المبادئ العامة للتربية في أمريكا
إنما تتكون معلوماتنا بطريق المقارنة، ولأجل أن ندرك انحطاط تعليم الجامعة عندنا يجب أن نقارن بينه وبين التربية في أشد بلاد العالم عناية بها وتنمية لها وهي أمريكا.
أول أثر تحدثه في نفسك قراءة هذا الكتاب شعور بشيءٍ من الغبطة، بحضارة أرقى من حضارتنا بغير شك، ثم بثقةٍ عامة مطلقة بحسن أثر التربية، ثم بحريةٍ كاملة تسمح للمدارس على اختلافها بأن تنمو وتعظم دون أن تمانع إحداها الأخرى، وتبيح أشد التجارب دقة وجرأة، ثم احترام دقيق للمدرسة بجعلها بمأمنٍ من آثار الجهاد السياسي الذي هو شديد العنف في أمريكا، ثم بفلسفةٍ عميقة في مناهج التربية تذهب بها مذهب تنمية القوة الشخصية العاملة، كل ذلك يشهد برقي عقلي ممتاز، وإن نفعنا لعظيمٌ جدًّا إذا استطعنا أن نصطنع مناهج التربية الأمريكية، ولكن يجب ألا نطمع في ذلك كثيرًا، فإن لذة العمل والكلف بالحرية شهوتان شابتان أشد شبابًا من هذه القارة التي شاخت ومضت عليها الحقب، هذه القارة التي نعيش فيها.
«يلقي الأساتذة بمهارة أمام التلاميذ طائفة من المصاعب تختلف قوة وضعفًا، ويكلفون هؤلاء التلاميذ أن يقدِّروا هذه المصاعب ويذللوها واحدة فواحدة، وفي هذا العمل يسبق الجهدَ الجسميَّ الجهدُ الفكريُّ أو يرافقه، وأشد فروع العلم تجردًا تقدم إلى التلاميذ عندنا في صورةٍ مادية مركبة وتستلزم مهارة اليد إلى مهارة الفكر في فهمها، فالجغرافيا عمل يدوي والأدب المدرسي شغل في المعمل؛ لأنه شديد الاتصال بالرسم والتصوير، وأرقى صور العمل اليدوي التي تصطنع في جميع المدارس إنما هي في حقيقة الأمر تمرين على المقاومة المعنوية، وكل التعليم يصل بين جهد العضلات وبين فهم الآراء المجردة.
والتعليم الثانوي الذي هو طريق الانتقال من تبعية الطفل إلى اقتناع الشاب واستقلاله الفكري، خاضع لهذه القاعدة نازع دائمًا إلى تقوية التربية العملية، والمصاعب التي تعرض فيه أشد تعقيدًا كما أن الغايات التي يرمي إليها أشد بعدًا، فهو يرمي إلى تحرير الفكر والشعور من كل وصاية، وذلك بتقليل حظ الأستاذ من العمل ليحل محله الشاب أو الفتاة في احتمال تبعة التفكير المستقل، والمدرسة إنما تأخذ نفسها بأن تعلم الأطفال أن يعملوا كأنهم وحدهم في الحياة، وأن يشعروا بلذة العمل والجهد، وبالفرح في مقاومة المصاعب وبأن كلًّا منهم يملك نفسه ويراقب نفسه، والمدرسة لا تعلم الجزئيات ولا النظريات بطريق الإلقاء والتلقين، فإن الأمريكيين أساتذتهم وتلاميذهم يأنفون من النظريات المعدة، ومن التعريفات والتجريدات التي لا يوصل إليها العمل والتمرين.
فأما الدروس الشفوية فقيمتها قليلة جدًّا وهي تُعدُّ الطالب للبحث أو ترافق هذا البحث أو تؤيد نتائج البحث في المعمل والمصنع اللذين هما البيئتان الحقيقيتان للدرس العلمي، والمذكرات التي تكتب في المعمل والمصنع وتقيد فيها الجزئيات والظواهر التي وصل إليها بحث الطلبة والتي هي الوصف الحقيقي للبحث الحقيقي هذه المذكرات هي المقياس الصحيح لقيمة الدراسة، وليس مذكرات الدروس التي يلقيها الأساتذة والتي هي كل شيء في أوروبا ليس لهذه المذكرات قيمة ما في أمريكا، وإنما يجب على الطالب بأن ينتزع من الآلات والأدوات أسرار الظواهر والقوانين التي تديرها، وتقوي المهارة في الأعمال اليدوية بتجارب تشتد قسوة من يوم إلى يوم فتنمي الرؤية في التوفيق بين الوسائل والغايات، وتنمي الصبر على تحقيق أشياء شاقة تحتاج إلى الجهد وطول الوقت.
ويستمر انتصار العمل الشخصي والجهد الشخصي في المدارس العالية فتجاريب الطلبة هي أساس الدرس، وعمل الأستاذ هو أن يرشد أشخاص الطلبة دون أن يحكمهم، همه كله أن يُظهر الطلبة ميولهم الخاصة وقواهم العقلية وما لهم من ذكاء.
المدارس الأولية والثانوية إنما تعنى بأن تلقي في رءوس الأطفال المحبة المباركة التي تنبت الإرادة، وأن تبعث فيهم منذ الطفولة حب العمل المتصل، وأن تعجل انتقالهم من الخضوع إلى الاستقلال، وأن تُعدَّ بالتربية الصالحة فقراء التلاميذ لأن يكفوا أنفسهم حاجات الحياة، لئلا يعتمدوا إلا على أنفسهم لأن يحتملوا أنفسهم.
وكذلك المدارس الصناعية والفنية التي تخرِّج العمال تعتمد اعتمادًا شديدًا على التجارب الخاصة، فالعامل الأمريكي الآن هو مثال العامل الأوروبي في المستقبل فهو في كل الصناعات رجل متعلم، وقد انقضى في العالم الجديد عصر ذلك العامل القديم الذي كان لا يتجاوز علمه صيغًا ومناهج ومهارة يدوية وأسرارًا صناعية، وأصبحت كل الصناعات تحقق الاقتصاد في الأيدي العاملة باستخدام الآلات الميكانيكية الراقية، وأصبحت إدارة هذه الآلات المستحدثة أشدَّ حاجة إلى قوة العقل والأعصاب وسرعة البديهة منها إلى قوة الجسم والعضلات، وقد أحدث رقيُّ الصناعة وتحولها السريع في العمال المشرفين على العمل صفاتٍ عقليةً لم تكن لهم من قبل، وأخذت المدارس الصناعية مع اختلافها تجتهد في ترقية هذه الصفات وتنميتها، والتعليم النظري فيها خاضع كما في غيرها من المدارس لمناهج عملية، فالدروس الشفوية تعتمد على التمرين اليدوي الذي يضيف إلى العلم بأصول الصناعة قوة الملاحظة ومهارة اليد والذكاء الصناعي، وليس هناك أثر للتخصص إلا في ثلاث مدارس أو أربع، فالمدرسة تسعى في أن تنمي في العامل القوة على التنفيذ، فهي تكون الرجل الكامل وتمنحه تعليمًا صناعيًّا عامًّا، وتقاوم بهذه الطريقة ذلك الجهد المضعف الذي ينشأ عن تشابه العمل وتوزيعه، فإذا أردنا أن نحكم على هذه المناهج بنتائجها فإن قوة الإنتاج الأمريكي تدل على أنها خير ما عرف الإنسان من المناهج.
لن تجد وراء الأطلنطيق أثرًا من آثار هذه الأحكام الموروثة التي تمتهن العمل اليدوي، وليس من الناس من ينظر إلى هذا العمل كأنه مهين أو مضيع للشرف، وليس يظهر أن الأستاذ أو القاضي أعلى مكانة في نظر الناس من الوجهة العقلية من العامل الذكي، وقد عرف الموظفون قيمة مكانتهم الاجتماعية منذ زمنٍ طويل، فإن عملهم في الأسبوع ينتج لأحدهم خمسين إلى خمسة وسبعين فرنكًا، بينما يصل البنَّاء والنجار إلى عشرين ومئة في الأسبوع، ولقد تجد العامل وراء كل أمريكي، فالأمريكي يحكم على الرجل بكفايته في الإنتاج والإيجاد، وهو لا يصدق أن الشهادات تمنح صاحبها شيئًا من الشرف العقلي».