م دخل بيت عائلة جونتار كمعلمٍ خصوصي، ثم انتقل في خريف سنة ١٧٩٨م إلى مدينة باد هومبورج. ولم تطل إقامته في هذه المدينة أكثر من سنتين، عاش بعدها ستة شهور في مدينة شتوتجارت. وفي سنة ١٨٠١م قام بزيارةٍ قصيرة لبلدة «هاوبتفيل» لم تزد عن أربعة شهور ثم قضى بقية السنة في بلدة نورتنجن التي سبق ذكرها عند الكلام عن نشأته وصباه. وفي شتاء سنة ١٨٠٢ سار على قدمَيه متجهًا إلى مدينة «بوردو» الفرنسية، ليعود منها في الصيف وقد اضطربت حالته العقلية والنفسية اضطرابًا شديدًا. ولجأ مرةً أخرى في صيف سنة ١٨٠٤ إلى مدينة «هومبورج» ولكن حالته ازدادت سوءًا، فنُقل في شهر سبتمبر سنة ١٨٠٦م إلى مستشفى مدينة توبنجن. ومرت سنةٌ أخرى قبل أن يُسلَّم للنجار «تسيمر» الذي تولى رعايته. وبقي الشاعر الذي تخلى عنه ملاكه الحارس أو شيطانه الملهم ستًّا وثلاثين سنةً — أي ما يزيد على نصف عمره — في نفس المكان فلم يغادره إلا إلى التراب.
لعل السطور السابقة قد أعطت القارئ صورة عن هذه الحياة القلقة التي لم تستطع أن تجد الأمن والهدوء في أي مكان. شاء الحظ أن يظل صاحبها دائمًا «على الطريق»، أن يقضي أيامه القليلة التي سبقت ليل جنونه الطويل بين السفر والتجوال بدون أن يهدأ في مكان أو يطمئن لإنسان. لذلك كان عليه أن يبدأ باستمرار، أن يواجه المطلق وحده. ولم يبقَ أمامه لكي يستمر في الحياة إلا أن يتجه للحياة نفسها ليستمدَّ منها القدرة على التجدد والبقاء. ولذلك ظل «نبع الحياة» هو وطنه الوحيد، وظل الالتصاق «بجذر الوجود» والإنصات إلى دبيب القوى الكامنة النامية فيه هو ملاذه وملجأه، والفزع إلى الخالدين والسماويين والمقدسين عزاؤه ورسالته.
القصيدة كما ترى تبدأ بصورٍ قليلةٍ رحبة ترسم عالم المتجول الوحيد، وهو عالمٌ أليف إلى نفسه وغريب عنها في آنٍ واحد. وتتردد في المقطوعة الأولى كلمات أربع، أشبه بالأثقال التي توضع في كفة الميزان فلا يميل، كلمات تعبر عن الهدوء والقناعة وكرم الضيافة والسلام. ولكن القناعة والكرم هما المحوران اللذان تدور حولهما القصيدة بأسرها، فالقناعة تحمل أقصى ما يطمح إليه فكره ويقصر عنه أمله وهو الكمال والاكتفاء بالنفس، والكرم يصور العاطفة التي تعذبه وتؤرق وجدانه؛ إذ لا يجد المتجول الوحيد مكانًا يطمئن إليه ويلقى فيه كرم الضيافة. أما الظل المنعش، وسحابة الدخان الرقيق، وأنغام النواقيس التي تدق في المساء فهي ترفرف على القصيدة كلها كحمامات السلام.
وتهتز القصيدة بالحركة عندما يدخل إليها الملَّاحون، ومهنتهم قريبة من مهنة الشاعر والفنان المتجول. إنهم يعودون أيضًا إلى الميناء؛ إلى المدينة البعيدة. ومع أن العودة مقرونة بالفرح وتألق الضياء، إلا أن القلب لا يخطئ نغمة الألم المكتوم في كلمة الأصدقاء، لا لأن الشاعر سيسأل بعدها مباشرةً سؤاله الأول والأخير الذي يعذب حياته: «لكن إلى أين أذهب؟»، بل لأن الصداقة بالقياس إليه — وهو الباحث الذي لا يهدأ عن المطلق — لم تكن في يوم من الأيام ولن تكون سوى فترةٍ عابرة أو جزيرةٍ منعزلة في خضم وحدته.
والشاعر لا يصرخ وهو يسأل سؤاله: «لكن إلى أين أذهب؟»، بل يهمس به في حياء وسكون. ويوشك السؤال أن يتوه في عالم يتقلب بين تعب العاملين وفرحتهم باللقاء، ورضاهم عن نصيبهم من الأجر والجزاء.
وسؤال الشاعر — على خلاف الرومانتيكيين من بعده — تمتزج فيه الشكوى بالإباء. فهو لا يتلذذ بجراحه ولا يستسلم لعذابه، بل سرعان ما يرفع بصره عنه ليتطلع إلى البريق الذي يشعُّ من حوله، في ألق الربيع وازدهار الورود وألوان السحب الأرجوانية.
وتتضح الحدود الفاصلة بين الفكر والشعر؛ فالفكر يهيئ السؤال ولكنه يعجز عن الجواب المقنع، والشعر يخلق واقعه ولكنه يتجاوز السؤال إلى بُعدٍ آخر مختلف:
أي يحاول أن يقدم الجواب الشِّعري على السؤال الذي يعذب المطارد الوحيد. ومع ذلك فإن الواقع الآخر الذي يخلقه ليس إلا المظهر الساحر الذي «يبدو» للعين أو النور الذي لا يدري الشاعر كُنهه ولا تستطيع عينه أن تتغلغل فيه:
وسرعان ما يتخفى السر مع أول رغبةٍ حمقاء .. وتتحول اللغة إلى الاتزان والعقل، ويعترف الشاعر بكل آلامه:
ونقرأ المقطوعة الأخيرة فنحسُّ بأن الواقع نسيج من الرضا والزهد والتسليم، وأن الشعلة التي تحولت إلى رماد لم تخبُ فيها جمرات الصدود والانكسار.
من الغريب أن يقضي الإنسان حياته في التنقل والتجوال. ولكن الأغرب منه أن يتم ذلك دائمًا في عزِّ الشتاء.
لقد سافر الشاعر في ديسمبر سنة ١٧٩٦م إلى فرانكفورت، وفي يناير سنة ١٨٠١م إلى هاوبتفيل، وفي يناير سنة ١٨٠٢م — «في رحلةٍ باردة طويلة» — إلى مدينة بوردو الفرنسية، أما رحلته الأولى — على ظهر عربة بريد كئيبة — فكانت في شهر ديسمبر سنة ١٧٩٣م إلى فالترزهاوزن القريبة من مدينة ميننجن، عن طريق نورمبرج وارلانجن وبامبرج وكوبرج. كان الشاعر «شيلر» قد توسط له عند صديقته شارلوته فون كالب التي كانت على صلة طيبة بالحياة الأدبية ليعمل مربيًا خاصًّا لابنها «فرنس» البالغ من العمر عشر سنوات. وكان هذا العمل بداية سلسلة من المحاولات الفاشلة لكسب قوته من إعطاء الدروس الخاصة. كما كان يفعل معظم الكتاب والشعراء البؤساء في ذلك الحين.
وتتضارب الأقوال حول الفترة التي قضاها هلدرلين في هذا العمل وانتهت بإعفائه منه بصورةٍ مفاجئة، كما تختلف حول علاقته بهذه السيدة الغريبة الأطوار. كان من رأي الشاعر نفسه أن هذه السيدة — التي تكبره بتسع سنوات — امرأةٌ نادرة لا نظير لها في اتساع أفقها وعمق شخصيتها ورقَّتها. وكانت السيدة نفسها امرأةً متقلبة ملتهبة العاطفة تنتقل في سرعةٍ خاطفة من حنان الأمومة إلى الغلظة والجفاء. ولقد استطاعت بفطرتها أن تحس بعذاب هلدرلين وتلمس آثار المحنة على كيانه الهش الرقيق. ولا نستطيع أن نجزم بشيء عن طبيعة العلاقة التي كانت بينها وبينه وخاض فيها كثير من الباحثين، ولكن لا بد أنها كانت شيئًا أقرب إلى الصداقة العفيفة المترفعة، ولا بد أنها كانت تنطوي على شيء كثير من الإشفاق على الشاعر من حرفة التعليم التي لم يُخلق لها، بل ورَّطه فيها أكل العيش، وأكل العيش مُرٌّ كما نقول! ويكفي أن نقرأ الرسالة التي كتبتها إلى شيلر راجيةً أن يبحث للشاعر عن عملٍ آخرَ خفيف: «إن طيبتك تستطيع أن تفعل الكثير من أجله. حاول أن تبحث له عن أعمالٍ خفيفة يمكن أن تيسر له معاشه بشكلٍ سريع وتخلِّصه من الهموم التي قد تفيد فلسفته العملية، ولكنها لن تزيد الهدوء والاطمئنان في حياته. ليكن المجد والقناعة والثبات من نصيب هذا الإنسان القلِق! إنها عجلة مسرعة في الدوران!»
ويبدو أن السيدة الذكية قد نفذت ببصرها الثاقب وراء حجب الغيب، ورأت العجلة المسرعة وهي تنقلب بصاحبها في ليل الجنون!
مهما يكن من شيء فقد أُعفي هلدرلين في شهر يناير سنة ١٧٩٥م من عمله، بعد الإخفاق في مهمته التربوية العسيرة. وكان قد انتقل مع تلميذه وربيبه إلى مدينة «يينا» في نوفمبر من السنة السابقة. وظل يعيش هناك بعد إعفائه من عمله إلى أن قرر فجأةً أن يغادر المدينة، فتركها في أواخر شهر مايو وقفل راجعًا إلى بلدته «نورتنجن».
بقي السر وراء هذا السفر المفاجئ محوطًا بالغموض. وظلت الإشاعات تلاحق الشاعر الذي راح يشكو بعد ذلك في إحدى رسائله التي كتبها من مدينة فرانكفورت من علاقاتٍ نسائية نُسبت إليه ظلمًا: «سيلاحقني الناس بأحكامهم القاسية حتى أخرج أخيرًا من ألمانيا …» وسواء أكان السبب في هذه الإشاعات والأحكام الظالمة هو جماله الرائع الذي عُرف عنه في شبابه، أو حساسيته المريضة المرهفة، أو شعوره بالغربة في كل مكان يأوي إليه، فقد كانت كلمةٌ واحدة تكفي لإثارة غضبه وحمله على الفرار بنفسه من بلدٍ إلى بلد.
كان أقطاب الشِّعر والفكر الألمان يقيمون في ذلك الحين في مدينتي «فيمار» و«يينا». وكان كل همِّ شاعرنا القلِق المتردد أن يتصل بهؤلاء الأعلام «ذوي القلوب الجريئة» علهم يبثون الشجاعة في قلبه ويعصمونه من الهروب إلى الزهد والانعزال. كان القرب منهم — على حد قوله — يسحقه ويسمو به في آنٍ واحد. وكان يتمنى أن ينتزع نفسه من الضباب والنعاس الذي يخيم على حياته، ويوقظ الطاقات التي أوشكت أن تموت في صدره.
وكان شيلر في طليعة هذه الأرواح والقلوب الجريئة التي أثرت عليه تأثير السحر، وشدَّته إلى عالمها المثالي النبيل كأنها القدر. وكان موقفه منه هو موقف الإجلال والخوف الذي يجذبه إليه ويبعده عنه في وقتٍ واحد، الإجلال لشخصيته القوية الواثقة، والخوف من أن تتحكم فيه وتسيطر عليه. ولذلك فهو يعترف بأنه لم يستطع أن يقترب منه بروح الصفاء والمرح، ولم يستطع كذلك أن يبتعد عن فلكه أو يخلص من تأثيره، ولو فعل لكانت سقطة لا يغتفرها لنفسه.
أقام هلدرلين ستة شهور في مدينة «يينا» وقُدِّر له أن يحظى بعطف شيلر ورعايته. ولكنه ظل على الدوام يحسُّ أنه لا يستحق هذه الرعاية الأبوية، حتى إنه كتب إلى أمه فقال إنه اعترف للرجل العظيم بدهشته من اهتمامه به! وتتكرر نفس الكلمات المنكسرة في بعض رسائله التي كان يكتبها لشيلر فيرجوه في إحداها أن يتعطف عليه بنظرة اهتمام أو يعترف في إحداها بأنه حاول بمختلف الوسائل أن يفوز منه بكلمات ودية قليلة …
ووصل به الأمر في أحد الأيام — وكان في اليوم التالي على موعد مع شيلر — أن يقضي الليل مؤرَّقًا والنهار معذَّبًا لا يستطيع أن يجد نفسه أو يهتدي إلى فكرة.
ومهما يكن الأمر في شأن هذه العلاقة بين الشاعرَين فلم تكن علاقة بين شريكَين يُقدِّر كلٌّ منهما عبقرية صاحبه — كما كانت مثلًا بين شيلر وجوته — بل شابها إشفاق هلدرلين من تفوق «الرجل العظيم»، وكان ذلك في أغلب الظن من الأسباب التي دفعته إلى الفرار من المدينة والعودة إلى حياة التجوال.
والمؤكد أن شيلر قد عطف عليه من الناحية الإنسانية وحاول أن يعينه على مواجهة الحياة، ولكنه لم يستطع أن يقدر عبقريته حق قدرها ولم يتح له أن يسبر أغوارها ويدرك عمقها …
أما عن جوته — عملاق الأدب وكعبة حجاج الفكر في فيمار — فقد كان لقاؤه الأول معه مصادفةً لم تجلب معها إلا المرارة والانكسار .. ذهب هلدرلين لزيارة شيلر، ودخل من الباب فحيَّاه الشاعر الإنسان ورحب به. وكان هناك زائرٌ آخر سبقه إليه، ولكنه لم يفطن إلى وجوده، إذ لم تصدر عنه إشارة تدل عليه، ولم يفه بكلمةٍ تكشف عن شخصيته. وقدَّمه شيلر إليه، كما نطق باسمه لهلدرلين، ولكن هذا لم يفهم اسمه، ولذلك حيَّاه في برود، دون أن ينظر إليه؛ إذ كان لفرط ارتباكه مشغولًا عنه بشيلر وحده.
وظلَّ الغريب صامتًا. وجاء شيلر بنسخة من مجلة «تاليا» التي كان يصدرها آنذاك فقدمها لهلدرلين، وكان قد نشر فيها قطعة من روايته الوحيدة «هيبريون» وقصيدته إلى القدر. ومد الغريب يده فتناول المجلة من على المائدة، وتصفَّحها لحظاتٍ دون أن يقول كلمةً واحدة. وشعر هلدرلين أن وجهه يحمرُّ ويزداد احمرارًا. ونطق الغريب كلماتٍ قليلة، كانت لعمقها كفيلة بأن تلفت شاعرنا إلى شخصية صاحبها.
وأقبل زائرٌ آخر هو الرسام «ماير» الذي كان يعيش في مدينة فيمار. وأخذ الغريب يتحدَّث معه في شئونٍ مختلفة، وبقي هلدرلين لا يفطن إلى شيء .. ثم انصرف بعد قليل، وسمع في نفس اليوم من نادي الأساتذة أن «جوته» نفسه هو الذي كان في زيارة شيلر!
هكذا يصف لنا هلدرلين هذا اللقاء الأول الذي تمَّ بمحض الصدفة، وإن لم يكن للصدفة دخلٌ في أن يظل هذان الكوكبان بعيدَين يسبح كلٌّ منهما في فلكه. صحيحٌ أنه يحدثنا في بعض رسائله إلى صديقَيه نويفر وهيجل، عن لقاءٍ آخر مع جوته كما يذكر هذا اللقاء بالشكر والعرفان ويقول بالحرف الواحد: «إن أجمل متعةٍ نحظى بها في حياتنا هي أن نجد كل هذه الإنسانية مقترنةً بكل هذه العظمة … إنه هادئ، في نظرته سموٌّ وجلال، وفيها كذلك حب، وهو في حديثه بسيط غاية البساطة …» غير أن هذه الكلمات المخلصة لا تغير من الحقيقة شيئًا .. والحقيقة هي أن الشاعرَين الكبيرَين لم يعرفا هلدرلين ولم يقدَّر لهما إدراك عبقريته. ربما كان المسئول عن هذا هو شخصيته القلقة المضطربة التي اعترف جوته بحيرته إزاءها، وربما كان السبب هو أنهما ظلا حبيسَين في عالمهما الشامخ الواضح المحدد، فلم تتح لهما النظرة الحرة إليه. وكانت النتيجة أن اعتبره شيلر من أصحاب النزعة الذاتية المتطرفة، ووضعه جوته بين الشعراء الغنائيين الحالمين (وأوضح دليل على هذا أنه نصحه بالاتجاه إلى كتابة القصائد القصيرة، وهي نصيحةٌ لا تتفق بحال مع طبيعة هلدرلين ونفَسه الطويل)! ولعلهما في النهاية قد شعرا نحوه بشيء غير قليل من الخوف والإشفاق جعلهما عاجزَين عن وضعه في إطارٍ معروف أو قالبٍ محدد.
ومن سوء الحظ أيضًا أنه لم يُقدَّر له أن يلتقي لقاءً حقيقيًّا بالكاتب المؤرخ الفيلسوف هردر (١٧٤٤–١٨٠٣م) وكان مثل هذا اللقاء خليقًا أن يكشف عن القرابة الروحية التي تجمع بينهما، والجذور الفكرية المشتركة التي تجعلهما يقفان من الوجود الحي النامي موقف الخشوع والورع. لقد ذهب هلدرلين إليه، واحتفى به «الرجل النبيل» حفاوةً قلبية صادقة، تركت في نفسه أثرًا لا يُنسى. ومع ذلك فإن هذا اللقاء العابر لم يؤتِ الثمرة المرجوة، ولم يتح لذلك الكاتب المتدفق الواسع الأفق أن يعرف شاعرنا عن قربٍ أو يوجهه ويرعاه، وهو الذي يدين له عشرات الأدباء — ومنهم جوته نفسه — بفضل الرعاية والتوجيه.
ويتكرر هذا الإخفاق أيضًا — ولكن في صورةٍ أكثر اختلافًا وأشد إثارةً — في صلة هلدرلين بفيشته (١٧٦٢–١٨١٤م)، وهو «روح مدينة يينا» في ذلك الحين. ولكن لعل السبب في هذا الإخفاق أن يكون كامنًا في موقفه من الفلسفة لا من الفيلسوف.
كان صديقه «إمانويل نيتهامر» قد قدَّمه إلى كوكبة الفلاسفة الذين يشغلون المدينة بأخبارهم وأفكارهم. ويحدثنا هذا الصديق في مذكراته عن اجتماع ثلاثةٍ من أقطاب الفكر والشِّعر في إحدى أمسيات الصيف في بيته. وكان الثلاثة هم فيشته وهلدرلين ونوفاليس الشاعر الرومانتيكي الرقيق الحزين (وكان في ذلك الحين في الثالثة والعشرين من عمره) .. ولسنا ندري ماذا تم في هذا اللقاء. ولكن إشارةً واحدة من نيتهامر عن النصيحة التي وجهها إليه صديقه هلدرلين بأن يحمي نفسه من الأفكار المجردة، يمكن أن تلقي شيئًا من الضوء على صلة شاعرنا بالفلسفة والفلاسفة.
اعترف هلدرلين بعد ذلك (وكان هذا في شهر يناير سنة ١٧٩٩م) في سياق كلامه عن «صنعة الشِّعر العذبة» بأن الفلسفة قد أضنته إلى حدِّ اليأس، ووصفها بأنها نوع من السخرة وأن الحياة معها أشبه بحياة الجندية! لقد أقبل عليها في صبرٍ وعناد، ولكنها حرمته من الطمأنينة والسلام. وظل حائرًا لا يدري السر في هذا حتى اكتشف أنها ابتعدت به عن ميله الحقيقي، وأنه كلما انصرف إليها شهق قلبه حنينًا إلى «عمله الحبيب»، كما يحنُّ الرعاة السويسريون أثناء فترة تجنيدهم إلى المراعي والسهول والقطعان .. ثم يسأل نفسه قائلًا: لماذا أكون إذن كطفلٍ مسالمٍ طيب عندما أفرغ للإلهام العذب بدون أن يزعجني شيءٌ، وأنصرف «إلى أشد الأعمال براءةً»؟ .. لا عجب إذن أن يُغضِب المشتغلين بالفلسفة فيصفها بأنها طاغيةٌ، وأن يعلن ضيقه بها ويتمرد على قيودها وجبروتها!
ولعلَّ المسئول عن هذه اللعنات التي صبَّها هلدرلين على رأس الفلسفة هو فيشته نفسه. لقد كان ظاهرة وحده. وكان بفكره وشخصه طاغيةً تجسد في هيئة إنسانٍ. ولا نزاع في أنه يمثل قمة التفكير الاستنباطي الذي مهَّد له ديكارت، والذي راح يتأمل الواقع منطلقًا من التجريد. [وجدير بالملاحظة أن هيجل لا ينتمي إلى هذا الخط، على الرغم من كل ما في فلسفته من تجريدٍ، لأنه يضع الفكرة الواقعية المتحققة دائمًا نُصب عينيه] .. وينظر هذا الفكر الاستنباطي إلى الواقع المتشابك — الذي تمتزج فيه الفكرة بالجسد بالإرادة بالإحساس بالقدر بغيرها من العناصر — نظرةً أخلاقية خالصة .. [وكذلك كان الأمر أيضًا عند «كانْت»] .. أي أن هذه النظرة الكونية تعتبر أن الواقع بأكمله ليس إلا المادة التي تعين على تحقيق رسالةٍ أخلاقيةٍ معينة. هذا وحده هو الذي يجعله «واقعًا»، ولذلك فليس له وجودٌ إلَّا حيث يصلح أن يكون جوابًا على فعل [الذي يتم وفق مبادئ وأصولٍ أخلاقية]. أي أن هناك جانبًا يجرد من الواقع، وهو الجانب الذي يساعد على تأكيد «ذاتي عن طريق الفعل الذي أقوم به». والغاية في نهاية الأمر هي تأكيد هذه الذات أو هذه الأنا.
ومن هنا بدت هذه الفلسفة أرستقراطيةً متعالية، جسورة ووحيدة. ومن هنا أيضًا بلغ إعجاب هلدرلين بفشته وتحمُّسه لفلسفته أن قال في نوفمبر سنة ١٧٩٤م إنه لا يعرف له نظيرًا في عمقه وطاقته العقلية .. وهي عبارة يدهشنا أن يصرح بها أثناء وجوده في مدينة «يينا» بالقرب من شيلر الذي كان يؤمن بتفوقه الرائع ويخشاه في وقتٍ واحد!
مهما يكن من شيءٍ فإن الحوار الفكري الجاد مع فشته لم يأتِ إلا بعد فترةٍ طويلة في أواخر سنة ١٧٩٩م عندما كتب هلدرلين مقاله الذي لم يتمَّه عن الدين. فقد حاول أن يردَّ على فلسفة فشته في المطلق، وفكرته في أن الذات هي التي تضع الوجود، أي أن الوجود الخارجي لا قيمة له إلا من جهة تأكيده لوجود الذات. أمَّا فكرته عن الذات الأخرى أو «الأنت» التي اعتبرها «مجرد وسيط لتأدية وتوضيح واجباتي الأخلاقية» فقد ردَّ عليها هلدرلين بفكرةٍ أخرى مطلقةٍ نابعة من تفكيره الإلهي العميق عن علاقة الأنا والأنت. ولا بدَّ من باب الإنصاف أن يُقال إن هذه الفكرة كانت جديدةً كل الجِدة في تاريخ الفلسفة، وأنها انتظرت أكثر من قرن ونصف قرن حتى تناولها الوجوديون في الزمن الحديث — وبخاصة هيدجر وسارتر — فتعمقوها إلى أبعد حد في فكرتهما عن «الوجود من أجل الآخرين» [وإن اختلفت هذه الفكرة بالطبع عن مثيلتها عند هلدرلين].
هكذا تبدأ تجربة الروح أو الإله على حدود الفرد. فحيث تنفتح هذه الحدود على القدر والكل والأنت تتم تجربة المطلق.
والواقع أن هذه الفكرة لا تختلف عن فكرة فشته إلا في الظلال الطفيفة التي تكسوها. فكلاهما يرى أن الإنسان لا يجرِّب واقعه إلا من خلال لقائه مع شريكه، أو مع الآخر كما تقول الفلسفة المعاصرة. غير أن نقطة البداية التي ينطلقان منها تختلف عند الفيلسوف عنها عند الشاعر.
فالفيلسوف يعنيه أن يصنع الإنسان نفسه عن طريق تحقيق «مجال طاقته» أو «دائرته» الخاصة به، أي إنه لا يشعر بتحقيق طاقاته وإمكانياته إلا من خلال الاصطدام بمجالٍ آخر أو دائرةٍ أخرى. إنه «يضع نفسه» — بالتعبير الشائع في المثالية الألمانية — عندما يقيم «الوضع المضاد» أو الضد المقابل له. أما الشاعر فينصبُّ اهتمامه على اللقاء الذي يتم بين الأنا والأنت التي يضعها القدر في طريقه، بحيث يبرز «الثالث» أو المطلق الذي «يقوم بيني وبينك». وليس لنا أن نتوقع من الشاعر أن يتولى هذه الفكرة بالتحليل والتفصيل — فما خُلق الشعراء لشيء من هذا — فذلك لا يتفق مع طبيعته وموهبته. ولذلك نجده يقف فجأةً عند هذا الحد، في حين يمضي فشته مع فكرته على ترتيبٍ دقيق حتى يصل بها إلى الغاية المرسومة لها في فلسفته وهي «الفعل».
على أن الشاعر لن يعدم فرصةً أخرى تتيح له أن يعبِّر عن فكرته تعبيرًا ملموسًا. فهو يكتب إلى شقيقه في شهر نوفمبر سنة ١٧٩٨م رسالة يقول فيها: «هكذا يجب علينا أن نقدِّم التضحية للألوهية التي تجمع بيني وبينك، فنحتفل باللطف والنقاء اللذين يتمثلان في حديثنا عنها بعضنا إلى بعض، كما نحتفل بالروح الأبدي الذي يربط بيننا …»
والفكرة الأصلية هنا واضحةٌ متميزة، على الرغم من غموض العبارة وبُخلها، فالشاعر يكرر رأيه الذي عرفناه ويزيده قربًا منَّا.
إنه يؤكد لنا أن تجربة المطلق (أو الروح التي تجمع بين الأصدقاء) ليست تجربةً مجردة أو معلقة في الفراغ أو فوق السحاب، بل هي تجربة «بيني وبينك»، يمكن استخلاصها من الأحاديث العادية التي تدور بين الناس كل يوم. أما الصورة المقدسة التي نكوِّنها بأنفسنا، كما تقول الكلمات الأخيرة في العبارة، فهي تشير إلى بُعدٍ أسطوري عميق وجديد. فلعلها تريد أننا نحن البشر نشارك في عمل المبدع الأعظم، ونسهم في جهود القوى الخلَّاقة وفي نسج «صورة الزمان التي يرسمها الروح الأكبر» على نحو ما تقول قصيدة «الاحتفال بالربيع» التي تَحدَّثنا عنها في الصفحات السابقة. وواجبنا في هذه الحياة هو أن نقف من الخالق المدبِّر موقف الطاعة والخشوع، ونتأمل حكمته التي تتجلى في الطبيعة والروح على السواء.
كانت هذه هي منزلة هلدرلين من المثالية الألمانية، عرضنا لها بإيجازٍ شديد وتبسيط نرجو ألَّا يكون مخلًّا. ومع أننا لم نحاول أن نجعل منه فيلسوفًا على الرغم منه، فلا يمكن الإغضاء من مكانته كشاعرٍ مفكر، لأن الحدود الفاصلة بين الفكر والشِّعر دقيقة كالزجاج الشفاف، وهما في صميمهما متقاربان، يسكنان على قمة جبلَين متجاورَين وإن كانا منفصلَين.
إن فِكر هلدرلين فكرٌ ملتزم بالمعنى الواسع الشامل لهذه الكلمة لا بمعناها الضيق الذي شاع في هذه الأيام. فبينما يحاول التفكير الاستنباطي أن ينطلق إلى نوع من التفكير الحر المجرد المطلق [وهو الهدف الذي لا يكاد يبلغه لأن الوعي أو الذات لا وجود لها بغير الموضوع] نجد أن تفكير هلدرلين يبتعد جهده عن مجال التجريد، ويلتزم على الدوام بالواقع المجسد المتحقق، كما يرتبط بتيار التحول والتغير والصيرورة في الحياة على اختلاف صورها وأشكالها وألوانها. إنه يصغي على الدوام لدقات قلب الحياة، ويرصد عمليات التغير والنمو التي تتم في تيارها الدافق. ليس من طبيعته أن يكون فكرًا مغلقًا أو نهائيًّا أو تامًّا في ذاته، لأنه في حالة نشوء مستمرة. ولا يهم صاحبه أن يقيم بناءً من الأفكار، بقدر ما يهمه أن يتحرك حركةً متصلة ويتغلغل فيما يحيط به من أسرار القدر والوجود، ويتتبع الخيوط التي يتألف منها نسيج الحياة. إنه فِكر يعرف حدوده — وهذه هي أول خطوة على درب المتواضعين الخاشعين! — وهو لا يريد ولا يخطر على باله أن يبني مذهبًا أو يشيِّد بناءً يرتفع طبقةً فوق طبقة، لأن هذا البناء لا يناسب طبيعة شاعر قلقٍ لا يهدأ في مكان ولا يطمئن إلى شيء.
والطبيعة نفسها تتكفل بتحديد معالم الصورة التي ينبغي أن يتعلم منها الناس. إن الإله يتدثر بثوبه، يحجب وجهه عن فضول البشر، ويستر جلاله المهيب خلف غلالة الهواء والزمان، حتى يوشك أن يستعصي على صلوات الروح وضراعتها. أما الطبيعة فتنبسط أمام أعينهم كأوراق الشجر، وعليهم أن يحبوها ويتعلموا منها:
وهلدرلين يقف من هذه الطبيعة المعلمة موقف الطاعة والخشوع، ويستمد منها تفكيره المحكم الدقيق الذي يختبر كل فكرة بمقدار تحققها في صورةٍ عيانيةٍ مرسومةٍ بارزة المعالم. ولذلك فهو لا يحاول أن يعبر عن الروح بالتصورات المجردة، وإنما ينظر إليها بعين الشاعر فيرى سحرها المنثور على جسد الواقع:
والروح يتغير ويتحول أمام بصره وقلبه، يحتفل الأحياء بعرسه الخالد، وينعم الشجعان في ظله بالنعاس الهادئ، ويفرح العشاق بالدفء والعناق، ويفزع الهائمون إلى ملجأ يؤويهم، ويمدُّ الحيارى أيديهم إلى بعضهم البعض، ويرف الروح هامسًا حول الأشجار المعتمة والأزهار المبتهجة بالنور:
إن الشاعر لا يصور الروح بالأفكار المجردة، بل يلتمسها في الواقع الحي، بلغةٍ مكثفة تعكس هذا الواقع «فإذا أراد أن يعبر عن الأمل أصبح عنده وهجًا حيًّا ملموسًا، وإذا صوَّر السلام لم يلجأ للفكرة المجردة بل للحدث المحسوس الذي تشاهده العين ويهتزُّ له القلب …»
استمع إليه وهو يخاطب الخالدين في صياغته الأخيرة لقصيدة الاحتفال بالسلام:
ولقد نوَّه الشراح بالقرابة الروحية التي تجمع بين هلدرلين وبين المفكرين السابقين على سقراط. كان هؤلاء يفكرون في الطبيعة، ويحيون في قلب الأسطورة، ويدهشون لمعجزات الوجود الممتدة أمام أبصارهم. ولذلك كانوا مفكرين شاعريين، يعبرون عن انبهارهم بالوجود بلغة الصورة والرمز والخيال والأساطير. ولذلك أيضًا كانوا هم الفجر الذي سبق ظهور الفلسفة بمعناها الدقيق. فإذا رأينا واحدًا منهم وهو هيراقليطس يصور الروح أو العقل في صورة البرق الذي يلمع في السماء، فإن هلدرلين لا يبتعد عنه كثيرًا حين يرسم التفكير على هيئة الأثير الرفاف، ويصور الحب بلون البنفسج الأزرق الذي يكسو الأرض:
هكذا ينظر إلى الأشياء والأحداث بعين الشاعر، ويعبر عنها بلغة تصدق عليها كل الصدق، في جملٍ مكثفةٍ واضحةٍ محددة المعالم والأطراف، مغروسة في أعماق الرؤية الأسطورية بكل جلالها وقداستها. ولذلك تأتي هذه الأبيات بسيطة وبريئة وساذجة، أعني أنها بعيدة كل البعد عن الافتعال والصنعة والتجريب بهدف التجريب. ولذلك أيضًا يقترب هذا الشِّعر من روح الفلسفة، وإن ابتعد عن نهجها المرتب ولغتها المجردة. صحيح أن هلدرلين قد اشتغل بالفلسفة واتصل بالفلاسفة، ولا شك أنه لم يخرج من ذلك صِفر اليدين، ولكن طبيعته الشاعرة تمردت عليها، بل بلغ به السخط عليها أن وصفها بالطغيان واتهم أحد أعلامها بالتزمُّت، وضاق بفنونها الجدلية وحيلها النقدية وغرائبها الصورية أشد الضيق! وأعلن مقته للتفكير الميتافيزيقي المجرد الذي غلب على روح العصر، حتى يمكن أن نقول معه إن «عقول الهواء ذات الأجنحة الميتافيزيقية» كانت من أقوى الأسباب التي عجلت بفراره من مدينة «يينا». فقد كانت هذه المدينة أشبه بالحلبة التي يتصارع عليها الفلاسفة، والحياة فيها كالحياة في معسكر أو قشلاق. ولذلك فليس عجيبًا أن يتسلل منها في جنح الليل، إذ كيف يعيش الراعي الطيب في معسكرات الجنود، وكيف يطيق الشاعر المسكين أن يحيا في حلبة يتصارع فيها المتلاكمون بالمذاهب والأفكار؟ .. وكيف لا يشعر المتجول القلق أنه غريب في المدينة، ووحيد أمام القصر الرائع الذي شيدته المثالية المجردة؟