تصور أساتذة الجامعة للتعليم
١
تاريخ هذه المحاولة المستمرة غير المُنتجة — محاولة تغيير مذاهبنا في التعليم منذ ثلاثين سنة — مملوء بالفوائد النفسية، وهو يعين على إثبات أن الأفكار الوراثية شديدة الأثر جدًّا في تدبير مستقبل الشعوب، وأن هذا التصور اللاتيني القديم الذي يرى أن النظم التي مصدرها العقل الخالص يمكن أن تتحول وتتغير بإصدار القرارات خطأ لا نصيب له من الصحة.
فمنذ زمن طويل ما برحت أصوات الثقات تعلن أن تعليمنا غير منتج وغير ملائم للمعقول، وقد بُذل كل جهد لإصلاح التعليم، فلم يُنتج كل تغيير إلا فسادًا، وستجد في هذا الكتاب أسباب هذا الفشل، وربما كان من أهمها جهلنا العميق بأسباب فساد التعليم في بلادنا، أليس هناك من سبيل إلى شفاء العلة إذا لم تتعرف أصولها؟ وإنما تستطيع أن تحيط بمقدار هذا الجهل إذا قرأت هذه المجلدات الستة الضخمة التي تشتمل على التحقيق البرلماني في أسباب فساد التعليم، كيف تصل الأشياء إلى العقل؟ وكيف تثبت فيه؟ وكيف يتعلم الإنسان الملاحظة والحكم والتعقل والإحاطة بطرائق البحث؟ هذه المسائل الأساسية لم يكد يتعرض لها الباحثون، وقد أجمع الذين تكلموا أمام لجنة التحقيق على سوء نتيجة التعليم، ولكن لِمَ كانت النتيجة سيئة؟ يظهر أنهم جهلوا ذلك جهلًا تامًّا.
٢
أدهشني هذا الجهل الشديد لطائفةٍ من المبادئ النفسية الأساسية فعُنِيت في هذا الكتاب بأن أُظهر الأسباب الحقيقية لانحطاط التعليم عندنا، وأن أُبين أن برامج التعليم التي يفترضونها مصدر الشر كله بريئة من هذا.
ولو أن من الممكن أن تتغير آراؤنا الوراثية لكان كتابي نافعًا، فأنا مضطرٌ إلى الاعتراف بأن كتابي مع نجاحه في السوق لم يستطع في فرنسا — على أقل تقدير — أن يرشد أو يقنع رجلًا واحدًا من رجال الجامعة، وما يزال أساتذة الجامعة عندنا يبحثون عن أسباب انحطاط التعليم، هذه الأسباب التي كنت أظن أني بيَّنتها وأرشدت إليها.
وقد تُلمُّ بضعف أساتذتنا عن استكشاف هذه الأسباب إذا قرأت الخطب التي ألقاها أشهرهم المسيو ليبمان والمسيو أبيل أمام جماعة ترقية العلم، فإن اسمي هذين الخطيبين ومكانتهما تكفي للدلالة على أن خطبهما يجب أن تُتخذ مصدرًا تاريخيًّا صحيحًا ممثلًا لآراء زعماء الجامعة في التعليم.
فقد قال المسيو ليبمان وهو في ذلك يوافق جمهور زملائه: «إن تعليمنا على اختلاف درجاته قد بلغ من الانحطاط منزلةً لا سبيل إلى الانحطاط بعدها.» وكان الأستاذ الجليل يُظهر مقدار المعونة التي يقدمها أبناء الجامعات الألمانية للصناعة وعجز طلابنا عن مثلها، وكان يبيِّن «هذا التأثير الألماني العالمي الذي يبعث إلى مصانع أوروبا وأمريكا بمن تحتاج إليهم من العلماء»، وبينما يرقى العلم الألماني والصناعة الألمانية باضطرادٍ ينحط علمنا وصناعتنا من يومٍ إلى يوم.
ولما لاحظ الأستاذ الرقي الألماني والانحطاط الفرنسي اضطر إلى أن يبحث عن أسبابهما، ومع أنه بذل جهدًا عظيمًا للوصول إلى هذه الأسباب فهو لم يصل حتى إلى افتراضها، على أن تفكيره إن أخطأه الصواب فله قيمة غريبة، فهو يرى أن مصدر انحطاط التعليم عندنا أن نظامه يرجع إلى أصل صيني حمله إلينا اليسوعيون: «إذا كنا قد نجد هنا من حينٍ إلى حين جهلًا لا سبيل إلى اختراق حُجبه، جهلًا متأدبًا حائزًا للشهادات كما يوجد ذلك في الصين، فسبب ذلك واضح: هو أن فن التربية قد حُمل إلينا من الصين، هذه حقيقة تاريخية فإن فن التربية عندنا وليد الحكم القديم، نشأ في هذه الكلية القديمة، كلية لويس الأكبر، وهذه الكلية قد أقامها مرسلون يسوعيون بعد عودتهم من الشرق الأقصى.»
وبعد أن وصل الأستاذ الجليل إلى استكشاف العلة حاول البحث عن الدواء: لا شيء أسهل منه، لأجل أن يكون التعليم راقيًا حقًّا يجب أن يستقل استقلالًا تامًّا عن موظفي وزارة المعارف، فيصيح الأستاذ مغضبًا: «إن الضرورة الشديدة تقضي أن يُخلَّص التعليم من هذا الادعاء البيروقراطي، وأن تُحرر الجامعات من سيطرة السلطة التنفيذية، ذلك أن هذه السلطة ما زالت تثقل على التعليم العالي وتأخذه بطرائقها التعليمية التي ورثتها عن العهد القديم، ألا يتاح لنا وزير جريء يسلب السلطة التنفيذية حق إعطاء الدرجات والألقاب.»
وقد علم البيروقراطيون فزعين بماذا يُتهمون، وقد دُهشوا حين رأوا أستاذًا من أساتذة السربون يجهل أن رجال الجامعة وحدهم هم الذين يضعون البرامج، ويمتحنون الطلبة ويقررون الشهادات التي تعطيها السلطة التنفيذية.
ولا ينبغي أن تظن أن مثل هذه الآراء التي قدمنا تفصيلها مقصورة على أستاذٍ واحد، فكل أساتذة الجامعة يرون هذه الآراء أو أمثالها، كأن هؤلاء الاختصاصيين العظماء قد فقدوا كل قدرة على التفكير والملاحظة متى تجاوزوا موضوع اختصاصهم.
لن يفلح بلد يحكمه مجلس من العلماء كما عرض ذلك بعض السذج من الفلاسفة، وتجد دليلًا آخر على عجز الأساتذة عن فهم الأسباب التي دعت إلى انحطاط التعليم إذا قرأت خُطبة أخرى كخطبة الأستاذ ليبمان ألقاها أمام الجماعة نفسها — جماعة ترقية العلوم — الأستاذ أبيل عميد قسم العلوم في باريس.
فهو كزميله يبتدئ بنقد التعليم وإعلان أنه لا يستطيع أن ينمي العقل؛ لأن الامتحان في جميع درجاته ليس إلا اختبارًا للذاكرة.
النقد صحيح … ولكن الأستاذ لم يفهم أصل الداء، فكان دواؤه الذي وصفه عقيمًا لا يدل على شيء، فكل سطر من أسطره ينم عن أنه متردد فيما يفكر، وآية ذلك ما سترى من مشروعه للإصلاح:
«ترى الإدارة العلة وتجتهد في أن تجد الدواء، وهذا الدواء بنوعٍ خاص في أن توجد صلات دائمة بين مدارس المعلمين الأولية وبين التعليم العالي!» ثم يقترح في مكانٍ آخر: «أن ينتفع بالجامعات في الدرس العلمي»، وفي مكانٍ آخر يقترح إصلاحًا عظيمًا هو إلغاء قسم كبير من الدروس التي تُلقى في معرض النبات وتحويل هذه المعارض إلى متاحف أهلية تُعرض فيها الفصائل والأنواع النباتية.»
ثم انتهى الخطيب بالشعور أن في آرائه شيئًا من الضعف، فعاد في مقاله إلى هذا الموضوع وأكد أن: «أول إصلاح يجب هو ترتيب مواد البرامج باعتبار قيمتها العملية، والثاني تطبيق هذه القاعدة في الجامعات وفي إدارتها، فيضيق تعليم بعض المواد ويوسع تعليم المواد الأخرى، وتلغى دروس وتوجد دروس أخرى.»
فترى أن أحدًا من هؤلاء الأساتذة العلماء لم يصل بعد إلى افتراض أن مصدر الشر هو مناهج التعليم لا برامجه، وأن هذه المناهج هي التي يجب أن تُغير، فأما اقتراح أن تُمد بعض البرامج وتقصر الأخرى وأن تُلغى دروس وتنشأ دروس، فلغو من الكلام لا خير فيه؛ لأنه لا يعتمد على فكرةٍ أساسية.
يظهر أن مسألة التعليم قد سحرت الناس، فقد أُلقيت خطبةً ثالثة أمام جماعة ترقية العلوم، ألقاها عضو معروف من أعضاء المجمع العلمي هو المسيو ش. لالمان.
وليس بنا حاجة إلى أن نقول إن مسيو ش. لالمان ليس من رجال الجامعة، فذلك يظهر جليًّا في الملاحظات الصحيحة الدقيقة التي تزيِّن خطبته.
يذكر الخطيب أولًا أن الغرض من التعليم إنما هو تكوين العقل، ثم يلاحظ أن الجامعة لا تُحسن تعليم اللاتينية ولا الفرنسية ولا شيئًا ما، ثم يشعر من جهة بأن الإصلاح مستحيل في الحالة الحاضرة، فيقترح أن يكون ما يدرس على أقل تقدير متصلًا بالموضوعات النافعة، فإن اللغات الحية والعلوم ليست أقل قدرة على تكوين العقل من اللغة اللاتينية.
يجب أن نعتقد أن نقد مسيو لالمان قد أصاب موضع الضعف، فقد أحدث حركة سخط عنيفة في صف رجال الجامعة، ولم يوفق الخطيب إلى إقناع صحيفة كبرى بأن تنشر رده على مقالات حادة نشرها أحد القليلين الذين يعجبون بمناهجنا التعليمية.
٣
أثبتُ جملًا من الخطب الرسمية التي أُلقيت حديثًا؛ لأبين إلى أي حدٍّ من الغور وصل جهل أساتذتنا فنَّ التعليم، كل هؤلاء الأخِصَّائيين النابهين مهرة مجودون كما قلت ما داموا في معاملهم أو مكاتبهم، فإذا تجاوزوها وهنت أسباب تفكيرهم وضعفت قوتهم على الحكم ضعفًا ظاهرًا.
جهل الجامعة لا يسمح لها أن تفهم أن السبب الأساسي لما تشكو منه من الانحطاط إنما هو فقر مناهجها التعليمية، ولن يحتاج قراء هذا الكتاب إلى أن يلموا بكثير من صحفه ليفهموا هذه المناهج وما يمكن أن تُحدث من أثر، وليروا أنها واحدة في جميع فروع التعليم العالي والثاني والأول، المنهج واحد سواء في ذلك قسم من أقسام الجامعة أو مدرسة المعلمين أو مدرسة الهندسة أو مدرسة من مدارس الزراعة أو مدرسة أولية، يمكن أن تغير البرامج كما يقع ذلك في كل يوم، ولكن هذا التغيير لا يمس منهج التعليم فلا يمس نتيجته، بل قد انحطت هذه النتيجة انحطاطًا فاحشًا عما كانت منذ ثلاثين سنة، ذلك أنهم فكروا في إصلاح التعليم بتغيير البرامج وتعقيدها، فإذا أردت أن تعرف ما يمتاز به تعليمنا في جميع درجاته فهو التعقيد والتكلف البيزنطي وازدراء الحقيقة الواقعة، ويكفي أن تقارن بين الكتب المدرسية اليوم والكتب المدرسية القديمة لتعرف بأي سرعة قوي هذا الميل، ذلك أن مؤلفي هذه الكتب يعلمون أي نوع من الكتب يجب أن يؤلفوا؛ ليرضوا زعماء الجامعة الذين يملكون تقديمهم وتأخيرهم فلا يكتبون إلا ما يرضيهم، فالأستاذ الذي ينشر الآن كتابًا على نحو هذا الكتاب المتقن الذي نشره تندال في الضوء والصوت والحرارة، يفقد كل قيمة ويمضي حياته خاملًا في مدرسة من مدارس الأقاليم.
ومما لا شك فيه أن التلميذ لا يفهم شيئًا من هذه السخافات التي تُلقى إليه باسم العلم أو الأدب، فهو يستظهر منها نُتفًا يعد بها الامتحان، فإذا مضت ثلاثة أشهر ذهبت هذه المحفوظات كأن لم تكن، فقد أظهر مسيو ليبمان للجنة التحقيق — ويجب تصديقه؛ لأن مسيو دربو قد أيَّد أقواله — أن أكثر الحائزين للشهادة الثانوية يعجزون بعد مضي أشهر على الامتحان أن يحلوا مسألة حسابية، وقد اضطرت الجامعة إلى أن تنشئ في السربون درسًا خاصًّا للحساب الأولي لحملة الشهادة الثانوية العلمية الذين يريدون أن يحصلوا على شهادة علوم الطبيعة والمواليد الثلاثة.
لا يبقى في نفس الشباب الذي مر بالمدارس الثانوية من كل هذه الكتب التي استظهرت بمشقةٍ وعناء إلا سخط شديد على الدرس، وازدراء عميق لكل ما هو علمي، بذلك ينبئنا الأستاذ ليبمان أيضًا فيقول: «إن العقل العلمي أقل شيوعًا في فرنسا منه في أي بلد من بلاد أوروبا، أقل شيوعًا منه في أمريكا واليابان، وقد أحست الصناعة الأهلية أضرار هذا الجهل إحساسًا شديدًا كما ظهرت أضراره في غير الصناعة، ما سبب هذا الشر؟ يجب أن نتهم تعليمنا العام الذي لا يعرف من التربية إلا تربية العهد القديم.»
كل هذا حق، ولكنا نكرر أن الصينيين والبيروقراطيين ليسوا مصدر البلاء، فالجامعة في هذه الأيام تستمتع بحريةٍ مطلقة، والسلطة العامة لا ترد لها طلبًا وهي تغدق عليها الأموال، ثم هي تغير دائمًا برامجها دون أن تمس مناهجها بشيءٍ من التغيير، ومع ذلك فيجب عليها أن تعكس فتغير المناهج دون البرامج، وستظل نتيجة التعليم سيئة ما دامت الجامعة لا تفهم هذا.
فليس من سبيلٍ إلى إحياء الجيف، إذن فلا أمل في أن ترضى الجامعة بهذا التغيير، بل إذا أرادت أن تغير مناهجها على بعد هذا وتعسره فأين تجد الأساتذة القادرين على تحقيق هذا الإصلاح، وهل يمكن أن تأمل أن أساتذة الجامعة يرضون أن يستأنفوا تربية أنفسهم من جديد؟
فقد يدلك ما سنذكره على أن من العسير جدًّا أن نجد أساتذة يعلِّمون طلابنا كما يتعلم الطلاب في البلاد المجاورة.
لما وُكل إلى الأستاذ أستوفيه منذ سنين إدارة مدرسة التلغراف التي لم تكن أنتجت إلى ذلك الوقت إلا أسوأ النتائج وأردأها، حاول عبثًا إقناع الأساتذة بتغيير مناهجهم التعليمية، فلما رأى أن جهوده كلها عقيمة اضطر إلى تغيير الأساتذة أنفسهم، وإن كان هؤلاء الأساتذة من خيرة الأساتذة المعروفين، وفيهم أستاذ في مدرسة الهندسة … استبدل تسعة من ثلاثة عشر، ولكن الصعوبة كانت عظيمة جدًّا في وجود من يخلفهم ويصطنع في التعليم مناهج منتجة، حتى تساءل مدير المدرسة ألا يجب أن يُلتمس هؤلاء الأساتذة في البلاد الأجنبية، والنصيحة الوحيدة التي يمكن تقديمها إلى الأسر الغنية إنما هي إرسال أبنائهم للدرس في ألمانيا أو سويسرا أو أمريكا … ومن المؤلم جدًّا أن نلاحظ أننا برغم هذه المئات من الملايين التي أنفقناها على التعليم لا نزال بحيث نحن من الانحطاط.
٤
إن لدينا أساتذة في المدارس الثانوية أذكياء برغم انحطاط التعليم العالي الذي تلقوه، ولكن ضعفهم عن الإصلاح كامل لا يحتاج إلى مزيد، فهم يصطنعون مناهج التعليم التي خضعوا لها ويتبعون برامج لا يستطيعون أن يتجاوزوها.
ولقد أفضى إليَّ بعض الأساتذة بذات أنفسهم بعد أن نُشرت الطبعات الأولى من هذا الكتاب، فإذا شكاتهم قد دلتني دلالة واضحة على أن كثيرًا من أساتذتنا يشعرون بضعف مناهج التعليم في الجامعة، ويعلمون حق العلم أن التلاميذ يضيِّعون ثمانية أو عشرة أعوام في المدارس الثانوية دون طائل، ولكنهم مكرهون على أن ينفذوا بالدقة أمر الرؤساء فهم لا يستطيعون تغييرًا.
التربية بمعناها العام تشمل التعليم وتكوين الملكات الخلقية والعقلية، فأما التربية الخلقية فلا تعنى بها الجامعة بوجهٍ ما، فأما الملكات العقلية فلا تعنى منها إلا بواحدةٍ هي الذاكرة، فأما الحكم والتفكير وفن الملاحظة ومناهج البحث … فمُهملة إهمالًا تامًّا لأنها لا تُلاحظ في الامتحان.
وكل ما تنزلت إليه الجامعة من المناهج التجريبية هو إظهار بعض الآلات من بعيد للطلبة واستخدام هذه الآلات استخدامًا نادرًا جدًّا، مع أن الجامعة لا تنفك تُرَغِّب في المناهج التجريبية وتحث عليها وإن كانت في الحقيقة تزدريها، وسنرى في هذا الكتاب أن تعليم الآداب واللغات والتاريخ ليس أقل سوءًا من تعليم العلوم.
بهذه المناهج الخاطئة قتلت الجامعة في فرنسا قتلًا نهائيًّا ذوق الدرس العلمي الصحيح والبحث المستقل، يستظهر التلميذ صابرًا هذه الكتب الثقال التي يعيدها فيفتح أمامه كل باب حتى باب الأستاذية، ولكنه لا يستطيع أن يقوم بأي عمل شخصي، وقد انطفأ في نفسه كل استعداد للبحث أو الابتكار، لا تنقصنا المعامل — بل لدينا منها أكثر مما ينبغي — ولكن غرفها تظل في أكثر الأحيان خالية.
فإذا اختلف الطلبة في أوقاتٍ متباعدة إلى هذه المعامل التي تكلف ولا تفيد ليستعدوا فيها للأستاذية، فكن واثقًا أن الطالب منهم إنما يزورها لأول مرة وآخرها، على أن الجامعة لا تسمح للأساتذة بأي استقلالٍ وابتكار، فإذا ظهر عند أحدهم ميل ولو قليلًا إلى الشذوذ قمعته في الحال مراقبة بيزنطية شديدة، لقد كنا خاضعين لترتيبٍ شديد بحكم هذه القرون التي مضت في الملكية والكاثوليكية، ولكن الجامعة رتبتنا ترتيبًا أشد جدًّا، فهي التي تعلم أرقى طبقات الجماعة وتمسك بيدها مفاتيح الأعمال جميعًا، فمن لم يدخلها فلن يصل إلى شيء.
كان في فرنسا قبل انتشار نظام الجامعة علماء مستقلون شرفوا بلادهم ورفعوا من شأنها، وقليلٌ جدًّا أولئك الباحثون غير الرسميين الذين هم بقية أولئك الذين مضوا من قبل، ولكنهم قد ألقوا السلاح وانصرفوا عن الجهاد؛ لأن المعونة تنقصهم ولأن جيش الجامعة يأخذ عليهم الطريق، ولن يكون من اليسير تعويضهم.
٥
تجد في فرنسا آلافًا من الناس يشعرون بنقص التعليم، ولكني لا أثق بأنك تستطيع أن تجد عشرة قادرين على أن يضعوا للإصلاح برنامجًا صحيحًا نافعًا.
لم يظهروا منذ سنين حين فُكِّر في الإصلاح بعد ما أظهره التحقيق البرلماني من فساد التعليم، وقد انتهت هذه المحاولة كما تعلم إلى تقسيم العلوم إلى أقسامٍ مختلفة، وكان هذا النظام الجديد أسوأ من النظام القديم رغم ما كان عليه هذا النظام من الرداءة.
ولقد كتب وزير قديم وعضو بالأكاديمي الفرنسية يقول: «لقد كفت أعوام قليلة لإظهار ما في نظام التقسيم الدراسي من فساد، وكانت هذه الأعوام الخمسة كافية لإظهار أن التعليم الثانوي الذي هو بقية من النظام القديم غير مُلائم لهذا العصر الذي نعيش فيه، يجب أن نذعن للحقيقة الواقعة فقد انتهى عصر الألفاظ، ولم تبق التربية اللفظية صالحة للحياة، لقد جعلوا أجيالنا الحاضرة شعبًا من التلاميذ وطلاب الشهادات، جعلوها حيوانات تستبق، وأصبح ما يسمونه رقيًّا عقليًّا واجتماعيًّا ينحصر في إعادة ألفاظ بعينها إلى سن الثلاثين وفوق الثلاثين، وأصبحت القوة الوطنية ضائعة في هذه الألفاظ العتيقة غير النافعة: الاستظهار، والاستنساخ، والإعادة.»
لقد أظهر الكاتب ككثير غيره موضع الداء ولكنه مع الأسف لم يدل على الدواء، هذا العجز عن استكشاف الدواء لعلة يحسها كل واحد منا نتيجة من نتائج الوراثة التي تسيطر على حياتنا، فهناك أشياء لم تفهمها الشعوب اللاتينية فقط ويظهر أنها لن تفهمها أبدًا.
ولكنَّ أُممًا أخرى قد ورثت خصالًا غير خصالنا فأحسنت فَهم ما لم نفهمه، فمن البدهي مثلًا أن الأمريكيين عرفوا كيف يحلون مسألة التربية. واليابانيون الذين لم يكن لهم ماضٍ يعوقهم قد اتخذوا المناهج الألمانية لأنفسهم صفقة واحدة، والناس جميعًا يعلمون إلى أي حدٍّ من الرقي العلمي والصناعي والعسكري قد أوصلتهم هذه المناهج في أربعين سنة.
ليس هناك شيء يجب أن تتوقاه الجامعة أشد مما تتوقى هذا العلم الواسع الذي يمس كل شيء دون أن يتعمق في شيء، فإنا نستطيع أن نحكم على الجامعة إذا رأينا طريقتها في تنمية نفسية الطلبة وميلهم إلى العلم.
وبعد أن حدَّث مدير كلية إيتون على توخي المناهج التجريبية قال: «فائدة هذه المناهج أنها تستخدم استخدامًا مضطردًا العقل والصبر والدقة وحسن التحديق ثم أنفع ملكات الخيال.»
وقد اختصر هذه الخطب مدير المجلة التي نشرتها فقال: «إذا كان منهج التعليم صحيحًا فليس يعنينا الموضوع الذي يُلقى على الطلبة، فقد أجمع الناس الآن على مقت التعليم القديم الذي كان يشحن الذاكرة بالألفاظ والجمل الأدبية والعلمية.»
٦
ومما لا خير فيه أن أطيل أكثر من هذا في مسائل سندرسها درسًا مفصلًا في هذا الكتاب، فسنرى أن كل ما عرض عندنا من طرائق الإصلاح عبث لا نفع فيه، فلن يفيد تغيير البرنامج ولا إلغاء الشهادة الثانوية بل ستظل النتيجة واحدة إذا لم نسلك إلى الإصلاح سبيله الصحيح.
ستظل النتيجة واحدة لما كررته من أن المناهج لم تغير، وليس من المكن أن تطلب إلى أساتذة خضعوا لتربية خاصة أن يغيروا مزاجهم العقلي، فهم كما كوَّنهم التعليم العالي.
وإذن فيجب أن يُغيَّر التعليم العالي، ولكن كيف التفكير في هذا التغيير والمشرفون على هذا التعليم ليسوا هم البيروقراطيين، كما يريد أن يوهمنا عضو الأكاديمي الذي أشرت إليه آنفًا، وإنما هم رجال الجامعة؟ وكل ما يُكتب أو يقال في التعليم فليس له إلا قيمة فلسفية، فالإصلاح النافع حقًّا في التعليم العالي مستحيل استحالة مطلقة في فرنسا، فقد يجب أن يكون هذا التعليم حرًّا حرية مطلقة، وأن تُلغى ثلاثة أرباع النفقات المخصصة لكراسي التعليم العالي في الجامعة، على أن يسمح للأساتذة كما هي العادة في ألمانيا بأن يتقاضوا أجورًا من تلاميذهم، ذلك أن الجامعات الألمانية إنما تصل بواسطة التعليم الحر الذي يمكن الأساتذة من إظهار كفايتهم البيداجوجية إلى الأساتذة الأكفاء حقًّا، فقد يظهر بدهيًّا — فيما أعتقد — أن الأساتذة والمحضرين في الجامعة إذا تقاضوا أجورهم من الطلبة واستطاع الأساتذة الأحرار أن يعلموا فيها، فسيكون هناك تزاحم يُكره الأساتذة القائمين الآن على أن يغيروا مناهجهم التعليمية، فيوجدوا الصلة بين الطلبة والحقائق الواقعة، بدلًا من تحويل العلم إلى كتبٍ وصور وجمل، هنالك — وهنالك ليس غير — يعلم أساتذتنا أن سر التربية هو في الانتقال من المركب إلى المجرد، كما هي قاعدة العقل الإنساني، لا كما يفعلون هم فيسلكون طريقًا مضادة.
ومن الواضح أن البرلمان الفرنسي لن يستطيع بحجة الديمقراطية أن يقرر مثل هذه القواعد، ومع ذلك فأيهما أنفع: تعليم يكلف التلاميذ قليلًا ولكنه لا يفيدهم شيئًا، أم تعليم يكلفهم كثيرًا ولكنه ينفع بعض النفع؟ لقد أظهر المنهج الألماني قيمته وظهرت قيمة منهجنا أيضًا، فأنتج الأول تفوقًا بدهيًّا لألمانيا في العلم والصناعة، وأنتج الثاني انحطاطًا لفرنسا ليس أقل بداهة وهو يزداد في كل يوم.
إن عقائدنا الموروثة أثقل وزنًا من أن تزول أمام الإصلاح الذي نقترحه، فنحن لا نتقدم في سبيل حرية التعليم وإنما نسعى إلى احتكار الدولة له بواسطة الجامعة التي تمثلها، فالدولة الآن في فرنسا هي القوة الإلهية التي يُجلُّها الناس في جميع الأحزاب. فليس هناك حزب من الأحزاب إلا طلب إلى الدولة في كل يوم أن تصطنع لنا السلاسل والأغلال.
إذن فيجب علينا أن نذعن للجامعة، فستظل معملًا عظيمًا يخرِّج العاطلين والساقطين والثائرين حتى يأتي اليوم — وهو بعيد — الذي يفهم فيه الجمهور مقدار ما أحدثت من الضرر وجرت من الانحطاط، فيتحول عنها تحولًا لا عودة بعده أو يهدمها دون إشفاق.
تكاد تكون التربية الوسيلة الوحيدة التي يملكها الإنسان لتحقيق التطور الاجتماعي، وقد أظهرت التجارب التي قامت بها بلاد كثيرة مقدار ما يمكن أن تنتج التربية من النتائج، وإذن فلسنا نستطيع إلا أن نرى مع الحزب الشديد هذه الوسيلة الوحيدة، التي تسمح بترقية جنسيتنا حين ترقي ذكاءنا وأخلاقنا لا تنتج إلا إضعاف الذكاء وإفساد الأخلاق، ومع ذلك فهذه الجامعة الفانية ما تزال قائمة طلل من أطلال الماضي القديم السيئ سجن الطفولة والشباب، لست من الذين يؤثرون الهدم، ولكني حين أرى ما أحدثت الجامعة من شر وأقيسه إلى ما كان يمكن أن تُحدث من خير، حين أفكر في هذه السنين الغر سني الشباب التي نضيعها عبثًا، وفي هذا الذكاء الذي كان يخبو وفي هذه الأخلاق التي تنحط أبدًا، أذكر هذه اللعنات التي كان يستنزلها كاتو القديم على عدوة روما، وأعيد تلك الجملة التي كان يكررها دائمًا: لا بد من تخريب قرطاجنة.