العاشق
«لا بد أن أصل لهذا السر الأكبر، الذي يمنحني الحياة أو الموت!»
ديوتيما …
هكذا أسماها قبل أن يلتقي بها ويجد فيها مثال الحب الذي طالما اشتاق إليه. ولا بد أنه تنبأ بإلهامه الصادق، بما سيكون لها على حياته وشِعره من أثرٍ عميق، فجعلها محور الصياغة الأولى لروايته الوحيدة التي تعرف بشباب هيبريون. فلما عرفها والتقى بها وقام بتعليم ابنها خلع عليها هذا الاسم الحبيب؛ فخلَّدها في تاريخ الأدب. ومَن يدري؟ فربما كان حبُّه الجريح الكسير من أقوى الأسباب التي عجَّلت بانهياره إلى هاوية الجنون المظلم الطويل!
ولكن من أين أتى بهذا الاسم الساحر القديم؟ أكان استغراقه في الروح الإغريقية والأدب والأساطير والآلهة الإغريقية — وقد ترجم بعض أشعار بندار ومسرحيتي أوديب وأنتيجونا لسوفوكليس، وظل هذا العالم المقدس مثله الأعلى وغاية لحنينه وشوقه — هو الذي أوحى إليه باسم هذه العرَّافة الحكيمة؟
إن كل قرَّاء الفلسفة المطَّلعين على محاورات أفلاطون يعرفون هذه الشخصية الرائعة الغامضة التي ترد في محاورة المأدبة. فهي الكاهنة التي يقف منها سقراط موقف التلميذ من الأستاذ .. وهي المرأة الوحيدة التي اختارها أفلاطون ليجري على لسانها رأيه في «الإيروس» أو الحب. وهي التي يعترف سقراط أيضًا بأنها علَّمته معنى الحب الفلسفي وهدته إلى معارج الجمال المطلق والحكمة الحقة.
«دعنا نهدأ يا ولدي، ولنتعلم أبدًا» …
غير أنه لا يريد أن يتعلم شيئًا بعينه. فهو الباحث المتعب عن المطلق، وهو الظامئ دومًا إلى العلم الحق؛ إلى الحياة والحركة الدائمة والميلاد المتجدد والتيار الذي لا يتوقف عن التدفق والجريان:
أرادت الأقدار القاتمة الطيبة التي طالما رفع إليها أجمل صلواته، أن يصادف هذه المربية وأن تمد له يدها، لتربت على رأسه المتعب، وتشفي جرحه العنيد .. لكن إلى حين لن يطول:
ولكن لنبدأ القصة من أولها …
ثم كانت علاقته بصديقةٍ مجهولة عرفها في مدينة شتوتجارت، علاقة غلب عليها الحياء والهمس والكتمان. ويبدو أن هلدرلين قد عرف هذه الصديقة معرفةً سريعةً عابرة، ولكنها كانت كافيةً لتحريك أعماقه، إذ رفَّ عليه منها نسيم الصفاء الذي ينتظره من الحب الخالص المرتسم في خياله. ها هو ذا يكتب إلى صديقه نويفر بعد أول لقاء له معها: «كان مسلكي معها غريبًا شاذًّا. وكلما تذكرت كيف غفلت عن صحبتي لها في ساعة الوداع تمنيت لو أصفع جبهتي بيدي. ولكن أحلام طفولتي قد تبدَّدت كما قلتُ لك. ولو أنها ضحكت على الشاعر المريض ضحكةً مجلجلة لمَا كان من حقي أن أغضب. إلا أن روحها كانت أطيب وأرقَّ من أن تفعل هذا. إلهي! سوف أكنُّ لها الاحترام إلى الأبد. إن النبل والهدوء اللذين يملآن كيانها يخالفان ما أعرفه من المخلوقات التي أراها هنا أو في غير هذا المكان، والتي لا تحرص على شيء حرصها على جذب الأنظار إليها والزهو بفطنتها والاستغراق في ضحكٍ لا تريد أن تكفَّ عنه …»
ثم يكتب إلى صديقه بعد ذلك بستة شهور أنه يشقُّ عليه أن ينساها كما كان ينوي أن يفعل، وأنه توسل إليها في صوتٍ هامس ألَّا تحرمه مودتها، ولم يزد على ذلك ولم يطلب سواه.
غير أن هذه البذرة الطيبة لم تجد الظروف المواتية التي تجعل منها ثمرةً ناضجة، وإن كانت على كل حال قد أفلحت في تمهيد الأرض لتلقي بذرةً أخرى تؤتي الثمرة الحلوة المرة، وتجلب عليه نعمة الحب الكبرى ونقمته الكبرى في آنٍ واحد.
بدأت أمواج الشوق والصفاء تغمر كيانه في هذه المرحلة من حياته، وأخذت تنثر رذاذها وزبدها على شاطئه الموحش، وتروي رمال عطشه القديم. واتجه فكره بطبيعة الحال إلى عالم اليونان ليستمد منه مادته، وبدأت التجربة الأولى في سلسلة تجاربه العديدة لصياغة روايته الوحيدة التي حملت عباراتها الغنائية المجنحة كل أشواق قلبه وعذاب فِكره. ونُشرت هذه الصياغة القصيرة التي تعرف بشذرة هيبريون في صيف سنة ١٧٩٤م في مجلة «ثاليا» التي كان يصدرها الشاعر شيلر. ومَن يقرأها اليوم يعرف ظمأ الأرض العطشى لأمطار الحب، وحنينها لعناق البذرة الطيبة القاسية. إن سطورها الأولى تتحدث عن البطل الشاب الذي راح يبحث عن الحقيقة، أي عن كل شيء، لأن كل ما عداها باطل وعدم. وهو لهذا يبغض أوساط الأمور كما يبغض الموت، فلا يستطيع أن يقنع بشيء إلا أن يكون «الكل» وإلا فهو عنده عدم. هذه الحقيقة الكاملة، هذا الكل، هو الذي يمكن أن يجد عنده «الراحة» .. أجل! الراحة التي تسعى إليها الروح الظامئة. ولكن مَن يقْدر أن يعيد إلينا اللحن الذي تغنَّى به القلب في أيام الطفولة السعيدة المباركة؟ لقد فتَّش عنها حينًا بين الإخوة والأصحاب، وبدا له أن فقره سيصبح ثروةً عريضة لو وجد القلب الذي يتحد به، والحياة التي لا يحرمه منها فراق ولا خداع. ولكم احترق شوقًا إلى ضحكة من القلب، وذاب حنينًا إلى ظل من الحب. إلا أن الخيبة كانت دائمًا من نصيبه، وكل صداقةٍ جديدة كانت تتركه فقيرًا معدمًا كما كان، أشبه بصبي أعمى، حاول أن يبتاع اللؤلؤ من شحاذين أشد منه فقرًا، وإن كانوا مزهوين بأسمالهم، غافلين عن الخرق التي تلفُّ أجسامهم.
بقي شاعرنا إذن على بؤسه وفقره، والفقر تجربته الأصيلة التي صحبت خطوات عمره وصبغت أنغام شِعره. وعرف الكثيرين والكثيرات وظنَّ أنهم أصدقاء وصديقات. ولكنه كان كالفراشة القلقة التي لا تعثر على الزهرة التي تشبع جوعها وتريحها من عناء السفر وتعب الرحلة. وكان يفرح بكل إنسان يظن أنه وجد فيه ضالته، ثم ينفض يديه منه ويلوذ بوحدته. وربما وجد فيهم شيئًا مما يبحث عنه، ولكنه لم يجد أبدًا ما يشتاق إليه. وليس غريبًا أن يخيب أمله في الجميع، لأنه يريد المطلق، يريد «الكل» بينما كان كل واحد منهم يعطيه شيئًا، أي لا يقدم له في الحقيقة أي شيء!
في هذا الفقر الموحش ظهرت ميليته (وهي في الشذرة التي نتحدث عنها الآن بديل ديوتيما في الرواية المكتملة). ظهرت في هيئة كاهنة الحب، رائعة ونقية ومقدسة. لا يكاد ينقصها من صفات العرافة القديمة الغامضة إلا الاسم. ها هو ذا يصف كيف ظهرت له أول مرة: «وسط هذا الشعور الأليم بوحدتي، بهذا الفؤاد الجريح المقفر من البهجة؛ ظهرت لي، وقفت أمامي حلوة مقدسة، كأنما هي كاهنة الحب، أو كأنها نسجت من النور والعطر فصارت روحًا شفافةً رقيقة، ترى عينها الواسعة المتوثبة بالحياة تستوي فوق ابتسامتها المفعمة بالهدوء والطيبة كأنها إلهٌ جليل يتربع على عرشه، وخصلات شَعرها الذهبي تتموج في نسمات الربيع حول جبينها كالسحب الصغيرة التي تسبح في ضوء الصباح. ويعجز قلمه عن أن يعبر لصديقه «بلارمين» عما لا سبيل إلى التعبير عنه؛ عن رعشة قلبه، عن شعوره بأن عذاب حياته وليلها وفقرها وضنكها وفناءها قد زال في لحظةٍ واحدة، لحظة أسمى وأسعد من كل اللحظات، لأنها لحظة الخلاص التي تعدل دهورًا من حياتنا الرتيبة المجدبة … لحظة تموت فيها أيامنا الأرضية، ويتوقف الزمن، وتبعث الروح، وتتحرر النفس من قيودها لتعود إلى أصلها ومنبعها .. لأنها لحظة الحب! لقد ظهرت في حياته وتمثَّلت له كما تتمثَّل ربة من ربات الأساطير، منسوجة من النور والعطر، طيبة كالسماء، جليلة كالآلهة، ذهبية الشَّعر كملكة ساحرة في حواديت الأطفال …»
ويحسُّ الشاعر البائس أن وجوده قد عثر على ضالته، وأن قوة الأبد أصبحت حقيقةً، وأن الدهر قد تجمَّع في لحظة الخلاص. لم تكن «ميليته» هذه إنسانة بل قدرًا تمثل له أبهى من كل خيالاته وأحلامه، فارتجف وعجز عن الكلام … وشَعَر أن روحه هربت من جسده، وتحولت إلى ضراعة العابد الذي يتبتَّل لمعبود لا يكاد يدري شيئًا عما يدور حوله! وتقف كاهنة الحب أمامه، وترتفع فوق كيانها الإنساني الفاني وتعلمه سر القدرة. وتتحدث إليه فتكشف عن عطفها الجارف عليه وإشفاقها العميق من الأحزان التي تعذب روحه. وتتمنى لو أمكنها أن تعيد إليه الطمأنينة المقدسة، والعيد الهادئ الذي يأتي من أغوار الروح، كما يأتي من كل شيء يلمسه أو يراه؛ من النور والنسيم والسماء والأغصان والأزهار … أما العابد الخاشع فيقف كالأخرس، ويصمت فيه كل صوت أرضي، ويحسُّ أن الطبيعة الإلهية التي تجلت له هي المجهول نفسه .. ويصل إليه صوتها ليعلمه حكمة الحب: «قلْ لقلبك من العبث أن يفتش الإنسان عن السلام في الخارج إذا كان لا يستطيع أن يمنحه لنفسه.» وتهديه إلى طريق الحب المطلق، وتفتح عينيه على اللحظة الوحيدة التي يمكن أن تنقذه وتداويه، وتوقظ فيه الشوق إلى الحب الذي عليه أن يبحث عنه ويجده بنفسه .. ويخفق قلبه الشاب ويزداد خفقانه، ويشعر أن عاطفة الحب الغامض، وهي أم كل عاطفة وكل حياة، لم تمت فيه بعدُ. ويدفعه الشوق إلى أحضان الطبيعة. ويجلس في مساء يوم من أيام الخريف الهادئة تحت أشجار الحور التي يهمس النسيم لأوراقها الجافة. ويوشك أن يسمع نداء الطبيعة صاعدًا إليه من أعماق الأرض والبحر: لماذا لا تحبني أنا؟ ويزداد العالم قداسة في عينَيه، ولكنه يزداد غموضًا. ويترك وطنه ليفتش عن الحقيقة فيما وراء البحر .. ويقول لنفسه ما يقوله كل مَن يريد أن يبحث عنها بحق وصدق: لسنا شيئًا. إن ما نبحث عنه هو كل شيء.
كتب هلدرلين هذه الشذرة قبل أن يلتقي بديوتيما بحوالي عام ونصف عام. والغريب أنه سجل فيها بإحساس الشاعر وإلهامه تجربته الحية مع هذه السيدة الطيبة الرائعة. ولا يهمنا إن كان قد رسم صورتها بوحي الشاعر وإلهامه أو استمدَّها من تلك الصديقة المجهولة التي لا نعرف عنها شيئًا. فالمهم أن معظم ملامح هذه الصور قد تأكَّد صدقها وانطباقها على «الأصل»، وأن كاهنة الحب التي عرفها بلحمها ودمها قد فاقت كاهنة الحب الخيالية في الصدق والعمق والجد والجمال.
كانت زوجة أحد رجال البنوك الكبار، واسمه يعقوب فريدريش جونتار. وكان قد بدأ كرجل أعمال متواضع الحال ثم ظل يصعد على سُلم المال حتى أصبح من أصحاب الملايين. وكانت الحياة في بيته هي حياة رجل الأعمال الذي لا ينسى مصالحه، والبرجوازي الذي لا يحرم نفسه من المتع التي يُتيحها له حب الظهور.
فالحفلات الصاخبة لا يهدأ لها ضجيج، والضيوف على اختلاف طباعهم وسِحن وجوههم يترددون على الأسرة طوال العام. إنهم — كما يصفهم هلدرلين في رسالة إلى أمه — مخلوقاتٌ كاريكاتوريةٌ مخيفة، يذهب الثراء بألبابهم كما يذهب النبيذ الجديد بعقول الفلاحين. وهم لا ينقطعون عن اللهو والصخب والمرح، ولكنه لهوٌ غليظ وصخبٌ مزعج ومرحٌ مغرور. ولذلك فلا عجب أن يقف الشاعر منهم موقف الدهشة والذهول، وأن يتعلم الصمت والوجوم في حضورهم.
كان رجل الأعمال يفهم على حد قوله شيئًا في شئون التجارة والمال، ولكنه يجهل كل شيء عن تربية الأطفال! ولذلك فقد سأل طبيب الأسرة «يوهان جوتفريد إيبل» أن يبحث له عن مربٍّ يقوم على تعليم أبنائه. وكان الطبيب يعرف شاعرنا؛ فسعى لدى رجل المال ليلحقه بالعمل الذي تولاه في شهر يناير سنة ١٧٩٦م. وسرعان ما اكتشف الشاعر أنه يشغل وظيفةً رقيقة الحال، وأن من واجب المعلم المسكين ووظيفته أن يبقى دائمًا في الظل تحت سقف بيتٍ لا يقيم وزنًا إلا للمظهر والمال. صحيح أن من حقه أن يحضر الحفلات المختلفة التي تقام فيه، ولكن هذا شيء يُسمح به من باب اللياقة وحدها. ولا بد أن يتذكر دائمًا أنه «هو العجلة الخامسة في العربة»، وأن المعلمين خدم أيضًا، ولا يحق لهم أن يطالبوا بميزة خاصة لأنهم يؤجرون على عملهم. وليس هناك شك في أن هلدرلين — الذي نعرف عنه اعتزازه بنفسه على الرغم من بؤسه أو ربما بسببه — لم يكن ليتحمل هذا الهوان لو لم تكن هي هناك؛ كاهنة الحب … الرقيقة الطيبة سوزيته جونتار!
كانت في نقائها وجمالها الشاعري الهادئ أشبه «بفينوس» في لوحات الرسام الإيطالي الشهير تيسيان (١٤٩٠–١٥٧٦م). وكان يشعُّ من جسدها الناصع ووجهها اللطيف وعينَيها الزرقاوَين اللامعتَين وشَعرها الكستنائي وملامحها الناعمة الطيبة وشخصيتها الحنون العطوف؛ كانت تشع منها هالة من السحر الذي لا يقاوم، ولا يتصور إنسان لفرط جماله ونقائه وترفُّعه أنه يمكن أن يكون من هذا العالم .. كانت تحضر الحفلات التي يقيمها زوجها ولا تشارك فيها، وكانت كل عين تنظر إليها تدرك على الفور أنها أمام روحٍ نبيلةٍ مهذبة وقلبٍ هادئٍ مفعم بالرحمة والخير. وكانت أجمل ما تكون وهي تداعب أولادها أو تجرب النغمات على أصابع معزفها .. هناك تبدو مشرقةً طيبةً مضحيةً حريصة على الواجب الأسمى، سعيدة به كل السعادة. وهناك يحلو للإنسان أن يقترب منها كما يقترب من نبعٍ طاهر .. وكان حبها للموسيقى والغناء يفوق كل شيء. ولا بد أن وجود الشاعر في بيتها قد حرَّك شفتَيها بعد صمتٍ طويل. ولا بد أن هذا الغناء هو الذي ألهم هلدرلين هذه السطور من روايته «هيبريون»: «عندما كانت تغني، كان الإنسان يعرف فيها تلك المحبة الصامتة التي لا تميل بطبعها للكلام. هناك تتبدَّى تلك الأبية السماوية في جلالها وحسنها، هناك ترفُّ الأغنية في معظم الأحيان متضرعة ودودًا من الشفاه الرقيقة المتَّقدة، وتنبعث في أحيانٍ أخرى كأنها وصية من وصايا الآلهة. وكم كان القلب يجيش في هذا الصوت الإلهي! وكم كانت العظمة والتواضع! كم كانت كل أفراح الحياة وأحزانها تبدو أجمل مما هي عليه في نبل هذه الأنغام وروعتها! لم نكن نحس بالبهجة ولا بالإعجاب، كنا نشعر بأن السلام يهبط علينا من السماء. ألف مرة قلتُ لها ولنفسي: أجمل الأشياء هو أقدسها. هكذا كان كل شيء فيها. وكما كان غناؤها، كذلك كانت حياتها …»
«أحسسنا أن كلًّا منَّا خُلق للآخر، قبل أن يفطن أحدنا إلى ذلك.»
كانت سوزيته قد سمعت بهلدرلين قبل أن تلقاه بسنةٍ واحدة. فقد أهداها صديقها السويسري الشاب «تسيرليدر» نسخة نقلها بخط يده من «شذرة هيبريون» التي نُشرت في مجلة «ثاليا» التي يصدرها شيلر .. ولعل هذه الكلمات التي لا شك أنها قد قرأتها في الشذرة لم تكن وليدة الصدفة: «سوف أعثر عليها مرةً أخرى، في أية مرحلة من مراحل الوجود الأبدي.»
•••
استطاعت ديوتيما أو سوزيته جونتار بطيبتها وانعطافها أن تطلق الطاقات الدفينة في وجدان الشاعر. كان قد عاش طويلًا مع الأفكار الفلسفية المجردة، وكانت حياة أشبه بحياة الجنود في المعسكرات .. ولكن الحب النقي أعاده إلى نفسه الحقة؛ الحب الذي ينمو في ظل التقوى والخشوع والإنصات، الحب الذي يصبح الإله فيه حقيقةً ماثلة للقلب والعين:
لا شك أن تأثير ديوتيما الجديدة لم يأتِ بمحض الصدفة. لقد كانت من العقل والوعي والذكاء بحيث تفهم هلدرلين وتمد له طوق النجاة. وقد استطاعت أن تتغلغل في سراديب روحه المعذَّبة، وتكتشف جرحه الذي ينتظر الشفاء والعزاء، وتدرك أنه جاء إليها «ممزق العواطف» من مدينة «يينا»، لينقذ نفسه بين ذراعيها. ولذلك فليس غريبًا أن يقول على لسانها بعد فراقهما بوقتٍ قصير:
علَّمته ديوتيما إذن، ووقف منها موقف التلميذ الشاكر المطيع. حدث هذا بلا جهد أو عناء. فالكاهنة الطيبة تعرفه، وهي تستمد معرفتها به من قلبه. ولهذا تستطيع أن تنصت لصوت هذا القلب، وتستطيع أن تخلصه وتنقذه «حين تنصت لمد القلب وجزره» .. وهي تبذل أيضًا كل ما في طاقتها لتنزع شوكة اليأس والشك المغروزة في هذا القلب: «هتفت قائلةً: اسكت ولا تتهكم بقدرك، لا تتهكم بقلبك؛ لأنني أفهمه، وأفهمه خيرًا منك.» أليست هذه الكلمات من «هيبريون» هي التعبير عن عقيدة الشاعر التي طالما ردَّدها في شعره ونثره؟ «قلب الإنسان هو قَدَرَهُ!»
في هذا الجو المعطر بأريج الحنان عرف هلدرلين الراحة والاطمئنان، في ظل الشجرة الطيبة التي لا تبخل بشيء استطاع أن يصل إلى حقيقة نفسه. في هذه الحقيقة التقى البشر والخالدون، اجتمع المبدأ الأول والزمن المتغير. إنها وراء كل تصور، فوق كل تفكير، لأنها هي حقيقة الحب: «ما قيمة كل ما فعله الناس وفكَّروا فيه منذ آلاف السنين، بالقياس إلى لحظة حب واحدة؟ .. إن كل الدرجات على عتبة الحياة تؤدي إليها .. منها نأتي، وإليها نمضي …»
بقي أن نتتبع باختصار رحلة قدره مع ديوتيما، مع سوزيته جونتار.
يبدو أن هذا القدر لم يعلن عن نفسه إلا خلال سفرهما إلى مدينة دريبورج، هربًا من وجه القوات الفرنسية الزاحفة. ويبدو أيضًا أن المهاجرَين الشابَّين قد عاشا أيامًا سعيدة حقًّا، وانطلقا معًا في نزهاتٍ ذهبية. كانت سوزيته في صحبة أولادها. وكان معهما رجلٌ آخر نبيل الروح، غارق إلى أذنَيه في عبادة الحس والفن والجمال هو الكاتب الثائر فيلهلم هينزه (١٧٤٦–١٨٠٣م) الذي كان من أشد المعجبين بها (ويُروى عنه أن نبأ وفاتها قد صدمه صدمةً قوية أدت إلى إصابته بالشلل النصفي بعد موتها بخمسة أيام) — كان هذا الكاتب المعروف بمقالاته في الفن وقصصه ورواياته عن الفنانين، ودعوته للحب والمتعة ولذة الحس إلى حد الخروج على الأخلاق في سبيل الجمال — كان في ذلك الحين كهلًا في الخمسين من عمره. ويظهر أن هلدرلين انجذب إلى شخصيته التي جمعت بين ثقافة العقل وبراءة الأطفال في وحدةٍ نادرة جعلته يصفه بقوله: «إنه شيخٌ رائع. لم يسبق لي أن عثرت على هذه الثقافة الهائلة مع هذه البساطة التي تشبه سذاجة الأطفال.» كان هينزه في سنوات نضجه قد بدأ يولي الموسيقى جانبًا كبيرًا من اهتمامه الذي ظل حتى ذلك الحين مقصورًا على الرسم والنحت. ويظهر أن لقاءه مع هلدرلين وسوزيته قد أكد صحة العبارة التي قالها قبل ذلك بسنواتٍ قليلة حين وصف الموسيقى بأنها ساحرٌ حقيقي يصور حياة النفوس والأرواح .. فقد كان الأصدقاء الذين يترددون على بيت جونتار يعرفون أن هلدرلين وسوزيته ثنائي جمعت الأنغام بين روحَيهما إلى الحد الذي جعل بعض النفوس والألسنة الصغيرة تنشر حولهما الشائعات. كان الشاعر يعزف على البيان، فتجاوبه سيدة البيت بالغناء .. ومَن يدري؟ فربما ترنَّمت في بعض الأحيان بأشعاره التي تنقلها إلى أثير الآلهة الخالدين، وتفعم روحها التقية بجلال الأساطير.
ولا بد أن «هينزه» قد أثَّر على هلدلين من ناحيةٍ أخرى. فالمعروف أنه كان في شبابه من أشد المتحمسين للثورة والثوار، ثم لم يلبث هذا الحماس أن خمدت شعلته؛ ليصبح الثائر القديم من أشد المتحمسين للحياة التي لا تكف عن التدفق والتغير والجريان. ولا بد أن هلدرلين كان واقعًا تحت تأثير هينزه عندما كتب في أكتوبر سنة ١٧٩٦م إلى شقيقه الأصغر الذي كان في ذلك الحين من أكبر المتحمسين للثورة: «ستجد عندما تراني أن حالة الثورة قد خفت عما كانت عليه من قبلُ .. لقد أصبحتُ الآن ألتزم الهدوء التام حول الأمور التي تجري حولنا …» وشاء القدر أن يؤيد هذا الإحساس الجديد في نفس هلدرلين؛ إذ تلقَّى بعد كتابته لهذه السطور رسالةً محزنة من الطبيب أيبل [صديق عائلة جونتار الذي توسط له في الالتحاق بوظيفته]، وكانت الرسالة التي وصلته من باريس تفيض حزنًا على مصير الثورة الفرنسية وتعبر عن خيبة آماله وآمال الناس في الحرية والعدالة والإخاء …
وردَّ عليه هلدرلين محاولًا أن يصبِّره ويواسيه. فمن المؤلم حقًّا أن يودع الإنسان مكانًا تصور أن كل أزهار البشرية وثمارها قد ازدهرت فيه، ومن المحزن أن يتوهم رؤية الحقيقة والعدل حيث لا وجود لهما، ويشعر أن قلبه أنبل من أن يحتمل الحياة في عصره. ولكن لا حيلة للإنسان في هذه الحالة إلا أن يعتصم بنفسه وبأصحابه القليلين، ويجد فيهما العالم الذي افتقده في الواقع، ويبقى على إيمانه بثورةٍ مقبلة تغير إحساس الناس وطرائقهم في التصور والشعور .. فكلما نمت الدولة في هدوء ازداد حظها من العظمة والمجد واقتربت من النضج والكمال .. ومن الواضح أن هذه الأفكار تشهد بالتحول الذي طرأ على هلدرلين .. فهو الآن في بيت المحبوبة وتحت رعايتها أكثر هدوءًا وأقدر على الإنصات والتعلم، وأقدر على تعهد البذرة الباطنة حتى تنضج في سلام وسكون. وهو الذي كان ثائرًا متحمسًا للجمهورية فأصبح «جمهوريًّا بالعقل والحقيقة» كما قال عنه أحد أصدقائه أو بالأحرى أحد الذين اتصل بهم أو اتصلوا به. ولا ريب أن هذا كله يشهد على التحول الخطير في تفكيره وإحساسه ورؤيته بعد لقائه بسوزيته، ولا ريب أيضًا في أن «كاهنة الحب» الجديدة قد جعلت منه كاهنًا طيبًا وصبورًا، يستطيع أن يلوذ بالحكمة إذا أعجزه أن يسعد بالحب!
يأتي على الفنان حينٌ لا يطلب فيه من الناس إلا أن يتركوه في حاله، ولا يُنغِّصوا عليه حياته ووحدته بالأقوال الصغيرة التي لا تصدر إلا عن نفوسٍ صغيرة. لكن تجارب الفنانين والشعراء والأدباء والمفكرين تُثبت دائمًا أن هذه الأمنية المتواضعة البسيطة طموح بعيد المنال …
لم يترك الناس هلدرلين وسوزيته في حالهما، بل سرعان ما انتشرت حولهما الشائعات، وتطفلت الأعين، ولهجت الألسنة الصغيرة بما يصح وما لا يصح أن يقال. بدأ الناس يتحدثون، سواء منهم مَن كان يعيش مع عائلة جونتار أو مَن يتردد عليهم من الضيوف والأصدقاء. ولم تقف غربان الشائعات عند حدود فرانكفورت بل تجاوزتها إلى قلب العاصمة برلين. فها هو ذا أحد المترددين على بيت جونتار يصف في سنة ١٧٩٩م اهتمام أهالي فرانكفورت بأخبار العاشقَين المسكينَين وهلعهم من الأخبار التي تصل إلى أسماعهم أو يتطوعون بإذاعتها عنهما: «لقد حرم عليَّ أن أذكر اسمه هنا في فرانكفورت، حتى لا يصرخ الناس فزعًا من أخباره، لمجرد أنه أحب امرأة واستلهم هذا الحب في كتابة روايته هيبريون» .. وها هو ذا صدى الشائعات المنتشرة عنهما في برلين يصل في صيف سنة ١٧٩٧م إلى آذان الناس في فرانكفورت مع قول القائل: «العشاق يعيشون لأنفسهم وبأنفسهم، والعالم كله بالنسبة لهم ميتٌ لا حياة فيه.»
وبدأت سحب الأزمة التي نشأت بين الزوجين تتجمع وتكفهر وتضيِّق الخناق على شاعرنا المسكين وحبيبته العفيفة الصابرة. كانت تعيش مع زوجها الغني الناجح في إطار العُرف والتقاليد (وقد زُفَّ إليها وهي في السابعة عشرة من عمرها) وكانت بإحساسها وكيانها تحيا بعيدةً عنه بُعدَ الحمل الطيب الذي كُتب عليه أن يعاشر الذئب القوي المعتدَّ بنفسه، والقمر الشاحب الحالم عن الشمس الجبارة المنتصرة. ومع ذلك فهي تحتمل في صبر الملاك الطاهر، ولا تبخل على الناس بابتسامتها ونظرتها الطيبة الحنون. حتى إذا ذُكر زوجها أو رأته قادمًا طافت بالنظرة والابتسامة سحابة حزنٍ عميق. وها هو ذا أحد الزوار يقول عنها: «قطعة اللحم المقدد حين تجوع، الكلب الذي تربت عليه يداها، العصفور الذي تطعمه، وأنا حين أحكي لها … نحن جميعًا نتلقَّى منها نفس النظرة الودودة الطيبة التي لا تتعكر إلا إذا وقعت عيناها على زوجها أو سمعت اسمه.»
أما هلدرلين فكان دائم الشكوى من سوء معاملة الزوج وتحقيره له بسببٍ وبغير سبب. وبلغت إهانات الزوج للمربي الفقير ذروتها في شهر سبتمبر سنة ١٧٩٨. ويبدو أنه قد دخل عليهما في لحظة من لحظات الانسجام الإلهي مع النغم والغناء أو مع التجاوب الرقيق مع الشِّعر .. هنالك قرر الحبيبان المحرومان أن ينفصلا على الفور عن بعضهما عن بعض، وأن يُبقيا على نبل العلاقة التي تجمع بينهما بالفراق الأبي المتكبر … وهكذا غادر هلدرلين الطفل الذي يربيه والأم التي يقدسها ويتبتل إليها بالحب المحروم والشِّعر الكسير … وآثر أن يمضي إلى مدينة هومبورج القريبة ليعيش فيها عامًا ونصف عام …
لم يستطع الحبيبان صبرًا على هذا الحرمان الذي يفوق كل قدرة على الاحتمال .. وبدآ يتراسلان في خطاباتٍ شحيحةٍ مذعورة من الرقابة الغاشمة التي فرضها رجل المال والأعمال .. ومن الصعب أن نقول إنهما رضيا بهذا الحرمان أو احتملا هذا الفراق. فقد طالما عبرت كلماتهما عن حنين اللقاء، لكن اللقاء ظل بعيدًا كأحلام الفقراء، وظل هذا السؤال الحزين يتردد بينهما في صورٍ مختلفة: «يجب علينا الآن أن نتسول من القدر، وبألف وسيلة ووسيلة، دربًا واحدًا يجمع بيننا. ماذا عسى أن تكون حالنا لو اختفى كلٌّ منَّا بالنسبة لصاحبه؟» …
وظل السؤال الأخرس يتردد كهتاف الغريق في الرسائل المتبادلة بينهما [ولا زالت رسائل سوزيته محفوظة إلى الآن، أما رسائل هلدرلين فلم يبقَ منها سوى ثلاث مسودات لم تصل إلى يديها …]
ويكفي أن نقتبس شذراتٍ قليلة من هذه الرسائل التي يعرفها العشاق المقهورون في كل زمان .. هذه بعض سطور كتبتها سوزيته إلى هلدرلين في شهر ديسمبر سنة ١٧٩٨م: «إن لمست مني الهدوء والجفاف فلا تتشكك فيَّ، لأن النار تشتعل في أعماقي، ولا بد لي ولك أن نحفظ أنفسنا من الانفعال. إن الهم يمضي قليلًا، غير أن الكآبة الحلوة الشافية تأتي دائمًا في الوقت المناسب من السماء وتصبُّ نعمتها في القلب. لن أيئس أبدًا من الطبيعة، ولو أحسست بالموت يتسلل إلى كياني فسوف أقول: إنها توقظني من جديد، ترد إليَّ كل مشاعري التي صنتُها في وفاء، ولم يحرمني منها إلا ظُلم القدر. ولكنها تنتصر، تنتزع لي من الموت حياةً جديدةً جميلة، فبذرة الحب ثابتة وعميقة الجذور في كياني.»
احتدم الصراع في نفس الحبيبَين. وأصبح الفراق هو الحل الوحيد الذي فُرض عليهما، وحاولا بكل طاقتهما على الزهد والحرمان والكبرياء أن يقبلاه. لكن ماذا في وسع الطائر أن يفعل وهو يرى قضبان الأسر تشيَّد حوله، قفص التقاليد يضيِّق الخناق عليه، يد الجلاد الشرعي تقصُّ ريشه وتلوي رقبته وتخنق صوته؟ هل نلومه إذا صرخ ورفرف بجناحَيه واستنجد بربة الحرية والحب من بطش الناس؟ ها هي ذي كاهنة الحب تجد نفسها وحيدةً ذابلة، بلا معبدٍ ولا إله ولا وثن ولا أتباع، بعيدة عن الإنسان الذي يمكنه أن يقف معها ويملأ وحشتها ويعطي معنى لوجودها. ومع ذلك فهي تحاول أن تمد إليه حبل العزاء عبر الجدران والأسوار، أن تطمئنه إلى لقاء الأرواح على الرغم من فراق الأجساد المحتوم، أن تحمل عنه عبء الاختيار الذي ليس منه بد: «لا تترك عبء القرار الثقيل يقع عليَّ وحدي. إن ما تراه خيرًا هو كذلك رأيي وإرادتي، وإذا اعتقدت أن من الخير أن نفترق فراقًا تامًّا فلن أنكرك لهذا السبب. إن الوشائج الخفية بيننا سوف تظل مع ذلك قائمة. الحياة قصيرة. إنني أحس البرودة! هل من حقنا أن نستخفَّ بها لأنها قصيرة؟ آه قل لي! أين نلتقي مرةً أخرى؟ أيها الروح العزيز الحبيب! أين أجد الراحة؟ دعني أعرف واجبي وأنسى نفسي، وإذا كان هذا الواجب عسيرًا فأعنِّي على القيام به؛ ولكني ما زلت أجهله. الإبقاء على نفسي شيء لا أستغني عنه، ونسيان نفسي شيءٌ آخر يتناقض معه، لأنني أشعر أن كل ما يمكن أن أقاوم به حبي إنما يدمرني ويفضي بي للهلاك. يا للحب من فنٍّ عسير! مَن ذا الذي يفهمه؟ مَن ذا الذي يفلت منه؟»
لم يعد إذن من الفِراق بدٌّ. ويمضي الزمن فيثبت للحبيبَين أن كل ألوان الزهد والصبر والحرمان والكبرياء ليست إلا أوهام عزاءٍ. لقد استمرت الحبيبة تخدع نفسها بالجلد والاحتمال، حتى تبيَّن لها قُرب النهاية أن الحياة بغير الحبيب ذبولٌ بطيء وموتٌ محتوم. وها هي ذي تقول في إحدى رسائلها المتأخرة: «شعرتُ شعورًا حيًّا أن حياتي من غيرك تذبل وتجفُّ وتخطو للموت ببطء …» ويرد عليها هلدرلين برسالةٍ لم تبقَ منها إلا مسودتها، ويبدو أنه أشفق على المحبوبة من كآبتها السوداء فلم يتمَّها ولم يبعث بها إليها. ها هي ذي سطورٌ قليلة منها، كل حرف فيها جرح ينزف ويئنُّ: «لو أمكنني أن أرقد عند قدميكِ وأرعى موهبتي الفنية في هدوء وحرية، لاستطعت فيما أعتقد أن أعجل بتحقيق ذلك الهدف الذي يشتاق إليه قلبي المعذَّب المفجوع في أحلامي وفي وضح النهار، وكثيرًا ما يحنُّ إليه في يأسٍ صامت .. انظري! هذا ما يجعلني أحيانًا ألتزم الصمت المطبق، إذ لا بد أن أحمي نفسي من مثل هذه الأفكار. مرضك، رسالتك … لقد وضح أمام عيني … وكنت أتمنى لو أُصبت بالعمى … أنك لا زلت تُعانين وتتألمين … قولي لي، أيهما أفضل، أن نتكتَّم ما في قلبَينا أم أن نعلنه ونبوح؟ .. لهذا تُظلم الرؤية غالبًا أمام أعيننا، فلا ندري مَن نحن ولا ما نملك، لا نكاد نعرف أنفسنا، هذا الصراع الأبدي وهذا التناقض الذي تحسينه في أعماقك لا بد أن يحكم عليك بالموت البطيء، وإذا لم يخفف الرب وطأته فلن يكون أمامي إلا الهلاك يأسًا عليكِ وعلى نفسي، أو إغفال كل شيء إلَّاكِ والبحث معك عن طريق يريحنا من هذا الصراع. لقد خُيِّل إليَّ أن في استطاعتنا أن نعيش على التجاهل وأنه قد يشد من عزمنا أن نودِّع الأمل إلى غير رجعة …»
انقطعت سطور هذا الخطاب فجأةً. ولعل الشاعر قد أحس أنه يخدع نفسه أيضًا، ويحطم رأسه على جدار المستحيل. ولعله قد لجأ في هذه الفترة إلى الشِّعر [وهل يملك ملجأً غيره؟!]؛ فراح يؤلِّف أغنية ربما كانت أرق أغانيه التي كتبها في ذلك الحين وأكثرها يأسًا وعذابًا. ولكن أغنية الفراق لم تتم كما لم يتم الخطاب الذي قرأت بعض سطوره. وأنَّى لها أن تتم وسط هذا الصراع الذي ينهشه ويحرقه؟ إليك أبيات الأغنية التي جعل عنوانها «في الحق أمضي كل يوم» ولم يستطع أن يكملها فترك مقطوعتها الثانية ناقصة:
•••
كل شيء إذن قد انقضى، واللقاء أبعد وأتعس من أشواق الشعراء المساكين. وإذا كان العاشق يتلفت بقلبه وعينَيه إلى هناك حيث تقيم المحبوبة، فهو لا يستطيع أن يخدع قلبه ولا عينه عن بُعد الشاطئ واستحالة اللقاء. ليقل إذن وداعًا، ولتسقط الكلمة على أرض الواقع بعدما رنت في أنغام الشِّعر!
وهذا هو الذي حدث بالفعل!
فقد تم الوداع النهائي في شهر مايو سنة ١٨٠٠م.
وحاول الحبيبان أن يؤجِّلا الفراق الأخير بالوهم والأمل، ولكنهما كانا يعلمان في قرارة نفسيهما أنه قدر لا مناص منه. ومع ذلك فهما يعلمان أيضًا أن الفراق هو فراق الجسد، والحرمان هو حرمان العين أن ترى العين، واليد أن تسعد بلمس اليد، ولذلك فلا حيلة لهما إذا استمر القلب يحسُّ بالقلب، وظلت الروح تهفو إلى الروح وتتشبث بأملٍ بعيد في مستقبلٍ أبعد.
إن سوزيته تكتب إليه في إحدى رسائلها المتأخرة فتقول بعد أن استحكم اليأس من الحاضر، ولم يبقَ لأتقياء القلب إلا الثقة والانتظار: «عدني أنك لن ترجع مرةً أخرى، وأنك سترحل من هنا بهدوء، لأنني إذا لم أعرف هذا فسوف أظل إلى الصباح ملازمة للنافذة وأنا في أفظع حالات القلق والتوتر، ولا مفرَّ لنا في النهاية من أن نسترد الهدوء؛ لذلك دعنا نمضِ على طريقنا في ثقة واطمئنان، ولنحاول في صميم ألمنا أن نشعر بالسعادة، ولنتمنَّ أن يدوم لنا هذا الألم طويلًا طويلًا لأننا نستمد منه إحساسنا بالنبل الكامل والقوة على احتمال قدرنا. وداعًا! وداعًا! ولتباركك السماء!»
واستجاب الشاعر لهذا الدعاء .. وبدأ يحس في نفسه قدرةً جديدة على الرضا بالألم أو النظر إليه كقدرٍ حقيقي لا مفرَّ منه. ولذلك أصبح موقفه الجديد هو موقف التحمل والصمود، أي الانتقال إلى مرحلةٍ أخرى من مراحل العذاب الهادئ الطويل، لا يستطيع الإنسان أن يبلغها حتى يصطدم كما قلت بآخر حدود الألم. هناك تسمو الذات فوق عذابها «الذاتي» وتتأمله كما يتأمل الخالق مخلوقه، في صمتٍ وصبرٍ وأسًى لا يخلو من الشعور بالموت والفناء …
وطبيعي أن يُحلِّق الشاعر في مثل هذه المرحلة إلى أسمى ما يمكن أن يصل إليه جناحاه، وأن يبدع أبقى أعماله وأنقاها وأبعدها عن الشكوى والكآبة والأنين .. فقد وصل إلى مرحلة «موضوعية» — إن صح هذا التعبير — وانفصل عن ذاته أو ارتفع فوقها، وراح ينظر إليها من أعلى. وهل جوهر الفن إلا في هذا البُعد أو الابتعاد عن موضوعه؟ وهل يستطيع الفنان أن يخلق فنًّا جديرًا بهذا الاسم إذا ظل غارقًا في حمى عواطفه وأشجانه وأحزانه؟ وهل يمكن أن يملك السخرية والدعابة الصافية، أو القدرة على التجربة المتجددة والرؤية الشاملة إذا لم يرتفع فوق مادته ليسيطر عليها لا لتسيطر عليه؟
وأبدعُ ما في المقطوعة الأولى هي صورة الضياع على الدروب المختلفة، والقلق على القمة أو في الحضيض، والروح الهائم الذي يلتمس الراحة عبثًا في كل مكان، أشبه بالحيوان الوحشي الذي فقد دفء العرين وأخذ يضل في الغابات، لا يدفئه النور ولا تعينه رطوبة الليل، ولا تشفي الأمواج ولا الرياح ولا الأعشاب جراحه:
وتغالبه خواطر الموت فيخاطب إلهته قائلًا: لا يليق بك أن تمسكي الرجل المقهور وتقيديه وتأخذيه معك إلى ليل الموت المرعب، ليستمر هناك في البحث أو الدعاء أو العراك معك، أو يصبر على القيد المخيف الذي حكمتِ به عليه، أو يستمع مبتسمًا لأغنيتك الرهيبة. ثم يخاطب نفسه ويقول: إن كل الأمر كذلك فانسي كل أمل في النجاة واستسلمي للنوم بلا صوتٍ. ولكنه يعود فيلمح شعاعًا في الظلام، ويتذكر أن اليأس لن يستطيع الإطباق عليه فيقول لنفسه: «ومع ذلك فإن صوت الأمل يبعث في صدرك. ولن يمكنك يا نفسي أن تتعودي على الظلام ومملكة الظلام، ولذلك فأنت تحلمين وسط النوم الحديدي! إنك لست وحيدة كما تتصورين، فهناك شيء حبيب يقترب منك على الرغم من بُعده، ولا بد أن أبتسم وأعجب كيف أُحسُّ السعادة والنعمة وأنا في قلب العذاب …»
ثم تعاوده صور الحب القديم وأيامه الذهبية التي أضاءت ظلام لياليه، ويتذكر الحدائق الجميلة والجبال المكسوة بحمرة الشفق، والدروب الصامتة التي تشهد كلها بالسعادة السماوية التي عرفها في شبابه، ويناجي النجوم التي طالما أطلت عليه وهو يسير مع محبوبته وأرسلت إليه نظراتها الحنون، ويسمي «أطفال الربيع الجميلة» من زهور وزنابق بأسمائها، فكم كانت كلها قريبة من قلبه، أنيسة إلى نفسه، وكم كانت صادقةً ومشرقة وبديعة. غير أن الأيام تأتي وتذهب، والعام يطارد العام، والزمن يركض مسرعًا فوق رءوس الفانين. ومع ذلك فالعيون التي باركها الحب ترى الأمر رؤيةً أخرى، والأحباب تكتب لهم حياةٌ مختلفة. فهم جميعًا قد توجوا الساعات والأيام وأعوام النجوم والبشر بالبهجة والفرح والجد، وهم جميعًا أبناء الأثير الأصلاء وقد عاشوا من حولنا، يا ديوتيما، يجمعهم الحب الأبدي الحميم …
لكن ديوتيما قد غابت عنه والبيت أصبح خرابًا:
إنه يريد أن يحتفل، ولكن بأي شيء؟ يريد أن يقدم الشكر، لكن على أي شيء؟ ويريد أن يغني، ولكن لمَن، وهو الآن وحيد محروم من كل نعمةٍ إلهية؟ إن الألم الأخير يأكل كل ذكرى ويسلب الشفاه كل كلام، والحياة تتوقَّف والوجود يصبح كالعدم:
ثم تتجه النفس إلى الحبيبة وتتعلق بها كما يتعلق الغريق بطوق النجاة. وينفتح لها أفقٌ جديد. فطالما أشارت له الحبيبة إلى شيءٍ آخر أكبر منها؛ شيءٍ أعظم وأجمل:
لقد تعلَّم منها الشاعر وما زال يريد أن يتعلم. وهو في حيرته ويأسه لا يدري لمَن يتجه إن لم يتجه إليها. تحت ثقل الألم تحطمت قدرته على الشكر، أي قدرته على الصلاة، ولكنه لا يزال يأمل أن تهديه ديوتيما إلى منطقة الأمان التي يبدأ منها حياةً أخرى جديدة، لا يزال يرجو أن تعيده لنور الباطن، لكهف الرضا وملجأ الشكر والصلاة، وما الصلاة عنده إلا الخلق وإبداع الشِّعر:
لم يصل الشاعر إلى هذه المرحلة بجهده، بل قُدمت له هدية. إن الحياة دبت فيه بكلمة من الله، والشباب عاد إليه وجدد قلبه العجوز فهتف بفرحته لعودة الربيع واخضرار الأرض.
غير أن الفرحة بمعجزة الحياة والشباب والربيع توحي في نفس الوقت بأن فكرة الموت كانت تغرز شوكتها في قلبه. وقد يبدو أن عاطفة الحماس للحياة أبعد ما تكون عن عاطفة الموت. والحقيقة أن النقيضَين أقرب مما نتصور. فما من قلبٍ يهتف للحياة إلا وهو يحس بثقل الموت، وما من صوت يضحك إلا وهو منبعث من صميم المأساة، وما من فم يشدو للربيع إلا ويحسُّ الرعشة من كآبة الشتاء!
والحق أن فكرة الموت كانت في ذلك الوقت جاثمة على صدر الحبيبَين. وربما ِأشفقت «سوزيته» عليه من شبحها المظلم فتضرعت إليه قائلة في إحدى رسائلها في فبراير سنة ١٨٠٠م: «أبقِ على نفسك من أجلي!» وربما أحسَّ هلدرلين أنه كان قاسيًا أكثر مما ينبغي عندما تنبأ بموت ديوتيما المحتوم في روايته هيبريون فكتب يقول لها: «اغفري لي موت ديوتيما …» ولكن النبوءة كانت صحيحة.
فقد سارت الحبيبة على طريق القدر حتى بلغت نهايته. سارت عليه في رضا وهدوء وعلى شفتيها هذه الكلمة: «أفضل لي أن أموت ضحية الحب من أن أعيش بدونه.» وأسلمت أنفاسها الأخيرة في شهر يونيو سنة ١٨٠٢م بعد أن زارها الضيف النحيل الشاحب الوجه الذي يحب الإقامة في صدور الشعراء والفنانين والعشاق .. كانت صديقتها الوحيدة «مارجريتا سومرنج» قد سبقتها إلى الموت في شهر يناير. ولا بد أنها شعرت بوحدتها الرهيبة بعد موتها، ورأت أن حياتها لم يعد لها معنًى بعد أن أقفرت من الحبيبة والحبيب. لقد كتبت ذات يوم لهلدرلين: «شعرت بأن حياتي تذبل من غيرك وتموت ببطء.» وها هي ذي تذبل وتحترق بنار السل .. ويشتد عليها المرض في الأسبوعَين الأخيرَين من حياتها فتسلم الروح في مساء اليوم الثاني والعشرين من شهر يونيو سنة ١٨٠٢م.
ولو قرأنا هذه الأبيات من قصيدة هلدرلين الأولى عنه:
لو قرأنا هذه الأبيات لرأينا أن الكآبة لم تكن بعدُ قد أحكمت حصارها حوله، فلا زال يتشبث بالحب، ولا زال يأمل في النجاة على يديه. ولكن «الموت البطيء» أو الكآبة السوداء كانت قد بدأت تهاجمه عندما راح يكتب مسرحيته أو مأساته «موت إمبادوقليس» التي صاغها في ثلاث صورٍ مختلفة، تعبر كلها تعبيرًا أسطوريًّا عن فكرة الانتحار.
وبعد أن كان هبوط الفيلسوف العراف في فوهة البركان تكفيرًا عن ذنبه الذي اقترفه عندما وضع نفسه في مصاف الآلهة، أصبح في الصياغة المتأخرة تعبيرًا عن شوقٍ صوفي إلى رحم الأرض، كما أصبح العراف هو البطل الذي يضحي بنفسه ويدمر سعادته ليرجع إلى حضن الأم وأصل الأشياء:
ولقد غاص هلدرلين في هاوية اللهب الأسود، وبدأت الكآبة المميتة تحاصره من كل ناحية، وتضطره للتسليم شيئًا فشيئًا. وبدأ جسده الرقيق يذبل ويشف بالتدريج حتى تحول في نظر الأصدقاء إلى شبح أو ظلٍّ يائس. أما الروح فحاولت أن تتشبث بذكرى الحب أو بشيطان الشِّعر ليحميها من السقوط. ولكنها كانت قد بدأت الرحلة المخيفة إلى الأعماق، كما بدأت ظلال عالم الجنون تلتف حولها يومًا بعد يوم. كان الحب قد أصبح جرحًا وحيدًا ينزف دمه في صمت. والشِّعر الذي بلغ قمة نضجه في السنوات القليلة التي تلت وفاة الحبيبة لم يستطع أن يتماسك على الطريق الموحش بلا أمل ولا عزاء ولا صديق …
راجع إن شئت كتابي «قصائد من برخت»، دار الكاتب العربي، القاهرة، ١٩٦٧م.