الصامت
«الحياة موت، والموت أيضًا حياة.»
هلدرلين المسكين …
هكذا سماه الناس من حوله .. وبهذا شهدت أقوالهم وذكرياتهم عنه.
قدر عليه أن يتوه ستة وثلاثين عامًا في صحراء الجنون، أن يجرب الموت في الحياة والحياة في الموت .. حتى حنَّ عليه فمنحه الخلاص الأخير في اليوم السابع من شهر يونيو سنة ١٨٤٣م.
وتتفق أقوال الشهود في أمورٍ كثيرة. فهم يُجمعون على أن صاحب الوجه الآسر الجميل أصبح شبحًا يتجول في بيت النجار الطيب كالحالم أو كالنائم أو كالميت. وكل الذين رأوه أو حاولوا التحدث إليه وجدوه لا يكفُّ عن الكلام مع نفسه، وآلمهم حرصه على أن «يظل بعيدًا عن كل إنسان يحاول الاقتراب منه».
هناك عددٌ لا بأس به من الصور والرسوم والنقوش البارزة من الشمع التي تعطينا فكرةً عن مظهر الشاعر في محنته الطويلة. غير أن تقديرنا لموهبته وعبقريته أكبر من أن يجرفنا للحديث عن تفاصيل مرضه وعذابه. وإن كان هذا لا يمنع من تسجيل بعض الشواهد التي تدل على عبقريته الذابلة أكثر من دلالتها على مرضه أو شذوذه.
فنحن نَخرج من تأمل صوره وذكريات معاصريه بإعجاب لا حدَّ له بجبهته العالية المثقلة بالخواطر والهموم — وما أكثر مشروعاته الأدبية التي صرعها المرض وبقيت أشباحها تطارده — ولعل هذه الجبهة الشامخة أن تكون شاهدًا على الثروة الفكرية الهائلة التي كانت تزدحم بها ذات يوم. أما عيناه المعبرتان فلم يمحُ الجنون شيئًا من بريقهما وصفائهما، وإن أضفت عليهما الفجيعة هدوءًا وانكسارًا واستسلامًا يجرح القلب. يقول أحد الشهود بعد أن رآه: «لم يسبق لي أن رأيت أجمل من هاتين العينَين في وجه إنسان فانٍ.» وليس هناك أصدق من هذه الكلمات تعبيرًا عن مأساة الشاعر التي تجلَّت في نظرته الكسيرة الحائرة. لقد فقد كل قدرة على تجميع الفكر وتركيزه، فازدادت نظرته مع الزمن جمودًا، وسبحت في تيه الغيب المظلم البعيد.
وعلى الرغم من إعيائه النفسي والجسدي، وتفكك أفكاره، وغموض كلامه، وعنائه في البحث عن الكلمة، وانصرافه الساعات الطويلة إلى تأمل السماء في الليالي القمرية من النافذة، فقد أعجب كل مَن رآه أو تحدث إليه بسمو فكره، ودهش لأصالة تعبيره ونقاء روحه، وأحس بوحدته العميقة المخيفة التي جعلت الاتصال به مستحيلًا، وحبسته بين جدران وجدانه أشبه بالميت يرقد في تابوت، أو لؤلؤة نائمة في جوف محار أو صدفة.
راح الشاعر يتجول في ليل الجنون المظلم كمَن يحلم حلمًا مخيفًا ويسير في نومه بعيونٍ مفتوحة. وكان جنونه الطويل أشبه بموتٍ طويل. ويبدو أنه أسلم نفسه للموت قبل أن يأتي إليه ويأخذه، واتحد بالطبيعة الإلهية قبل أن يرجع إليها ويذوب فيها بجسده وروحه. ولعله قد عمل بوصية «إمبادوقليس» لأهل مدينته، في الفصل الثاني من مسرحيته عن موت هذا الفيلسوف الشاعر والساحر اليوناني القديم.
ولكن هل أسرف هلدرلين في حبه للآلهة والطبيعة والأبطال الخالدين أم أسرفت هي في حبِّه؟ لقد تبتَّل لها وظل يقدم لها القربان تلو القربان، وظلت هي تطالبه بالمزيد من التضحية حتى لم يبقَ إلا عقله وحياته فلم يبخل بهما. فهل كانت هذه التضحية هي الثمن المحتوم الذي يفرضه الحب اللامتناهي؟ هل هذه هي نهاية الوفاء المطلق والإخلاص المطلق والعطاء إلى حد الفناء؟
مهما يكن من شيء فقد وجد نفسه وحيدًا في النهاية.
وراح يتخبط في ظلام الجنون ويستغيث بالآلهة كما استغاث بطلُه الوحيد الطريد إمبادوقليس:
هكذا كان صمته الطويل أجلَّ وأعظم من كلِّ كلام قاله.
كان السكون يتنفس من كيانه الجميل الذابل ومن كل ما حوله. ولم يخلُ هذا السكون من حزنٍ غامر ينشر ظلاله الطيبة عليه. ولم يكن غريبًا عليه وهو الذي صاحب السكون في كل شيء، وظل حتى في كلامه ورسائله إلى أمه ومعارفه حييًّا وصموتًا وضنينًا بالكلمة. لقد بقي في أتعس سنوات عمره من أولئك الذين وصفهم بقوله: «أغنياء في الفكر فقراء في العمل». وهذا السكون الذي التفَّ حوله هو علامة الغنى والخصب والثراء. وإذا كان لم يخلُ من الحزن الفاجع الأليم — فأشد الأحزان فجيعةً وألمًا هو أشدها سكونًا وصمتًا — فهو كذلك لم يخلُ من الشعور بالهدوء والطمأنينة والسلام. إن كل أشعاره التي قالها وهو في هاوية الجنون لا تخلو من الحديث عن هذا السلام والسعادة بتغير المواسم والفصول، ومعظمها يتحدث عن الربيع والخريف والصيف والشتاء، ويصفها كما تراها عين طفل يسعد بالصور الحية الملوَّنة الملموسة ويلاعبها ويداعبها ويناجيها.
ربيع
إن الشاعر يتجه بفكره إلى الطبيعة، والطبيعة تغلب على كل هذه القصائد المتأخرة، وكأنها هي التي تشعر وتفكر له بدلًا من الذات الغائبة التائهة في ليل الجنون. ولهذا يندر أن تحسَّ فيها بعذابه الشخصي، بقدر ما تحس بالنظام الكوني الذي يهيمن على كل شيء ويبارك كل شيء ويضفي عليه الراحة والسلام. ويظهر هذا في لغة الأصل التي تعجز الترجمة عن نقلها، فهي حريصة على تجانس الإيقاع في القافية والبريق الهادئ الذي يشعُّ من الصور المتنوعة، والضوء الذي ينبعث من وجدان تقي لا يسأل ولا يشكو ولا يتشكك … لقد دحض الربيع كل هموم الإنسان. وإحدى قصائد الربيع تعبر عن هذا حين تقول:
والغريب أن معظم هذه القصائد مُوقَّع بإمضاء اسمٍ عجيبٍ مجهول هو «سكاردانيللي الخاضع الذليل» … ومعظمها يحمل تاريخًا يدل على أن الشاعر فقدَ الوعي بالزمن. فبعضها يحمل تاريخًا سابقًا على مولد الشاعر أو لاحقًا لوفاته .. بل إن إحدى قصائده عن الشتاء ترجع إلى الرابع والعشرين من شهر يناير سنة ١٦٧٦م، أي قبل مولده بحوالي مائة سنة!
أما قصائده عن الشتاء فهي أكثر تعبيرًا عن السكون الشامل الذي لفَّ أيامه الأخيرة، والرضا الكامل الحزين الذي عبرت عنه كلمته الأخرى من قبلُ «طيبة كل الأشياء» ها هو ذا يقول في إحدى هذه القصائد:
وليس معنى هذا أن تناقضات النفس المعذَّبة قد اختفت من الوجود، بل معناه أنها استراحت على صدر الوجدان الهادئ المستسلم الذي صالح بينها وجمع أطرافها في «دائرة الكل». ها هي ذي قصيدةٌ أخرى عن الشتاء تعكس هذا الإحساس الهادئ بالكون الأكبر:
لم يعد الشاعر يعاني أو يتألم، بل هو الآن يشاهد ويتأمل من غربته البعيدة الهادئة. أصبحت عينه مرآةً محايدة، وكل ما ينعكس عليها مظهر من مظاهر الوجود الكبير، وجزء من الدائرة التامة الشاملة. الطبيعة صارت أشبه بمسرحٍ هائل، من ورائه الكواليس، ومن أمامه ستارة الغيب المجهول.
وعلى الرغم من هذا السكون الشامل الذي خيَّم عليه فأطفأ سراج ذاته، وظلَّل كل أشعاره في هذه السنوات البائسة بالطمأنينة والرضا والسكون،تفاجئنا قصيدةٌ واحدة انتفضت فيها الذات ونبشت جراح ماضيها وحاولت أن تستعيد أحلى ذكرياتها مع الحبيبة الغائبة تحت التراب. والقصيدة مكتوبة على لسان «ديوتيما» التي يبعث إلى نفسه رسالة على لسانها، وكأنما اتَّحدت ذاته بذاتها فصارا كيانًا واحدًا يتحدى المكان الغادر والزمن الظالم. وفي القصيدة عذوبة لا نظير لها، وفيها كذلك يأس لا نظير له. ولكنه اليأس الذي ارتفع فوق السخط والمرارة. لنقرأ القصيدة معًا، فهي درةٌ نادرة في كنز الشاعر، وجوهرةٌ غالية بين نفائس شبابه وشيخوخته:
وتنقطع القصيدة التي لم يتمها الشاعر. إن نغمة الشكوى والأنين تصل إلى الأسماع. وهي تحمل كل عذاب الذات وعجزها ويأسها. لكن هذه النغمة نادرة قصائده المتأخرة والعودة إلى الماضي البعيد توشك ألا تتكرر، اللهم إلا في قصيدةٍ واحدة تفاجئنا بقلقٍ وجوديٍّ غريب على الشاعر والعصر جميعًا. إنها قصيدةٌ واحدة كما قلت، سماها الشاعر «نعيم هذا العالم»، وتلفَّت فيها على غير عادته للوراء، وختمها بالاعتراف بسأمه وحنيه إلى الموت:
بيد أن هذه النغمة تختفي فجأة كما ظهرت فجأة. وتغوص الذات المتألمة في بحر الوجود الذي يغسل آلامها، ويحل الوصف الخالص محل التوتر والقلق، وتضيع أصوات الشكوى بين أنغام الرضا والسلام والانسجام. وينشر السكون العميق خيمته على أيام الشاعر المسكين. ويصبح السؤال لا معنى له، لأن السلام دخل القلب ولن يخرج منه. السلام الذي طالما اشتاق إليه المتجول الوحيد في أرض الحب والشِّعر. وهو سلام قريب من الصمت والسكون، لأنه لا يعرف الشكوى ولا الأنين:
وجاء الموت …
كان ذلك في ليلة السابع من يونيو سنة ١٨٤٣م، بعد أن ظل يتأمل القمر كعادته ويتطلع إلى النجوم ساعاتٍ طويلة من نافذته .. مات في هدوء وسلام، كأنما يعتذر عن حياته وموته جميعًا ولا يريد أن يزعج أحدًا أو يلفت أحدًا إليه. وخرج من العالم كما جاء إليه، ضيفًا بائسًا متعبًا. وبدا لسنواتٍ طويلة أن الدنيا لم تفطن لدخوله أو خروجه، كما لم تعبأ بحياته أو موته. ولكن الموت الرحيم يأتي دائمًا، وقد زاره في تلك الليلة المقمرة؛ فاستراح الشاعر وصمت صمته الأخير.